أنت غريب، فهل أنت مرفوض؟
أشعرُ بك حينما تروي لي قصَّتك مع الغير منذ نزلتَ ضيفًا في رحاب مساكنِهم ومجالسهم ومقرَّات عملهم.
أفهمُك جيدًا أيها الغريب حينما تحبس دمعتك بالقوة حتى لا أراها على وجنتَيْك؛ لأنك تريد أن تتماسَك أمامي، خُذِ الأمور على سجيَّتها، فمن حقِّك أن تصرِّح بما أنت فيه من قسوة البشر عليك ومعك.
أتابع حديث الجراح بنظرة ثاقبة إلى ما أنت مُقبِلٌ عليه من قرارات، حتى لو أخفَيْتَها عني، فإني لها واعية؛ لأنها نفسها قرارات المعذَّبين في الأرض في إحدى الفترات من فترات الظلام، لكن ستكبَرُ حتمًا بعد هذا الإحساس، ولست ترضى أن تبقى صغيرًا حتى لا يحلو لأحد تجريب الحِيَل معك.
تكلَّم على سجيَّتك، ولا تنشغِل بي أو بقلمي، فكلانا يعي مسؤولية الآخر تجاه هذه المواقف.
تكلَّم بكل حرية؛ فلست أعيب فيك قولاً أو لقطة من ماضيك.
انسجْ ما شئتَ من مشاعر لِمَا آل إليه الحنين في غير حضنه المناسب له.
ما أرجوه منك أن تسمح لي بالتعقيب مرة على مرة، أو بين الفينة والأخرى؛ لأنك بكلامك حتمًا ستُوقِظ فيَّ نفس الشعور، وتزعزع ماضيَّ من مكانه، فلطفًا تقبَّل مني انقطاعًا؛ لأني أنا الأخرى أرتاح لما أشطارك الرأي في قضايا صامتة وباهتة وغامضة.
وإليك هذه الأبيات الرائعة من قول الأخطل؛ لأُضفِيَ رونقَ الأنين إلى محمل الجد من قولك:
ولو أبصرَتْني دَعْدُ في وَسْطِ زورقٍ
وقد هاجت الأرواحُ من كلِّ جانبِ
ونفسي على مِثل السنانِ مقيمةٌ
لِمَا أحدثتْ في الماءِ أيدي الجنائبِ
إذًا لرأت مني كئيبًا متيمًا
يحنُّ إليها عند تلك النوائبِ
ويذكرُ منها وصْلَها وحديثَها
على حالة تُنسي لقاءَ الحبائبِ
|
نعم لزامٌ عليك أن تفضي لمن تثقُ فيهم؛ حتى ترتاح ويرتاح قلبك المُنهَك بغدرِ مَن عرَفك وأَوْدعك خيانةَ الصحبة في طبقٍ من أمان مزيَّف، ساعتها لم تكن تدري أن البساط يُسحَب من تحت قدمَيْك وأنت تُغنِّي وتثقُ وتُردِّد أحلى كلام.
أنا لا ألومُك أو أنتقدك، بل أُثنِي على طيبتك التي هي عُنوان خُلُقك الكريم، وهي سبب الحرب المعلنة عليك، خاصة أنك تغرَّبت عن أهلك وجيرانك وأحبابك إلى بلد لست تعرفُ شرقَه من غربه، ولا ماءه من ترابه؛ لأنك جديد في هذا الوطن، ويكفيك أنك مهتم بكيفية التأقلم؛ حتى لا تمرض ولا تحزن، ولا تندم أنك في يوم من الأيام اخترت الرحيل.
يسكن في مسمعي الصوت الآن؛ لأن الألم بادٍ على وجهك، ولست أزيد انتباهًا على آخر، بل إني في انصرافٍ لحين أشعر أن المجلس خالٍ من أي اضطراب لوجع الأيام، إذًا لا تقلق إن لم أُكمِل معك رحلة الصراحة عما قاسيتَه ممن نصب لك حفرة، ولولا دعاء المحسنين لك، وأعمال الخير والبر، لكنتَ سقطت فيها من زمان، نعم هي الحقيقة النائمة بالقرب منك.
هذا واقع الدنيا، اليوم يجرُّك الغدر في مركبة الثقةِ المزيفة، في حين الكفن ينسجُ لك في الغياب، وأنت سارح في بحر الائتمان بغير موج عالٍ يوقظك من سباتك، صدقًا ما أصعبَها من مغامرة لولا يدُ اللهِ الحانيةُ التي تلطف وترأف بالعباد الطيبين أمثالك، فاسجُدْ طويلاً لمن لطف بك وأنقذك من هفوات الحاقدين.
تُرَى لولا لطف الله بك، هل ستتبع السراب مثلما يتدلَّى الدلو إلى عمق الضياع في عمق النكبة، لتقع إلى غير رجعة؟
صدقًا ما أوحشه من اغتيالٍ في صمت للضمير واللسان عمَّن يحب أن يجرع الغير من كأس الحزن والفشل والضياع عمدًا، لكن ثِقْ أنك في مرتبة الكرماء؛ لأنك أكرمت نفسَك في أنك لم تكذب ولم تنافق ولم تخدع، وما أصابك لم يكن ليخطئَك، لكن توقَّف عند هذا الحدث، وصحِّح موضع خطواتك، فإن كنتَ تدنو من موج البحر في انزلاقٍ لقدميك فاحذَر مرةً أخرى أن تستأمن دفءَ الماء فتركن للغفلة، وتزل قدماك إلى العمق، أَوَليست الأفعى رطبة الملمس، وبين أنيابها السم الغادر؟
توقفتُ لأستمع الآن بتركيزٍ لسؤالك حينما سألتَني: لِم يحدث هذا معك في حين أنك لم تفعل شيئًا؟
سأجيبك: أنك ناجح ومتفوق ومتميز؛ ولذا كنت محطَّ الأنظار من كل صوب، ثم لا أحد سيحبُّ نجاحك ما عدا أنت بذاتك، وفي قرارة ذاتك، ولذاتك التي تعذَّبت طويلاً في أن تنتصب قامتها إلى فوق.
والآن هل لك سؤال آخر، وإلا نختم الكلام بطيب التمني؟
نعم هو سؤال أخير: إن كنت لم تحسن التعامل حينما أودعت سرَّك في غير مستودعه؟
أقول لك: سرك بينك وبين نفسك، ولسانك حصانك إن صُنْتَه صانك، وإن خُنْتَه خانك، ثم أولى الناس بصحبتك هي أمك، ولك في منهج السنة النبوية أحلى الكلام وأعطر الدليل من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فأرجو أن تعيَ جيدًا دروس الحياة في أن لا أحد يستحق الثقة والحب الكبيرينِ ما عدا اللهَ سبحانه وتعالى، وبعدها انتقِ لك من الصحاب بعد استخارة في صلاتك؛ لأنك لا تدري أين الخير وفيمَن.
لا تَأْسَ على ما أصابك، فهو خير لك، فجميعُنا لا يزال يتعلم ويتمرَّن ويتدرب في هذه الحياة، ما دامت فيها مشاريع وإنجازات ومستقبل ينتظر منا الإتقان والجد أكثر.
توكَّل على الحي الذي لا يموت، وضَعْ نفسك غريبًا في هذه الدنيا أو عابر سبيل؛ حتى لا تحزن على ما فاتك، ولا تفرح بما هو آتٍ، وتأكَّد أن الغريب مرفوضٌ بمبادئه وخُلُقه الرفيع، لكنك مستحسن عند مَن يعرفون قيمتك وقدرك، فلا يزال الخير في هذه الأمة، فقط تعلَّم من تجاربك، واستفد من محنتك التي ستتحوَّل إلى منحة، والتي فيها الخير الكثير في طياتها، وأنت لا تعي ذلك، تفقَّه في دينك، وأحسن الظن بالله، ولا تحمل همومًا كثيرة فلا شيء يستحق اهتمامًا سوى مرضاة الرب.
والآن وبعد أن استمعتُ إليك وأجبتُ عن أسئلتك، دورك لتجيبني: هل حقًّا الغريب مرفوض؟