حاولات الانقلاب غالباً ما تضعف السمعة الدولية للحكومات من حيث قدراتها الاقتصادية وفرص الاستثمار وازدهار السياحة.. والأهم من ذلك كله من ثقة العسكريين بالسلطة الشرعية.. هذا استنتاج عادة ما يكون صحيحاً في الانقلابات العسكرية الفاشلة، لكن الحالة التركية مختلفة نوعاً ما.
يمكننا توقع أن "الاختبار الانقلابي" الذي مرت به تركيا قد منح السلطة الشرعية فيها قوة مضاعفة، وإطلاقاً لليد في تكسير عظام الانقلابيين في قادم الأيام، وإضعافاً لمراكز القوى مشفوعة بدافعية جماهيرية هائلة ستحمي مكتسبات ما بعد الانقلاب الفاشل.
#الشعب_أسقط_الانقلاب ، هكذا تفاعل النشطاء مع نتائج المحاولة الفاشلة مع تدفق مئات الآلاف من الأتراك من جميع الأطياف السياسية، لاسيما الحزب الحاكم، العدالة والتنمية، هذا صحيح من جهة الفعالية الجماهيرية ووعيها وهي تحافظ على مكتسباتها في مجالات الحريات والاستقلال والاقتصاد.. الخ، وصحيح من جهة قدراتهم على التموضع في الأماكن الاستراتيجية وإحاطتها بالدبابات والمدرعات الانقلابية، غير أنه لا يمكن تبسيط المشهد في حده الجماهيري المقاوم ووعي الشعب التركي وحده.
في الحقيقة كان الانقلاب يرتب على مهل، كوسيلة يلجأ إليه الغرب عادة عندما تنسد أمامه السبل لوقف استقلال الشعوب عن تبعيتها له، تساوقاً مع قاعدة "آخر العلاج الكي"، عبر أدواته في الجيش التركي، فلقد بدا أن مرحلة عض الأصابع بين قوى الشر في داخل وخارج تركيا، وبين الشرعية التركية؛ فالانقلابيون أدركوا أن الوقت ينفد منهم تماماً؛ فإذا مرت الأشهر الثلاثة القادمة بانتصار أجندة أردوغان في تغيير الدستور وإقرار نظام يقلم أظافر الأتاتوركية، ويحول نظامها إلى نظام رئاسي قوي لا يخضع لحالة التوجيه الحزبي المضعفة لانطلاقته.
كانوا يخططون ونصب أعينهم ما يلي:
1 – دستور قاتل الغرب من أجل إقراره في معظم دول العالم الإسلامي، وتسببت محاولات تغييره في بعض الدول الإسلامية في إنجاح انقلابات داست إرادات الشعوب.
2 – إقرار نظام رئاسي يمنح عدو الغرب الأول في العالم، رجب طيب أردوغان صلاحيات واسعة، تعيد إلى الذاكرة طلاقة السلاطين في إصدار القرارات الجريئة.
3 – مشروع 2023 الذي يخالف التوقيت الذي وضعته الأمم المتحدة، وهو مشروع يلمح بوضوح إلى دفن الأتاتوركية في ذكرى مرور 100 عام على إلغاء الخلافة العثمانية، وهو توقيت لم يغب عن ذهن القادة في تل أبيب وواشنطن وبروكسل ولندن.
4 – مسارعة الحكومة التركية في إفساح المجال للأسلمة "النسبية"، لإدراكها أن المعركة القادمة مع "الكيان الموازي" تستلزم وضوحاً ناصعاً لأرضية المعركة ووضع بوصلة جماهيرية، انعكست لاحقاً في هتافات الجماهير (الأيديولوجية) التي لجأت إلى التكبير فوراً في مناهضتها للانقلاب عوضاً عن الهتافات السياسية.
5 – النجاح الاقتصادي الهائل للحكومة التركية، وإطلاقها لمشاريع اقتصادية وخدمية ضخمة، لعل آخرها الجسر الرابع على مستوى العالم بين شطري اسطنبول، ومطارها الثالث الشاسع، ونهرها الجديد.. الخ، وهو ما يفضي إلى مزيد من تثبيت أركان الحكم، ومنح بطاقات إيجابية في صندوق الاستفتاء على الدستور إن استدعى الأمر إليه.
6 – نجاح الحكومة التركية في تخفيف حدة التوتر ضدها، لاسيما بعد توقيعها تفاهماً مع الكيان الصهيوني وإعراب أردوغان عن أسفه لإسقاط الطائرة الروسية، وتجسير علاقتها بالعراق وإيران، وهو ما يعني أنها قد تخرج من الحصار السياسي المضروب ضدها (بالمقال السابق عن ذلك تساءلت :" لقد عمدت العدالة والتنمية كثيراً إلى الانحناء للعاصفة لتمرير أهدافها الاستراتيجية العليا؛ فهل تنجح هذه المرة؟!").
7 – بدء الحكومة التركية لعملية تنظيف واسعة للجيش، إذ عمدت مؤخراً إلى إحالة أكثر من 1200 عقيداً بالجيش يشتبه بانتمائهم للكيان الموازي إلى التقاعد، وهو عدد كبير جداً بالنظر إلى كونه يمثل نحو خمس أعداد عقداء الجيش وجزء من ثلاثين من ضباط الجيش التركي برمته، وهو ما عجل بتحرك الانقلابيين.
بالعودة إلى الأسباب الحقيقية التي أدت إلى فشل الانقلاب، بخلاف الالتفاف الشعبي حول السلطة المنتخبة؛ فإن أبرز الأسباب يمكن إجماله فيما يلي:
- إقامة نظام ممانع للانقلاب، تم إنضاجه على مهل خلال 12 عاماً هي عمر العدالة والتنمية في السلطة، بتقليم أظافر العناصر الانقلابية بتدريج مطول، ولقد بدا أن ثمة انقساماً – على الأقل – في الجيش حال دون نجاح الانقلاب.
- إحكام أردوغان يديه على جهاز الاستخبارات التركي الذي يقوده أحد خلصائه وموضع ثقته على مدى سنوات، وكذلك القوات الخاصة، ونفوذ حزبه داخل وزارة الداخلية التركية.
- تعجل الانقلابيين في محاولتهم، وعدم تمكنهم من خطف الرئيس ورئيس الحكومة ووزرائه ومعظم نواب الشعب، والقادة العسكريين والأمنيين غير المواليين للانقلاب، مثلما تنص عليه أجندة الانقلابات المعروفة.
- افتقار الانقلابيين إلى الحنكة العسكرية والشجاعة السياسية للإعلان عن أنفسهم وتنفيذ عملية صدمة ورعب للخصوم، وناب عنهم في ذلك وسائل الإعلام الغربية والعبرية والعربية، والتي لم يكن لها تأثير يذكر في الميدان حقيقة.
- عجز الانقلابيين عن استخدام عنف مفرط، وافتقادهم لجرأة ارتكاب مجازر تعوزها أحياناً الانقلابات العسكرية، وهذا لم يكن بالضرورة لرغبة المتآمرين في تنفيذ انقلاب أبيض، لكن لأن كثيراً من الضباط والجنود على الأرض يصعب إقناعهم بارتكاب مجازر في بلد ابتعد طويلاً عن الأزمنة الشمولية، ونشأ ضباطه وجنوده صغار السن في ظل حكومات ديمقراطية منذ فترة طويلة بخلاف دول أخرى كانت حديثة عهد باستبداد، ما يشجع جنودها على قمع شعوبها.
- رفض الأحزاب والقوى السياسية ورموز تركيا للانقلاب وتصديهم السياسي له.
- الإلحاح المستمر على توعية الشعب بالمؤامرات التي تحيكها القوى الانقلابية ضد النظام المنتخب في تركيا.
- الإفادة من التجارب السابقة لمحاولة الانقلابيين السابقة في تركيا عبر التحقيق والمحاكم المطولة، والتي حاكمت مئات الضباط المتآمرين المنتمين للكيان الموازي. كذا، دراسة التجارب الانقلابية القريبة من تركيا، والتي تورطت فيها الدول ذاتها التي تبنت وساندت الانقلابات السابقة، وأذرعتها الإعلامية والأمنية والسياسية الموازية.
- معرفة كل الساسة المناهضين للانقلاب بدءًا من الرئيس التركي إلى النشطاء السياسيين الموالين للحزب الحاكم لدورهم في حال اندلعت أعمال عنف أو دُبّر لانقلاب عسكري، وتنفيذهم لهذه الأدوار ببراعة أدت إلى إرباك الطرف الانقلابي.
وإلى ما تقدم بأول المقال؛ فإن حالة انقلاب تركيا الفاشل ربما كانت مغايرة لكثير من المحاولات التي تهز أركان النظم برغم فشلها، إذ إنها قد جاءت في وقت يفيد الرئيس التركي الذي يسعى لسلطات أوسع، ودستور يتصالح مع الإسلام نسبياً، ويرغب بتنظيم الجيش والقضاء أيضاً، ويمنح الحكومة التركية فسحة من الوقت لتمرير كل ما تريد قبل شهر سبتمبر القادم موعد تعديل الدستور، وهو وقت قصير لا يمكن القوى الانقلابية من تجميع ذاتها مجدداً، بل ستستمر فيها بالانكماش والتخفي. بل ربما تمكن الملاحقات المتوقعة لقوى الكيان الموازي من سحب البساط من تحت أقدام بعض أجهزة الاستخبارات الغربية التي ترعى العمليات الإرهابية في تركيا، وقد نشهد انحساراً نسبياً للإرهاب هناك.
الرئيس التركي، سيحاول جاهداً ضم شرعية مناهضة الانقلاب إلى شرعية نظامه المنتخب، وتقديم ذاته، وإدارته، كحائط صد ضد الاستبداد وتقويض الحياة السياسية الديمقراطية، بمعنى أن هذا الانقلاب قد يحول أردوغان في نظر قطاعات تركية لا تتعاطف معه من رئيس إلى "زعيم" يمتلك ناصية الحريات ورعاية الحياة السياسية الطبيعية والديمقراطية.
هذه إضافة لن يقصر نظام أردوغان المنتخب في استثمارها، كما أنها قد تشجعه على تبني مواقف سياسية خارجية أكثر جرأة وراديكالية؛ فحكومة العدالة والتنمية ورئيسها وقائدها يدركون جميعاً أن الانقلاب الفاشل لم ترسم خارطته في مدن تركيا، وإنما في عواصم لابد من لجم تطلعاتها في عقر دارها.
لو كان الانقلاب قد نجح، لقد كان سيحول وجه المنطقة والعالم لعقود، لكنه الآن إذ فشل، قادر على تحويل المؤشر في اتجاه آخر، لأنه ببساطة، لن تكون تركيا قبل منتصف يوليو – شهر التغييرات – كما هي بعده.