الإستراتيجية الصحيحة في سن القوانين
منذ عُرِفت البشريةُ عُرِفت معها قوانينُ تنظِّمها فتؤلِّف بين الجماعات في المجتمع الواحد؛ لتنشأَ بذلك الحقوق، وتتولَّد عن هذه الحقوقِ واجباتٌ يحرصُ الفردُ في مجتمعه على احترامِها وأدائها على نحوِ نصوص القانون.
ففي قانون "حمورابي" في بلاد الرافدين نموذجٌ لأشهر الملوك وصاحب أقدم الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية المنسوبة إليه ذاك الوقت في بلاد الرافدين، ويرجع تاريخ هذه الإصلاحات إلى عام 2355 ق.م، حين ناشد "حمورابي" بإلغاء الضرائب التي كانت مفروضةً على الشعب، وكذا إعادة العدل والحرية للمواطنين، كما ألغى فكرة المظالم على المواطنين.
ثم يلي قانون "حمورابي" قانون "أورنمو"، وهو أقدمُ قانونٍ لم يتمَّ اكتشافه في العراق فحسب، بل في العالم كله، وكان مضمونه هو إقامة العدل وإزالة الظلم، ثم قانون "أشنونا" في بغداد أيضًا، وهو سابق لقانون "حمورابي" بحوالي نصف قرن، وجاءَتْ موادُّه بنصوص تقرُّ عدم الاعتداء على أموال الغير، وكذا تحديد أسعار بعض السلع، والإيجار، والقرض، وتحديد الأضرار المتسببة على الحيوانات والأشياء.
وكان من مولودِ هذه القوانين القراراتُ القضائية، والتي كانت تصدرُ عن الحاكمِ لحسم بعض المنازعات التي تُعرَض عليه، والتي ساهمت في إعطاء صورة لأهم الإجراءات القضائية التي كانت قديمة: (محاضر جلسات القضاء، الاستماع إلى الشهود، وتقديم الأدلة والبيانات).
إذًا من هنا يمكن القول: إن المجتمع العراقي يعتبر أوَّلَ مجتمعٍ عاش في ظل القانون وترك لنا بعض معالم ذلك القانون.
كما عرَفتْ مصرُ أولَ قانون في التاريخ البشري، وهو قانون "تحوت" الذي أصدره الملك "مينا" موحِّد القطرين حوالي عام 4200 ق.م، وهو يسبق قانون "حمورابي" بأكثر من 2500 سنة كاملة "قانون بكوريس"؛ بسبب صفة المدنية التي اتَّسم بها، ويُعَدُّ هذا القانون الأخير آخرَ مرحلةٍ في تطور القانون المصري القديم.
أما مبدأ الفقه الإسلامي، فكان على يد عمرو بن العاص في جميع نواحي الحياة؛ كالمعاملات التجارية والإدارية والجنائية والدولية، واستمرَّ الوضع هكذا إلى أن بدأت مصر تتأثر بالقوانين الغربية، خاصة القانون الفرنسي، فأخذت عنها جميع القوانين، ما عدا الأحوال الشخصية التي تطبَّق عليها أحكام الشريعة الإسلامية.
أما في الجزائر، فقد واجه الجزائريُّ على مرِّ القرون الاستعمارَ الخارجي، وتعرَّض لشتى أنواع الإهانات والاحتقار، ومصطلح "أنديجان" هو بمعنى الأهلي خيرُ دليلٍ لانعكاس فكرة الاحتقار التي كان يواجهها الجزائريُّ منذ العهد الروماني إلى العهد الفَرَنسي.
صحيح أن كلمة "أنديجان" وُلِدت مع الاستعمار الفرنسي، ولكنها ضمنيًّا تعود إلى الحقبة الرومانية من حيث الممارسة، وأول هذه القوانين ظهورًا في الجزائر هو قانون "الأهالي" سنة 1871، ومضمون هذا القانون هو في مجملِه إجراءات تعسفية مُورِست على الأهالي، بالإضافة إلى القضاء على المؤسسات التقليدية مثل فكرة الجماعة، والتي كانت تسيِّر شؤون المواطنين بمقتضى التقاليد والعرف والقوانين الإسلامية.
إذًا فكرة هذا القانون هو الإذلال؛ خدمةً لمصالح الأوروبيين الذين كانون موجودين في ذاك الوقت داخل الجزائر، والهدف منه هو التضييق والحدُّ من حرية الجزائري لمزيد من الاستغلال الأمثل لثروات البلد، ولو رجعنا قليلاً إلى الوراء وتمعنَّا في ممارسات الرومان تُجَاه السكَّان الأصليين نلاحظ أنهم كانوا يعتبرون البربر مواطنين من الدرجة الثانية، يُمارَس عليهم أنواع الضرائب والامتهان، وهو نفسه توجه السياسة الاستعمارية الفرنسية في القرن التاسع عشر، خاصة مع قانون الأهالي.
من هنا نستنتج أن فرنسا درسَتِ التاريخَ الروماني جيدًا، وبالتالي كانت تعتبر البربر ليسوا بالسكان الأصليين، ولكن مثلما أدَّت الممارسة الرومانية إلى اندلاع ثورات، فإن التجربة الفرنسية أدَّت إلى نفس النتيجة، وبمنطق الرياضيات فإن منطق السبب يؤدِّي إلى منطق النتيجة؛ وبالتالي فإن سن مثل هذا القانون من المفروض لا يُسَن أصلاً.
في العصر الحديث ونظرًا لمتغيِّرات العالم من سياسية واجتماعية، يبدو أن الوضع يختلف من حيث ركيزة سن القوانين ومن حيث الهدف، والأسس الدافعة لترسيخ فكرة العدل والحقوق المكفولة، لكن أعتقد - ولربما يصير هذا الاعتقاد حقيقةً واقعية - أن الشريعة الإسلامية فيها الإستراتيجية الواسعة والدائمة والمتكيفة على حسب متطلبات الحياة وذهنيات الأفراد، بعد أن توحِّدهم على مبادئ قانونية مشتركة، أساسُها إقامةُ العدل دونما تمييز، والحفاظ على حرماتِهم وَفْق ما نصَّ عليه هذا الدستور السمح، والذي يصلحُ في كل زمان ومكان دونما عيبٍ، فالرسول - عليه الصلاة والسلام - كان لا ينطِقُ عن الهوى، فما بالك بكلام الله - عز وجل - وهو قرآن خالد منزَّه من كل خطأ؟
إذًا الاعتقاد بفكرةِ سن القوانين عبر مختلف العصور هي فكرة تنطلق من الذاتية، سواء كانت ذاتية فردية أو جماعية، وقد تصلحُ وقد لا تصلحُ؛ لأن منطلق الوجودية لهذا العالم هو الرسالة المحمدية، ونجاحها مكفولٌ بأسس قرآنية رغم المصاعب والمواجهات والتصادمات، إلا أنه في الأخير أرسى قواعد ثابتة عبر العالم، إلا أنه ومسايرةً مع المتغيرات التي ظهرت عبر العالم أينما كثرت الحروب والأزمات والفتن، فلربما كان أحقَّ بضرورة سن بقية الشعوب لقوانينها من منطلق الشريعة، حتمًا سيتحقَّق ذاك التوازن على سطح الكرة الأرضية؛ لأن الحقوق ستكون مكفولةً والواجبات مضمونة، ويبقى الزمن خير شاهدٍ على هذه الحقيقة الغائبة أو المغيَّبة.