فتح الله كولن كما قرأت له
تردَّد قلمي كثيرًا ولأشهُر عدة لأكتب قليلاً في مقام العالم الجليل فتح الله كولن، كانت أفكاري حبيسة عقلي الذي شعر بالحَيرة، وفي الوقت نفسه شعر برغبة شديدة للكتابة عن هذا العالم القدير، كتابة تقر في رُوحي أولاً أنها لن توفِّي هذا المفكر حقَّه كاملاً، حقيقة يجب أن أُقِر بها قبل أن أكتب أسطرًا متواضعة تواضع خوفي وهواجسي في أن أخطئ ولا أصيب محورًا يدور فيه خيال المفكر الكبير فتح الله كولن.
كنت قد أنهيتُ قراءة بعضٍ من كتبه القيمة والغنيَّة، بعضها فقط؛ لأني في كل مرة أنتهي من قراءة عنوان كتاب إلا وأعيده ثانية وثالثة؛ حتى أفهمه جيدًا بلغة فصيحة جميلة ولو كانت مترجمة، فالترجمة كانت أصيلة أصالة الرجل التركي في التزامه بحلية دينية ثابتة، صراحة الترجمة كانت سيمفونية اختيرت نوتاتها من ألحان أبدع المترجمين.
صدقًا، وجدت صعوبة في التركيز مع الصفحة الواحدة للكتاب؛ لأن الأسلوب كان راقيًا رقي الرجل، وهادئًا في بعض صفحاته، ولكن ثائرًا في البعض الآخر.
• "أضواء قرآنية في سماء الوِجدان"، عُنوان كان بحر الكتابة فيه هادئًا هدوء الرجل الحاني والمحب لآيات الله بتفسير مختصر جديد، لم يَسبِق لي أن وجدتُ له مثيلاً في الاختصار والإيجاز، كما في تفاسير أخرى شبيهة كتلك لابن كثير أو سيد قطب، تفسير العلامة فتح الله كولن كان رزينًا، ممزوجًا بفنيات الجمال المستمدة من القرآن الكريم، فأبحرتُ معه أفهم الآية تِلو الأخرى من سورة إلى سورة، وكأني أشم رائحة الفل والياسمين من أزهار العقيدة السمحة التي أشبعتني انفتاحًا وإدراكًا لمعاني القرآن الكريم، بأسلوب فيه من فنيات احتواء القرآن كاحتواء الأم لابنها، فأحسستُ في هذا الكتاب أن فتح الله كولن كان معلِّمًا بارعًا، فيه من الطيبة ما يجعل مَن يقرؤه يحبه، حتى ولو لم يكن يعرفه.
• "ونحن نُقيم صرح الرُّوح"، عنوان آخر وجدتُ فيه أسلوبًا آخر متقَنًا بترجمة مبدعة، لم تكن فيها أخطاء تجعل الفكر يَنفصِل عن بعضه، بالعكس شعرت وكأن المترجم (عوني عمر لطفي أوغلو) لم يُترجِم للمؤلف، أحسستُ أن بصمات فتح الله كولن لم تَفقِد آثارها مع الترجمة، وكأن الترجمة لازمت فكر العلامة، وبتحفظ كبير في أن يكون للمترجم أخطاء أو هفوات، بالفعل لم تكن فيه أخطاء، أبحرت هذه المرة مع أفكار كانت تُلاحِق فِكرَ فتح الله كولن مرة بالهدوء، ومرة أخرى ترتفع بسبب وقْع تساؤلات من الكاتب عن القضايا المصيرية؛ قضايا الأمة الإسلامية، وعن الاكتفاء بالمظاهر الخداعة، وعدم التطبيق الجيد، والامتثال الصحيح لأوامر الله تعالى، مثلما ورد في "صفحة نحو عالم الغد"، هذا التفاوت والتباين في الأسلوب إن دلَّ على شيء، فإنما يدل أن عقل الكاتب يَقِظ جدًّا، وشخصيته مُحنَّكة ما فيه كفاية فيما فيه عزة للمسلمين، وفيما فيه مذلَّة لهم، أليس هذا الحرص وهذه اليقظة هي عنوانًا للتفرد والتميز والصحوة العقلية عبر فواصل زمنية ومكانية؛ لكون إرادة الله ميراث أرضه لعباده الصالحين؟ نعم وهو كذلك، فقط كان عليَّ وأنا أقلِّب الصفحة تلو الأخرى، أن أُركِّز جيدًا؛ لأفهم البعد الروحي والعاطفي والفكري لفتح الله كولن.
• ثم انتقل بي فكري عبر فسحة جديدة في كتاب "حقيقة الخلق ونظرية التطور" بأسلوب علمي هذه المرة، وكم أحب العلوم الطبيعية وعلم الابتكار خاصة، وأنا بصدد تحضير رسالة الماجستير في مجال الإثبات العلمي من خلال الدليل البيولوجي، تفاجأت صدقًا وأنا ألمح مدى معارف فتح الله كولن العلمية، ونقده لبعض النظريات لعلماء أرادوا من نظرية التطور منطلقًا ومنطقًا صحيحًا لأبحاثهم، لكن العلامة فتح الله كولن يُصحِّح تلك المعتقداتِ بوجهة نظر تساؤلية كركيزة لطرحه العلمي حول كون نظرية التطور أيديولوجية، هنا يأتي دِفاع العلامة عن الخالق - عز وجل - معتمدًا في ذلك على تحليل نظريات أخرى، نأخذ على سبيل المثال تركيبة الحمض النووي (ADN )، والتي حلَّل الكاتب فيها أن جزيئاتها وما تحتويه من معلومات تحتاج إلى 900 ألف صفحة تقريبًا ما يُعادِل 34 ضعف المعلومات الواردة في دائرة المعارف البريطانية، وقِس على ذلك.
• لا تزال البقية من الكتب، مثل: "القدر في ضوء الكتاب والسنة، وسلسلة النور الخالد"، وبالفرنسية L’ISLAM، لكني لن أخوض في صفحات هذه الكتب؛ لأني فضَّلت عبر هذه الأسطر مقتطفات قصيرة حول أسلوب فتح الله كولن، وإن كان هذا العلامة له جوانب عديدة من التحليل، فأنا اكتفيت جانب الأسلوب باختصار؛ لأن الصفحات لن تتَّسِع فكرًا حرًّا طليقًا طلاقة الطير في السماء، ولا مِداد حبري يكفي ليَخُط كلامًا ليس بالمنتهي عن أسطورة ستبقى خالدة خلود الفِكر النظيف، لكن وفاء مني لهذا الرجل الذي أحببتُه حب البنت لوالدها، أسأل الله العلي القدير أن يرزقني درجة التقوى والفطنة؛ لأتمكن من الفَهْم الجيد والصحيح لفكر إنسان أطلق في نفسي شرارة الصحوة، فأصبحت أصحو من نومي على أن الأمل موجود، وأن ورثة الأنبياء موجودون، وهم الراسخون في العلم، وأعتبر المفكِّر الجليل والبكَّاء، كما يحلو للبعض تسميته، فتح الله كولن مميزًا وواحدًا منهم، وسيبقى كذلك وسيشهد التاريخ بذلك؛ لأنه دخل من أبوابه الواسعة عن جدارة، وازددت معرفة وتعمُّقًا في فكره، وأنا أحضر الملتقى الأخير بالجزائر حول فلسفة البناء الحضاري عند مالك بن نبي وفتح الله كولن، صدقًا كان الرجل حاضرًا بكل خواطره الصادقة نحو ترشيد الفكر والفعل، فالمفكرون من أقطاب العالم متفقون على منهجية واحدة في التغيير، هي بناء الفكر والعقل، ولمَ لا نضيف إليهما الرُّوح؛ ليكون البناء حضاريًّا بكل أبعاده؟ فالامتداد كان من تركيا مع فتح الله كولن، ومن الجزائر مع مالك بن نبي، وأكيد ستمتد الجسور إلى الدول الإسلامية؛ ليَعُم البناء ولتتوحد الأمة الإسلامية على اختلاف فصائلها وأيديولوجياتها.
تحية تقدير واحترام لمن فضلت أن أُكِن له حبًّا صادقًا، وكلي أمل أن التقي به يومًا ما، وأظن ذلك ليس بالمستحيل؛ لأن الفكر المتساوي يلتقي، والبصيرة الفذة تتعارف من أول نظرة.
اللهم احفظ عالمنا الكبير فتح الله كولن، وارزقه حسن العاقبة!