وتستمر الحياة...
بقَسَمِ العنادِ حاورتُهم، وبقَسَم اليقينِ تغلَّبت عليهم، في فكري ألفُ حيرةٍ، وفي عيني ألف نظرة، قبل أن أصل إلى شاطئ الأمان، حسِبتُ أن الدنيا في انقضاءٍ عني، وظننتُ أن مَن كاد لي هو في راحةِ بال من نجاح الطعم.
حسِبتُ أن في شبكة الصيد مكسبًا لهم في حيتان المحيط، لكني أيقنتُ أن الشبكة لم يعلَقْ بها إلا سمك صغير، فكان للغروبِ انقضاءُ اليوم والحيلة، وفي القمَّة ألاعيبُ للدَّلافين مع غروب الشمس في أنها ليست سهلة الاصطياد.
بقسم الصبر ولَّيتُ ظهري لمساءلة عقولٍ لا تقنعني حتى في تركيب السؤال، فرُحْتُ أترجِمُ تخميناتِهم في أنِّي في منأًى عن مجالسهم، لكني حاضرةٌ في لحظة في كل الأوقات، فهل كان بالأمس حوارٌ مع اليوم في أن الغدر سيتفوق يومًا ما؟
هَلُمَّ إذًا إلى سردِ القصة، بل الرحلة، في جلسة يحضرُها الأتقياء فقط؛ لأنهم سيُغيِّرون مجرى الحديث إلى كلام آخر؛ فالملائكة تحفُّهم من كل صوبٍ، فهل لي بقَسَمٍ آخر حتى أتحرَّر من وساوس الخوف بعد اليوم؟ وإن كنتُ سأتحرَّر منها بمراد الله.
بالكاد كانت وُرودي تنمو، وعلى شفا حفرةٍ من ضياع كانت ابتسامتي ستموتُ خلف أستار انقباض الروح، لولا أن استدركت أن الحياة ابتسامةٌ وتفاؤل، فمن قبلُ كنت أمشي على صفيح ساخن، وبحذر فوق رؤوس أرجلي، خوفًا من انزلاقِ الخوف إلى ما أرجوه.
كنت أحاذر في أخذِ النَّفَس تلو الآخر، كنتُ أُقلِّل من العتاب حتى لا تسمعَني الآذان، كنتُ أقاوِمُ بحرصٍ على جوهرة فكري في أن أختزلَه بداخل كياني، ليبقى لفظي فيه كلامًا مثل عامة الناس، حتى يخيل لهم أني من البساطة ما لا لم أكتب حرفًا من الفن الراقي عبر صحائف اليوم والليلة، أين كانت لي ريشة خاصة أرسم بها الأمل متخفيًا من وراء أفول شمس جميلة زاهية الإشراق؟
كنت أحسُّ عن صدق في الإحساس في داخلي أن الألم لن يدومَ على حاله في أن يحاكيَني كل يوم، وأنا في ترحالي مع القدر أشد الخطى من مستقر إلى آخر، كان الحزن يسكن في عَبراتي، ولكن كنتُ أسرع الناس إقبالاً على احتواء آلام مَن عرَفْتُ حتى أنسى أني في صحبةٍ لهم حكايات تتشابهُ في المنطق من الأذى.
لستُ أحزنُ بعد اليوم، لكني بعد الآن أصبحتُ أواجه برفع الهامة من فوق عبقرية أتعبَتْني في أني كنتُ معها في جدال من أن التعاطي مع طبائع الناس لا يقابلُ بالتصحيح والتذكير والتوجيه، ولكن كان لا بد للعبقرية أن تختفيَ إلى حين يصبح لبُّ المرء أكثر وضوحًا في الفهم والاستيعاب؛ فاختلاط حبل العاقل بنابل السفيه لن يزيدني إلا ضياعًا وإخفاقًا بداخل نفسي قبل اتخاذ أي قرار، فما خفي عمَّا يكيده البشر أعظمُ مما يُبْدِيه في لحنِ القول المزيف.
صعبٌ أن أنافس نفاقًا يُنهِكُ قوايَ، وصعب أن أخوضَ حربًا من غير سلاح، ولو أن سلاح النفاق هو الأصمُّ الأبكم في حواس العقلاء هي أصدق الردود حينما تملُّ العبقرية في فهم مزاج بشر أفسد كل شيء، حتى جلسات القهوة والشاي غدت في انقطاع إلى حين اعتدال الضمائر.
بالأمسِ ودَّعتُ سيرةً من السِّيَر، واليوم أثمّن على أحلى وأطهر ضمير ناشدني السلام في روحي، كنت أقربَ للتواضع في مدحِ نفسي، على الرغم من أنها الحقيقة الموقظة لصحو نائمٍ بداخلي، حينما أصارع في ميدان لن أجني من ثباتي زلزلة واحدة، وليبقَ الجميع بانتظار الهزَّات إن هي تكررت، ولست أظن أنها ستتكرر بمرور المحن.
صدقًا أشعرُ برغبةٍ في السَّير قُدُمًا، لأتفقَّد عقولاً باتت في حرج حينما سمعت بنبأ الإخفاق في مسيرة المطاردة، ليس لديَّ الوقت، ولكن الفرصة ستمنحني فجاءة اللقيا ومن غير لقاء.
فمَن ظن أنه سيفرح بأحزاني، نصيحتي له أن يسافر إلى حيث ينتظره الندم، منزويًا في زاوية الفشل، ومَن ظن أنه سيتألَّق بكسر جَناحي، فليُغادِر في منتصف الليل؛ حيث جنون التائهين في ظلمة الطيش من غير رادع يصلحه.
لست ممَّن يتأسَّف على أخطاء تكرَّرت، وتكررت عمدًا، ولست ممَّن ينزلُ مراتبَ تقزَّمت في نظري بعد طول عناء وكفاح في التذكير بهفوات التعمُّد، ولستُ ممَّن يُلبِّي دعواتٍ من غير تسامح؛ لأني أعيش بانتظامٍ، وفي نظام فنون الحياة أتلمس الجميل من إبداع الخالق غُدُوًّا ورواحًا، قيامًا وقعودًا، فلِمَ التأسُّف على مَن كان أسبق للغدر في نهارٍ سلمت فيه مفاتيح يومي لحَمَام السلام، في أني أنثر الود والجمال أينما انتقلَتْ بي خطواتي، فرجاءً اترُكُوا لي ممرًّا واحدًا نقيًّا من الحصى حتى لا أتعثر؛ لأني لست أتفحص مسيري أمام قدمي، بقدرِ ما أتأمل أُفُقي من فوق علوِّ الهِمَّة، بتواضع التعاطي مع حياة سهلة جدًّا، لولا أن لوَّثَتْها أيادي الكراهية، فكان لزامًا عليَّ تنظيفُ الهواء قبل استنشاقِه في أني رحلتُ بعيدًا عن فوضى المدينة إلى راحة البال مع رب كريم جَوَادٍ، في مسيرة المعيَّة الطاهرة إلى أن يُقدِّر الله قدرًا آخر.
فالكل مخطئ، لا تعَضَّ أناملَك حين تراني أمرُّ من أمامِك، بل ابكِ على ظلمِك، واستغفِر معبودَك، وتنحَّ جانبًا من درب المتواضعين والمشفقين على الدنيا؛ فالرغيفُ الواحد بالنسبة لهم يكفي خمسةً، والعشرة منه يكفي عشرين.
هي معادلة القناعة واللُّطف في التعاطي مع الحياةِ من غير التطاول على الغير فيمَن كرمهم الله بكرامة وإنسانية حفظت ماء وجهِها قوانين وأديان.
كنتُ في رحلةٍ من واقع مُعاشٍ، صدقًا مكاسبُ الحياة صعبةُ المنال، ومكاسب الآخرة بعيدةُ المنال، إلا لمن فهم وأدرك أنه لم يُخلَق عبثًا.
ولجلال الدين الرومي قول أطربني:
ما أحسن أن تهاجر من أرض كل يوم!
ما أجمل أن تحطَّ في مقامٍ كل يوم!
ما أطيب أن تنحدر زلالاً بلا جمد ولا كدر!
أمس، رحلت نفسي الحبيبة!
أمس فالكلام كله يرجع إلى أمس!
وينبغي أن نقول شيئًا جديدًا الآن..
وقولي أنا.. وباختصار شديد في كلمتين:
و تستمر الحياة.