نتيجة قصر النظر السياسي عند البعض، ورغبة في الانتقام وتصفية الحسابات عند آخرين، واستسلاما للأجندة الاجنبية المعادية للأمة الرافضة لأي نهوض حقيقي لها؛ اصطفت قوى عربية كثيرة – رسمية وشعبية وعلى اختلاف هدفها- اصطفافا نادرا لشن الحرب على القوى الإسلامية الوسطية التي برزت في أعقاب نجاح ثورات الربيع العربي، ووصلت إلى سدة السلطة إما منفردة أو بالمشاركة في انتخابات نحرة ونزيهة كانت هي الاخرى حدثا نادرا في المنطقة العربية!
ليس الحديث اليوم عن ملابسات ذلك العداء والتآمر وتفاصيله وأهدافه؛ فقد صارت مفضوحة لكثيرين حتى ممن شاركوا بسذاجة في إجهاض الهدف المركزي للربيع العربي، بعد أن أيقنوا أن الأنظمة السابقة كانت هي المحرك الرئيسي لكل تلك التحركات والحملات الصحفية والإعلامية التي مهدت للانقضاض على أبرز مكسب للربيع العربي أعاد السلطة للشعب حقه في أن يختار حكامه عبر الانتخابات الحرة النزيهة!
وصحيح أن هذه اليقظة والانتباهة قد حدثت في الدقيقة الأخيرة ؛إن لم نقل في الوقت الضائع؛ إلا أنها تبقى في الأخير عاملا إيجابيا يسهم في إعادة حشد القوى الراغبة في التغيير من جديد، فقد كان من أوائل خطوات الثورة المضادة لإفشال الربيع العربي في بداياته المبكرة هو تفجير الخلافات بين قوى الثورة، وإثارة الحساسات القديمة؛ وحتى الغيرة والحسد والخوف من انحسار بريق الإعلام وأضواء آلات التصوير!
اليوم.. وبعد تسعة شهور من الانقلاب العسكري في مصر، وستة شهور من الانقلاب الحوثي- المؤتمري في اليمن، وبحار من الدماء والخراب في ليبيا، ونصف الانتكاسة في تونس.. استفاق كثيرون ؛ممن أسهموا بسذاجة وحماقة نادرة في تخريب وإعاقة مسار الربيع العربي؛ على حقيقة أن مشاركتهم تمت تحت راية وتوجيه وتمويل الأنظمة ذاتها التي سبق أن عارضوا سياساتها ورموزها، ونددوا بها وبمفاسدها، وثاروا عليها، واليوم يكتشفون أنهم كانوا مجرد أدوات استخدمتهم رأس حربة في تنفيذ مؤامرات اختراق ثورات الربيع العربي وتفكيك قواها، وتشويه أبرز قواها ورموزها، وتنفير الشعوب منها من خلال إثارة الأزمات والمشاكل وحملات الشيطنة الإعلامية، وعرقلة أي محاولات حقيقية للإصلاح لتييئس العامة من عدم جدوى الثورات التي لم يكن هناك داع لها!
وأن الماضي كان أفضل ويستحق أن يقال عنه: سلام الله عليه.. وآسفين يا ريس ويا زعيم!
أخطر نتائج الردة عن الحرية!
في أول ردة فعل على الانقلاب العسكري في مصر (3 يوليو2013) ؛ كان لكاتب هذه السطور مشاركة في التنبيه إلى خطورة الردة عن الحرية والمسار الديمقراطي الذي يحترم نتائج الانتخابات النزيهة واستحقاقاتها، وقلنا إنه لن يستفيد من ذلك إلا المشاريع السياسية والفكرية التي لا تؤمن بخيار الاحتكام للشعب وفق ما استقرت عليه التجربة الإنسانية في هذا المجال.. وكان أدق وصف لما حدث هو وصفها بأنها (الردة عن الحرية) للمفكر الإسلامي البارز/ أحمد محمد الراشد.. وهو وصف دقيق – بصرف النظر ن إيحاءاته الدينية التي لم تكن مقصودة- فكما أن حركات الردة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانت تريد أن تنتكس بالمجتمع العربي والإنسانية إلى عهود العبودية، والخرافات، والتفرقة الطبقية والعنصرية، وإعادة حكم الكهنوت؛ فهذه الثورات المضادة اليوم من مصر إلى اليمن إلى ليبيا وتونس تريد إعادة عهود الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب.. وها هم جنود وضباط ومليشيات الأنظمة السابقة هي التي تتصدر زحف الثورات المضادة بعد أن سقطت الأقنعة عنها.. ففي مصر عاد نظام حسني مبارك مع تولى السيسي السلطة وها هم رجاله يستعدون للمرحلة الأخيرة بالانقضاض على البرلمان القادم(!) .. وفي تونس عاد رجال بورقيبة وزين العابدين بن علي إلى السلطة (وإن كانوا أخف الأشرار وطأة).. وفي اليمن قاد علي صالح وقواته الأحداث من وراء الستار منذ حاشد وعمران وغزوة صنعاء ويكادون يظهرون عما قريب.. وها هم جنود القذافي بقيادة أحمد قذاف الدم وأشباهه يتصدرون المشهد الحربي في ليبيا، وتحت.. رايات داعش ذاتها!
[ صحيفة الإنديبندت البريطانية نشرت في 16 مارس بالخط العريض وعلى صدر صفحتها الرئيسية عنوانا لتقرير يقول: الأزمة الليبية: جنود معمر القذافي يعودون إلى البلاد ويقاتلون تحت الراية السوداء للدولة الإسلامية (داعش)!
وفي 12 مارس نشرت صفحة غرفة عمليات ثوار ليبيا صورتين لشخص واحد الأولى قديمة كان يحمل فيها صورة القذافي في إحدى مسيرات التأييد.. والثانية وهو يحمل سلاحا واقفا بجوار سيارة عسكرية عليها شعارات داعش!].
الصحفي السعودي جمال خاشقجي (المعروف بتخصصه في شؤون الحركات الإسلامية) اعترف في مقال له بعنوان: [الهوس بمحاربة الإخوان كاد أن يدمر الخليج!]
بطريقة غير مباشرة بالمصيدة التي وقع فيها كثيرون بسبب استغلال قصر نظرهم، وحماقتهم السياسية، وكرههم الأعمى للإخوان لإعادة انتاج أنظمة القهر والاستبداد والفساد، وإلى تغول داعش والنفوذ الإيراني/ الفارسي في بلدان عربية بتفاهمات مع الولايات المتحدة.. أو كما قال:
[الهوس بموضوع «الإخوان» شغلنا عن المهمّ والأهم، كتب تُطبع، وكتّاب يُستأجرون، وأموال هائلة تهدر، ومؤتمرات تعقد، ومؤامرات تحاك، وفضائيات وصحافة تتخلى عن كل قيم المهنية وتتحوّل إلى إعلام حملاتي يقسم المجتمع ويشكّك الأخ في أخيه، محاكمة نوايا وحال استقطاب بغيضة امتدت حتى شملت المجتمع الواحد. مجلس التعاون الذي نفخر به والبقية الباقية من إنجازات أهل الخليج، كاد يفرط بسبب هذا الهوس، وضاعت خلال هذا اللجج أصوات العقلاء والحكماء الذين تسلّط عليهم الإعلام الحملاتي بمكارثية بغيضة تلوح لهم بالأصابع والتقارير السرية.
في الوقت نفسه، كان «داعش» كما يقول في شعاره «باقية وتتمدد»، وبالفعل تمدّد فوق معظم العراق الأوسط، والشرق السوري، واكتسح مناطق الثوار السوريين الذين استبسلوا في تخليصها من يد النظام الجائر، وتمدّد معه رئيس النظام السوري بشار الأسد بعدما كان يترنّح ويستعد العالم لاستبداله بحكم ديموقراطي في سورية. أنصار «داعش» اغتنموا فرصة الحرب على «الإخوان» في ليبيا، فتمددوا من كهوف في الجبل الأخضر إلى كل درنة ثم إلى سرت وجيوب عدة في ليبيا الغارقة في الفوضى، وها هم الآن يقتتلون مع قوات «فجر ليبيا» في منطقة الهلال النفطي، في وقت يزعم من بدأ الحرب هناك أنه و «الإخوان» نسيج واحد. لم يستمع أحد إلى خبير يعرف جيداً أن «الإخوان» مجرد فصيل وسط غابة من القوى القبلية والسياسية في ليبيا، وأنهم يستحيل أن يحكموا ليبيا وحدهم، وفي الوقت نفسه لا يجوز في زمن ما بعد القذافي أن يهمّشوا أيضاً]. الآن ثبت الرؤية لمن تورطوا بحسن نية أو بغباء.. فعسى أن يكون ما حدث درسا للجميع يستفيدون منه في المرحلة المقبلة.
سقوط المشروع الحوثي!
لأن الذي يصعد بسرعة يسقط بسرعة.. فبنظرة سريعة على بنود الخطاب السياسي والإعلامي للحوثيين التي برروا بها زحفهم لإسقاط الدولة والسيطرة عليها، وإشعال الحروب في كل مكان، ومقارنتها بالواقع الذي أنتجوه؛ يمكن القول إن الخبرة فشلوا وهم في سنة أولى حكم.. اقرأوا الأفكار وقارنوا:
- الشراكة: طلعت نكتة كبيرة اسمها: آل البيت أدرى بما فيه! وشعارها: باعدوا من طريقنا! ومضمونها: اخلط يا فقيه كله حقنا!
- النزاهة: عما قريب سيقول الناس: سلام الله على النباش الأول والسارق الأول!
على الأقل كانوا يسرقون من خزينة الدولة لا الدبابات والصواريخ والطائرات، والجامعات والمدارس وبيوت المواطنين!
- الأمن والاستقرار: هو الشيء الوحيد الذي تكرس في المقابر المنتشرة المتوسعة يوميا، وانتشار المسلحين في كل شارع وتحكمهم في شؤون الدولة.. وانهيار الدولة، واقتراب الوحدة من حافة الهاوية، وتمزق النسيج الاجتماعي وتحول البلاد إلى حلبة للصراعات الإقليمية!
ولا ننسى التحذير من قرب انهيار منظومة الكهرباء الوطنية، وعجز الدولة عن القيام بواجباتها تجاه الشعب، وتوقف التجارة واحتمال إعلان إفلاس الخزينة العامة؛ رغم ثروات الأحجار الهائلة التي تتمتع بها اليمن السعيد.. الحجري!
- مواجهة الإرهاب والتكفير: صار التكفير واتهام الشعب بالنفاق العمالة لليهود والنصارى ممارسة يومية تتردد على ألسنة الحكام الجدد وفي وسائل إعلامهم.. أما الإرهاب فلم يعرف اليمنيون سلطة تمارسه يوميا وبشعارات براقة مثلما حدث منذ سقوط صنعاء!
- رفض التدخل الأجنبي والوصاية الخارجية: صارت عملية رسمية تتم مراسيمها علنا، وتقوم بها وفود رسمية و14 رحلة يومية لتوريد أدوية لعلاج العمالة.. والمستور لو انكشف فسيقول الناس: وداعا لليمن!
مستبد لكن مثقف!
[ اختلف الحجاج بن يوسف الثقفي مع أبي عمرو بن العلاء 0أحد القراء السبعة) في نطق كلمة (غرفة) في الآية الكريمة: (إلا من اغترف غرفة بيده).. وهل هي بفتح الغين أو ضمها.. وأمهله ثلاثة أيام ليأتي له بالدليل من كلام العرب على صحة قراءته!].
موقع*الصحوة نت*