تركيا أردوغان: من ثورة ناعمة إلى سلطنة ديمقراطية
2014-9-| د. محمد الأحمري
بقلم: د. محمد الأحمري / كاتب ومفكر إصلاحي، مدير منتدى العلاقات العربية والدولية
أثار سؤال: لماذا احتفل العرب والمسلمون بفوز أردوغان حاكما لتركيا؟ الكثير من الأسئلة والكثير من الإجابات.
هنا محاولة لعرض جوانب من القضية الأوسع التي تتجاوز الشخص إلى الحالة، فظاهرة الإعجاب بأردوغان تجتاح العالم الإسلامي وغيره وليس العرب فقط. تدرج هذا الإعجاب والاحتفال من همس السياسيين والاقتصاديين والمثقفين إلى المستوى الشعبي، وتعالت شعبيته حتى أصبح نقده ونقد حزبه -ولو همساً- مثار استغراب، وقد كان أهل النفوذ في العالم العربي من أوئل من اهتم به، ومنحه الجوائز، ثم تراجع التأييد الرسمي ليصبح نقدا ولوما، وتصاعد التأييد شعبيا ليثير غضب الحكومات عبر أصواتها وأقلامها الدعائية.
يمثل نجاح الحالة التركية فلاحا سريعا في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فالنجاح الديمقراطي –رغم مخاطر الانتكاسة- وتمكين شعب عريق من حكم نفسه، ونبذ المستبد العسكري المتكلس، ثم المصالحة مع الذات والمحيط. وقد كان الشعب محروما من التعرف على ذاته وهويته، ومحروما من قدراته وإمكاناته، ومعلقا بين مذهبيات غربية قومية وقيود تحطمه ولا ترفعه، ثم إن تنشيط الرأسمالية للعمل والصناعة والزراعة في بلد يملك الإمكانات وكان موقوفا لعشرات السنين؛ كل ذلك أحدث ثورة، وبدأ قطاع يتذوق منافع الرأسمالية ولم تصله بعض سلبياتها. أردوغان مع حزبه سبق إلى الاتصال بأمريكا منذ عام 1992م تقريبا، وكان بعضهم من شباب معاهد الأيمة والخطباء مثل أردوغان.
وقد لمست أمريكا أن الحكومات العسكرية فاشلة، وتحمل بقية من نزعة قومية متكلسة، وعسكرية متشددة وتخلف اقتصادي وسياسي لا مستقبل له، كونه من بقايا منظومة الحرب الباردة، وكان من تقاليد الحرب الباردة الصبر على الاختلاف والتدمير والتخلف ما دام الولاء للغرب قائماً، فهو أساس كل شيء، وكان الإنسان وحقوقه آخر ما يفكر فيه الغرب محليا ودوليا.
كما إن البلاد بمكانتها وتاريخها ومركزيتها وموقعها العسكري في الناتو لا يمكن التنازل عنها بسهولة، ولا تجاهل النظام القادم فيها. وكانت القناعة الغربية أن الإسلاميين قادمون في تركيا، وكانوا في صعود شعبي مستمر من تأسيسهم حزب الرفاه، ثم حزب الفضيلة، ثم حزب السعادة الذي خرج منه حزب العدالة والتنمية الحاكم.
فكان لا بد من ترتيب الوضع معهم مبكراً، وهكذا كان، وكانت أعقد العلاقات بين الإسلاميين والعسكر زمن قيادة الشيخ نجم الدين أربكان -الذي تولى رئاسة الوزراء سابقا وأطاح به العسكر- بكل ما عرف عنه من عزم وصرامة ووضوح لا يحتمله المعسكر الغربي، ولا بقايا العلمانية التركية، ولا شباب الحزب الذين انقلبوا عليه، فاتهمهم بالعمالة بسبب ذلك، ولم يزل لحزب أربكان “السعادة” وجود ضعيف حتى بعد وفاته.
كان الشباب هم حزب الخلاص تقريبا، فاتجه له الاهتمام والعمل. ولم يسلم قائد الجيش التركي السلطة في البلاد للحزب المنتخب عام 2002 إلا بعد تفاهم ولقاء في واشنطن حسمت فيه أمريكا موقفها وأشارت أو ألزمت العسكر أن يفتحوا الطريق لمن اختاره الشعب، وينهوا تمسكهم الحديدي بالسلطة، ولأن مصالح الغرب في أيد أمينة، محمية بحزب ديمقراطي مدني وتقدمي وبدأ تحرر تركيا من كابوس العسكر بخطوات هادئة ولكن واعية وجادة في الاتجاه الصحيح.
وقد أوحت أمريكا لمكاتبها وتابعيها في المنطقة بقبول الحزب الحاكم الجديد في تركيا فاحتفلت به السلطات التابعة. لكن ظهر لهذه الحكومات أن الحزب وأردوغان مشكلة وليس حلاً، ومن هنا كشف له بعضها أنياب العداء، نقدا ومحاولة تدخل في مظاهرة ميدان تقسيم من المحتجين على البناء في الحديقة، وعلى تحديد ساعات شرب الخمر.
قيل إن بعض الحكومات موّلت المعارضة، ولعل هذا لم يثبت إلى الآن، غير أن الدعاية ضده وتسخير إعلامها لخصومه وللانتقام منه في الانتخابات كان جليا. وكان خصمه في الانتخابات يمثل العلمانيين المتطرفين والقوميين والصوفية وخصوم التوجهات الإسلامية.
ورغم أن ميول هذا المنتخَب الذي لم تكن عسكرية ظلامية ولا قومية متطرفة ولكن السلطة مغرية، أو قناعة مكبوتة، فأصبح إحسان أوغلو مرشح القوميين والمتطرفين والعلمانيين والعلويين وما أشبه من بقايا عصر الظلمات العسكرية، مع أن والده هرب من قسوة وتطرف القوميين العلمانيين الأتراك إلى مصر -حيث نشأ إحسان وتعلم تعليمه الأولي- ثم عاد ولده المهتم بالتاريخ والتراث الإسلامي التركي ليكون مرشحهم. كان سقوطه متوقعا مقدما، ومع ذلك فقد حاز في الانتخابات الرئاسية في يوليو 2014 قريبا من 40% من الأصوات. وكان أمل المحافظين الجدد ومتخلفيهم العرب كبيرا في انتصار أوغلو ولو كان غير منسجم مع أحزاب رشحته ولأنها لا تملك خصما قريبا من الإسلاميين ليسحب البساط من الحزب الحاكم.
مهما كانت علاقات تركيا التاريخية بإسرائيل فإن حزب العدالة على الجبهة المختلفة مع الصهيوني قولا واحدا، ذلك لأسباب، منها: المهاد الديني الإسلامي الذي تلقاه، والمهاد الإسلامي الصادق يصطدم دون ريب مع الصهيونية، وكذا ذبح الجيش الصهيوني لطاقم سفينة مرمرة التي جاءت لمساعدة غزة، وعامة الناس لاحظوا أحقاد متصهينة العرب على الحكومة التركية وفرحهم بالمظاهرات وإطلاق الغاز في ميدان تقسيم وكأنها فتح الفتوح، ولو كان الحدث في تل أبيب لغلبهم الحزن.
الشركات التركية تتنافس في إفريقيا وغيرها مع شركات إسرائيلية تعمل تحت مظلات غربية في هذه المناطق، وتدرك تركيا أن شعارات الإسلام تحمي وتنفع أكثر، وخاصةً أن طبقة التجار في الحزب أقوياء ومؤثرون، وهم وراء كثير من النجاحات، والتماهي الحزبي مع التجارة والصناعة التركية من الأسباب الكبرى لنجاح تركيا وتقدمها الاقتصادي، والتماسك قوي وثيق في هذه المرحلة.
ثم إن مأساة سوريا والعراق ولبنان وهيمنة إيران على البلدان الثلاثة جعلت تركيا مصطافا ومآلا جاذبا لمال كثير من محيط لا يملك تدبيره، بل أصبحت محجا للزيارات السياسة وستصبح سوقا وملتقى للثقافة العربية والإسلامية والغربية.
إن جاذبية القوة وبرامج حرية السعي للسعادة كبيرة في تركيا، ورغم ما يقارب 77 مليوناً من السكان يطلب منهم مزيد الإنجاب. ورغم النمو الاقتصادي عشر مرات منذ تولي الحزب فهو يسعى لما هو أكثر، وقلب الوضع الاقتصادي من مدين إلى دائن للبنك الدولي، أما السلاح النووي فملغى أو مؤجل حتى يتحمل الاقتصاد المحلي ثمنه، وتقبل السياسة الدولية وجوده. إن قلب الحياة والموازين في قارة “آسيا الصغرى”: يجذب انتباه العالم، فيكف بجيران شاركوه كثيرا من التاريخ والظروف والدين والتواصل؟!
ولكن المعونات والممكن المسموح به غربيا وفرته تركيا، وقامت بخطوات مدنية لا سابقة لها مثل السماح للسوريين بالعمل والدخول، والمعونات الكثيرة، ولأن تركيا تفكر في سوريا المستقبلة حليفا وسوقا وأيادي عاملة، وباب نفوذ للعالم العربي.
ولا نقلل من خطب مستمرة لزعيم عالمي في بلد صاعد يشرح في خطب مطولة الشرور التي تمارسها إسرائيل تجاه المستضعفين في غزة، ثم المواقف المتوالية التي رفعت اللوم عنه، ورمته في وجوه أخرى.
هذا الموقف جلب خلافا شديدا مع الغرب المنافق الذي يتظاهر بتأييد الديمقراطية ولكنه يحرمها على العرب، من باب النظرة الدونية لهم، وكان هذا مثار خلاف بين أوباما وأردوغان كما شرحه أردوغان للصحفيين، حين قال عن الغرب وأمريكا: “يسكتون ويستنكرون استمرارنا وصفه بالانقلاب، لا بل ويطالبوننا بالسكوت عن الانقلاب. ولكنا سنستمر ونقول الشيء نفسه” [نيويورك تايمز الدولي،9-10\2014].
ثم إن لدى كثير من المثقفين حس بميلاد إمبراطورية إيرانية قاتلة، ومتعصبة، فيهربون منها إلى إمبراطورية تركية سابقة كانت لها الشرعية والخلافة، وقد تستعيد الحياة، وكلا الموقفين مرعب للعرب، ولكنهم بين حكومات مفسدة خاملة وبين إمبراطوريات قادمة يأخذون قراراهم بأيديهم فيوالون كما يحبون، ويفاصلون كما يرون، إذ لم يسمح لهم بالوجود ولا بالاختيار ولا لأفكارهم ولا لقضاياهم أن ترى النور وهم في قبظة الاستبداد. فالتوجه لتركيا لا يخفي خوف السنة من الشيعة، ولا خوفهم من مستبديهم فيهربون ولو زمنا إلى هناك، مع شيئ من رغبة الاستطلاع بما اشتغل به الناس.
فهناك تسامح مع القوميات، وإعادة تعريف صريح لتركيا من خلال خطاب إسلامي وعظي، وهناك إعادة عرض للتاريخ وحضور لمحمد الفاتح وللسلاجقة والدين والخلافة من باب خفي. من شاهد معرض “بانوراما” عن فتح إسطنبول ووضع محمد الفاتح بديلا لأتاتورك يدرك الغاية الذكية له بترسيخ التعريف الجديد لتركيا، ولاحظ إعادة التعريف بالنفس بطريقة ذكية تهدم هوية فرضت من فوق وتستعيد أخرى باستخدام المتفق عليه.
وظاهرة تغيير النظم والعقائد والتوجهات بهدوء وحذر قام بها في عصرنا شخصيات ذكية ومؤثرة جدا كما فعل بنج في الصين الذي حوَّل هوية الصين وهي لا تدري، وربما حاول بعض الصغار أن يحولوا مجتمعاتهم وحكوماتهم فسببوا ضجة وتدميرا هائلا وضياعا مستمرا، مثل جورباتشيف. والحقيقة أن تركيا كان التغيير فيها أسهل لوجودها في المنظومة الغربية أصلا، ولوجود مواقف إصلاحية حاولت قبل الحزب، ثم استثمار الهبة الإسلامية العامة، والتراجع الأمريكي والإخفاق في المنطقة، والتطرف الصهيوني في المواقف كل هذه خدمت صناعة الهوية الجديدة لتركيا.
ثم إن مظاهر الصحوة الإسلامية تجتاح البلاد من اللباس إلى المساجد عمرانا وبناء، إلى السياسة والإعلام وتعليم العربية وتشجيع المعاهد الدينية، وفي خطاب الانتصار في الانتخابات رحب بهذا التنوع. إن رؤية الشعوب العربية لتركيا مناصرة للديمقراطية أعطاها مزيدا من الجاذبية، وقد كادت تفقد تركيا هذه الخصوصية لو نجحت كل الثورات العربية.
دكتاتورية ملطفة أم قادمة؟:
كل الدكتاتوريات مذمومة، وفي العصر الحديث قامت ديمقراطيات بعد الاستعمار نجحت في البناء وخففت من شناعة الديكتاتوريات مثل: “كوان لو” في سنغافورة، و”محاضير محمد” في ماليزيا، ديمقراطية تركيا حقيقية وأحسن من طريقة الزعيمين المذكورين، إنما الخوف من أن تكون الحقيقة الديمقراطية في تركيا تمهد لدكتاتور يحافظ على نفوذه حيث حل، ولهذا كان خروجه محببا لكثيرين ممن أرادوا لتركيا الخير، لإنهاء شبهة السيطرة التي قد تقع ولو كانت النسبة: 51%، فهيَ مهما كانتَ أصوات صحيحة وانتخابات نزيهة، وتترفع عن مهازل الانتخابات العربية.
في حديث لأردوغان في الطائرة عائدا إلى انقرة من مرسين قال للصحفيين “عندما تنظرون إلى دستورنا ليس هناك من مواد تحدد أعمال الرئيس..إنه يسمي الرئيس رأس الدولة، وهو كذلك” [نيويورك تايمز الدولي، السابق]
وقد ترك أردوغان في أكثر من عقد من الزمان أثره على تركيا أثرا قد لا يقل عن أثر أتاتورك، وكسر الحزب ظهر العسكر حراس العلمانية المتطرفة، وحطم المحرمات العلمانية الأتاتوركية، وأحيا الحرية الدينية، وأعطى الأمل بل والعمل لطبقات من الناس كانت محرومة في النظام السابق، وأعطى تركيا الاحترام والنفوذ الذي فقدته منذ قرن من الزمان، وردد الرئيس بفخر في خطاب عام لانتخابه: “الله يكفينا شعبنا يكفينا، تركيا تكفينا”.
أخيرا
إن النجاحات السابقة تحمل تحديات أخرى يجب أن تراعى، فمما يجب وعيه أن تركيا الحالية وارثة لتكوين قومي عميق، وبعضه متطرف، جرى تأسيسه وتأكيده لطرد الهوية الإسلامية، ولا نتوقع أن تركيا في القريب العاجل قادرة على خلع أثقال التشدد القومي تجاه العرب والكرد واليونانيين وغيرهم.
غير أن التطرف القومي قد كسره إلى حد ما التوجه الإسلامي ولو إلى حين، ويوم تستيقظ الأحداث أو تبعث الديون فإن من الواجب أن يتحلى العرب والترك بما يوثق علاقاتهم، ويجنبهم الخلافات التي قد تسيء للطرفين.
قلت هذا لأن خمائر الخلاف موجودة، فمرض القومية لم يزل يعيث بالطورانيين ويعمي من يشبههم من القوميين العرب، واحتواء الصهاينة لبعض سياسات العرب قوية وتحرص أن توجهه لإثارة الخلاف مع تركيا، ثم إن فعالية وانفعال بعض القادة الترك قد يوقدها، وفشل نظرية “صفر مشاكل أو تصفير المشاكل” أخفقت لأنها كانت حُلما مغرقا في المثالية غير واقعي ولا عملي.
هناك حكومات عربية لا تملك إلا أن تختلف مع تركيا بسبب موروث تاريخي يُساء تكراره بألسنة وأقلام جاهلة، ثم بسبب وجود حزب إسلامي حاكم وناجح فإن وجوده يسبب الغيرة وما يتبع من كراهية وحسد والتشنج تجاه أي عمل إسلامي من قبل متطرفين تعودوا الخداع بالشعارات، ثم لأن إسرائيل كلفت أولياءها بدور محاربي التوجهات الإسلامية ولو كانت بناءة وديمقراطية وحضارية، لأنها تدرك أن كل خطاب إسلامي واع سيكون ضد مظالمها.
إن تحدي الصوفية المنظمة –جماعة كولن- في تركيا كما يفعل الرئيس بهذا الوضوح والانكشاف قد لا يكون لمصلحة الدولة على المدى الطويل، وقد كان للصوفية أثرها في قمع السلطنة قديما وإضعافها، ويبدو أن موجة التصوف الجديدة سيكون لها نفوذ ومستقبل داخلي عميق بحكم معارضتها للسلطة، مما قد لا يرى أبعاده السياسي لحظة القوة والانتصار.
ثم إن خفاء أو تخلي القوة العنيفة للعسكر التركي سمح لها بالواجهة الناعمة المقبولة عالميا، ويوم تعود وتظهر الواجهة العنيفة التي سادت تاريخ الترك فإن هذا سيقلب عليهم العالم، لذا كان السير على الحبل المعلق بين الماضي والمستقبل يحتاج حرصا شديدا، وإذا سمحت الشعبية الجارفة المؤقتة لأشخاص فلا يعني الفكاك من المعضلات في المحيط وتربص الخصوم وأثقال الماضي.
*مجلة العصر
2014-9-| د. محمد الأحمري
بقلم: د. محمد الأحمري / كاتب ومفكر إصلاحي، مدير منتدى العلاقات العربية والدولية
أثار سؤال: لماذا احتفل العرب والمسلمون بفوز أردوغان حاكما لتركيا؟ الكثير من الأسئلة والكثير من الإجابات.
هنا محاولة لعرض جوانب من القضية الأوسع التي تتجاوز الشخص إلى الحالة، فظاهرة الإعجاب بأردوغان تجتاح العالم الإسلامي وغيره وليس العرب فقط. تدرج هذا الإعجاب والاحتفال من همس السياسيين والاقتصاديين والمثقفين إلى المستوى الشعبي، وتعالت شعبيته حتى أصبح نقده ونقد حزبه -ولو همساً- مثار استغراب، وقد كان أهل النفوذ في العالم العربي من أوئل من اهتم به، ومنحه الجوائز، ثم تراجع التأييد الرسمي ليصبح نقدا ولوما، وتصاعد التأييد شعبيا ليثير غضب الحكومات عبر أصواتها وأقلامها الدعائية.
يمثل نجاح الحالة التركية فلاحا سريعا في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فالنجاح الديمقراطي –رغم مخاطر الانتكاسة- وتمكين شعب عريق من حكم نفسه، ونبذ المستبد العسكري المتكلس، ثم المصالحة مع الذات والمحيط. وقد كان الشعب محروما من التعرف على ذاته وهويته، ومحروما من قدراته وإمكاناته، ومعلقا بين مذهبيات غربية قومية وقيود تحطمه ولا ترفعه، ثم إن تنشيط الرأسمالية للعمل والصناعة والزراعة في بلد يملك الإمكانات وكان موقوفا لعشرات السنين؛ كل ذلك أحدث ثورة، وبدأ قطاع يتذوق منافع الرأسمالية ولم تصله بعض سلبياتها. أردوغان مع حزبه سبق إلى الاتصال بأمريكا منذ عام 1992م تقريبا، وكان بعضهم من شباب معاهد الأيمة والخطباء مثل أردوغان.
وقد لمست أمريكا أن الحكومات العسكرية فاشلة، وتحمل بقية من نزعة قومية متكلسة، وعسكرية متشددة وتخلف اقتصادي وسياسي لا مستقبل له، كونه من بقايا منظومة الحرب الباردة، وكان من تقاليد الحرب الباردة الصبر على الاختلاف والتدمير والتخلف ما دام الولاء للغرب قائماً، فهو أساس كل شيء، وكان الإنسان وحقوقه آخر ما يفكر فيه الغرب محليا ودوليا.
كما إن البلاد بمكانتها وتاريخها ومركزيتها وموقعها العسكري في الناتو لا يمكن التنازل عنها بسهولة، ولا تجاهل النظام القادم فيها. وكانت القناعة الغربية أن الإسلاميين قادمون في تركيا، وكانوا في صعود شعبي مستمر من تأسيسهم حزب الرفاه، ثم حزب الفضيلة، ثم حزب السعادة الذي خرج منه حزب العدالة والتنمية الحاكم.
فكان لا بد من ترتيب الوضع معهم مبكراً، وهكذا كان، وكانت أعقد العلاقات بين الإسلاميين والعسكر زمن قيادة الشيخ نجم الدين أربكان -الذي تولى رئاسة الوزراء سابقا وأطاح به العسكر- بكل ما عرف عنه من عزم وصرامة ووضوح لا يحتمله المعسكر الغربي، ولا بقايا العلمانية التركية، ولا شباب الحزب الذين انقلبوا عليه، فاتهمهم بالعمالة بسبب ذلك، ولم يزل لحزب أربكان “السعادة” وجود ضعيف حتى بعد وفاته.
كان الشباب هم حزب الخلاص تقريبا، فاتجه له الاهتمام والعمل. ولم يسلم قائد الجيش التركي السلطة في البلاد للحزب المنتخب عام 2002 إلا بعد تفاهم ولقاء في واشنطن حسمت فيه أمريكا موقفها وأشارت أو ألزمت العسكر أن يفتحوا الطريق لمن اختاره الشعب، وينهوا تمسكهم الحديدي بالسلطة، ولأن مصالح الغرب في أيد أمينة، محمية بحزب ديمقراطي مدني وتقدمي وبدأ تحرر تركيا من كابوس العسكر بخطوات هادئة ولكن واعية وجادة في الاتجاه الصحيح.
وقد أوحت أمريكا لمكاتبها وتابعيها في المنطقة بقبول الحزب الحاكم الجديد في تركيا فاحتفلت به السلطات التابعة. لكن ظهر لهذه الحكومات أن الحزب وأردوغان مشكلة وليس حلاً، ومن هنا كشف له بعضها أنياب العداء، نقدا ومحاولة تدخل في مظاهرة ميدان تقسيم من المحتجين على البناء في الحديقة، وعلى تحديد ساعات شرب الخمر.
قيل إن بعض الحكومات موّلت المعارضة، ولعل هذا لم يثبت إلى الآن، غير أن الدعاية ضده وتسخير إعلامها لخصومه وللانتقام منه في الانتخابات كان جليا. وكان خصمه في الانتخابات يمثل العلمانيين المتطرفين والقوميين والصوفية وخصوم التوجهات الإسلامية.
ورغم أن ميول هذا المنتخَب الذي لم تكن عسكرية ظلامية ولا قومية متطرفة ولكن السلطة مغرية، أو قناعة مكبوتة، فأصبح إحسان أوغلو مرشح القوميين والمتطرفين والعلمانيين والعلويين وما أشبه من بقايا عصر الظلمات العسكرية، مع أن والده هرب من قسوة وتطرف القوميين العلمانيين الأتراك إلى مصر -حيث نشأ إحسان وتعلم تعليمه الأولي- ثم عاد ولده المهتم بالتاريخ والتراث الإسلامي التركي ليكون مرشحهم. كان سقوطه متوقعا مقدما، ومع ذلك فقد حاز في الانتخابات الرئاسية في يوليو 2014 قريبا من 40% من الأصوات. وكان أمل المحافظين الجدد ومتخلفيهم العرب كبيرا في انتصار أوغلو ولو كان غير منسجم مع أحزاب رشحته ولأنها لا تملك خصما قريبا من الإسلاميين ليسحب البساط من الحزب الحاكم.
الشريك لا التابع:
انتهت العملية السياسية التركية بوجود حزب متمكن في الداخل شريك لأمريكا في الخارج. والسياسة الأمريكية تتحمل الند والمشارك وحتى الوكيل المتحرر من كل قيودها، وتحتقر التابع الغبي. وهناك نماذج عديدة للموافقة التركية والتبعية الموروثة، ولكن هناك مواقف مشهودة للاستقلال لا تخطئها عين، أقلها الموقف من فلسطين ومن الانقلاب في مصر.الشماته بالمتصهينين العرب:
من أسباب فرحة الجماهير العربية بانتصار أردوغان الشماتة بالتحالف الصهيوني العربي، أو ما سماه المثقفون العرب “تيار المتصهينين العرب” الذي برز متعاطفا مع الإرهاب الصهيوني ضد غزة، وكان خطابه خيانيا ونفاقيا كالحاً استفز الناس، فتعاطفوا مع كل خصوم هذا التيار وأبرزهم أردوغان.مهما كانت علاقات تركيا التاريخية بإسرائيل فإن حزب العدالة على الجبهة المختلفة مع الصهيوني قولا واحدا، ذلك لأسباب، منها: المهاد الديني الإسلامي الذي تلقاه، والمهاد الإسلامي الصادق يصطدم دون ريب مع الصهيونية، وكذا ذبح الجيش الصهيوني لطاقم سفينة مرمرة التي جاءت لمساعدة غزة، وعامة الناس لاحظوا أحقاد متصهينة العرب على الحكومة التركية وفرحهم بالمظاهرات وإطلاق الغاز في ميدان تقسيم وكأنها فتح الفتوح، ولو كان الحدث في تل أبيب لغلبهم الحزن.
الوعي بالاقتصاد والتاريخ والجغرافيا:
هناك عامل آخر وهو صعود الوعي في تركيا بحقائق الاقتصاد والسياسية والدين والتاريخ، فهذه المنطقة الإسلامية -لا العربية فقط- تدرك تداخل مصالحها واهتماماتها، وتكره الإرهاب الصهيوني المستمر، وتتعاطف وتجتمع حول فلسطين، وأغلب الأتراك شعبا وقيادة موقفهم من قضية فلسطين موقف مؤيد وصادق. أضف إلى ذلك إن سوق تركيا في العالم العربي كبير من الأطلسي إلى بغداد، ومن تركيا إلى أعماق إفريقيا، ولا يقارن بالسوق الصهيوني عندما تفكر تركيا بالتجارة.الشركات التركية تتنافس في إفريقيا وغيرها مع شركات إسرائيلية تعمل تحت مظلات غربية في هذه المناطق، وتدرك تركيا أن شعارات الإسلام تحمي وتنفع أكثر، وخاصةً أن طبقة التجار في الحزب أقوياء ومؤثرون، وهم وراء كثير من النجاحات، والتماهي الحزبي مع التجارة والصناعة التركية من الأسباب الكبرى لنجاح تركيا وتقدمها الاقتصادي، والتماسك قوي وثيق في هذه المرحلة.
السفر لتركيا:
لم يشهد تاريخ المنطقة مواسم هجرة صيفية وغير صيفية عربية إلى تركيا كما يشهد الآن، فالمخطط التركي أدرك المنافع الكبرى المتبادلة مع العالم العربي وغيره. وكما قال نابليون: “لو أن للعالم عاصمة لكانت إسطنبول”، وهي مدينة جاذبة سياحيا عبر القرون، يزورها من فرنسا فقط خمسة ملايين سائح سنويا، وتجتذب سياح العالم، وأصبحت عقاراتها تجذب المقتدرين، وتتسع مدنها وتتحسن خدماتها بطريقة فائقة يلحظها من يغيب عنها زمنا قصيرا.ثم إن مأساة سوريا والعراق ولبنان وهيمنة إيران على البلدان الثلاثة جعلت تركيا مصطافا ومآلا جاذبا لمال كثير من محيط لا يملك تدبيره، بل أصبحت محجا للزيارات السياسة وستصبح سوقا وملتقى للثقافة العربية والإسلامية والغربية.
المجاعة للقدوة والزعامة المحترمة:
إن فقدان النموذج والقدوة والقائد على الساحة العربية تجعل الناس في شوق لشخصيات محترمة تقدر مشاعرهم وقناعاتهم وطموحاتهم، وتشاركهم قضاياهم، أو تتظاهر بذلك، فكأنهم بهذا التأييد يقولون: “يا ليت لنا مثل ما لتركيا من زعامة وضمير واع حيّ”.إن جاذبية القوة وبرامج حرية السعي للسعادة كبيرة في تركيا، ورغم ما يقارب 77 مليوناً من السكان يطلب منهم مزيد الإنجاب. ورغم النمو الاقتصادي عشر مرات منذ تولي الحزب فهو يسعى لما هو أكثر، وقلب الوضع الاقتصادي من مدين إلى دائن للبنك الدولي، أما السلاح النووي فملغى أو مؤجل حتى يتحمل الاقتصاد المحلي ثمنه، وتقبل السياسة الدولية وجوده. إن قلب الحياة والموازين في قارة “آسيا الصغرى”: يجذب انتباه العالم، فيكف بجيران شاركوه كثيرا من التاريخ والظروف والدين والتواصل؟!
سوريا والموقف من السوريين:
لم يكن الموقف التركي العسكري حاسما في سوريا لأسباب منها: كون تركيا من أكبر أعضاء حلف الناتو عسكريا، وقانونه يلزم الباقين لو تدخل، و وجود القيادات الطورانية القومية في الجيش التي تكره العرب جملة وتفصيلا، وتصر على بعدهم عن التدخل، وكذا الأقليات، والصوفية وموقفهم الشديد ضد التدخل في الحرب، ثم إن تركيا تريد بناء اقتصاديا الآن بلا أكلاف كبيرة، وتعرف أن التدخل العسكري قد يورطها مع إيران، والغرب لا يريد التدخل في سوريا تحقيقا لرغبة إسرائيل في تدمير سوريا، ولكون هذه منطقة مساومات غربية إيرانية.ولكن المعونات والممكن المسموح به غربيا وفرته تركيا، وقامت بخطوات مدنية لا سابقة لها مثل السماح للسوريين بالعمل والدخول، والمعونات الكثيرة، ولأن تركيا تفكر في سوريا المستقبلة حليفا وسوقا وأيادي عاملة، وباب نفوذ للعالم العربي.
الموقف من غزة:
موقف أردوغان وحكومته من غزة فوق النسيان والتساؤل، وآخرها المعونات الغذائية والعلاجية والحملات الإعلامية والتبرعات المستمرة. أما بعض العرب فكانوا يشاهدون المأساة ويراقبون تركيا وسياستها وكرمها ومبادراتها الدولية، ويدركون الشك الكبير الذي غشي مواقف بعض الحكومات، والخوف الشعبي العام أنَّه ربما كانت في صف السيسي ونتن ياهو ضد فلسطين.ولا نقلل من خطب مستمرة لزعيم عالمي في بلد صاعد يشرح في خطب مطولة الشرور التي تمارسها إسرائيل تجاه المستضعفين في غزة، ثم المواقف المتوالية التي رفعت اللوم عنه، ورمته في وجوه أخرى.
الموقف من الانقلاب في مصر:
حدد موقفَ تركيا من الانقلاب في مصر أمورا منها: قرب الانقلاب من إسرائيل خصم أردوغان وشعبه وحكومته، وبُعْدُ الانقلابيين وعداؤهم للصف الإسلامي الذي يراه قريبا منه، وكذا قرب الانقلاب من المحافظين الجدد في أمريكا والعالم العربي وهذه مجموعة معادية للتوجهات الإسلامية في تركيا وغيرها، ثم قرب الانقلاب العسكري في مصر من إيران ومن خصوم تركيا عموما في العالم، وعودة العسكر للحكم وهم جماعة أضرت بتركيا والنموذج المصري أشد سوءا وتخلفا من شبيهه التركي.هذا الموقف جلب خلافا شديدا مع الغرب المنافق الذي يتظاهر بتأييد الديمقراطية ولكنه يحرمها على العرب، من باب النظرة الدونية لهم، وكان هذا مثار خلاف بين أوباما وأردوغان كما شرحه أردوغان للصحفيين، حين قال عن الغرب وأمريكا: “يسكتون ويستنكرون استمرارنا وصفه بالانقلاب، لا بل ويطالبوننا بالسكوت عن الانقلاب. ولكنا سنستمر ونقول الشيء نفسه” [نيويورك تايمز الدولي،9-10\2014].
خوف خفي:
هناك خوف من تمدد إيران، ومن آثارها السلبية في المنطقة، يجعل الناس يرون في تركيا مأمنا من خطر يحيط بهم من كل اتجاه، وهو الخطر الإيراني، فكأنهم يرون في الهجرة والتأييد لهذا النموذج مقارعة لنظير يجوس بلادهم قتلا وتمزيقا من اليمن إلى سوريا إلى العراق ولبنان.ثم إن لدى كثير من المثقفين حس بميلاد إمبراطورية إيرانية قاتلة، ومتعصبة، فيهربون منها إلى إمبراطورية تركية سابقة كانت لها الشرعية والخلافة، وقد تستعيد الحياة، وكلا الموقفين مرعب للعرب، ولكنهم بين حكومات مفسدة خاملة وبين إمبراطوريات قادمة يأخذون قراراهم بأيديهم فيوالون كما يحبون، ويفاصلون كما يرون، إذ لم يسمح لهم بالوجود ولا بالاختيار ولا لأفكارهم ولا لقضاياهم أن ترى النور وهم في قبظة الاستبداد. فالتوجه لتركيا لا يخفي خوف السنة من الشيعة، ولا خوفهم من مستبديهم فيهربون ولو زمنا إلى هناك، مع شيئ من رغبة الاستطلاع بما اشتغل به الناس.
نجاح متنوع:
فربما ذهب قوم من أجل ما تركته مشاهد الأفلام التركية، ولعل من شاهد فلم “وادي الذئاب” فإنه يحكي فكرة قادمة في تركيا، حيث يصور التركي مغامرا عسكريا ومخابراتيا ويرسم أفكار هوليوود التي صنعت الخوف من الأمريكي ولكنها الآن تصنع الخوف من التركي القادم وتحدد له في بعض الأدوار الانتقام للفلسطينيين وللأتراك في سفينة مرمرة. وقيل إن الجاذبية للحرية، وكل هذا فيه نصيب من الصحة ويوم يجلب بلد الناس لعدة أسباب فإنه يدل على نجاحه.ثورة ناعمة أم إعادة تعريف:
تمكنت تركيا الجديدة عبر الحزب الحاكم ومؤسسات عديدة ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية أن تقبل بإعادة تعريف للذات، وانتقال هادئ ولا أقول قطيعة مع بعض الماضي القريب، وهذا يعني تعريفاً وعلاقات مختلفة مع خارجها؛ فلم تعد تعطي أهمية كبيرة للماضي القومي والعلماني المتطرف ولا للأتاتوركية، فالذي يتم في تركيا هو تفكيك ناعم للأتاتوركية وتجنب للتصادم مع مصائبها.فهناك تسامح مع القوميات، وإعادة تعريف صريح لتركيا من خلال خطاب إسلامي وعظي، وهناك إعادة عرض للتاريخ وحضور لمحمد الفاتح وللسلاجقة والدين والخلافة من باب خفي. من شاهد معرض “بانوراما” عن فتح إسطنبول ووضع محمد الفاتح بديلا لأتاتورك يدرك الغاية الذكية له بترسيخ التعريف الجديد لتركيا، ولاحظ إعادة التعريف بالنفس بطريقة ذكية تهدم هوية فرضت من فوق وتستعيد أخرى باستخدام المتفق عليه.
وظاهرة تغيير النظم والعقائد والتوجهات بهدوء وحذر قام بها في عصرنا شخصيات ذكية ومؤثرة جدا كما فعل بنج في الصين الذي حوَّل هوية الصين وهي لا تدري، وربما حاول بعض الصغار أن يحولوا مجتمعاتهم وحكوماتهم فسببوا ضجة وتدميرا هائلا وضياعا مستمرا، مثل جورباتشيف. والحقيقة أن تركيا كان التغيير فيها أسهل لوجودها في المنظومة الغربية أصلا، ولوجود مواقف إصلاحية حاولت قبل الحزب، ثم استثمار الهبة الإسلامية العامة، والتراجع الأمريكي والإخفاق في المنطقة، والتطرف الصهيوني في المواقف كل هذه خدمت صناعة الهوية الجديدة لتركيا.
جاذبية إسلامية ليبرالية:
إن صدقت مقولة علي الوردي: “إن العربي يُصوت لحكومة إسلامية ولكنه يفضل أن يعيش في دولة لبرالية”، فإن جاذبية تركيا هي في هذه المعادلة الموزونة بين دين معترف به قائم يمكنك ممارسته من خلال المسجد الذي تصلي فيه، واللباس الذي تختاره، بل وفي بعض المدن مسابح وشواطئ مفصولة للنساء عن الرجال، فالمسلم سيد معترف به محترم دينه، وغيره يعيش كما يريد، فلم تغلق خمارة –وإن ضيقت عليها أحيانا- ولم تجبر على لباس، بلد يوفر لكل شرعته ويحترم شريعته، لذا تجد من ضاق بتضييق رجال الدين في بلده جاءه، ومن ضاق من العنصرية الغربية جاءه.ثم إن مظاهر الصحوة الإسلامية تجتاح البلاد من اللباس إلى المساجد عمرانا وبناء، إلى السياسة والإعلام وتعليم العربية وتشجيع المعاهد الدينية، وفي خطاب الانتصار في الانتخابات رحب بهذا التنوع. إن رؤية الشعوب العربية لتركيا مناصرة للديمقراطية أعطاها مزيدا من الجاذبية، وقد كادت تفقد تركيا هذه الخصوصية لو نجحت كل الثورات العربية.
دكتاتورية ملطفة أم قادمة؟:
كل الدكتاتوريات مذمومة، وفي العصر الحديث قامت ديمقراطيات بعد الاستعمار نجحت في البناء وخففت من شناعة الديكتاتوريات مثل: “كوان لو” في سنغافورة، و”محاضير محمد” في ماليزيا، ديمقراطية تركيا حقيقية وأحسن من طريقة الزعيمين المذكورين، إنما الخوف من أن تكون الحقيقة الديمقراطية في تركيا تمهد لدكتاتور يحافظ على نفوذه حيث حل، ولهذا كان خروجه محببا لكثيرين ممن أرادوا لتركيا الخير، لإنهاء شبهة السيطرة التي قد تقع ولو كانت النسبة: 51%، فهيَ مهما كانتَ أصوات صحيحة وانتخابات نزيهة، وتترفع عن مهازل الانتخابات العربية.
في حديث لأردوغان في الطائرة عائدا إلى انقرة من مرسين قال للصحفيين “عندما تنظرون إلى دستورنا ليس هناك من مواد تحدد أعمال الرئيس..إنه يسمي الرئيس رأس الدولة، وهو كذلك” [نيويورك تايمز الدولي، السابق]
وقد ترك أردوغان في أكثر من عقد من الزمان أثره على تركيا أثرا قد لا يقل عن أثر أتاتورك، وكسر الحزب ظهر العسكر حراس العلمانية المتطرفة، وحطم المحرمات العلمانية الأتاتوركية، وأحيا الحرية الدينية، وأعطى الأمل بل والعمل لطبقات من الناس كانت محرومة في النظام السابق، وأعطى تركيا الاحترام والنفوذ الذي فقدته منذ قرن من الزمان، وردد الرئيس بفخر في خطاب عام لانتخابه: “الله يكفينا شعبنا يكفينا، تركيا تكفينا”.
أخيرا
إن النجاحات السابقة تحمل تحديات أخرى يجب أن تراعى، فمما يجب وعيه أن تركيا الحالية وارثة لتكوين قومي عميق، وبعضه متطرف، جرى تأسيسه وتأكيده لطرد الهوية الإسلامية، ولا نتوقع أن تركيا في القريب العاجل قادرة على خلع أثقال التشدد القومي تجاه العرب والكرد واليونانيين وغيرهم.
غير أن التطرف القومي قد كسره إلى حد ما التوجه الإسلامي ولو إلى حين، ويوم تستيقظ الأحداث أو تبعث الديون فإن من الواجب أن يتحلى العرب والترك بما يوثق علاقاتهم، ويجنبهم الخلافات التي قد تسيء للطرفين.
قلت هذا لأن خمائر الخلاف موجودة، فمرض القومية لم يزل يعيث بالطورانيين ويعمي من يشبههم من القوميين العرب، واحتواء الصهاينة لبعض سياسات العرب قوية وتحرص أن توجهه لإثارة الخلاف مع تركيا، ثم إن فعالية وانفعال بعض القادة الترك قد يوقدها، وفشل نظرية “صفر مشاكل أو تصفير المشاكل” أخفقت لأنها كانت حُلما مغرقا في المثالية غير واقعي ولا عملي.
هناك حكومات عربية لا تملك إلا أن تختلف مع تركيا بسبب موروث تاريخي يُساء تكراره بألسنة وأقلام جاهلة، ثم بسبب وجود حزب إسلامي حاكم وناجح فإن وجوده يسبب الغيرة وما يتبع من كراهية وحسد والتشنج تجاه أي عمل إسلامي من قبل متطرفين تعودوا الخداع بالشعارات، ثم لأن إسرائيل كلفت أولياءها بدور محاربي التوجهات الإسلامية ولو كانت بناءة وديمقراطية وحضارية، لأنها تدرك أن كل خطاب إسلامي واع سيكون ضد مظالمها.
إن تحدي الصوفية المنظمة –جماعة كولن- في تركيا كما يفعل الرئيس بهذا الوضوح والانكشاف قد لا يكون لمصلحة الدولة على المدى الطويل، وقد كان للصوفية أثرها في قمع السلطنة قديما وإضعافها، ويبدو أن موجة التصوف الجديدة سيكون لها نفوذ ومستقبل داخلي عميق بحكم معارضتها للسلطة، مما قد لا يرى أبعاده السياسي لحظة القوة والانتصار.
ثم إن خفاء أو تخلي القوة العنيفة للعسكر التركي سمح لها بالواجهة الناعمة المقبولة عالميا، ويوم تعود وتظهر الواجهة العنيفة التي سادت تاريخ الترك فإن هذا سيقلب عليهم العالم، لذا كان السير على الحبل المعلق بين الماضي والمستقبل يحتاج حرصا شديدا، وإذا سمحت الشعبية الجارفة المؤقتة لأشخاص فلا يعني الفكاك من المعضلات في المحيط وتربص الخصوم وأثقال الماضي.
*مجلة العصر