مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/09/11 17:25
وهم الاستقلال والحرية مع الاستبداد والتبعية
وهم الاستقلال والحرية مع الاستبداد والتبعية
الخميس  10 سبتمبر / أيلول 2014 - 17:04
د. جيلالي بوبكر
استاذ جامعي / الجزائر
 مقدمة
   كثيرا ما نسجل في جانب من الخطاب السياسي والفكري والثقافي العربي المعاصر، تُبرزه وسائل الإعلام والاتصال والإشهار العمومية والخاصة الرسمية وغير الرسمية، الحديث في عالمنا العربي المعاصر عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان المدنية والسياسية وحقوق الطفل وحقوق الحيوان والمحافظة على البيئة والحدّ من التسلح والتسلح النووي وإزالة أسلحة الدمار الشامل، على شاكلة الخطاب السياسي والفكري والثقافي في العالم المتقدم مثل أمريكا وحلفائها في الغرب الأوربي ومثل اليابان والصين وغيره من البلدان التي تتمتع باقتصاد متطور وتمتلك التكنولوجيا المعاصرة ولها قوّة عسكرية تحمي بها مصالحها في الداخل وفي الخارج.
   هذا الخطاب إما أن يكون على درجة عالية من البلادة لأنّه نسي أو تناسى أنّ عالمنا العربي المعاصر لا علاقة له ولدويلاته من بعيد أو من قريب بالحريات والحقوق التي يتحدث فيها الخطاب، لأنّ حياتنا عامة مطبوعة باضطهاد وقهر الإنسان للإنسان في السلطة وفي الرعية وبين الحاكم والمحكوم، وممحونة بالاستبداد الفكري والتطرف الديني والتعصب المذهبي، ومأزومة بالفساد السياسي والاجتماعي وبالضعف والتردّي الاقتصادي، ومفضوح بالانحلال الأدبي والأخلاقي والديني والمسخ الثقافي، ومخترقة سياسيا وأمنيا على المستوى الرسمي وعلى المستوى غير الرسمي، وأنظمتنا السياسية الحاكمة غير مستقلة تماما فهي تابعة لقوى تحميها وتحفظ استمرارها وإذا ما ثار الشعب عليها تتخلى عنها هذه القوى التي تمارس النفاق السياسي حفظا لمصالحها.
وإما أن يكون الخطاب ذا حيلة ودهاء متميّزين يتعامى لكي لا يرى الحقيقة التي هي مثل الشمس التي لا تحجبها الغربال، يهدف إلى تعمية الناس وتضليلهم، أصحابه يدركون جيّدا أنّه خطاب تضليلي مزيّف تغليفي لا يعكس الواقع المعيشي، إنّما يعبّر عن نوايا خبيثة غير صادقة متناقضة تقول ما لا ترى وما لا تسمع وما لا تعيش، فهي تردد الحطاب لأجل تغليف الواقع وتزييفه عند العامة التي تمثل الأغلبية لتسكينها حتى لا تفكر في الانقلاب على السلطة والفئة المستفيدة من تقربها من السلطة، وفي هذا خطورة كبيرة على الأمة لأنّ هذه الحال تعرّضها للفتنة والفتنة أشدّ من القتل. فبين الخطاب التضليلي الكاذب الذي يصوّر الحياة نعيما أو في طريقها نحو النعيم ويقف في وجه كل مبادرة لتغيير الأوضاع أو حتى التفكير في التغيير، وبين واقع مرّ أليم تعيش شعوبنا العربية والإسلامية، فإلى متى يتحمّل خطابنا السياسي والفكري والثقافي العربي الإسلامي المعاصر هذه المرافقة وهذه المرارة بين المقول والمعمول؟.
الاستقلال الموهوم مع مخاطر التبعية
   ليس من العسر في كل عصر وفي كل مصر توصيف ظروف وعوامل نماء المجتمع ولوازم تطوّره وشروط ازدهاره على مستوى البحث العلمي والتقني باعتباره محرك عجلة النهوض واستمرار التغيير والتجديد في أيّ دولة متقدمة مثل دولة إسرائيل أو غيرها من الدول التي انطلقت منها النهضة الحديثة أو تلك التي التحقت بالركب الحضاري مؤخرا، وليس من الصعب كذلك وصف أحوال الانحطاط والتردّي على مستوى الفكر والعمل في أي بلد مأزوم ثقافيا واجتماعيا وحضاريا مثل بلدان المغرب العربي ومشرقه وسائر بلدان العالم الثالث في إفريقيا وآسيا وميزتها الأساسية التخلّف في الحياة عامة، بالرغم من توفرها على ثروة هائلة بشرية وطبيعية ولها امتداد عميق في التاريخ الثقافي والحضاري ولها من القيّم والمقومات التراثية ما يدفعها نحو السير في اتجاه المجد والتحضّر.
   لكنّ العسير والمتعذّر في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر وفي سائر العوالم المتخلّفة الأخرى هو إيجاد شروط التقدّم العلمي وإنتاج لوازم التطور التقني والوصول بالمجتمع إلى التحرّر من سلطان التبعية السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية والأمنية للآخر، هذه التبعية بأشكالها المتعددة والعميقة والمتفاقمة باستمرار أنتجها فشل كل محاولات اليقظة النهوض بالأمة، وإخفاق كل مشاريع الإقلاع الحضاري، وهيّئتها محاولات الخلط المتكرر في الثقافة العربية والغربية الحديثة والمعاصرة فكريا وفلسفيا وسياسيا بين واقعين وعالمين مختلفين في الانتماء الثقافي والحضاري وفي القيّم والدلالات التي تقوم عليها الحياة على المستوى النفسي الشعوري وعلى المستوى الاجتماعي وعلى المستوى الروحي في علاقة الإنسان بالكون وبمدبّر الكون.
   إنّ التباين طبيعي قائم بين عوامل وظروف النهضة الأوربية الحديثة ومبادرات الإصلاح والنهوض العربي والإسلامي في العصر الحديث وإلى الآن، بين أمّة أروبية تاريخا وجغرافيا، أحدثت ثورة في وجه ماض مظلم في الكثير من جوانبه فلسفيا وعلميا، وفي وجه حاضر بائس تعس دينيا وخلقيا وسياسيا واجتماعيا، أمة تتطلع إلى مآل مُشرق مدنيا وحضاريا، فاستقر أمرها عند قيّم الحداثة والتحديث، عند تمجيد العقل والعلم والحرية والصناعة وأسر المقدس الخلقي والديني والتراثي في الحياة الشخصية وأحوالها من غير تدخله في الحياة السياسية والاقتصادية ومن دون اعتباره في الدولة المدنية العلمية العلمانية الحديثة، وبين أمّة أخرى لها تاريخها الخاص وقيّمها الخاصة، المقدس الأخلاقي والديني والتراثي روحها ومادتها محتواها وصورتها لما ينطوي عليه من عناصر قوّة وكمال في المنهج، أمّة أخذت من الأمم التي سبقتها وعاصرتها كما أعطت لأمم أخرى، والتراث لديها هو عصب الحياة في الماضي والحاضر والمستقبل، به تعيش وتحيا وتخطط للقادم، لأنّ فيه تجد جميع حاجاتها من دون العودة إلى غيرها، وهو الموقف الغالب على ثقافتها في مقابل مواقف أخرى شتى، أبرزها وأهمّها الموقف اللاّتراثي الحداثي وبجانبه الموقف التوفيقي داخل الثلاثية في تعاطي الأنا العربي الإسلامي الضعيف حضاريا مع الآخر الغربي المتحضّر.
   ما زاد في تعميق الأزمة وتفاقمها الفكر القائم على العلاقة الثنائية التصارعية بين الأنا وذاته من جهة حيث صراع القديم مع الحديث في فكرنا العربي الإسلامي وبين الأنا والآخر من جهة ثانية، بين الاستعمار والاستقلال، بين الحرية والاستعباد، بين الجهل والعلم، بين الحضارة والتخلّف، بين الغنى والفقر، بين القوّة والضعف، بين الحرب والقمع والفساد من جهة وبين السلام والأمن وحقوق الإنسان والمدنية والتطور من جهة أخرى، بين العقلانية والعلمية والعلمانية والتنوير من ناحية وبين الفكر الخرافي والسحر والرأي والهوى والاختلاف المذهبي والطائفي إلى حدّ العداوة والاقتتال من ناحية ثانية، هذه العلاقة بين طرفين متناقضين لا يقوم أحدهما إلاّ على أنقاض الآخر عرفت تشكّلها في الوعي الثقافي للأنا والآخر معا تاريخيا وفكريا وسياسيا، فمن الحروب الصليبية، إلى الاستعمار الحديث وموقف العروبة والإسلام من ذلك منذ القديم إلى الآن، إلى استمرار بنية العلاقة الراهنة المأزومة وتركيبتها المختلة بين العرب والغرب، بين قويّ متسلط بكل أسباب الجبروت والطغيان، وبين منهار ضعيف متهيّب مقهور ومغلوب على أمره، مولع بتقليد الغالب رغبة ورهبة، خوفا وطمعا، ناهيك عن مساهمات وأفاعيل الثقافة الحداثية الغربية، وانتشارها من خلال الغزو الفكري والثقافي، وتأثيراتها السلبية الغالبة في فكرنا الحديث والمعاصر بالسلم والحرب معا، في إطار العولمة وبمقتضى النظام الدولي الجديد، خاصة ما أحدثه الاتجاه الذي يسعى إلى تحديث فكرنا العربي الإسلامي الراهن وتغريبه -من غير اعتبار لعناصر هويتنا وخصوصياتها التاريخية والثقافية- من تمزق وتشتت، أعاد شعوبنا إلى ما كانت عليه أوروبا في عصورها الوسطى السوداء المظلمة من جهل وتناحر واقتتال.
  إذا كانت شعوبنا العربية ثارت في وجه الاستعمار الحديث لنيل استقلالها واسترجاع سيادتها، وضربت للعالم أجمع في التاريخ أجمل وأروع الأمثلة بالملاحم والبطولات والأمجاد في العطاء الثوري والنضال التحرري وتجسيد معاني الحق والعدل والاستقامة في قمّتها وطلب الحرية في جميع أبعادها متحدّية أكبر قوّة طاغية آنذاك بعدّتها العلمية والتقنية وبعددها وبدعم الشرعية الدولية لها ظلما وعدوانا، هذا ما عرفته شعوب المغرب العربي وشعوب سائر البلاد العربية، ومنها الشعب الجزائري الذي رسم بثورته المجيدة المظفرة أكبر ملحمة في التاريخ الحديث ما تزال وتبقى إلى الأبد أنموذجا في الكفاح والمقاومة والنضال ضد الظلم والاستعمار والاستدمار، لكن السيادة بعد الثورات التحررية جاءت ضعيفة والاستقلال جاء منقوصا لانحراف مسار الثورة بسبب الثورة المضادة، فاسترجاع الحقول مع استمرار احتلال القلوب والعقول أسر الحقول بما وبمن فيها، وصار الاستعمار غير مباشر بعدما كان مباشرا، وأصبح الأمر أبلغ صعوبة وأشدّ خطرا  مما كان عليه في السابق، إذ لا يمكن الحديث عن سيادة وعن استقلال وعن حرية وعن كرامة إلاّ في جانبها الصوري لا الكامل المكتمل غير ناقص ولا منقوص، فأرض فلسطين مغتصبة وأرض العراق محتلة وغيرها كثير، والثروات مسلوبة، ولعل أكبر تحدّ تحرير الأرض، أرض فلسطين، تحدّي تاريخي وعقائدي وإنساني. كما لا يمكن الجمع بين سيادة واستقلال دولة ما سياسيا واقتصاديا واقتصادها ريعي تعيش على تصدير الطاقة واستيراد الغذاء وكل مستلزمات الحياة، وليس لها الحقّ في اتخاذ قراراتها السياسية بحرّية وسيادة، حتى ثقافتها صارت مهزوزة ومغزُوة من قبل ثقافات الأمم المتقدمة الغازية في إطار العولمة ومن منطلق انقسام العالم إلى مركز وأطراف.
  لا يمكن الحديث عن الحرية وعن حقوق الإنسان الاجتماعية والسياسية والمدنية وعن المجتمع المدني وعن الحضارة في ظلّ الأنظمة السياسية العائلية والأبوية المتوارثة العسكرية والأمنية التي تكمم الأفواه وتقيّد الحريات الفردية والاجتماعية، وتمارس أبشع صور الاستبداد السياسي والقمع الفكري والقهر الاجتماعي والإرهاب البوليسي، تتفنن في ممارسة الاستبداد والفساد، أنظمة متسلّطة على شعوبها تسلبها حقوقها وتنهب خيراتها ولا يسوءها التخلّف ولا يقلقها انحطاط حياة الفرد والمجتمع، دأبها وديدانها ليس هو إيجاد مشاريع تنهض بالفكر وبالاقتصاد وبالثقافة وبالعلوم وبالتكنولوجيا على سبيل الاقتداء بتوجّه الأنظمة في البلدان المتطورة -الأمثلة كثيرة- بل همّها هو البحث عن مصادر الثراء وجمع المال وهدره لفائدة المصالح الشخصية والاعتبارات الآنية الذاتية الضيقة على حساب المصلحة العامة، وعليه لا يجوز وصف مثل هذه الشعوب بالسيّدة والمستقلّة، بالرّغم من كونها تمتلك مقوّمات بناء الدولة بالمفهوم السياسي الحديث والمعاصر، مفهوم ينبني على الوطن حتى ولو كان مغتصبا جزئيا أو كليا، وعلى المواطن حتى ولو كان مسلوب الحرية والكرامة وسائر الحقوق الأخرى في الداخل ومن الخارج، وعلى سيادة وهمية استمدتها سلطة معيّنة تدعمها قوى خارجية لخدمة مصالحها على المدى القريب والبعيد معا، سلطة استبدادية مجرمة تقمع شعبها وتنهب خيراته، وتعمل لصالح مخططات أجنبية، لا تبدي إلاّ المعسول من الخطاب بنفاق سياسي مفضوح وبمكر مكشوف.
  إنّ سيادة الدولة في المفهوم السياسي المعاصر للدولة ارتبطت بنوعين من السيادة والسلطة، نوع أركانه كاملة وشروطه غير منقوصة سياسية واقتصادية وعسكرية أمنية يتجسد في حق النقض في هيئة الأمم المتحدة، ويتجسد في قوّة الردع والتعزير التي تمارسها دول الناتو فرادى ومجموعات، كما يتجسد في التطور الاقتصادي ومن وراءه التطور العلمي والتكنولوجي، بحيث أصبحت أوروبا الغربية وسائر بلاد العالم سوقا للمنتجات اليابانية، حتى أنّ البلدان المتقدمة في مستوى الولايات المتحدة الأمريكية وفي فرنسا صارت مستعمرات يابانية تجاريا بالنظر إلى حجم التبادل التجاري الياباني وبالنظر إلى جودة السلع اليابانية وتفوّقها على غيرها من المنتجات الصناعية، أما النوع الثاني الذي تظهر به سيادة الكثير من دول العالم وبنسب متفاوتة أركانه منقوصة وشروطه ليست مكتملة، فالدولة متخلّفة في جميع جوانب الحياة، والسلطة غير مستقرة وتابعة لقوى أخرى تحركها حيث تشاء، والشعب مهزوز في استقلاله ومسلوب الحرية والكرامة، وليس من السيادة سوى الاسم والشعارات والرموز، علم وعملة وقسم وطني، سيادة صورية بحتة، تمثيلها في المحافل الأممية شكلي، معرّضة للمخاطر في الداخل ومن الخارج في أي وقت، لا حول ولا قوّة لها، هو حال دول العالم الثالث المنقوصة السيادة، بحيث نجدها جميعا تعاني الاستبداد والتبعية ، وكل دولة قائمة حاليا منقوصة السيادة هي في حرب أو خرجت من الحرب أو تستعد للدخول في الحرب أخرى، وهي هشّة في كيانها معرّضة للتقسيم والتشتت والانهيار في أي وقت.      
  إنّ الشعوب في مثل هذه الدول والأنظمة المنقوصة السيادة لا سيادة ولا استقلال ولا كرامة لها، لأنّها تفتقر إلى أسباب الحياة الكريمة وتعاني مرارات العيش المهين حيث الاستبداد والقمع والفساد في الداخل والاستعمار من الخارج،  ولا يمكنها أن تتحرّر داخليا ومن الخارج إلاّ إذا تخلّصت من الاستعمار في صورتيه الداخلية والخارجية، وهذا لا يتم إلاّ إذا حدث التغيير في داخل كل نفس تعاني الاستبداد في الداخل ومكبّلة من خارج. يقول عزّ وجلّ في حاجة الإنسان الفرد إلى تحوّله من داخل نفسه ليتحوّل مجتمعه وتتحوّل مع ذلك حياته عامة:﴿إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم﴾.سورة الرعد:الآية 11. إنّ عملية التغيير المطلوبة على المستوى النفسي وانتقالها إلى المستوى الاجتماعي، الانتقال من حراك انفعالي ذاتي فردي إلى حراك عام في الحياة الفكرية والثقافية عامة والسياسية والاجتماعية بطريقة سلمية وآمنة أو بطريقة عنيفة ودموية أو بالطريقتين معا، أمر لابد أن تتحقق شروطه تتكفّل بها الجهات الفاعلة والمؤثرة في المجتمع، الملاحظ أنّ مثل هذه الشروط أوضاعها ليست متوفرة وظروفها غير مهيأة في أوساط شعوبنا العربية الراهنة -منذ عهد الموحدين- المهزومة الإرادة والمسلوبة الحرية والكرامة ولدى أنظمتها السياسية المخذولة التابعة لغيرها ولم تستمد شرعيتها من سلطة مواطنيها بل من جهات أخرى، فهي عبئ وخطر دائم على شعوبها التي لا تنطلق في النهضة إلاّ بانفلات الذات من عقال الأسر النفسي الداخلي الانهزامي، ومن انكسار الإرادة في اتجاه انتصار الذات على نفسها ومن ثم انتصارها في المجتمع وانتصارها على المشكلات التي تعانيها وعلى سائر المخاطر التي تحدق بها من الخارج.
  يظهر بوضوح أنّ الأنظمة الاستبدادية الفاشلة الجاثمة على شعوبنا العربية والقوى التي تدعمها في الداخل ومن الخارج ذات مسؤولية كبرى على الأوضاع الفاسدة التي آل إليها حال هذه الشعوب، فعالمنا العربي في مشرقه وفي مغربه يزخر بخيرات وثروات يُحسد عليها، فهو يتربع على موقع جيوسياسي هام وحسّاس جغرافيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا يتوسط قارات العالم، وله طبيعة ساحرة وخلاّبة، يمتلك طاقة بشرية كبيرة وثروة طبيعية هائلة ومتنوعة، بقواه البشرية والطبيعية يقف عاجزا تماما عن النهوض من التخلّف والانحطاط، في وقت عرفت فيه شعوب أخرى النهضة والتقدم واستطاعت الجمع بين موروثها التاريخي الثقافي والحضاري والتطور العلمي والتكنولوجي التي عرفه عصرها، وهي شعوب تفتقر تماما إلى الإمكانات والطاقات البشرية والمادية التي يتمتع بها عالمنا العربي وتتمتع بها الشعوب الإسلامية عبر مختلف أصقاع المعمورة.
  إنّ سرّ تقدم هذه الشعوب في مقابل تخلّف شعوبنا هو أنّها أخذت بالأسباب الحقيقية للتقدم لا الصورية والمزيّفة، وجمعت شروط النهوض انطلاقا من الفرد الذي هو نواة الجماعة وانطلاقا من الأسرة التي هي الخلية الأساسية في شبكة الحياة الاجتماعية، وانطلاقا من العمل كفكر ووعي ونظر وشعور ووجدان، وكممارسة وتطبيق وتنفيذ وأداء وإنجاز وتعديل وتقييم وتقدير، وكأخلاق وآداب، وكنتائج ومنجزات مادية ومعنوية، في أيّة فئة عاملة شغّيلة، وفي أيّ قطاع من قطاعات المجتمع، الفنون والعلوم والتكنولوجيا والسياسة والاقتصاد وجميع ميادين الحياة من غير استثناء، وكان للتربية والتوجيه والتكوين الدور الرئيسي والقيادي في التّمكين لليقظة الفكرية والمعرفية والنهضة العلمية والمنهجية والمادية والتقنية تغييرا وتجديدا وإبداعا، وجمع ما يلزم بناء المركبة وما تحتاجه من طاقة للانطلاق والإقلاع من غير تردد أو تعثر أو رجعة، وبما أنّ العصر الراهن يتميّز بطابعه العلمي والتكنولوجي وبتوجّهه المادّي وبميله القويّ نحو البحث عن شروط وأسباب الراحة المادية الرفاهية في الحياة وعن كل أنواع المتعة والاستمتاع الحسي، من دون اعتبار للجانب الروحي والخُلقي والأدبي في حياة الإنسان، بحيث أصبح محرك النهوض وشرط التطور وأساس تقدم الشعوب والأمم المعاصرة من غير مُنازع البحث العلمي والتقني، ولا يمكن لأيّة أمّة أن يستقر حالها في اتجاه التطور الحضاري بالمفهوم المعاصر وفي الواقع خارج دائرة البحوث والدراسات في مجال العلوم والتقنيات المختلفة، لأنّ العامل العلمي والتقني يمنح الأمة القوّة التي تضمن لها الاستقرار وتُردّ لها سيادتها إن كانت منقوصة وتسترجع كرامتها إن كانت مهدورة، لاّنّ بين التطور في البحوث العلمية والتكنولوجية وصناعة القرارات في الدولة من طرف السلطة والشعب علاقة سببية وحتمية.           
  في وقت صار فيه معيار التقدّم والتخلّف يتحدد بحجم ميزانية البحث العلمي والتكنولوجي، وبعدد العلماء والباحثين الأكفاء العاملين، وبعدد مراكز البحوث والدراسات في الطبيعيات والتقنيات والإنسانيات والاجتماعيات، وبمستوى الأداء والمردود لدى الباحثين في مختلف العلوم النظرية والتطبيقية، وبمدى استثمار البحث العلمي في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية من طرف السلطة الحاكمة، أصبحت أمم العالم تُعوّل على الجامعة وعلى مراكز البحوث والدراسات في مختلف التخصصات بدون استثناء، وإن كانت الكفّة تميل في اتجاه العلوم الدقيقة والعلوم التجريبية والتكنولوجية، ففي دولة إسرائيل الغاصبة لأرض فلسطين القامعة للشعب الفلسطيني، الممثلة للإجرام في أعلى صوره والمروق عن الشرعية الأخلاقية والدينية والسياسية والقانونية، يجد هذا كيان كل الدعم والسند من أمريكا ومن غيرها من الدول التي تتوفر على لوازم التقدم العلمي والتكنولوجي، فلم تُفوّت فرصة الاستفادة من البحث العلمي للتمكين لها كدولة تمارس الاحتلال والقمع والاستبداد والمروق عن الشرعية، دولة غير مرغوب فيها، استطاعت أن تمتلك العلوم والتكنولوجيا وتكسب ثقة حلفائها تربط مصالحها بمصالح حلفائها وتؤمّن كيانها لتصبح أقوى دولة في المنطقة، تتمتع بالاستقلال والسيادة والتنمية.
  أصبحت إسرائيل بحق النموذج العصري الذي أدّى فيه البحث العلمي دوره الرئيسي في نقلها إلى مصف البلدان المتقدمة وهي دولة فتية وناشئة، صارت البحوث والدراسات وسائر أنشطة البحث العلمي والتكنولوجي في الجامعات والمعاهد والمراكز الإسرائيلية من أقوى وأكثر البحوث عددا ونوعا في العالم، لامتلاك إسرائيل لوازم التقدم العلمي والتكنولوجي، تمثّل ذلك في احترام العلم والعلماء وتقدير البحث، وتوفير العدد الكافي من فرق ومخابر البحث المتخصصة والمتكاملة، وتشجيع هيئات التدريس الجامعية على الانخراط في البحث العلمي وإعداد وإجراء التجارب العلمية والتقنية وتخصيص ميزانية معتبرة تفي بأغراض البحث العلمي والتقني ومن غير انتقاص لأغراض إدارية أو تنظيمية، فهي تحتل المرتبة الرابعة في العالم في أنشطة البحث العلمي وتنشر أكثر من أربعين بحثا علميا معترف به دوليا.
  لقد اهتمت دولة إسرائيل بالبحث والباحث فكفلت لهما المال الكافي وهامش الحرية البيداغوجية والأكاديمية الكافي، وتخلّت كليا عن كل مظاهر الفساد الإداري والبيروقراطية في فضاء البحث العلمي في الجامعة وخارج الجامعة، وعملت على نقل أيّة مبادرة بحثية علمية وتكنولوجية من البلدان المتقدمة، وحرصت على تشبيب وتجديد الطاقات البشرية الباحثة حتى لا يبقى البحث بين أيدي عناصر قديمة قد تضر بالبحث أكثر مما تنفعه، وتبنّت فلسفة تقوم على البراغماتية وسياسة تعزز التكوين المتواصل والتدريب المستمر في مجال البحث، وتقاطع منطق الإقصاء والتهميش، وتمنع هجرة الأدمغة، وتشجع العلماء والباحثين المتفوقين على الهجرة إلى إسرائيل.
  الجدير بالذكر أنّ البحث العلمي في إسرائيل مثلما هو في أيّ دولة متقدمة محترمة له نفوذه السياسي، ودوره في رسم فلسفة نظام الحكم وسياسة الدولة واستراتيجيات البناء الاجتماعي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وعسكريا وأمنيا، فالسلطة تتخذ قراراتها على ضوء نتائج البحوث والدراسات العلمية، لأنّ الإيمان راسخ بأنّ البحوث العلمية توفّر الجهد والوقت في إصابة الهدف المنشود، الأمر الذي أدّى إلى تزايد كبير في أعداد مراكز البحوث والدراسات السياسية والإستراتيجية العامة والخاصة داخل إسرائيل والاشتغال مع مراكز أخرى خارج إسرائيل، وصار أمن دولة إسرائيل المحاطة بالأعداء من كل جهة بيد ما ينتجه البحث العلمي والتكنولوجي.
  أما أوطاننا فهي تعاني الفساد الإداري والبيروقراطية والجهل والأمية والتخلّف بشتى أشكاله في المدرسة وفي الجامعة وفي سائر المؤسسات التربوية والتعليمية المحسوبة على العلم وعلى البحث العلمي، فلا سياسة راشدة للتربية والتعليم والتعلم، ولا تكفّل حقيقي وكاف ماليا وبيداغوجيا، ولا يوجد تأطير يتمتع بالكفاءة العالية، ولا تحكّم في التخصصات العلمية والتكنولوجية، ولا استقلال في التأطير البيداغوجي والإداري، بحيث لا يمكن الاستغناء عن التعاون بل عن التبعية للغير، ولا وجود لمراكز بحث في العلوم والتكنولوجيا ولا مراكز بحوث ودراسات إستراتيجية سياسية وعسكرية، وإن وجدت فتُعدّ على أصابع اليد الواحدة، وليس لها سوى الاسم، مقطوعة الصلة بما يجري في العالم من مستجدات، وبما يجري في المجتمع، ولا نفوذ لها في سياسة البلد ولا سلطان لها في اتخاذ القرارات التي تهمّ الأمّة وواقعها ويومياتها، لأنّها وجدت صوريا ومن أجل خدمة أغراض خاصة لا غير.
  ففي بلادنا لا فلسفة واضحة ولا إستراتيجية مدروسة ولا سياسة محكمة ولا منهج مضبوط للبحث العلمي والتقني، كل شيء فيه متروك للارتجال والعفوية والفوضى والرأي والرأي الآخر، فلا مكان للإبداع لأنّه لا محلّ للحرية عامة في الرأي والتعبير، ولا محلّ للحرية الأكاديمية والبيداغوجية، وأساس البحث العلمي باعتباره محرك النمو والازدهار الإبداع الناتج عن كشف وتفعيل واستثمار الطاقات والمواهب الفردية والجماعية في إطار الحرية وتكافؤ الفرص في التعليم والعمل والبحث العلمي والتكنولوجي، الكل منقسم على حاجاته فمنّا المولع بالسلطة والمولع بجمع المال والمولع بالنسوة والمولع بممالئة الآخر، والمولع بالنفاق الحزبي والسياسي، لكل شأنً يُغنيه عن الاهتمام بالشأن العام وبالمصالح العليا للمجتمع ويُغنيه عن الشعور بالمسؤولية تجاه الدين والوطن والأمة، كلً يعيش لنفسه لا يبالي بغيره إلاّ في حدود ذاتيته ومصالحه الفردية، وما يقال عن حال البحث العلمي يقال عن بقية جوانب الحياة عامة في مجتمعاتنا العربية وغيرها في العوالم المتخلّفة، فهل يجوز لنا الحديث عن الحرية وعن الاستقلال وعن السيادة وعن الكرامة في ظلّ الفساد والاستبداد والتبعية.
  إنّ المجتمعات في البلاد العربية الراهنة لا تتبارى كغيرها في البلاد المتقدمة في البحث العلمي والتكنولوجي، ولا تنافس في العمل والإنتاج كمّا وكيفا، ولا تتسارع في اتجاه التفوّق في المدنية والتنظيم واحترام القانون والتألّق في سماء التحضّر والتطور، بل تجتهد في الإنفاق على الاحتفالات والمهرجانات ببذل المال وهدره عبثا وهي في أمس الحاجة وأشدّها إلى كل درهم أو دينار يُنفق في غير موضعه، وتغدق الأموال على المسابقات لتسمية النجوم في مجال الطرب والرقص والغناء الفاحش، ففقداننا لاستقلالنا ولحريتنا واحتقار العالم لنا لما نصنعه بعلمائنا وبالعلم وبالبحث العلمي وهو أصل كل مجد وسؤدد في الدنيا وسبيل الخلاص والسعادة في الآخرة.
  وهذه وصية الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله قبل وفاته يوصي بها وهو على فراش الموت بإحدى المراكز الاستشفائية بحيدرة بالجزائر العاصمة: (رسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يعود الفضل في تأسيسها إلى العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله، في الجزائر والعالم، العمل على نشر أصول المجد في الدنيا والسعادة في الآخرة وهي الدين والعلم والعدل والشرف والوحدة، وهي تضمن الدين كله، والذي حين نحافظ عليه فقد حافظنا على كلّ شيء، فحافظوا على جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تضمنوا هذه الغايات بحول اللّه تعالى). 
فالخزي والعار والخذلان والمذلّة  والمسكنة وغيرها ممّا عرفته شعوبنا المحسوبة على العروبة والإسلام من تخلّف وانحطاط في الفكر والسلوك والعمل وفي الآداب والأخلاق مردّه إلى أزمة أخلاقية وإيمانية بامتياز، وليست أزمة طاقة بشرية أو ثروة طبيعية أو نقصا في العقل والعلم أو انعدام مؤسسات وماديات، بل المشكلة في بلادنا تكمن في احتقار الإنسان للإنسان وأهانته وقمعه إلى أقصى حدّ، واحتقار باني المجد والعلا العلم، واحتقار بناة الحضارة أهل الفكر والعلم والدين، وصدق عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين قال: (إنْ استطعت فكن عالماً، فإنْ لم تستطع فكن مُتعلِّماً، فإنْ لم تستطع فأحبّهم، فإنْ لم تستطع فلا تبغضهم).  
  أما عالمنا العربي فلازال غارقا في الفردانية السلبية والأنانية الشرسة واللّفظية الزائدة المملّة والاستهلاكية المادية المفرطة والفئوية والطائفية والجهوية والعنصرية القاتلة والشّقاق والإجرام والنزاعات الدموية والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والفساد والاستبداد والأنظمة الأمنية البوليسية والإرهاب الديني والسياسي والاقتصادي والإلكتروني، وكل ما من شأنه يقتل شروط التحضّر وأهمها وأبرزها الأصالة والإبداع والحرية. فإلى متى نبقى نعيش أوهام الحرية والاستقلال والسيادة والكرامة والعزّة، ونتغنى بأمجاد وبطولات وتضحيات الماضي، ونذكر مآثر الآباء والأجداد، شعراء وأدباء وعلماء ومفكرين وفلاسفة وثوار وثورات ونهضات وحضارات، ونحن غرقى في محيط التخلّف من أخمص القدمين إلى فروة الرأس، نحيا الاستبداد والفساد في كافة جوانب حياتنا، ونعيش في تبعية عامة للغير الغالب فهو يغذّينا ويأوينا وهو ولي نعمتنا وملاذنا، هو يُحيينا ويُميتَنا، كفرنا بالسماء وآمنّا بالغرب المتحضّر واستسلمنا لليأس والبؤس والشّقاء والقنوط. وإلى متى نبقى نمارس الدعارة السياسية والثقافية ونتاجر بالنفاق والكذب والزور وتشويه الحقيقة ومحاولة حجب الشمس وإخفاء نورها بغربال مثقوب مع أنفسنا ومع غيرنا على علم ودراية. وإلى متى نبقى نحيا على إرث الماضي، نبكي على الأطلال، نذكر ونمجّد مآثر الأولين. وإلى متى نبقى أمّة تأكل ما لا تُنتج، وتلبس ما لا تنسج، وتركب ما لا تصنع أمّة لا خير فيها، لا تُنتج سوى الفساد والاستبداد والتبعية.وإلى متى تنجل ظلمات ليل الاستبداد والطغيان من أرض العروبة والإسلام، وتطلّ نسائم فجر الحرية والسيادة وتنكسر القيود جميعا أمام شعوبنا وأمتنا التي خصّها القرآن الكريم بالذكر وبالخيرية والأفضلية، ويتنفس صُبحنا ونتنفس معه أريج العزّة والكرامة في أسمى معانيها، وينقشع غيم التخلّف وتعرف سماؤنا صحوة نصحو معها من سباتنا، ونودّع الاستبداد والفساد والتبعية بلا رجعة. قال عز وجل:﴿وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلاّ الصابرون﴾ سورة القصص:الآية80. 
خاتمة
   الثابت في الواقع أنّ عالمنا العربي الإسلامي بشعوبه قاطبة يعيش حالة تخلّف وانحطاط، سبّبت له الكثير من المعاناة والمآسي، أمنية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها، تمثّلت في الثالوث الخطير الجهل والمرض والجوع بنسب متفاوتة في شعوبه وأفراده، وفي التناحر والاقتتال بسبب النزاعات الطائفية والعرقية والمذهبية وغيرها، والاستعمار المباشر وغير المباشر الذي ينهب خيراته وثرواته الطبيعية، يعيش أزمة تنطوي على مفارقة كبيرة وخطيرة، تناقض كبير بين ما يملك من إمكانات بشرية وطبيعية وتراثية تاريخية وبين ما يفتقده من لوازم التقدم العلمي التكنولوجي المميّز لعصرنا وشروط التحضر، فهو غارق من أخمس القدمين إلى فروة الرأس في الاستبداد والفساد والتبعية العمياء الجهول، وأمام هذا الوضع الخطير المتردّي باستمرار الذي يستدعي تدخل كل القوى البشرية والمادية والتاريخية التراثية التي يتمتع بها عالمنا العربي المعاصر، والجلوس مع الذات واتهامها بالقصور والتخلّف عن مسايرة الركب الحضاري المعاصر، وسينتهي الأمر بالضرورة إلى أزمة خلق في الأصل.
أضافة تعليق