مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
من هنا يأتي الثبات
عبد الحليم البر
إن للجهاد ثمن ، وفيه تضحيات ، وإن من نتائج الجهاد في سبيل الله والإسلام أن يتعرض هؤلاء المجاهدون للإضطهاد وفوق الإضطهاد ، وأن يتعرض الموظفون منهم للمعاكسة ، وأكثر من المعاكسة ، وأن يدعي المترفون المترفهون منهم إلي السجون وما هو أشق من السجون ،
وقد يُلصَق بهم كل نقيصة ، ويعمل خصومهم علي إظهارهم للناس في أبشع صورة ، فيُسجَنون ويُعتَقلون ، ويُنقَلون ويُشَردون ، ويُطَاردون ، وتُصَادر مصالحهم ، وتُعَطل أعمالهم ، وتُفَتش بيوتهم ، وقد يطول بهم هذا الأمر
ومع ذلك تراهم ثابتين واثقين من طريقهم ، فلا تلين لهم قناة ، ولا يهن لهم عزم ، ولا تضعف لهم إرادة ، بل يخرجون من المحن أصلب عودا ، وأشد عزما ، وأقوي إرادة ، مرفوعي الرأس ، موفوري الكرامة ....
فيتساءل الناس : من أين لهم هذا الثبات ..... ؟
والجواب يبينه لنا أحد هؤلاء العظام الذين خاضوا مثل هذه المحن القاسية .. وهو الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – حيث يقول في الظلال في سورة فاطر وهو يفسر لنا السر وراء هذا الثبات العجيب ،
فيقول :
آية من القرآن تفتح كوة من النور ، وتفجر ينبوعاً من الرحمة ، وتشق طريقاً ممهوداً إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة ، في ومضة عين ، وفي نبضة قلب ، وفي خفقة جنان .
في هذا الكون الهائل نلمح اليد القادرة القاهرة تبرزه إلى الوجود وفق ما تريد ، بتلك القدرة المبدعة .
و هذه اليد القادرة القاهرة تحرك الخيوط كلها وتجمعها ; وتقبضها وتبسطها ، وتشدها وترخيها ، بلا معقب ولا شريك ولا ظهير .
( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)) – فاطر-
وهذه القبضة القوية تنفرج فترسل بالرحمة تتدفق وتفيض ، وتنقبض فتغلق ينابيعها وتغيض ، بلا معقب ولا شريك:
(مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) ) – فاطر -.
في هذه الآية الثانية صورة من صور قدرة الله التي ختم بها الآية الأولى ، وحين تستقر هذه الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في :
تصوراته ومشاعره ، واتجاهاته وموازينه ، وقيمه في هذه الحياة جميعاً .
إنها :
- تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض ، وتصله بقوة الله .
- وتيئسه من مظنة كل رحمة في السماوات والأرض ، وتصله برحمة الله .
- وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض ، وتفتح أمامه باب الله .
- وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والأرض ، وتشرع له طريقه إلى الله .
- ورحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد ; ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه ، وتكريمه بما كرمه ; وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته ; وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير ، ورحمة الله تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح .
- ويجدها من :
يفتحها الله له في كل شيء ، وفي كل وضع ، وفي كل حال ، وفي كل مكان . . يجدها في نفسه ، وفي مشاعره ; ويجدها فيما حوله ، وحيثما كان ، وكيفما كان ... ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان . .
- ويفتقدها من :
يمسكها الله عنه في كل شيء ، وفي كل وضع ، وفي كل حال ، وفي كل مكان ... ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان !
وما من نعمة - يمسك الله معها رحمته - حتى تنقلب هي بذاتها نقمة .
وما من محنة - تحفها رحمة الله - حتى تكون هي بذاتها نعمة . .
- ينام الإنسان على الشوك - مع رحمة الله - فإذا هو مهاد . .. وينام على الحرير - وقد أمسكت عنه - فإذا هو شوك القتاد .
- ويعالج أعسر الأمور - برحمة الله - فإذا هي هوادة ويسر .... ويعالج أيسر الأمور - وقد تخلت رحمة الله - فإذا هي مشقة وعسر .
- ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام . ... ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار !
- ولا ضيق مع رحمة الله إنما الضيق في إمساكها دون سواه ... لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن ، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك .
ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم ، وفي مراتع الرخاء .
فمن داخل النفس برحمة الله تتفجَّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة ... ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة !
- هذا الباب وحده يُفتح وتُغلق جميع الأبواب ، وتُوصد جميع النوافذ ، وتُسد جميع المسالك . . فلا عليك ، فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء . .
وهذا الباب وحده يُغلق وتُفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع ، وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء !
- هذا الفيض يُفتح ، ثم يضيق الرزق ، ويضيق السكن ، ويضيق العيش ، وتخشن الحياة ، ويشوك المضجع . . فلا عليك ، فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة .
وهذا الفيض يمسك ، ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء ، فلا جدوى ، وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء !
- المال والولد ، والصحة والقوة ، والجاه والسلطان . . تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد ، إذا أمسكت عنها رحمة الله .
فإذا فتح الله أبواب رحمته ، كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان .
- يبسط الله الرزق - مع رحمته - فإذا هو متاع طيب ورخاء ; وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة .
ويمسك رحمته ، فإذا هو مثار قلق وخوف ، وإذا هو مثار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض ، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار .
- ويمنح الله الذرية - مع رحمته - فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله .
ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء ، وسهر بالليل وتعب بالنهار !
- ويهب الله الصحة والقوة - مع رحمته - فإذا هي نعمة وحياة طيبة ، والتذاذ بالحياة .
ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي ، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ، ويدخر السوء ليوم الحساب !
- ويعطي الله السلطان والجاه - مع رحمته - فإذا هي أداة إصلاح ، ومصدر أمن ، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر .
ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما ، ومصدر طغيان وبغي بهما ، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار ، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان ، ويدخر بهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار !
- والعلم الغزير . والعمر الطويل . والمقام الطيب . كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال . . . مع الإمساك ومع الإرسال . .
وقليل من المعرفة يثمر وينفع ، وقليل من العمر يبارك الله فيه ، وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة .
- والجماعات كالآحاد ، والأمم كالأفراد ، في كل أمر وفي كل وضع ، وفي كل حال . . ولا يصعب القياس على هذه الأمثال !
- ومن رحمة الله أن :
تحس برحمة الله ! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك :
ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة ، ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة ، وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة .
والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها ، وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبداً . (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون).
- ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال:
- وجدها إبراهيم - عليه السلام - في النار ، ووجدها يوسف - عليه السلام - في الجب كما وجدها في السجن ، - - ووجدها يونس - عليه السلام - في بطن الحوت في ظلمات ثلاث .
- ووجدها موسى - عليه السلام - في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة ، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه .
- ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور ، فقال بعضهم لبعض: (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته).
- ووجدها رسول الله – صلي الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار . .
- ووجدها كل من آوى إليها يأساً من كل ما سواها ، منقطعاً عن كل شبهة في قوة ، وعن كل مظنة في رحمة ، قاصداً باب الله وحده دون الأبواب .
- ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها ، ومتى أمسكها فلا مرسل لها :
ومن ثم فلا مخافة من أحد ، ولا رجاء في أحد ... ولا مخافة من شيء ، ولا رجاء في شيء ... ولا خوف من فوت وسيلة ، ولا رجاء مع الوسيلة .
إنما هي مشيئة الله ، ما يفتح الله فلا ممسك ، وما يمسك الله فلا مرسل ، والأمر مباشرة إلى الله . . (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). . يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك ، ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك .
(مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا). .
وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه ، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام .
(وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ).
فلا رجاء في أحد من خلقه ، ولا خوف لأحد من خلقه ، فما أحد بمرسل من رحمة الله ما أمسكه الله .
أية طمأنينة ? وأي قرار ? وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير ?!
آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة ; وتنشىء في الشعور قيماً لهذه الحياة ثابتة ; وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها ، ذهبت أم جاءت ، كبرت أم صغرت ، جلت أم هانت ، كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء !
صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى والقيم والاعتبارات . ولو تضافر عليها الإنس والجن ، وهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها ، ولا يمسكونها حين يفتحها . . (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). .
- وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الآية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام :
- الفئة التي صنعت على عين الله بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة ،
- تنشىء في الأرض ما شاء الله أن ينشىء من عقيدة وتصور ، وقيم وموازين ، ونظم وأوضاع .
- وتقر في الأرض ما شاء الله أن يقر من نماذج الحياة الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالأساطير والأحلام .
- الفئة التي كانت قدراً من قدر الله يسلطه على من يشاء في الأرض ، فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء الله من محو ومن إثبات .
ذلك أنها لم تكن تتعامل مع ألفاظ هذا القرآن ، ولا مع المعاني الجميلة التي تصورها . . وكفى . . ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي تمثلها آيات القرآن ، وتعيش في واقعها بها ، ولها . .
وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس ، قادراً على أن ينشىء بآياته تلك أفراداً وفئاتا تمحو وتثبت في الأرض - بإذن الله - ما يشاء الله . .
ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب ، فتأخذها جداً ، وتتمثلها حقاً ... حقاً تحسه ، كأنها تلمسه بالأيدي وتراه بالأبصار . .
- ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد لله على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية :
لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة .
واجهتني في لحظة جفاف روحي ، وشقاء نفسي ، وضيق بضائقة ، وعسر من مشقة . .
واجهتني في ذات اللحظة ، ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها ، وأن تسكب حقيقتها في روحي ; كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني ، حقيقة أذوقها لا معنى أدركه .
فكانت رحمة بذاتها ، تقدم نفسها لي تفسيراً واقعياً لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا .
وقد قرأتها من قبل كثيراً . ومررت بها من قبل كثيراً . ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها ، وتنزل بحقيقتها المجردة ، وتقول: هأنذا . . نموذجاً من رحمة الله حين يفتحها . فانظر كيف تكون !
إنه لم يتغير شيء مما حولي . ولكن لقد تغير كل شيء في حسي !
إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود ، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية .
نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها ; ولكنه قلما يقدر على تصويرها ، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة ، وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها .
وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي .
وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق ، وأنا في مكاني
! إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته .
آية من القرآن تفتح كوة من النور . وتفجر ينبوعاً من الرحمة . وتشق طريقاً ممهوداً إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة في ومضة عين وفي نبضة قلب وفي خفقة جنان .
اللهم حمداً لك . اللهم منزل هذا القرآن . هدى ورحمة للمؤمنين . . .
*ينابيع تربويه*
أضافة تعليق