إخليهن ولد محمد الأمين
في ندوة سابقة نظمها المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية بتاريخ (25/09/2013) في ’’فندق وصال’’ بانواكشوط لنقاش كتاب الباحث محمد المهدي ولد محمد البشير ’’أزمة الفقه السلطاني في القرن الـ21: إشكالية الطاعة في زمن الثورة’’، تسائل أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة نواكشوط الدكتور محمد الأمين ولد الكتاب: لماذا احتفى المسلمون بالغزالي وتجاهلوا ابن رشد؟!
وهو سؤال مكرر ما فتئ أصحاب الأطروحات المتحيزة ضد الفكر الإسلامي والمتخندقة مع المعسكرة الغربي يطرحونه، ثم لا يملون من تكراره وإعادة طرحه.
ومساهمة مني في تعميق النقاش، وفي ما أظن أنه اجابة على سؤال الأستاذ أود تسجيل الملاحظات التالية :
الملاحظة الأول : هي أن ابن رشد والغزالي كلاهما عالم فذ وعبقري مبدع، ولا ضرورة للمفاضلة بينهما، بل الأحسن من ذلك كله أن نسعى إلى تحصيل المعارف والعلوم التي حصلاها وإلى امتلاك القدرات العقلية والذهنية التي امتلكاها، وأن نستفيد من جهودهما الاثنين فنقرأ تراثهما قراءة ناقدة تأخذ من كل منهما أحسن ما عنده -وهو كثير- وتتجاوز أخطاءه –وهي موجودة- بدلا من أن نضيع جهودنا في جدل بزنطي عقيم (الدجاجة خلقت أولا أم البيضة) عانت منه الأمة مددا متطاولة من الزمن دون جدوى.
والملاحظة الثانية : هي أن القول بأن المسلمين لم يحتفوا بابن رشد قول غير سليم ويرد عليه أن علماء المسلمين ترجموا لابن رشد وأشادوا بعبقريته وبأفكاره ومؤلفاته، ولا غرو في ذلك فهو مؤلف كتاب ’’بداية المجتهد ونهاية المقتصد’’ في الفقه المقارن وهو كتاب مشهور متداول لا يستغني عنه عالم ولا يمكن أن يتجاوزه باحث في علوم الشريعة .. وقد أشاد بابن رشد أكثر من باحث وعالم، قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (21/307 - 308) : ’’العلامة فيلسوف الوقت أبو الوليد’’ ونقل عن ابن الابار قوله في حقه : ’’لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وكان متواضعا، منخفض الجناح’’، وقال عنه ابن القيم في الصواعق المرسملة (3/841) ’’أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم’’، وأكثر شيخ الإسلام ابن تيمية من الاستنجاد به والاحتجاج بأقواله أثناء حجاجه مع الفلاسفة في كتابه ’’الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان’’. وفي العصر الحديث وصفه العلامة رشيد رضا في تفسير المنار (5/229) بأنه ’’من حكماء المسلمين’’، ووصفه العلامة الشيخ القرضاوي في كتابه الدين والسياسة/37 بـ’’الفيلسوف العملاق’’.
صحيح أن المسلمين لهم طريقتهم الخاصة في تخليد مآثر عظمائهم، ولذلك خلدوا مآثر ابن رشد بالطريقة التي خلدوا بها مآثر الجويني وابن حزم والغزالي وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وابن خلدون وغيرهم، ولم يخلدوا مآثره على الطريقة الغربية.
الملاحظة الثالثة : هي أن الغرب احتفى بابن رشد على أساس أنه شارح ’’منطق أرسطو’’ .. ومعلوم أن ’’منطق أرسطو’’ مكون أساسي من مكونات البنية الفكرية والثقافية للغرب المسيحي، ولذلك يحق لأهل الغرب أن يفرحوا بابن رشد ويحتفوا به لأنه خدم لهم تراثهم وثقافتهم.. أما المسلمين فـ’’منطق أرسطوا’’ وافد عليهم بل ومخالف في كثير من أفكاره وأطروحاته لعقيدتهم الدينية ولما هو سائد لديهم من الثقافة ولذلك لا لوم عليهم إذا لم يحتفوا بشرح ابن رشد له واكتفوا بأن يحتفوا بكتابه ’’بداية المجتهد ونهاية المقتصد’’ الذي هو وليد ثقافة إسلامية أصيلة، ومع ذلك فقد أشاد علماء المسلمين بعبقرية ابن رشد وعقله الفلسفي كما قدمنا واستفادوا من أفكاره في شرحه لـ’’منطق أرسطو’’ وافتخروا بسعة ثقافته وغزارة معارفه التي اهلته لاستيعاب ’’منطق أرسطو’’ وشرحه.
الملاحظة الرابعة : أن السياق الذي جعل المفاضلة بين الغزالي وابن رشد ترد ويتساءل عنها هو أن الأول ألف كتابا سماه ’’تهافت الفلاسفة’’ فند فيه شبه الفلاسفة ومزاعمهم التي تخالف حقائق الشريعة، وأن الثاني ألف كتابا سماه ’’تهافت التهافت’’ دافع فيه عن الفلاسفة.
وأنا كمسلم لا يهمني مدى عمق حجج الغزالي وابن رشد العقلية والفلسفية وأيهما أكثر تألقا؟ لأني أؤمن أن الوحي حاكم على العقل ومقدم عليه وأن المسائل التي خاض فيها الفلاسفة وناقشهم فيها الغزالي هي مسائل خارجة عن دائرة العقل ومنصوصة في الوحي، ولذلك لا حاجة بنا فيها إلى حجاج عقلي وتمحل في تأويل النصوص.. وهناك مجال واسع يمكن أن يجول فيه العقل ويصول غير مجال العقائد الغيبية المنصوصة في الوحي والتي هي فوق حدود الإدراك العقلي.
الملاحظة الخامسة : هي أن معظم الذين احتفوا بابن رشد واتهموا المسلمين بعدم إعطائه حقه، لا يفعلون ذلك إلا تقليدا للغرب، وإلا فإن علماء المسلمين وعقولهم الذكية لا تقتصر على ابن رشد؛ رغم سعة معارفه وذكائه.. ويكفي نظرة في كتاب ’’الطبقات الكبرى’’ لابن سعد (المتوفى سنة 230هـ)، لنجد أنه ترجم فيه لـ(4725) علما ظهرت في حدود قرنين من الزمن، أو كتاب ’’تاريخ الإسلام’’ للإمام الذهبي (المتوفى سنة 748 هـ)، لنعلم أنه ترجم فيه لأكثر من (40.000) شخصية من النبلاء النابغين -معظمها من العلماء ومن في حكمهم- ظهرت في حدود سبعة قرون أي بمعدل (5714) علما في القرن الواحد.
ومع ذلك فإنك لن تجد أيا من أولئك الذين يتهمون المسلمين بأنهم لا يقدرون عباقرتهم ولا يعرفون قدر علمائهم لأنهم لم يحتفوا بابن رشد على الطريقة الغربية.. لن تجد أولئك قد قرؤوا لأي من أولئك الأفذاذ أو تعرفوا على عبقريته لأن الغرب لم يقرأ لهم ولم تعجبه طريقتهم.
وعلى كل فسيبقى ابن رشد من الأفذاذ المعدودين في تاريخ الإنسانية بشكل عام وفي التاريخ الإسلامي بشكل خاص، مع التأكيد على أنه يأخذ من كلامه ويرد، وعلى أن ’’منطق أرسطو’’ ليس بديلا عن ’’العقائد الإسلامية’’ ولا يمكن أن يكون بديلا عنها بحال إلا عند من يريد الانسلاخ من دينه وهويته الإسلامية والدخول في حضارة الغرب وثقافته المادية ’’العقلانية’’ .. وعندئذ فسيتخذ النقاش منطقا آخر.
في ندوة سابقة نظمها المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية بتاريخ (25/09/2013) في ’’فندق وصال’’ بانواكشوط لنقاش كتاب الباحث محمد المهدي ولد محمد البشير ’’أزمة الفقه السلطاني في القرن الـ21: إشكالية الطاعة في زمن الثورة’’، تسائل أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة نواكشوط الدكتور محمد الأمين ولد الكتاب: لماذا احتفى المسلمون بالغزالي وتجاهلوا ابن رشد؟!
وهو سؤال مكرر ما فتئ أصحاب الأطروحات المتحيزة ضد الفكر الإسلامي والمتخندقة مع المعسكرة الغربي يطرحونه، ثم لا يملون من تكراره وإعادة طرحه.
ومساهمة مني في تعميق النقاش، وفي ما أظن أنه اجابة على سؤال الأستاذ أود تسجيل الملاحظات التالية :
الملاحظة الأول : هي أن ابن رشد والغزالي كلاهما عالم فذ وعبقري مبدع، ولا ضرورة للمفاضلة بينهما، بل الأحسن من ذلك كله أن نسعى إلى تحصيل المعارف والعلوم التي حصلاها وإلى امتلاك القدرات العقلية والذهنية التي امتلكاها، وأن نستفيد من جهودهما الاثنين فنقرأ تراثهما قراءة ناقدة تأخذ من كل منهما أحسن ما عنده -وهو كثير- وتتجاوز أخطاءه –وهي موجودة- بدلا من أن نضيع جهودنا في جدل بزنطي عقيم (الدجاجة خلقت أولا أم البيضة) عانت منه الأمة مددا متطاولة من الزمن دون جدوى.
والملاحظة الثانية : هي أن القول بأن المسلمين لم يحتفوا بابن رشد قول غير سليم ويرد عليه أن علماء المسلمين ترجموا لابن رشد وأشادوا بعبقريته وبأفكاره ومؤلفاته، ولا غرو في ذلك فهو مؤلف كتاب ’’بداية المجتهد ونهاية المقتصد’’ في الفقه المقارن وهو كتاب مشهور متداول لا يستغني عنه عالم ولا يمكن أن يتجاوزه باحث في علوم الشريعة .. وقد أشاد بابن رشد أكثر من باحث وعالم، قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (21/307 - 308) : ’’العلامة فيلسوف الوقت أبو الوليد’’ ونقل عن ابن الابار قوله في حقه : ’’لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وكان متواضعا، منخفض الجناح’’، وقال عنه ابن القيم في الصواعق المرسملة (3/841) ’’أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم’’، وأكثر شيخ الإسلام ابن تيمية من الاستنجاد به والاحتجاج بأقواله أثناء حجاجه مع الفلاسفة في كتابه ’’الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان’’. وفي العصر الحديث وصفه العلامة رشيد رضا في تفسير المنار (5/229) بأنه ’’من حكماء المسلمين’’، ووصفه العلامة الشيخ القرضاوي في كتابه الدين والسياسة/37 بـ’’الفيلسوف العملاق’’.
صحيح أن المسلمين لهم طريقتهم الخاصة في تخليد مآثر عظمائهم، ولذلك خلدوا مآثر ابن رشد بالطريقة التي خلدوا بها مآثر الجويني وابن حزم والغزالي وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وابن خلدون وغيرهم، ولم يخلدوا مآثره على الطريقة الغربية.
الملاحظة الثالثة : هي أن الغرب احتفى بابن رشد على أساس أنه شارح ’’منطق أرسطو’’ .. ومعلوم أن ’’منطق أرسطو’’ مكون أساسي من مكونات البنية الفكرية والثقافية للغرب المسيحي، ولذلك يحق لأهل الغرب أن يفرحوا بابن رشد ويحتفوا به لأنه خدم لهم تراثهم وثقافتهم.. أما المسلمين فـ’’منطق أرسطوا’’ وافد عليهم بل ومخالف في كثير من أفكاره وأطروحاته لعقيدتهم الدينية ولما هو سائد لديهم من الثقافة ولذلك لا لوم عليهم إذا لم يحتفوا بشرح ابن رشد له واكتفوا بأن يحتفوا بكتابه ’’بداية المجتهد ونهاية المقتصد’’ الذي هو وليد ثقافة إسلامية أصيلة، ومع ذلك فقد أشاد علماء المسلمين بعبقرية ابن رشد وعقله الفلسفي كما قدمنا واستفادوا من أفكاره في شرحه لـ’’منطق أرسطو’’ وافتخروا بسعة ثقافته وغزارة معارفه التي اهلته لاستيعاب ’’منطق أرسطو’’ وشرحه.
الملاحظة الرابعة : أن السياق الذي جعل المفاضلة بين الغزالي وابن رشد ترد ويتساءل عنها هو أن الأول ألف كتابا سماه ’’تهافت الفلاسفة’’ فند فيه شبه الفلاسفة ومزاعمهم التي تخالف حقائق الشريعة، وأن الثاني ألف كتابا سماه ’’تهافت التهافت’’ دافع فيه عن الفلاسفة.
وأنا كمسلم لا يهمني مدى عمق حجج الغزالي وابن رشد العقلية والفلسفية وأيهما أكثر تألقا؟ لأني أؤمن أن الوحي حاكم على العقل ومقدم عليه وأن المسائل التي خاض فيها الفلاسفة وناقشهم فيها الغزالي هي مسائل خارجة عن دائرة العقل ومنصوصة في الوحي، ولذلك لا حاجة بنا فيها إلى حجاج عقلي وتمحل في تأويل النصوص.. وهناك مجال واسع يمكن أن يجول فيه العقل ويصول غير مجال العقائد الغيبية المنصوصة في الوحي والتي هي فوق حدود الإدراك العقلي.
الملاحظة الخامسة : هي أن معظم الذين احتفوا بابن رشد واتهموا المسلمين بعدم إعطائه حقه، لا يفعلون ذلك إلا تقليدا للغرب، وإلا فإن علماء المسلمين وعقولهم الذكية لا تقتصر على ابن رشد؛ رغم سعة معارفه وذكائه.. ويكفي نظرة في كتاب ’’الطبقات الكبرى’’ لابن سعد (المتوفى سنة 230هـ)، لنجد أنه ترجم فيه لـ(4725) علما ظهرت في حدود قرنين من الزمن، أو كتاب ’’تاريخ الإسلام’’ للإمام الذهبي (المتوفى سنة 748 هـ)، لنعلم أنه ترجم فيه لأكثر من (40.000) شخصية من النبلاء النابغين -معظمها من العلماء ومن في حكمهم- ظهرت في حدود سبعة قرون أي بمعدل (5714) علما في القرن الواحد.
ومع ذلك فإنك لن تجد أيا من أولئك الذين يتهمون المسلمين بأنهم لا يقدرون عباقرتهم ولا يعرفون قدر علمائهم لأنهم لم يحتفوا بابن رشد على الطريقة الغربية.. لن تجد أولئك قد قرؤوا لأي من أولئك الأفذاذ أو تعرفوا على عبقريته لأن الغرب لم يقرأ لهم ولم تعجبه طريقتهم.
وعلى كل فسيبقى ابن رشد من الأفذاذ المعدودين في تاريخ الإنسانية بشكل عام وفي التاريخ الإسلامي بشكل خاص، مع التأكيد على أنه يأخذ من كلامه ويرد، وعلى أن ’’منطق أرسطو’’ ليس بديلا عن ’’العقائد الإسلامية’’ ولا يمكن أن يكون بديلا عنها بحال إلا عند من يريد الانسلاخ من دينه وهويته الإسلامية والدخول في حضارة الغرب وثقافته المادية ’’العقلانية’’ .. وعندئذ فسيتخذ النقاش منطقا آخر.