مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
محمد قطب .. ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله
محمد بن أحمد الفراج
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:

لما بلغنا نعي الشيخ محمد قطب رحمه الله، كنت أنا وبعض الأحبة على تكرمة أخي وصفي ودي وحبيب قلبي الشيخ الفاضل الدكتور محمد بن إبراهيم الحمد في منزله العامر في بلدتنا الطيبة.. حينها ترحمنا على الشيخ ودعونا له، وتمتم الشيخ محمد بدرة من درره العفوية فاض بها قلبه الودود على لسانه الصادق البليغ : ’’إيه محمد ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله’’ لعل الشيخ ما ألقى لها بالا؛ لكنها وقعت مني موقعا وفجرت في أعماق نفسي كوامن دفينة من ذكريات الحياة وأحداثها ومآسيها وآلامها وأحزانها، وللصالحين وأصحاب القلوب الحية والضمائر الحساسة منها أوفى الحظ وأكبر النصيب؛ ولذلك الشيخ الراحل وبيت آل قطب من الأوفى أوفاه ومن الأوفر أوفره، وأحسب أن أحداث مصر الأخيرة كانت الضربة القاضية لهذا الشيخ الأسيف وهي الأحداث الأليمة الدامية التي عملت عملها في ذوي الفتوة والجلد فما ظنك بهرم

هزيل وإهاب كمستشن الأديم وجسد أوهته آلام الحياة وقلب لم تبق فيه معاركها موضعا لطعنة.

تذكرنا وتذاكرنا الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط»

فقلنا لعل الشيخ محمدا قد ألقى عصا الترحال ووضعت أوزاره أوزارها وحط برحله في بحبوحة الجنان وقرت عينه بأحباب طالما اشتاق لقاءهم رجونا ذلك له حسن ظن بربنا ’’ إن ربي غني كريم ’’ والغني الكريم الواجد الماجد لا تسل عن عطاياه !

طافت بي الذاكرة عقودا ورجعت بي إلى أيام بل سنيّ بل عقود سجن الشيخ في الحربي والليمان إبان الحقبة البائدة هي وناصرها بل خاسرها الذي مثله ومثل الشيخ محمد وأخيه سيد والآلاف من المظاليم المساجين والشهداء ما قال ربنا : ’’ إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ’’ ’’ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ’’

وكما قال أبو العتاهية لما سجنه الرشيد:

أما والله إن الظلم شؤم

وما زال الظلوم هو الغشوم

إلى ديان يوم الدين نمضي

وعند الله تجتمع الخصوم

فنقل بيتاه إلى الرشيد فبكى طويلا وأطلق سراحه.

كان محمد قطب وقت محنته في ريعان شبابه كان في زنزانة وأخوه سيد في زنزانة ووأختهما حميدة في ثالثة وقاسى أصناف العذاب وامتحن تحت السياط فصبر وفي شدة ما كان يلقى من العذاب تنامت إلى سمعه في زنزانته أنباء شنق أخيه سيد ورفاقه والحكم على أخته حميدة بالسجن عشر سنين وقتل ابن شقيقته وإيذاء شقيقته أمينة، وأيامها جمع السجناء ليلقي فيهم أحد الشيوخ درسا في السمع والطاعة للسلطان المنقلب الغادر بصديقه محمد نجيب المغتصب للسلطة وأسمعهم الواعظ كلاما مؤذيا وهم مطرقو الرؤوس خوفا من سياط الجلادين على رؤوسهم وطمعا في الفرج ولم يتصد له إلا الشاب محمد الذي ناظره ورد عليه وأحرجه ، ولا تسل عما لقي بعدها.

وبدأت إرهاصات الحرب مع اليهود وأعلن الشعب المخدوع المغلوب على أمره تأييه وثقته العمياء بزعيمه الملهم وتسابقت برقيات التأييد فكتب العلماء وكتب الوزراء ورجال الأعمال وعموم الشعب وكتب السجناء بإيعاز من جلاديهم وبرجاء من أهليهم معلنين كامل التأييد ومطلق الدعم ، وطاف الخطاب على السجناء وامتنعت قلة كانت تنظر إلى ماوراء الأحداث بثاقب البصيرة ونور التوفيق عن التوقيع والتأييد منهم محمد قطب فأفرغ الظلمة ألوان العذاب على رؤوسهم ونقلوا إلى جناح قريب من هدف عسكري ليكونوا وكانوا فعلا تحت مرمى النيران .

اشتهر عن محمد رحمه الله في سجنه الصبر والعبادة واليقين برغم ما مر به وأسرته المبتلاة المنكوبة من آلام ومصائب يصدق عليه قول القائلة :

صُبت علي مصائب لو أنها

صبت على الأيام عدن لياليا

وكان مفزع السجناء وكهف أنسهم ومأوى سلوتهم بعد الله ، يفزعون إليه في حل المشكلات وفك المعضلات وتأويل المنامات وفي أوج نشوة الاغترار بعظمة الزعيم الملهم وسطوته وانتظار وعده بزجه لإسرائيل في البحر رأى أحد السجناء رؤيا قصها على محمد بأن نسرا ضخما أخذ يصعد ويصعد في السماء ثم خر على الأرض ميتا فبشرهم بقرب الفرج وهلاك الطاغية إذ إن النصر يرمز إلى علم مصر ، وكان ما كان كما عبره.

خرج محمد من سجنه بعد سنين مثقلا بهمومه وبيته وأهله فوجد هو وكثير من زملائه من إيواء الملك فيصل رحمه الله وعطفه ونصرته وعلماء بلده وشعبه ما أنساهم بلدهم وأشعرهم أنهم بين أهل يقدرون فضلهم ويعرفون قيمة علمهم ، وتفرغ للمحاضرات والتأليف والتعليم في الجامعة وأخرج الله على يديه مخرجات صالحة من الكتب النافعة والطلبة النجباء ومنهم الشيخ الفاضل الدكتور سفر الحوالي شفاه الله فقد كان شيخه ومشرف رسالته العلمانية التي تعتبر من أهم مراجعها في رفوف المكتبات ، ومنهم الشيخ الفاضل محمد بن سعيد القحطاني صاحب السفر العظيم : الولاء والبراء ، وغيرهما من الطلبة كثير ،

لا زلت أستحضر أول محاضرة حضرتها له مع أخي الأكبر وأنا في متوسطة المعهد عام سبعة وتسعين وثلات مئة وألف للهجرة في قاعة الملك فيصل للمحاضرات عن أخيه سيد كانت القاعة غاصة بكبار المشايخ والعلماء والطلبة ، وكان محمد حينها حديث عهد بمصر كان حليقا وكأني به لا يكاد يحد النظر في وجوه الصفوف الأمامية بلحاها الوقورة مهابة وحياء ما لبث بعدها أن أطلق لحيته واستفاد من خلطته بالمشايخ وأفاد كثيرا.

عرف الشيخ محمد بفهمه العميق ونظرته المسدده وتحليله الصائب للأحداث واستشراف مآلاتها ومن ذلك نظرته الحازمة إلى الديمقراطية باعتبارها منتجا غربيا منافيا للتوحيد الصحيح ، وله اجتهادات محتملة وكل سوى النبي يؤخذ من قوله ويرد ولا عصمة لقول عدا الكتاب والسنة ،

لم أر أخس وأتعس وألأم وأشأم وأصغر وأحقر من شامت لم يلن الموت قلبه القاسي ولم تتسع روحه الضنكة لقيم العرب وشيم الأجداد الذين حرموا طعن الميت وقتل الأسير ؛ إن لم تزكها أخلاق الإسلام الذي جعل ذلك من أرجى أعمال أهل الجنة ’’ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا’’ والأسير اسم شرعي للمعتقل الكافر فكيف بذي الشيبة العالم المسلم

لا تصدق لولا أنك ترى التغريدات ممهورة بتوقيعات البغي تفيض نتنا وفجورا تتهم أهل الشهامات والمروءات من الأقربين من حكامها وأهلها قبل غيرهم وتصمهم بواحدة من وصمات القبح كل واحدة منها أقبح من أختها:

الأولى: الجهل والسذاجة اللذان أوديا بهم إلى احتضان عدوهم احتضان الغر الجاهل للعقرب والأفعى الجامدتين فلما أنستا الدفء وأحستا به قضتا عليه.

والثانية: الخسة المنة واللؤم والتنكر للضيف والانقلاب على الجار و الغدر بالدخيل وهذه عند العرب الذين لم يتلوثوا بأخلاق الغرب وتنحط مثلهم وقيهم من أعظم الموبقات ، لا والله لا نظلم الغرب فليتهم إذ نهلوا من عفنه أخذوا منهم احترام من يسميهم ذوي اللجوء السياسي فاحترامهم من احترام قانونهم ودولتهم التي منحته ، لكن هؤلاء اللؤماء ما مثلهم إلا كمثل الدجاجة تذرق على بيضتها ، وليس للنبلاء والفضلاء والشرفاء في بلدي مثل السوء

الثالثة: الخيانة للأمة من هؤلاء الحكام والعلماء الذين أشاروا عليهم بإيوائهم ، وإرادة الردى والأذى بالورى والعباد والبلاد

وعلى كل تقدير فهؤلاء يرون أنفسهم أصدق وأنصح وآمن وأذكى وأعلم وأشجع وأوفى من سلف الملوك والعلماء والشعب الشهم الأبي ، وما أبعد هذا عن شواربهم .

عذرا لله والمسلمين والتاريخ وآل قطب من هؤلاء النشاز

رحم الله محمدا وأسكنه وسيدا وفيصلا وعلماءنا وشرفاءنا وإيانا بحبوحة الجنان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا:

يا ابن قطب برحمة الله وفضله :

رِدْ كوثر الراحات قد ذهب الظما

وانهل وعُلّ فكلها ريٌّ وما

فلطالما فيها جرعت الكأس من

آلامها ومضغت فيها العلقما

واليوم أبشرْ والبشارة قربة

واقدُم على أغنى الكرام مكرّما

فأمامك الشهداء من أحبابكم

ومحد صلى عليه وسلما

الله أكرم من بخيل شانئ

لو قيل أعط من التراب لقال:ما

تأبى عليه خلائقٌ ما عودت

إلا السفاهة والبذاءة والعمى

بالأمس مات مثلّث معبوده

عيسى ومريم فاستماتوا مأتما

واليوم تنطلق الشتائم ما رعوا

علما ولا شيخا وقورا مسلما

أفتلك لبرالية قد بشروا

بفضائها الفضفاض من لهم انتمى

أين الفضاء فما ترى فضفاضها

يسع الورى إلا الأفضّ المجرما

مثل الذين تشمتوا بمماته

مثل الصبي يروم بحرا أَيْهَما

فأبان عورته وبال بشطّه

فأحلّ مدُّ البحر بولته الفما

القطب غاب وإن تغب أقطابنا

مَنْ للسراة سرت بليل أظلما

ظلماته قد أطبقت وفجاجه

قد أظلمت والكون داجٍ أعتما

هام الدليل بها وغاب خبيرها

عنها وحار حليمها وتلعثما

الله يكشف كربة لا كاشفٌ

من دونه ويحلها رب السما
*البيان
أضافة تعليق