مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
أزمة المشروع الإسلامي
بقلم/ د. كمال بامخرمة
أزمتنا أزمة جيل بأكمله أمام الانكسارات التي تعيشها أمتنا في وقتنا الحاضر، وعدم قدرتها على النهوض، وإزالة الأدواء التي أصابتها في كل صوب، وعدم استطاعتها على دحر المستعمر الكاتم على صدرها، وبالتالي الوصول إلى استقلال إرادتها، وثقتها بنفسها وبقدرتها على نفض التخلف الذي يهيمن على كل جزئية من حياتها، وعودتها إلى تحكيم كتاب ربها وسنة نبيها في جميع شئون حياتها، أمام كل أنواع التراجع والهزائم المتوالية على مدى قرنين من الزمان على الأقل.

إني ألحظ أن أزمتنا تكمن في أنها أزمة جيل بِأكمله، جيل نخر فيه الجهل بحقائق الإسلام علماً وعملاً، كما تغلغل فيه التغريب في كل جانب من فكره وسلوكه وحياته الفردية والمجتمعية، ويزداد الأمر سوءاً أن الغالبية العظمى تزعم أنها تتحلى بالعلم والمعرفة، وفهم الإسلام، وتنسب الجهل لكل من يخالفها في فهمها وسلوكها.

فعلى مستوى العامة فالكثير منهم يدعي أنه يفهم الإسلام في الوقت الذي يحصره في الشعائر التعبدية، حتى مع تقصيره في القيام بها، وإذا نظرت إلى حياتهم في بقية شئون الحياة من أسرة وأقارب وأصدقاء…الخ وإلى تعاملهم في البيع والشراء، وإلى مدى تقصيرهم في قيامهم بواجباتهم ووظائفهم بل وخيانتهم لها، وإلى انشغال كثير منهم بشهواتهم ودنياهم، وعدم مبالاتهم بارتكاب المحرم منها مادام يحقق رغباتهم وشهواتهم، بالإضافة إلى عزلة أكثرهم عن قضايا الأمة الكبرى وقلة وعيهم بذلك، وبحقيقة أن العبودية لله تقتضي التحاكم إلى شرعه في كل شئون الحياة، وإقامة الدولة على أساسه، وإلا فهذا إخلال واضح بالإيمان وصحته، وهذا الجهل وقلة الوعي يسهل تسخير جمهورهم لمناصرة ما فيه إضرار بمصالح أمتهم وقيم دينهم وإيمانهم؛ ولذا فمن السهولة أن ترى مناصرة للأحزاب العلمانية، والمناهج المناقضة لعقائد الإسلام، والتشريعات المخالفة لما شرعه الله.

وفي الجهة الأخرى تجد بعضاً من المسلمين ممن يتسمون بأسمائهم، ويتكلمون بلغتهم، وقلوبُهم وأهواؤهم تجاه كلِّ ما هو غربي وغريب عن الإسلام، ويسعون لفرضه على المسلمين، وسنِّ التشريعات التي تمكن له، وذلك يتمثل في الأحزاب العلمانية والليبرالية، التي تنفر فرار الحمر من القسورة من تطبيق الشريعة الإسلامية، ومن دعاة تطبيقها.

وأما التيارات والحركات الإسلامية رغم الجهود العظيمة التي بذلتها خلال ثمانين عاماً كل بحسبه، ونجاحُها في توعية كثير من المسلمين، وانقاذ كثير من التبعية للثقافة الغربية أو الشرقية المستوردة، إلا أننا نجد أن أمراض الأمة التي ورثتها من قبل والتي أصابتها بعد الغزو الفكري الغربي، ما زال يعاني منها الكثير، وهي أحد أسباب تأخر النصر لها، وهزيمتها في كثير من المواطن.

هذه الجماعات يجمعها التشرذم والتفكك والتطاحن وتحطيم بعضها جهود بعض، كما أنها تتفاوت بين غلو وتفريط ووسط وهو الأقل، كما ينتاب كثيراً منها التعصب والحزبية، وعلو بعضها على بعض، واستهانة بعضها لجهود بعض، والغرور الذي ينتاب جملة منها بأن الحق معها، وغيرها إما مقصر أو ضال أو منحرف.

كما نلمس عدم قدرتها على إدارة الخلاف فيما بينها، فنجد هناك عدة انحرافات في هذا المجال، فمنها ما يتعلق بتقدير مستوى الخلاف، هل هو من المسائل القطعية التي لا يسوغ فيها الخلاف، او هو من المسائل الاجتهادية التي يجوز فيها الخلاف، ويعذر فيها المخالف بحسب ما توصل إليه اجتهاده، كما اضطرب عند بعضٍ منها درجاتُ المسائل والأحكام، فتجد من يهوِّن في الأصول وينزلها لمرتبة الفروع، أو يجعل من الفروع أصولاً، وهذا يترتب عليه الولاء والبراء ، والمفاصلة فيما بينهم، والتبديع والتفسيق، وربما وصل بعضهم إلى التكفير، أو إلى قريب منه، بأن يقال: لولا التأويل لكفروا.

كما نجد عند بعضها عدم القدرة على تناول مسائل الخلاف باحترام آداب الخلاف، واحترام آداب الحوار والمناقشة، بل نجد البغي والعدوان، والسباب والشتائم المقذعة، والتسفيه والتجهيل للآخر، وكأن الواحد منهم أو جماعته الوكيل الحصري للدفاع عن الإسلام، وغيره من الدعاة والعلماء والجماعات ممن يخالفه ليس لهم نصيب من هذا الدفاع، وإنما هي المصالح الذاتية، والركوب على مطية العلم والدعوة، للوصول إلى أغراض دنيوية، وهم أدعياء للعلم انتسبوا إليه زوراً وبهتاناً. وهذا أدى إلى حملة تشكيك في النوايا والأهداف، بما يترتب عليه من فقدان الثقة ببعضهم البعض، فيضعف التعاون فيما بينهم او ينعدم حتى في القضايا العامة المشتركة.

كما أننا نجد عدم قدرة على ترتيب الأعداء في سلَّم الأولويات، وأيهم نواجه أولاً، وأيهم نؤخر ونحيد، وهذه مشكلة أدت بالبعض أن يجعل أول أعدائه في المواجهة هم إخوانه من الدعاة والعلماء والحركات الإسلامية المخالفة لاجتهاده أو حتى المخالفة في بعض أصول الدين، وبالتالي فبدل أن نشتغل بمواجهة العدو الأصعب وصاحب الخطر الأقرب، صرنا نعادي بعضنا بعضاً، ويضرب بعضنا يعضاً، وهذا هو الفشل بعينه: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).

إننا نلحظ أن الجماعات الإسلامية المعتنية بالدعوة والتربية والأعمال السلمية تتنازع فيما بينها، وتتهم بعضها بعضاً إما بالغلو أو التقصير والتمييع، أو الاتهام لمن سلك طريق المشاركة في العمل السياسي المعاصر بالتنازل عن أحكام الإسلام ومسايرة العلمانية، وفي المقابل نجد من هؤلاء من يتهم من يحرّم هذا الطريق بالجمود والانغلاق، والتسفيه والتهوين لعلمه وعقله واجتهاده .

وإذا جئنا للجماعات التي اتخذت طريقها في المواجهة واستعمال السلاح، نجد تناقضاً وتبادلاً للاتهامات بينها وبين من الجماعات السلمية هذا أولاً، وإذا اجتمعت عدة تيارات منها في ساحة معركة، نجد بغي بعضها على بعض واضحاً للعيان على اختلافٍ بينها في حجمه، وللأسف قد أخذ التنازع بينها بعداً خطيراً وهو قتال بعضها بعضاً، وبغض النظر عن المصيب والمخطئ هنا، لكن تبقى مسألة حلِّ الخلاف فيما بينها باستباحة القتال والدم أمراً خطيراً مؤدِ للهزيمة والفشل، ويدل على سوء التربية والفشل في فهم الإسلام على حقيقته.

وقد رأينا وقوع هذا في افغانستان، وحدث في العراق ، ويحدث الآن في الشام. ولا يعني كلامي هذا عدمَ انكار الباطل البيِّنِ بطلانه، ولكنِّي أتحدث عن أسلم الطرق لإزالة هذا الباطل أو تخفيفه قدر الإمكان في زماننا هذا وفي ظل ظروفه التي نعيشها، ولكلِّ زمانٍ أحكامه التي تتناسب معه.

لقد فشلت معظمُ الطرقِ المليئةِ بالحدَّة والتسفيه، والاتهام والتضليل، والتبديع والتفسيق، واشتغال الإسلاميين ببعضهم، في إصلاح الأوضاع الإسلامية، وفي التئام الصفِّ ووحدة الكلمة، ودفع عدوان أهل الباطل ممن يتربصون بالإسلام والمسلمين الشرور؛ لذا علينا أن نغيّر أسلوبنا وطريقتنا في التعامل مع بعضِنا، والتعاملِ مع خلافاتنا؛ ليصبح هو الظاهرة الحية الفاعلة في التقارب، بدَلَ هذا التشرذم والبغيِّ والعدوان.

إنني أخشى أن يكون انطبق على جيلنا المعاصر قولُ الله عز وجل في أهل الكتاب من قبلنا حيث أخذوا بعض الدين وتركوا بعضه فقال سبحانه عنهم: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[المائدة:14] وقال عز وجل: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الجاثية:16 - 17].

وقد ذكر الله عز وجل في كلا الموضعين العلاج من هذا الداء العضال: فقال عقب الموضع الأول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[المائدة : 15 ، 16].

وقال عقب الموضع الثاني: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية: 18].

إن من أسباب الخلاف التي إذا لم تفهم على وجهها الصحيح فسيظل الخلاف والتنازع قائماً يفرز مزيداً من التمزق والتطاحن و الفشل، وهو عدم التفريق بين قواعد الفهم لأحكام الإسلام وعقائده والتي تشمل مصادر التلقي والتشريع وقواعد والنظر والاستدلال، والتي عن طريقها نتعرف على الحكم الشرعي كما أنزله الله وأراده، وبين قواعد تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع باختلاف أزمنتها وأمكنتها وظروفها، وأن القواعد الأولى تعطي لنا الحكم المجرّد عن الواقعة، وأن الثانية تعطينا الحكم الممكن التطبيق في واقعة زمانية ومكانية، فإذا أصررنا على النظر إلى الحكم مجرداً عن واقعه وظرفه ومدى المستطاع تطبيقه منه في ظل ذلك، فإننا قطعاً سنختلف اختلافاً يتبعه التضليلُ والاتهامُ بالتبديل.

فحكمُ الله الثابت مثلاً في القيام في الصلاة أنه ركن من أركانها، فإذا كان المصليً مشلولاً مثلاً فإن ألزمناه بالقيام لم يمكنه ذلك، وصار الحكم غير قابل للتطبيق على هذه الحالة، وإن قلنا إنه لا يلزمك من الحكم إلا ما تقدر عليه وهو الصلاة جالساً ، صار بالنظر إلى الحكم الأصلي غير مطبق له، وهذا ما تأتيه شبهة التبديل، وضربت هذا المثل رغم وضوحه والاتفاق عليه لإيضاح الفكرة؛ فإن هناك أحكاماً قد لا تكون بهذه الصورة من الوضوح؛ لأنها قد تتعلق بقضايا الأمة، وبوقائع متشابكة، وكلها ينطبق عليها قاعدة الاستطاعة في الشريعة: (فاتقوا الله ما استطعتم) (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، ومن أسباب الخلاف بين الإسلاميين عدم إعمال هاتين القاعدتين أو إعمال أحدهما وإهمال الأخرى، أو جعل الأحكام المؤقتة المرتبطة بزمان ومكان وظرف ما أحكاماً دائمة كأنها هي حكم الله الدائم، والقسم الثالث هو التفريط، ويتعارض مع أصحاب القسم الأول، فيحدث بينهما من التضاد والتنازع ما يجل بعضهم ينفِّر من بعض، ويتهمه بمخالفة الشريعة، والوسط هو العدل الذي يجمع الأطراف المتنازعة، فيحافظ على أحكام الشريعة من خلال قواعد الفهم وأنها أحكام ثابتة غير قابلة للتغيير وأنها الأصل، ويراعى تطبيقها على ظروفها وتُعَدُّ أحكاماً مؤقتة يمكن تغييرها إذا تغيرت ظروفها إلى أن نصل إلى الظرف الذي يمكن تطبيق الحكم الشرعي الأصلي، ففي مثالناً المذكور آنفاً إذا شُفي المشلول تغيَّر في حقه الحكم وأصبح القيام في الصلاة واجباً عليه لتمكنه منه.

والخلاصة أن جيلنا المعاصر تراكمت عليه أسباب الهزيمة ولن ينهض منها حتى يُلقي بهذه الأسباب جميعاً، فيستحق حينئذ النصر، وأما الحال على ما ذكرنا فإن النصر لا أراه قريباً، لأن النصر لا يستحقه إلا من يقوم بشروطه ويكون أميناً على تطبيق مقتضياته فهماً وسلوكاً وممارسة، فليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، وسنن الله لا تحابي أحداً.

*أستاذ أصول الفقه في مركز الدعوة وباحث في الجماعات الإسلامية
*مأرب برس
أضافة تعليق