د/ زرواق نصير
يأتي على الأمة عبر الأزمنة محطات شديدة الخطر بالغة الحساسية ، تقف فيها على مفترق الطريق لتحسم مسارها و ترسم وجهتها ، طوعا أو كرها، ضرورة أو اختيارا،و في تلك المحطات الحاسمة و اللحظات الفاصلة من تاريخها ،يستدعي الموقف نموذجا فريدا من أهل الفكر والنظر، يحمل خصائص معينة، و صفات محددة بمؤهلات فكرية تتميز بالأصالة و المعاصرة ، تحمل منهجا معرفيا واضح المعالم ، راسخ الأصول ، متين البنيان، على أن يتسلح بخاصية نفسية أساسية و ضرورية هي (الاستعلاء على الواقع) هذا الواقع الذي يتعامل معه المجتمع بحسبانه حتمي ، فيرسخ في حسه، بمرور الوقت، أنه لابديل عنه، فيبني له (الواقع) تصوراته ويحدد له علاقاته، و يصنع له نموذج حياته و يضع له قواعد سلوكه و نشاطه، فيسلم (للواقع) و يخضع لماديته و زينته و سطوته و فتنته و قوته و جبروته و إغراءاه وجاذبيته و هيمنته وإبهاره ، و يتعايش به و يتفاعل معه على أنه النموذج النهائي.
و الإمام سيد قطب واحد من هذه النماذج المعدودة في التاريخ العربي الإسلامي، التي تستدعيها اللحظات الحرجة والصعبة و المظلمة للأمة، فتستجيب للنداء و تؤسس لثورة مضادة لواقع الأمة الذي أسسته ( دولة ما بعد الاستعمار).
ستبقى كل القراءات التي تناولت مشروع النهضة الفكري للإمام سيد قطب ،وما ترتب عليها من أحكام، ستبقى قراءات منقوصة و أحكام موقوتة ما بقيت جذور دولة ما بعد مرحلة التحرر من الاستعمار(الانتقالية) في العالم العربي.
ذلك أن جيل سيد قطب، وجيلنا الحالي والذي قبله ،هي امتداد لدولة ما بعد الاستعمار (احتلالا أو انتدابا) و التي لا تزال فيها أوضاعنا مقيدة بالمركزية الأوربية في السياسة و الفكر و الثقافة و الاجتماع و الاقتصاد ، فالواقع الذي واجهه الإمام سيد قطب بمشروعه الفكري( الاستعلائي) هو نفسه الذي نعيشه اليوم من حيث النسق و المشكلات و الأزمات ، وهو و إن تغيرت بعض أشكاله و صوره، فهو يبقى واحدا في جوهره ، ذلك أن كل المشاريع التي تبنتها دولة ما بعد الاستعمار انتهت إلى فشل وإخفاق ،و إن حاولت معاودة إنتاج نفسها،و بقيت مشدودة في مناهجها و أدواتها إلى المركزية الأوربية متطلعة إليها لا تستغني عنها بحال من الأحوال.
و قراءة المشروع الفكري للإمام سيد، لن تكتمل فصولها و لن تكون أحكامها نهائية إلا بعد حدوث تغيير في جوهر الواقع الممتد لهذه الدولة (ما بعد التحرر من الاستعمار)بظهور جيل يمثل القطيعة مع أوضاع هذا الواقع و المفاصلة مع هذه الدولة من خلال نهضة فكرية عميقة الجذور تنتجها عملية معرفة الذات و العودة إلى الأصول.
إن الإمام سيد ، بصرامة منهجه المعرفي و وضوحه ، وتفرد أسلوبه و صياغته، و دقة لغته و عباراته،و ثبات خطه و اتجاهه ،وجدية تناوله وعرضه، لهي ما تعطي الإمام خصوصية مميزة إلى الحد الذي يجعل من يملك الحد الأدنى من ناصية البيان، يجزم بنسبة هذا النص أو تلك الفكرة إليه،على أن ما يعطي النص كل هذه القيمة و هذا القبول وهذا التأثير ، ليست تلك الخصائص فحسب، بل هناك ما يمكن تسميته التماهي الفكري و النفسي و الروحي في آن واحد مع النص القرآني ،أي معايشة النص بكينونته مجتمعة ، وهو ما يعطي كلماته كل هذا الحضور والزخم اللامتناهي،و لأفكاره كل هذا الجدل الفائض حياة و موتا ،الذي لا يكاد يتوقف حتى ينطلق من جديد.
إن حالة الاستعلاء الفكري (المنهجي و المعرفي) الذي واجه به سيد قطب واقعه بمشروعه الفكري، لم يجد أرضية تستوعبه ،لعدم توافر شروط الاستيعاب الموضوعية - بالنظر لحالة الغيبوبة المعرفية و الحضارية للأمة العربية ، التي وقفت عاجزة الحيلة فاقدة الوسيلة أمام هجمة الفكر الغربي الذي تمكن من الاختراق و المصادرة،و التغلغل في روح الفرد و المجتمع و الدولة، ، مقابل ما أصاب الثقافة العربية و الإسلامية من ذبول و تحلل- و هو مشروع واسع الآفاق عالي النسق وسط بيئة تائهة أصابها الذهول من هذه القيمة المعرفية الضخمة،و قوالبها غير المعهودة وغير المعروفة من قبل في الساحة الفكرية ،وان أحدث المشروع نقلة ،بعد زوال الصدمة ، في مسار الفكر الإسلامي ومضمونه و توجهه وتطوره، وأعطاه ثقة بنفسه و بمنهجه المعرفي،وغدا مرحلة فاصلة بين مرحلة الكمون و الركود ومرحلة النشاط و الإنتاج.
لقد خاض الإمام بمفرده، ، معركة المنهج المعرفي القرآني، وواجه واقعا ضخما شديد التعقيد، هائل المشكلات : تراث معرفي وعلمي راكد ، ومؤسسات علمية دينية مترهلة تقف إلى جانب الحاكم (كائنا من كان) ولو على حساب المجتمع و الدين و مصير الوطن،واعتماد مناهج في المؤسسات التعليمية الدينية تخرج طلبة بنكهة التراث دون تواصل مع العصر و الواقع، ومناهج تعليمية مدنية تفصل الطالب عن تراثه و تاريخه و ثقافته، ومشهد ثقافي متفسخ يتعارض مع التقاليد و الأعراف الاجتماعية، وإعلام مائع يروج لثقافة الغرب ويهاجم الموروث الديني،و اعلام يبرر أفعال السلطة ويسفه خصومها ويروج لرجالاتها و يغطي على الفشل، وقلم سياسي يقمع الحرية الفكرية و السياسة التي لا تنسجم مع فكر النظام و توجهه،و شرطة تنتهك حقوق الإنسان و تهدر الكرامة الإنسانية بأبشع الوسائل و أحط الطرق، و أحزاب تتكالب على الوزارة والبرلمان و المكاسب الشخصية ولا تمثل إلا مصالحها، وفساد مالي من أعلى سلم السلطة إلى أدناه ،وانعدام تكافؤ الفرص في الوظيفة العامة على أساس الكفاءة و المؤهل، و غياب العدالة الاجتماعية بكل صورها و مظاهرها و أشكالها، وطبقة تزداد ثراء ونفوذا في مقابل جماهير توعد بالفردوس الأرضي دون أن يكون نصيبها منه إلا مزيدا من المرض و الجهل و الخوف والفقر و التهميش و الإقصاء، على امتداد النظم السياسية التي تداولت الحكم .
لقد خاض الإمام سيد قطب ،نيابة عن الأمة معركة ضد (فتنة عزل القرآن) تماما كما خاض الإمام أحمد بن حنبل ،قبل اثني عشر قرنا،معركته ضد ( فتنة خلق القرآن) فقد واجه مدا عالميا عاتيا للمناهج الغربية و تطبيقاها في السياسة و الفكر و الاجتماع و الاقتصاد و الثقافة والتعليم وفي كل مجالات الحياة ، سواء مناهج الرأسمالية أو الاشتراكية أو الشيوعية ، وإقصاء للمنهج الإسلامي من الحياة العامة و حصاره في الحياة الفردية وبخاصة مع الفتوحات العلمية و(تأليه ) العقل مقابل حرب لا هوادة فيها على الدين و اعتباره من مخلفات الماضي ،ما خلف إحباطا وانكسارا لدى كثيرين من رموز الفكر والدعوة ، فراحت تبرر بعض الأطروحات مهادنة للواقع، بحسبانها لا تتعارض مع الإسلام ، أو تحاول التوفيق و التلفيق بين المنهج الإسلامي و غيره من المناهج.
اعتمد الإمام على فكره القرآني المتين و رؤيته الإسلامية الفذة، في الهجوم بحدة على هذه المناهج وعمل على دحضها من خلال آثارها السلبية ونقضها علميا ،مع بيان للبدائل المتاحة في المنهج الإسلامي ، دون مهادنة أو انكسار، بل باستعلاء فكري وشموخ كبير(على الواقع) و اعتزاز شديد بمنهجه المعرفي.
على أن (دولة ما بعد الاستعمار) ، عملت على تطويق أفكاره على ثلاث مستويات،الأول : الكتابات الأكاديمية التي صدرت من فريق النخبة العلمانية تلميذة الغرب (يمين ويسار) وكلها جاءت متحيزة وانطلقت من خلفية معادية ومواقف مسبقة ،اعتمدت مناهج الاستشراق و المناهج الفلسفية ،التي تخلى الغرب عنها لاحقا،وادعت البحث العلمي لتعطي نتائجها مصداقية .الثاني: موقف المؤسسات الدينية الرسمية، إملاء أو إيحاء ،ممثلة في هيئات ( علمائية) تعينها السلطة الحاكمة و تدفع رواتبها، انتهجت قراءة انتقائية لنصوص بعينها ،و راحت تهاجم أفكاره بسطحية و تكلف وتنفي عنها (الإسلامية) وتصفها( بالدخيلة) على الدين (الذي لا يقرها) الثالث: الإعلام (الجرائد والتلفزيون) حيث اعتمدت إستراتيجية التشويه،التسفيه، التخوين ،في الجرائد ،و بخاصة كتاب الأعمدة و الافتتاحيات و العناوين الكبيرة، وفي التلفزيون من خلال إستراتيجية ( اكذب اكذب حتى يصدقوك) بهدف ترهيب المجتمع (أفقيا وعموديا) من فكره و الحد من تأثيره.
على أنه نهض فيما بعد ،بالمقابل ، مفكرون و علماء و دعاة بالتصدي لهذه الهجمة الشرسة دفاعا عن الإمام وانحيازا لمشروعه.
إن الإمام سيد قطب ، كان كثير الحديث عن المستقبل و عن الأجيال التي تتولى صياغته و صناعته، و كأنه مدرك أن الشروط الموضوعية لاعتماد مشروعه الفكري لن تقوم إلا بعد انتهاء عصر دولة (ما بعد الاستعمار) التي بزوالها سيظهر الجيل الذي سيتناول مشروعه الفكري الضخم، تناولا صحيحا غير مشوه ، بالفحص و الدرس في مجالات العقيدة و التفسير و المقاصد و السلوك و الأخلاق و الاجتماع باعتباره الأقرب إليه و الأكثر معاصرة ليبني عليه نهضته ويوجه انطلاقته.
لقد كان الإمام سيد كبيرا حين قاد بقلمه ثورة اجتماعية و سياسية و فكرية ،و أداراها وحيدا ضد نظام شمولي يعد الأكثر وحشية في البطش بخصومه و معارضيه ،و نجح في هزه ، لدرجة اعتباره عدوه الأول...لقد كان أمة لوحده.
و يقيني، أنه لن يؤرخ لمشروع الإمام سيد قطب، على أنه محطة فارقة في تاريخ الفكر الإسلامي فحسب، ولا على أنه نقلة هائلة لهذا الفكر فحسب، بل سيؤرخ لمشروعه على أنه:الوسيط و همزة الوصل بين الأصالة و المعاصرة ،وبأنه جسر عبور التراث إلى عصرنا ، بعد شبه قطيعة دامت سبعة قرون (منذ عهد الشاطبي و ابن خلدون) .
لقد أعاد بمشروعه العظيم ،الحركة و التوازن و الوضوح و الاعتبار للخط الزماني للإسلام الذي طمسته عصور من الركود و أزمان من الجمود.
لقد كانت لحظة إعدامه ( 13جمادي الأولى 1386للهجرة) هي لحظة ميلاده ، فقد وضعته على قمة الفكر الإسلامي ، و توجته مجددا له في قرنه الرابع عشر دون منازع.
يأتي على الأمة عبر الأزمنة محطات شديدة الخطر بالغة الحساسية ، تقف فيها على مفترق الطريق لتحسم مسارها و ترسم وجهتها ، طوعا أو كرها، ضرورة أو اختيارا،و في تلك المحطات الحاسمة و اللحظات الفاصلة من تاريخها ،يستدعي الموقف نموذجا فريدا من أهل الفكر والنظر، يحمل خصائص معينة، و صفات محددة بمؤهلات فكرية تتميز بالأصالة و المعاصرة ، تحمل منهجا معرفيا واضح المعالم ، راسخ الأصول ، متين البنيان، على أن يتسلح بخاصية نفسية أساسية و ضرورية هي (الاستعلاء على الواقع) هذا الواقع الذي يتعامل معه المجتمع بحسبانه حتمي ، فيرسخ في حسه، بمرور الوقت، أنه لابديل عنه، فيبني له (الواقع) تصوراته ويحدد له علاقاته، و يصنع له نموذج حياته و يضع له قواعد سلوكه و نشاطه، فيسلم (للواقع) و يخضع لماديته و زينته و سطوته و فتنته و قوته و جبروته و إغراءاه وجاذبيته و هيمنته وإبهاره ، و يتعايش به و يتفاعل معه على أنه النموذج النهائي.
و الإمام سيد قطب واحد من هذه النماذج المعدودة في التاريخ العربي الإسلامي، التي تستدعيها اللحظات الحرجة والصعبة و المظلمة للأمة، فتستجيب للنداء و تؤسس لثورة مضادة لواقع الأمة الذي أسسته ( دولة ما بعد الاستعمار).
ستبقى كل القراءات التي تناولت مشروع النهضة الفكري للإمام سيد قطب ،وما ترتب عليها من أحكام، ستبقى قراءات منقوصة و أحكام موقوتة ما بقيت جذور دولة ما بعد مرحلة التحرر من الاستعمار(الانتقالية) في العالم العربي.
ذلك أن جيل سيد قطب، وجيلنا الحالي والذي قبله ،هي امتداد لدولة ما بعد الاستعمار (احتلالا أو انتدابا) و التي لا تزال فيها أوضاعنا مقيدة بالمركزية الأوربية في السياسة و الفكر و الثقافة و الاجتماع و الاقتصاد ، فالواقع الذي واجهه الإمام سيد قطب بمشروعه الفكري( الاستعلائي) هو نفسه الذي نعيشه اليوم من حيث النسق و المشكلات و الأزمات ، وهو و إن تغيرت بعض أشكاله و صوره، فهو يبقى واحدا في جوهره ، ذلك أن كل المشاريع التي تبنتها دولة ما بعد الاستعمار انتهت إلى فشل وإخفاق ،و إن حاولت معاودة إنتاج نفسها،و بقيت مشدودة في مناهجها و أدواتها إلى المركزية الأوربية متطلعة إليها لا تستغني عنها بحال من الأحوال.
و قراءة المشروع الفكري للإمام سيد، لن تكتمل فصولها و لن تكون أحكامها نهائية إلا بعد حدوث تغيير في جوهر الواقع الممتد لهذه الدولة (ما بعد التحرر من الاستعمار)بظهور جيل يمثل القطيعة مع أوضاع هذا الواقع و المفاصلة مع هذه الدولة من خلال نهضة فكرية عميقة الجذور تنتجها عملية معرفة الذات و العودة إلى الأصول.
إن الإمام سيد ، بصرامة منهجه المعرفي و وضوحه ، وتفرد أسلوبه و صياغته، و دقة لغته و عباراته،و ثبات خطه و اتجاهه ،وجدية تناوله وعرضه، لهي ما تعطي الإمام خصوصية مميزة إلى الحد الذي يجعل من يملك الحد الأدنى من ناصية البيان، يجزم بنسبة هذا النص أو تلك الفكرة إليه،على أن ما يعطي النص كل هذه القيمة و هذا القبول وهذا التأثير ، ليست تلك الخصائص فحسب، بل هناك ما يمكن تسميته التماهي الفكري و النفسي و الروحي في آن واحد مع النص القرآني ،أي معايشة النص بكينونته مجتمعة ، وهو ما يعطي كلماته كل هذا الحضور والزخم اللامتناهي،و لأفكاره كل هذا الجدل الفائض حياة و موتا ،الذي لا يكاد يتوقف حتى ينطلق من جديد.
إن حالة الاستعلاء الفكري (المنهجي و المعرفي) الذي واجه به سيد قطب واقعه بمشروعه الفكري، لم يجد أرضية تستوعبه ،لعدم توافر شروط الاستيعاب الموضوعية - بالنظر لحالة الغيبوبة المعرفية و الحضارية للأمة العربية ، التي وقفت عاجزة الحيلة فاقدة الوسيلة أمام هجمة الفكر الغربي الذي تمكن من الاختراق و المصادرة،و التغلغل في روح الفرد و المجتمع و الدولة، ، مقابل ما أصاب الثقافة العربية و الإسلامية من ذبول و تحلل- و هو مشروع واسع الآفاق عالي النسق وسط بيئة تائهة أصابها الذهول من هذه القيمة المعرفية الضخمة،و قوالبها غير المعهودة وغير المعروفة من قبل في الساحة الفكرية ،وان أحدث المشروع نقلة ،بعد زوال الصدمة ، في مسار الفكر الإسلامي ومضمونه و توجهه وتطوره، وأعطاه ثقة بنفسه و بمنهجه المعرفي،وغدا مرحلة فاصلة بين مرحلة الكمون و الركود ومرحلة النشاط و الإنتاج.
لقد خاض الإمام بمفرده، ، معركة المنهج المعرفي القرآني، وواجه واقعا ضخما شديد التعقيد، هائل المشكلات : تراث معرفي وعلمي راكد ، ومؤسسات علمية دينية مترهلة تقف إلى جانب الحاكم (كائنا من كان) ولو على حساب المجتمع و الدين و مصير الوطن،واعتماد مناهج في المؤسسات التعليمية الدينية تخرج طلبة بنكهة التراث دون تواصل مع العصر و الواقع، ومناهج تعليمية مدنية تفصل الطالب عن تراثه و تاريخه و ثقافته، ومشهد ثقافي متفسخ يتعارض مع التقاليد و الأعراف الاجتماعية، وإعلام مائع يروج لثقافة الغرب ويهاجم الموروث الديني،و اعلام يبرر أفعال السلطة ويسفه خصومها ويروج لرجالاتها و يغطي على الفشل، وقلم سياسي يقمع الحرية الفكرية و السياسة التي لا تنسجم مع فكر النظام و توجهه،و شرطة تنتهك حقوق الإنسان و تهدر الكرامة الإنسانية بأبشع الوسائل و أحط الطرق، و أحزاب تتكالب على الوزارة والبرلمان و المكاسب الشخصية ولا تمثل إلا مصالحها، وفساد مالي من أعلى سلم السلطة إلى أدناه ،وانعدام تكافؤ الفرص في الوظيفة العامة على أساس الكفاءة و المؤهل، و غياب العدالة الاجتماعية بكل صورها و مظاهرها و أشكالها، وطبقة تزداد ثراء ونفوذا في مقابل جماهير توعد بالفردوس الأرضي دون أن يكون نصيبها منه إلا مزيدا من المرض و الجهل و الخوف والفقر و التهميش و الإقصاء، على امتداد النظم السياسية التي تداولت الحكم .
لقد خاض الإمام سيد قطب ،نيابة عن الأمة معركة ضد (فتنة عزل القرآن) تماما كما خاض الإمام أحمد بن حنبل ،قبل اثني عشر قرنا،معركته ضد ( فتنة خلق القرآن) فقد واجه مدا عالميا عاتيا للمناهج الغربية و تطبيقاها في السياسة و الفكر و الاجتماع و الاقتصاد و الثقافة والتعليم وفي كل مجالات الحياة ، سواء مناهج الرأسمالية أو الاشتراكية أو الشيوعية ، وإقصاء للمنهج الإسلامي من الحياة العامة و حصاره في الحياة الفردية وبخاصة مع الفتوحات العلمية و(تأليه ) العقل مقابل حرب لا هوادة فيها على الدين و اعتباره من مخلفات الماضي ،ما خلف إحباطا وانكسارا لدى كثيرين من رموز الفكر والدعوة ، فراحت تبرر بعض الأطروحات مهادنة للواقع، بحسبانها لا تتعارض مع الإسلام ، أو تحاول التوفيق و التلفيق بين المنهج الإسلامي و غيره من المناهج.
اعتمد الإمام على فكره القرآني المتين و رؤيته الإسلامية الفذة، في الهجوم بحدة على هذه المناهج وعمل على دحضها من خلال آثارها السلبية ونقضها علميا ،مع بيان للبدائل المتاحة في المنهج الإسلامي ، دون مهادنة أو انكسار، بل باستعلاء فكري وشموخ كبير(على الواقع) و اعتزاز شديد بمنهجه المعرفي.
على أن (دولة ما بعد الاستعمار) ، عملت على تطويق أفكاره على ثلاث مستويات،الأول : الكتابات الأكاديمية التي صدرت من فريق النخبة العلمانية تلميذة الغرب (يمين ويسار) وكلها جاءت متحيزة وانطلقت من خلفية معادية ومواقف مسبقة ،اعتمدت مناهج الاستشراق و المناهج الفلسفية ،التي تخلى الغرب عنها لاحقا،وادعت البحث العلمي لتعطي نتائجها مصداقية .الثاني: موقف المؤسسات الدينية الرسمية، إملاء أو إيحاء ،ممثلة في هيئات ( علمائية) تعينها السلطة الحاكمة و تدفع رواتبها، انتهجت قراءة انتقائية لنصوص بعينها ،و راحت تهاجم أفكاره بسطحية و تكلف وتنفي عنها (الإسلامية) وتصفها( بالدخيلة) على الدين (الذي لا يقرها) الثالث: الإعلام (الجرائد والتلفزيون) حيث اعتمدت إستراتيجية التشويه،التسفيه، التخوين ،في الجرائد ،و بخاصة كتاب الأعمدة و الافتتاحيات و العناوين الكبيرة، وفي التلفزيون من خلال إستراتيجية ( اكذب اكذب حتى يصدقوك) بهدف ترهيب المجتمع (أفقيا وعموديا) من فكره و الحد من تأثيره.
على أنه نهض فيما بعد ،بالمقابل ، مفكرون و علماء و دعاة بالتصدي لهذه الهجمة الشرسة دفاعا عن الإمام وانحيازا لمشروعه.
إن الإمام سيد قطب ، كان كثير الحديث عن المستقبل و عن الأجيال التي تتولى صياغته و صناعته، و كأنه مدرك أن الشروط الموضوعية لاعتماد مشروعه الفكري لن تقوم إلا بعد انتهاء عصر دولة (ما بعد الاستعمار) التي بزوالها سيظهر الجيل الذي سيتناول مشروعه الفكري الضخم، تناولا صحيحا غير مشوه ، بالفحص و الدرس في مجالات العقيدة و التفسير و المقاصد و السلوك و الأخلاق و الاجتماع باعتباره الأقرب إليه و الأكثر معاصرة ليبني عليه نهضته ويوجه انطلاقته.
لقد كان الإمام سيد كبيرا حين قاد بقلمه ثورة اجتماعية و سياسية و فكرية ،و أداراها وحيدا ضد نظام شمولي يعد الأكثر وحشية في البطش بخصومه و معارضيه ،و نجح في هزه ، لدرجة اعتباره عدوه الأول...لقد كان أمة لوحده.
و يقيني، أنه لن يؤرخ لمشروع الإمام سيد قطب، على أنه محطة فارقة في تاريخ الفكر الإسلامي فحسب، ولا على أنه نقلة هائلة لهذا الفكر فحسب، بل سيؤرخ لمشروعه على أنه:الوسيط و همزة الوصل بين الأصالة و المعاصرة ،وبأنه جسر عبور التراث إلى عصرنا ، بعد شبه قطيعة دامت سبعة قرون (منذ عهد الشاطبي و ابن خلدون) .
لقد أعاد بمشروعه العظيم ،الحركة و التوازن و الوضوح و الاعتبار للخط الزماني للإسلام الذي طمسته عصور من الركود و أزمان من الجمود.
لقد كانت لحظة إعدامه ( 13جمادي الأولى 1386للهجرة) هي لحظة ميلاده ، فقد وضعته على قمة الفكر الإسلامي ، و توجته مجددا له في قرنه الرابع عشر دون منازع.