بقلم: أحمد دعدوش / كاتب وناقد سوري
2014-3-19 |
تناقلت عشرات المواقع مؤخرا مقالا للكاتبة اليهودية اليمنية نجاة النهاري، ترد فيه على الذين يطالبونها باعتناق الإسلام، مبررة عدم استجابتها للدعوة بأنها تحاول فهم الإسلام على طريقة اليهودي الذي أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم خجلا منه، حيث زاره النبي في مرضه بالرغم مما ألحقه اليهودي به من أذى.
أول ملاحظة تثير الدهشة في منطق الكاتبة هي أنها اتخذت من السلوك حجة عقلية تقيم عليها قرارا مصيريا يتعلق بخلاصها الأخروي الأبدي، فتعلن أن قناعتها بالإسلام تتوقف على سلوك المسلمين وليس على الإسلام نفسه، وهذا يلزمها بالضرورة بأن تتخلى عن اليهودية –سواء المحرفة منها أم شريعة موسى الأصلية- حيث أجمعت البشرية طوال قرون على ربط صفات الجشع والاستغلال والانحطاط الأخلاقي بأتباع هذا الدين من أكبر حاخاماته إلى أصغر عامته.
وإذا كانت الكاتبة تصرح حرفيا بأنها ستحكم على الإسلام بناء على “تصرفات النبي قبل كلام القرآن”، وهي تعترف حقا بأن سمو أخلاق النبي لا يختلف عليه اثنان، فلماذا تحرف البوصلة لتقيم حكمها على أساس تصرفات المسلمين اليوم؟
وهل من المنطقي أن ترى في أخلاق النبي الذي جاء بهذا الدين ما يقنعها بأنه على حق ثم تضحي بخلاصها الأخروي لمجرد تخاذل أتباعه عن التمسك بسنته؟!
كنت آمل أن تقرأ الكاتبة القرآن الكريم لتجد فيه ما يساعدها على معالجة هذا التردد في سورة البقرة، إذ يقول المولى جل جلاله {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون}، فلو تخلى المسلمون اليوم جميعا عن هدي نبيهم وأخلاقه وحسن سلوكه فلن يُحاسبها الله على ذنوبهم، بل سيسألها عن عدم وضع أخطاء المسلمين جانبا وتحكيم عقلها في صدق رسالة نبيه واختيار طريق خلاصها الشخصي.
ولتسأل أختنا الكاتبة نفسها عما إذا كانت ستفكر بالمنطق نفسه في حال إصابتها –لا سمح الله- بمرض عضال، ثم وجدت أن كل الذين أصيبوا بالمرض من حولها لا يكترثون للعلاج –ولا أقول إنهم عولجوا ولم يشفوا- فهل ستضحي بحياتها وهي تحاجج الطبيب بأن المرضى كلهم لم يلتزموا بعلاجه أم أنها ستفكر بخلاصها دون أن تكترث بغباء المرضى الآخرين؟
ويبدو أن الكاتبة اتخذت طريقا آخر للخلاص من هذه المواجهة، فتحججت بحديث شريف يقول إن أمة النبي ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، والعجيب أنها اكتفت بسماع هذه الجملة من صديقتها في بيروت دون أن تحاول البحث عن الحديث لتقرأ بدايته التي تقول “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة”، وكأنها تنتهج نهج أسلافها من اليهود الذين سألهم القرآن مباشرة: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}؟
وحتى في حال تخلينا عن هذا الحديث، فلا شك في أن الكاتبة اليهودية على علم بتفرق حاخامات دينها إلى مذاهب يكفر بعضها بعضا، فمع أن عدد يهود العالم لا يزيد عن عدد سكان دولة مسلمة صغيرة فلديهم في القدس المحتلة اليوم مرجعيتان رئيستان ولا علاقة لإحداهما بالأخرى، وتحت كل مرجعية هناك عشرات من الطوائف، وتمتلئ الولايات المتحدة اليوم بجماعات يهودية متباينة يقوم على كل منها حاخامها الخاص، وكثيرا ما يتنازع أبناؤه على خلافته بعد موته إلى درجة انشقاق بعضهم لتشكيل جماعة جديدة، بل يختلف اليهود على الاعتراف ببعض الأسفار المنسوبة للتوراة، وعلى قداسة التلمود ودرجته بالقياس إلى الأسفار، ويتنكرون للسامريين ويضيقون عليهم باعتبارهم طائفة مستقلة.
علاوة على ذلك، تتجرأ الكاتبة على فتح باب العنف المذهبي بين المسلمين لتعبر منه إلى الطعن في الإسلام نفسه، وليتها تتمتع بالجرأة نفسها لتناقش أصل افتراق المسلمين إلى تلك المذاهب، بدءاً من حركة اليهودي عبدالله بن سبأ، ومرورا باليهودي الفارسي عبدالله بن ميمون القداح، ووصولا إلى يهود العصر الذين أسقطوا الخلافة وقسموا بلاد المسلمين وأشعلوا بينهم الفتنة.
وفي موقع آخر بمقالها، تكرر الكاتبة اعتمادها على أصدقائها في اقتباس النصوص التي تبني عليها قرار خلاصها، فتقول إن صديقا أرسل لها آية تؤكد أن القرآن لم يكفر أصحاب الأديان، وهي {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون}.
والعجيب أيضا أنها لم تفهم المعنى الواضح الذي لا يحتاج بحثا في التفسير والفقه، فالذين يتلون آيات الله ويسجدون لا يمكن أن يكونوا على دينهم المحرف، وفي سياق النص وسبب نزوله ما يكفي للبرهنة على أنه يتحدث عمن اهتدى من أهل الكتاب بالنبي، وإلا فما مغزى محاولات النبي صلى الله عليه وسلم المتكررة لهداية اليهود والنصارى إن كان سيقرهم على دينهم الذي لا ترى فيه صاحبتنا كفراً؟!
المقال ركيك بلغته وبنائه المنطقي إلى درجة تكفي لوضعه في خانة اللغو ثم المرور عليه بسلام، ويكفي لأي مسلم أن يقرأ سطوره الأخيرة ليكتشف مدى الخلل فيه، لكن العجيب في الأمر هو اجتهاد الكثير من المسلمين في نشره وهم يضربون كفا بكف تحسرا على ما وصل إليه حالهم، بل وتساهل بعض المحسوبين على الدعوة في وصف المقال بالرائع (!)، وكأن بضع مفردات في مقال تصف الإسلام بالعظيم قد أعمت قلوبنا لننسى عادة اليهود!
*مجلة العصر
2014-3-19 |
تناقلت عشرات المواقع مؤخرا مقالا للكاتبة اليهودية اليمنية نجاة النهاري، ترد فيه على الذين يطالبونها باعتناق الإسلام، مبررة عدم استجابتها للدعوة بأنها تحاول فهم الإسلام على طريقة اليهودي الذي أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم خجلا منه، حيث زاره النبي في مرضه بالرغم مما ألحقه اليهودي به من أذى.
أول ملاحظة تثير الدهشة في منطق الكاتبة هي أنها اتخذت من السلوك حجة عقلية تقيم عليها قرارا مصيريا يتعلق بخلاصها الأخروي الأبدي، فتعلن أن قناعتها بالإسلام تتوقف على سلوك المسلمين وليس على الإسلام نفسه، وهذا يلزمها بالضرورة بأن تتخلى عن اليهودية –سواء المحرفة منها أم شريعة موسى الأصلية- حيث أجمعت البشرية طوال قرون على ربط صفات الجشع والاستغلال والانحطاط الأخلاقي بأتباع هذا الدين من أكبر حاخاماته إلى أصغر عامته.
وإذا كانت الكاتبة تصرح حرفيا بأنها ستحكم على الإسلام بناء على “تصرفات النبي قبل كلام القرآن”، وهي تعترف حقا بأن سمو أخلاق النبي لا يختلف عليه اثنان، فلماذا تحرف البوصلة لتقيم حكمها على أساس تصرفات المسلمين اليوم؟
وهل من المنطقي أن ترى في أخلاق النبي الذي جاء بهذا الدين ما يقنعها بأنه على حق ثم تضحي بخلاصها الأخروي لمجرد تخاذل أتباعه عن التمسك بسنته؟!
كنت آمل أن تقرأ الكاتبة القرآن الكريم لتجد فيه ما يساعدها على معالجة هذا التردد في سورة البقرة، إذ يقول المولى جل جلاله {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون}، فلو تخلى المسلمون اليوم جميعا عن هدي نبيهم وأخلاقه وحسن سلوكه فلن يُحاسبها الله على ذنوبهم، بل سيسألها عن عدم وضع أخطاء المسلمين جانبا وتحكيم عقلها في صدق رسالة نبيه واختيار طريق خلاصها الشخصي.
ولتسأل أختنا الكاتبة نفسها عما إذا كانت ستفكر بالمنطق نفسه في حال إصابتها –لا سمح الله- بمرض عضال، ثم وجدت أن كل الذين أصيبوا بالمرض من حولها لا يكترثون للعلاج –ولا أقول إنهم عولجوا ولم يشفوا- فهل ستضحي بحياتها وهي تحاجج الطبيب بأن المرضى كلهم لم يلتزموا بعلاجه أم أنها ستفكر بخلاصها دون أن تكترث بغباء المرضى الآخرين؟
ويبدو أن الكاتبة اتخذت طريقا آخر للخلاص من هذه المواجهة، فتحججت بحديث شريف يقول إن أمة النبي ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، والعجيب أنها اكتفت بسماع هذه الجملة من صديقتها في بيروت دون أن تحاول البحث عن الحديث لتقرأ بدايته التي تقول “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة”، وكأنها تنتهج نهج أسلافها من اليهود الذين سألهم القرآن مباشرة: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}؟
وحتى في حال تخلينا عن هذا الحديث، فلا شك في أن الكاتبة اليهودية على علم بتفرق حاخامات دينها إلى مذاهب يكفر بعضها بعضا، فمع أن عدد يهود العالم لا يزيد عن عدد سكان دولة مسلمة صغيرة فلديهم في القدس المحتلة اليوم مرجعيتان رئيستان ولا علاقة لإحداهما بالأخرى، وتحت كل مرجعية هناك عشرات من الطوائف، وتمتلئ الولايات المتحدة اليوم بجماعات يهودية متباينة يقوم على كل منها حاخامها الخاص، وكثيرا ما يتنازع أبناؤه على خلافته بعد موته إلى درجة انشقاق بعضهم لتشكيل جماعة جديدة، بل يختلف اليهود على الاعتراف ببعض الأسفار المنسوبة للتوراة، وعلى قداسة التلمود ودرجته بالقياس إلى الأسفار، ويتنكرون للسامريين ويضيقون عليهم باعتبارهم طائفة مستقلة.
علاوة على ذلك، تتجرأ الكاتبة على فتح باب العنف المذهبي بين المسلمين لتعبر منه إلى الطعن في الإسلام نفسه، وليتها تتمتع بالجرأة نفسها لتناقش أصل افتراق المسلمين إلى تلك المذاهب، بدءاً من حركة اليهودي عبدالله بن سبأ، ومرورا باليهودي الفارسي عبدالله بن ميمون القداح، ووصولا إلى يهود العصر الذين أسقطوا الخلافة وقسموا بلاد المسلمين وأشعلوا بينهم الفتنة.
وفي موقع آخر بمقالها، تكرر الكاتبة اعتمادها على أصدقائها في اقتباس النصوص التي تبني عليها قرار خلاصها، فتقول إن صديقا أرسل لها آية تؤكد أن القرآن لم يكفر أصحاب الأديان، وهي {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون}.
والعجيب أيضا أنها لم تفهم المعنى الواضح الذي لا يحتاج بحثا في التفسير والفقه، فالذين يتلون آيات الله ويسجدون لا يمكن أن يكونوا على دينهم المحرف، وفي سياق النص وسبب نزوله ما يكفي للبرهنة على أنه يتحدث عمن اهتدى من أهل الكتاب بالنبي، وإلا فما مغزى محاولات النبي صلى الله عليه وسلم المتكررة لهداية اليهود والنصارى إن كان سيقرهم على دينهم الذي لا ترى فيه صاحبتنا كفراً؟!
المقال ركيك بلغته وبنائه المنطقي إلى درجة تكفي لوضعه في خانة اللغو ثم المرور عليه بسلام، ويكفي لأي مسلم أن يقرأ سطوره الأخيرة ليكتشف مدى الخلل فيه، لكن العجيب في الأمر هو اجتهاد الكثير من المسلمين في نشره وهم يضربون كفا بكف تحسرا على ما وصل إليه حالهم، بل وتساهل بعض المحسوبين على الدعوة في وصف المقال بالرائع (!)، وكأن بضع مفردات في مقال تصف الإسلام بالعظيم قد أعمت قلوبنا لننسى عادة اليهود!
*مجلة العصر