د. عبدالعزيز المقالح
دعوني - في البدء - أبكي بغداد عاصمة الرشيد والمأمون والمعتصم، أبكي تاريخها وأمجادها وإبداعها، وأبكي نهرها الحزين ومساجدها وقبابها، وشوارعها المسكونة بالخوف، وأبناءها المحكومين بالمفاجآت .
دعوني أبكها بمناسبة هذا الاستطلاع الدولي الذي تم إعلانه قبل أيام عن مستوى المعيشة في عواصم العالم، وكيف أن الاستطلاع أثبت أن ’’فيينا’’ عاصمة النمسا هي الأولى في الرفاهية وفي المستوى الأعلى للمعيشة، بينما جاءت بغداد في آخر القائمة كأسوأ وأدنى عاصمة تعاني البؤس وسوء المعيشة . ألا تستحق بغداد البكاء وأن نذرف الدموع على راهنها المفزع ومجدها الآفل، وما كانت تمثله للوطن العربي والعالم الإسلامي بوصفها منارة تاريخية حكمت العالم القديم، وكانت مصدراً للإبداع والرخاء ومدرسة للعلوم والحضارة بأوسع معانيها؟ وحين نبكي بغداد فإننا نبكي فيها أنفسنا ونبكي حاضرنا وماضينا، ونقف في حيرة تجاه ما يسمونه بالمستقبل الذي لا نكاد نعرف عن ملامحه المجهولة شيئاً .
عرفت بغداد مرة واحدة في زيارة ضمن وفد رسمي، كان ذلك في عام 1965م، وفي عهد الزعيم الراحل عبدالسلام عارف . وقد أُتيحت لي الفرصة للصلاة في مساجدها والتجول في شوارعها وأسواقها . وحين كنت أنظر إليها من نافذة فندق بغداد الكبير، (وهذا هو اسمه) فقد بدت لي حديقة واسعة شاسعة تتخللها المباني الغارقة في الخضرة، وباستثناء بعض المباني القليلة العالية القريبة من مجرى النهر فإن المعمار الغالب يتمثل في الدور والدورين . كان الأمن - يومئذ - مستتباً والرزق وفيراً، وكانت الصراعات السياسية على أشدها بين القوميين واليساريين ولكنه صراع خفي لا يظهر منه على السطح سوى القليل، ولم يكن يمنع حركة الحياة أو يوقف عجلة التطور على الصعيدين الاقتصادي والثقافي، وكل شيء يوحي بالأمل كما كانت الإمكانات المادية التي تتطور بسرعة البرق تمكِّن هذا البلد العربي من بناء نفسه والانتقال السريع إلى مستوى الدول المتقدمة .
يالبغداد ذلك السهل المنبسط الأخضر الجميل . وكيف يقبل أهلها وأشقاؤها أن تتحول إلى عاصمة للبؤس وتدني مستوى المعيشة، وأن يصل الانتقام منها ومن شعبها إلى هذه الدرجة المؤلمة والباعثة على البكاء الحقيقي وليس المجازي، وسيكون من العار والعبث تجاهل هذه الحال والصمت على ما تعانيه عاصمة العروبة والإسلام في أزهى عصورها وأكثرها تألقاً .
لم أكن أتوقع ولا كان أحد في عالم اليوم يتوقع أن يكون واقع بغداد على هذه الدرجة من السوء في مستوى الحياة المعيشية . وأن تكون بغداد لا غيرها من عواصم العالم الفقيرة هي التي تصنف في آخر القائمة، ومهما كان الرأي في مثل هذه الاستطلاعات فإنها دليل ومؤشر صارخ على ما وصل إليه حال تلك المدينة بعد الغزو الأمريكي وما رافقه وتبعه من قتل ونهب وسلب وتدمير، والأسوأ من كل ذلك تحطيم قيم الأخوة والتعايش .
وأعود بالذهن إلى بداية القرن العشرين، وكيف توحّد أبناء الرافدين في وجه الاحتلال الأجنبي وكان العراق أول قطر عربي تحرر من الاستعمار واستعاد استقلاله الوطني . ماذا حدث له الآن بل ماذا حدث لبقية الأقطار العربية في هذه المرحلة العاصفة، وفي الوقت الذي تسير فيه شعوب العالم إلى التوحد والارتقاء والرفاه تتراجع أقطارنا عن وثوبها وتعود إلى ما لم تعرفه حتى في أسوأ سنوات ماضيها تخلفاً وانحطاطاً . وما يضاعف القلق أن حكماء الأمة وعقلاءها يتوارون عن الظهور تحت وطأة اليأس من ناحية، وتحت وطأة الخوف من الفراغ الروحي والعقلاني الذي يسيطر على الواقع ويفترس الأحلام والتطلعات الجادة والخالصة لوجه الله والأوطان .
*التجديد
دعوني - في البدء - أبكي بغداد عاصمة الرشيد والمأمون والمعتصم، أبكي تاريخها وأمجادها وإبداعها، وأبكي نهرها الحزين ومساجدها وقبابها، وشوارعها المسكونة بالخوف، وأبناءها المحكومين بالمفاجآت .
دعوني أبكها بمناسبة هذا الاستطلاع الدولي الذي تم إعلانه قبل أيام عن مستوى المعيشة في عواصم العالم، وكيف أن الاستطلاع أثبت أن ’’فيينا’’ عاصمة النمسا هي الأولى في الرفاهية وفي المستوى الأعلى للمعيشة، بينما جاءت بغداد في آخر القائمة كأسوأ وأدنى عاصمة تعاني البؤس وسوء المعيشة . ألا تستحق بغداد البكاء وأن نذرف الدموع على راهنها المفزع ومجدها الآفل، وما كانت تمثله للوطن العربي والعالم الإسلامي بوصفها منارة تاريخية حكمت العالم القديم، وكانت مصدراً للإبداع والرخاء ومدرسة للعلوم والحضارة بأوسع معانيها؟ وحين نبكي بغداد فإننا نبكي فيها أنفسنا ونبكي حاضرنا وماضينا، ونقف في حيرة تجاه ما يسمونه بالمستقبل الذي لا نكاد نعرف عن ملامحه المجهولة شيئاً .
عرفت بغداد مرة واحدة في زيارة ضمن وفد رسمي، كان ذلك في عام 1965م، وفي عهد الزعيم الراحل عبدالسلام عارف . وقد أُتيحت لي الفرصة للصلاة في مساجدها والتجول في شوارعها وأسواقها . وحين كنت أنظر إليها من نافذة فندق بغداد الكبير، (وهذا هو اسمه) فقد بدت لي حديقة واسعة شاسعة تتخللها المباني الغارقة في الخضرة، وباستثناء بعض المباني القليلة العالية القريبة من مجرى النهر فإن المعمار الغالب يتمثل في الدور والدورين . كان الأمن - يومئذ - مستتباً والرزق وفيراً، وكانت الصراعات السياسية على أشدها بين القوميين واليساريين ولكنه صراع خفي لا يظهر منه على السطح سوى القليل، ولم يكن يمنع حركة الحياة أو يوقف عجلة التطور على الصعيدين الاقتصادي والثقافي، وكل شيء يوحي بالأمل كما كانت الإمكانات المادية التي تتطور بسرعة البرق تمكِّن هذا البلد العربي من بناء نفسه والانتقال السريع إلى مستوى الدول المتقدمة .
يالبغداد ذلك السهل المنبسط الأخضر الجميل . وكيف يقبل أهلها وأشقاؤها أن تتحول إلى عاصمة للبؤس وتدني مستوى المعيشة، وأن يصل الانتقام منها ومن شعبها إلى هذه الدرجة المؤلمة والباعثة على البكاء الحقيقي وليس المجازي، وسيكون من العار والعبث تجاهل هذه الحال والصمت على ما تعانيه عاصمة العروبة والإسلام في أزهى عصورها وأكثرها تألقاً .
لم أكن أتوقع ولا كان أحد في عالم اليوم يتوقع أن يكون واقع بغداد على هذه الدرجة من السوء في مستوى الحياة المعيشية . وأن تكون بغداد لا غيرها من عواصم العالم الفقيرة هي التي تصنف في آخر القائمة، ومهما كان الرأي في مثل هذه الاستطلاعات فإنها دليل ومؤشر صارخ على ما وصل إليه حال تلك المدينة بعد الغزو الأمريكي وما رافقه وتبعه من قتل ونهب وسلب وتدمير، والأسوأ من كل ذلك تحطيم قيم الأخوة والتعايش .
وأعود بالذهن إلى بداية القرن العشرين، وكيف توحّد أبناء الرافدين في وجه الاحتلال الأجنبي وكان العراق أول قطر عربي تحرر من الاستعمار واستعاد استقلاله الوطني . ماذا حدث له الآن بل ماذا حدث لبقية الأقطار العربية في هذه المرحلة العاصفة، وفي الوقت الذي تسير فيه شعوب العالم إلى التوحد والارتقاء والرفاه تتراجع أقطارنا عن وثوبها وتعود إلى ما لم تعرفه حتى في أسوأ سنوات ماضيها تخلفاً وانحطاطاً . وما يضاعف القلق أن حكماء الأمة وعقلاءها يتوارون عن الظهور تحت وطأة اليأس من ناحية، وتحت وطأة الخوف من الفراغ الروحي والعقلاني الذي يسيطر على الواقع ويفترس الأحلام والتطلعات الجادة والخالصة لوجه الله والأوطان .
*التجديد