عبدالفتاح البتول
ترجمة:
الشيخ مقْبل بن هادِي بنِ مقْبِلِ بنِ قائِدة (اسم رجل) الهمْداني الوادعِي رحمه الله، هو أحد علماء السلفية باليمن وأحد رواد الحديث، قام بالدعوة السلفية في اليمن، وأنشأ مدرسة علمية سلفية بدماج سماها بدار الحديث يفد إليها الطلاب من أنحاء اليمن، ومن بلدان أخرى، وتخرّج على يديه شيوخ أنشئوا مدارس في عدد من مناطق اليمن.
ولد في قرية دماج التابعة لمحافظة صعدة باليمن، ولم يؤرخ ميلاده على وجه التحديد ؛ لكونه نشأ في بيئة أمِّية، ولكن يعتقد أنه في حدود عام 1351ه، وقد نشأ يتيماً لأب، وهو من قبيلة وادعة من همْدان.
ويقول الشيخ رحمه الله عن نفسه:«أنا مقبل بن هادي بن مقبل بن قائدة الهمداني الوادعي الخلالي، من قبيلة آل راشد. وشيباتنا يقولون: إن وادعة من بكيل، وادعة في بلاد شتي من البلاد اليمنية، وأكبرها فيما أعلم الساكنون بلواء صعدة، فهم يسكنون بدماج شرقي صعدة، وبصحوة في أعلى دماج تحت جبل براش، وبالدرب، وآل حجاج، والطلول بين شرقي صعدة وجنوبها، وبشمال صعدة الزور، وآل نائل، وآل رطاس، والرزامات في وادي نشور».
ويضيف قائلا: «وإني أحمد الله، فغالب وادعة الذين هم بجوار صعدة يدافع عني وعن الدعوة، بعضهم بدافع الدين، وبعضهم بدافع التعصب القبلي، ولولا الله ثم هم لما أبقى لنا أعداء الدعوة، خصوصاً شيعة صعدة، عيناً ولا أثراً.
وكان الشيخ مقبل -رحمه الله- منذ بداية شبابه محباً للعلم والعلماء ؛ لأجل ذلك وفد إلى جامع الهادي في صعدة، وأخذ يدرس اللغة والنحو، ولكنه نفر من دراسة المذهب الزيدي ؛ لأنه وجد فيه انحراف المعتزلة وغلو الشيعة، رغم أنه ولد ونشأ في بيئة زيدية شيعية، وأخذ وتتلمذ على العلامة والمرجع الزيدي مجد الدين المؤيدي، إلا أنه مال إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح.
ويقول الشيخ عن تلك الفترة:«كنت محباً لطلب العلم، وطلبت العلم في (جامع الهادي) فلم أساعد على طلب العلم، وبعد زمن اغتربت إلى أرض الحرمين ونجد، فكنت أسمع الواعظين ويعجبني وعظهم، فاستنصحت بعض الواعظين ما هي الكتب المفيدة حتى أشتريها؟ فأرشدني إلى (صحيح البخاري)، و(بلوغ المرام)، و(رياض الصالحين)، و(فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)، وكنت حارساً في عمارة في الحجون بمكة، فعكفت على تلك الكتب، وكانت تعلق بالذهن لأن العمل في بلدنا على خلاف ما فيها، خصوصاً (فتح المجيد).
وبعد مدة من الزمن رجعت إلى بلدي أنكر كل ما رأيته يخالف ما في تلك الكتب من الذبح لغير الله، وبناء القباب على الأموات، ونداء الأموات، فبلغ الشيعة ذلك، فأنكروا ما أنا عليه، فقائل منهم يقول: من بدل دينه فاقتلوه، والآخر يرسل إلى أقربائي ويقول: إن لم تمنعوه فسنسجنه، وبعد ذلك قرروا أن يدخلوني (جامع الهادي) من أجل الدراسة عندهم لإزالة الشبهات التي قد علقت بقلبي، وبعد ذلك دخلت للدراسة عندهم في جامع الهادي، ومدير الدراسة القاضي (مطهر حنش)، فدرست في (العقد الثمين)، وفي (الثلاثين المسألة وشرحها) لحابس، ومن الذين درسونا فيها (محمد بن حسن المتميز) وكنا في مسألة الرؤية، فصار يسخر من ابن خزيمة وغيره من أئمة أهل السنة، وأنا أكتم عقيدتي، إلا أني ضعفت عن وضع اليد اليمني على اليسرى في الصلاة وأرسلت يدي، ودرسنا في (متن الأزهار) إلى النكاح مفهوماً ومنطوقاً، وفي شرح الفرائض كتاب ضخم فوق مستوانا فلم أستفد منه.
فلما رأيت الكتب المدرّسة غير مفيدة حاشا النحو فإني درست عندهم (الآجرومية) و(قطر الندى)، ثم طلبت من القاضي (قاسم بن يحيي شويل) أن يدرسني في (بلوغ المرام) وبدأنا فيه، وأنكر علينا ذلك ثم تركنا، فلما رأيت أن الكتب المقررة شيعية معتزلية قررت الإقبال على النحو فدرست (قطر الندى) مراراً على (إسماعيل حطبة) رحمه الله في المسجد الذي أسكن ويصلي فيه، وكان يهتم بنا غاية الاهتمام، وفي ذات مرة أتى إلى المسجد (محمد بن حورية) فنصحته أن يترك التنجيم، فنصحهم أن يطردوني من الدراسة، فشفعوا لي عنده وسكت، وكان يمر بنا بعض الشيعة ونحن ندرس في (القطر) ويقول: «قبيلي صبن غرارة» بمعنى أن التعليم لا يؤثر فيّ، وأنا أسكت وأستفيد في النحو» انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
وفي هذا الكلام مسائل مهمة ينبغي التوقف عندها والإشارة إليها ؛ فإن الشيعة الزيدية لما رأوا الشيخ ينكر عليهم بعض البدع والمنكرات، قال قائل منهم اقتلوه، وقال الآخر اسجنوه، وقال أعدلهم اذهبوا به للدراسة بجامع الهادي غصباً إكراهاً، بهدف غسل دماغه من كتب السنة وإزالة الشبهات من رأسه حسب اعتقادهم، ومع أنه درس بعض كتبهم، مثل: (الأزهار، والعقد الثمين، و الثلاثين مسألة) ؛ إلا أن كتب السنة والحديث والأخذ بالدليل قد شعشع في قلبه وأنار الله به بصيرته، وهذا من فضل الله ورحمته ومشيئته. فهذا الشاب المحب للعلم، والذي أردوا أن يزيلوا الشبهات من رأسه، أصبح علما من أعلام السنة، وأسس في عقر دارهم منارة من منارات العلم، وجامعة من جامعات الحديث، ولم يكن الشيخ مقبل أول ولا آخر عالم خرج من ضيق المذهب الزيدي إلى سعة الاتباع للنبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقد سبقه إلى ذلك عدد كبير من أئمة اليمن الأعلام، منهم: ابن الوزير، والمقبلي، والصنعاني، والشوكاني.. وغيرهم، وفي صعدة معقل المذهب، ومنطلق الدولة الزيدية، ظهر ضياء السنة، وارتفع لواؤها بفضل الله، ثم الشيخ وجهوده.
والمسألة الثانية التي تتطلب الوقوف عندها قول الشيخ كما سبق ذكره: «يمر بنا بعض الشيعة ونحن ندرس في (القطر) ويقول: «قبيلي صبن غرارة» بمعنى أن التعليم لا يؤثر فيّ وأنا أسكت!! وحسب ما ذهب إليه الزميل نبيل البكيري ؛ فإن «ملاحظة الوادعي لذلك الازدراء من قبل علماء الزيدية الهاشميين له ولأمثاله من أبناء القبائل، لم يكن مجرد صدفة، بل كانت هي التطبيق الطبيعي لنظرية البطنين الجينية الثيوقراطية الصارمة، التي تعلي من شأن سلالة بعينها على حساب الآخرين، في تعارض صارخ مع أبسط حقوق الإنسان، كالمساواة وتكريم الإنسان بعمله لا بنسبه، ولكنه أثناء فترة تعلمه كان ينظر إليه كقبيلي بدوي لا يصلح للعلم كغيره من أبناء القبائل اليمنية ؛ كون العلم كالحكم -بحسب نظرية الهادي- لا يصلح له سوى الهاشميين السادة فقط».
والحاصل أن الشيخ بعد ذلك هاجر للسعودية للعمل والدراسة، وهناك أخذ العلم على كبار العلماء، وواضب على حلقات العلم في المساجد، ثم التحق في دراسته الجامعية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وهناك انتظم في دراسته بكلية الدعوة وأصول الدين وانتسب إلى كلية الشريعة، فحصل على شهادتين، وعقب الحصول على البكالوريوس من الكلّيتين في 1394ه و1395ه -على التوالي- سجل في الدراسات العليا، وأنهى تحقيق كتابي (الإلزامات والتتبع) للدارقطني ليحصل على درجة الماجستير بجدارة.
وقد عاد الشيخ مقبل إلى اليمن على إثر حادثة الحرم عام 1400ه ؛ ليستقر في دماج، وينطلق بدعوته السنية إلى آفاق اليمن، مشعلا جذوة من الحركة العلمية والدعوة السلفية التي لم تقف حيث وقف الشيخ في اجتهاده، وإنما أخذت بالمنهج السني الذي نبه إليه الشيخ والفهم السلفي الذي صدر منه في دعوته.
وفي دماج أسس الشيخ (دار الحديث) لتكون مركزا ومنطلقا لدعوته، وهناك بدأ استقباله للراغبين في طلب العلم، وانتشر صيتها في أنحاء اليمن، حيث درس الشيخ فيها العقيدة والفقه والحديث واللغة، وكانت الدراسة تعقد في المسجد كما جرت به العادة، مع توفير السكن والغذاء للطلاب، وبلغ الإقبال إليها من الدول العربية، ومؤخرا من الدول الإسلامية والغربية عموما.
ومنذ البداية ظهر حقد الشيعة وعدواتهم للدعوة السلفية السنية، وأول أعمالهم العدوانية أنهم منعوا وصول مكتبة الشيخ إلى مركز دماج، بحجة أنها كتب (وهابية) وقد أخذ الأمر قدر كبير من الإشكال والأخذ والرد، حتى وصل الموضوع إلى رئيس الجمهورية السابق علي عبدالله صالح، وتدخل بعض مشايخ القبائل، ومنهم: الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، والشيخ هزاع ضبعان، ومنهم القاضي يحيى الفسيل، والشيخ عائض بن علي مسمار، والشيخ قائد مجلي ؛ وفي الأخير تم تسلّم الشيخ المكتبة.
ويحدثنا الشيخ رحمه الله عن حادثة حصلت له قائلا: «طلبني مسؤول، فدخل معي إليه (حسين بن قائد مجلي) فتكلم على الشيعة، وشرح له أننا ندعو إلى الكتاب والسنة، وأن الشيعة حسدونا على ذلك، ويخافون أن تظهر الحقائق، فقال المسؤول: إن الشيعة سوّدت تاريخ اليمن، وما دامت دعوتك كذلك فادع ونحن معك».
وقد كانت دعوة الشيخ مقبل موضع ترحيب عدد كبير من قبائل صعدة، وفتحت قلوبها لدعوته ولطلابه الذين كانوا يخرجون للمحاضرات والخطب والدعوة، في رازح و خولان عامر و كنى أو المهاذر أو بني عوير أو غير ذلك من مناطق سحار وهمدان ووائلة.
ولم يبق على التعصب المذهبي سوى مناطق محدودة، مثل: ضحيان ورحبان والطلح، وبعض مناطق ساقين في خولان عامر. ولا شك أن مثل هذا التحول والانتشار للسنة في منطقة صعدة التي تعد قلعة الزيدية الهادوية ومنطلقها في اليمن، قد أثار ذلك حفيظة علماء الزيدية، وخاصة المتعصبين منهم ممن تأثر بزخم الثورة الإيرانية الخمينية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، غير أن التعايش السلمي ظل هو السائد بين الجميع كما هو الحال في بقية مناطق اليمن.
الشيخ مقبل ومعاركه الفكرية مع علماء الزيدية:
لقد دخل الشيخ مقبل في معارك فكرية وعلمية مع بعض علماء الزيدية، وعلى رأسهم العلامة بدر الدين الحوثي، فكتب الشيخ عدداً من الكتب والرسائل منتقدا عقائد الشيعة وانحرافات الزيدية، ومن ذلك كتاب (رياض الجنة في الرد على أعداء السنة)، و(الطليعة في الرد على غلاة الشيعة) وغيرها، يقول الشيخ عن هذه الكتب إنها: «قرّت بها أعين أهل السنة، وتنافسوا بحمد الله في اقتنائها، وقد أحدثت ضجة بين القبائل، أما المخرّفون فلا تسأل عن غيظهم، وما أكثر الدعايات التي بثوها بين القبائل ؛ فتارة يقولون يسبّ علي بن أبي طالب، وأخرى يسبّ أهل البيت.. والله يعلم أني ما ألّفت هذه الرسائل للمراء والجدل، ولكن ألّفتها لبيان الحق، وما ضرني بعد هذا أن يقولوا أنني كذاب ’’سيعْلمون غدًا منِ الْكذاب الْأشِر’’».
وعن تلك الكتب يقول بدر الدين الحوثي في كتابه (تحرير الأفكار): «لمّا سمعت الفرقة الناجية والعصابة الهادية بما يحاك ضد الحق وأهله، فقام العلماء للإرشاد والتعليم، وجدّ الطلاب في التعلّم وطلب التحقيق، بحركة من الفريقين زائدة على العادة، واهتمام لكشف كيد الأعداء، وذلك لما انتشرت في البلاد كتب المخربين، وظهرت مكائد المفسدين، ومن ذلك كتاب مقبل، المشتمل على ثلاثة كتب: (الرياض، والطليعة، والرسالة) الداعية إلى تخريب قبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».
وكتاب (تحرير الأفكار) ألّفه بدر الدين الحوثي ردا مباشرا على كتب ورسائل الشيخ هادي، وكما يذكر بدر الدين فقد: «كان بعض الإخوان أيدهم الله قد أشار بالإعراض عنه ؛ لأن في الإعراض عنه المعارضة له بنقيض قصده، لأنهم يرون صنيع مقبل غرضه فيه التصنع لدى أسياده، ليبذلوا له الأموال الجزيلة، وترتفع درجته عندهم، ويرون في الإعراض عنه إخمالاً لما جاء به، وتفويتاً لذلك الغرض، أما قيام العلماء ضدّه فهو تشهير به وبما جاء به، وذلك غاية مرامه منهم، لتكون النتيجة ما ينال من المال والجاه عند أسياده، ولكني رأيت الدفع عن الحق أهم من المعارضة المذكورة ؛ لأن في كتابه ما قد يغتر به بعض القاصرين، فتكون المفسدة في ذلك أعظم، فشرعت في الجواب، وبالله التوفيق إلى الصواب».
ثم أخذ بدر الدين بالرد على الشيخ مقبل مسألة مسألة، وبعيدا عن الخطأ والصواب والحق والباطل، فقد جاء رد الحوثي علميا وموثقا وفق معتقداته وقناعاته، مثلما جاء نقد الشيخ مقبل علميا ومدعما بالدليل من الكتاب والسنة واتفاق الأمة، لقد كانت معركة فكرية ومناظرة علمية، صحيح أن الخصومة شديدة والاختلافات كبيرة والتباينات عميقة، إلا أن القضية تبقى محصورة في نطاقها الفكري وإطارها العلمي، معركة الكلمة والرأي، لا معركة الرصاصة والقنص.
والحق أن ما دار بين الرجلين، الوادعي الرمز والحوثي الأب، يحتاج إلى دراسة ونظر وبحث واستقراء، لا يسمح المقام في هذا المقال للتطرق إليها والغوص في ثناياها، لعلّ الله ييسر ويوفق للقيام بذلك في وقت آخر، وبالجملة ومع أن المعركة كانت بين الرجلين بصورة مباشرة، إلا أنها في الأساس معركة أفكار ومعتقدات وعقائد وتيارات ومذاهب.
فالشيخ مقبل يمثل التيار السني السلفي، والحوثي يمثل التيار الشيعي، الوادعي امتداد لابن الوزير وابن الأمير والشوكاني ومدرسة الاجتهاد والتجديد والبحث والدليل، والحوثي امتداد لعبد الله بن حمزة، وأحمد بن سليمان، وابن حريوة السماوي، ومدرسة التمذهب والتعصب والجمود والتقليد. ولا شك أن التعصب والتقليد والتمذهب آفة كبيرة ومرض يصيب الكثير من أهل العلم، ولذلك أسباب عديدة ذكرها الإمام الشوكاني في كتابه (أدب الطلب) ومنها:
- النشوء في بلد متمذهب بمذهب معيّن.
- حب الشرف والمال.
- الجدال والمراء وحب الظّهور.
- حب القرابة والتعصب للأجداد.
- صعوبة الرجوع إلى الحق لقوله بخلافه.
- كون المنافس المتكلم بالحق صغير السن أو الشأن.
وكما يؤكد الإمام الشوكاني فإن «النشوء فِي بلد متمذهب بمذهب معين هو أكْثرها وقوعا وأشدها بلاء أن ينشأ طالب الْعلم في بلد من الْبلدانِ الّتِي قد تمذهب أهلها بِمذهب معين واقْتدوا بعالم مخْصوص، وهذا الدّاء قد طبق في بلاد الْإِسْلام وعم أهلها، وهؤلاءِ الّذين ألّفوا هذِه الْمذاهب قد صاروا يعْتقِدون أنّها هِي الشّرِيعة، وأن ما خرج عنْها خارج عن الدّين مباين لسبيل الْمؤمنِين، فأهل هذا الْمذْهب يعْتقِدون أن الْحق بِأيْدِيهِم، وأن غيرهم على الْخطأ والضلال والبدعة، وأهل الْمذْهب الآخر يقابلونهم بِمثل ذلِك، والسّبب أنهم نشأوا فوجدوا آباءهم وسائِر قراباتهم على ذلِك، وإِذا وجد فيهم من يعرف الْحق فهو لا يسْتطِيع أن ينْطق بذلك مع أخص خواصه وأقرب قرابته فضلا عن غيره، لما يخافه على نفسه أو على ماله أو على جاهه، بِحسب اخْتِلاف الْمقاصِد وتباين العزائم الدِّينِيّة، فيحصل من قصورهم مع تغير فطرهم بِمن أرشدهم إِلى الْبقاء على ما هم عليْهِ، وأنه الْحق وخلافه الْباطِل وسكوت من له فطنة ولدينه عرفان وعِنْده إنصاف عن تعليمهم معالم الْإِنْصاف وهدايتهم إِلى طرق الحق ما يوجب جمودهم على ما هم عليْهِ، واعتقادهم أن الْحق مقْصور عليْهِ منحصر فِيهِ، وأن غيره ليْس من الدّين ولا هو من الْحق، فإِذا سمع عالما من الْعلماء يفْتي بِخِلافِهِ أو يعْمل على ما لا يوافقه اعْتقد أنه من أهل الضلال ومن الدعاة إِلى الْبِدْعة، وهذا إِذا عجز عن إِنْزال الضّرر بِهِ بِيدِهِ أو لِسانه، فإِن تمكّن من ذلِك فعله معْتقدًا أنه من أعظم ما يتقرّب بِهِ إِلى الله».
وما حكاه الشوكاني هو واقع الحال الذي عاشه وخبره بنفسه من يكالب المتعصبين والمقلدين عليه وإيذائه، كما فعلوا مع من سبقه من العلماء المجتهدين والأئمة المجددين ومن جاء بعده، ممن خلعوا ربقة التقليد والتمذهب، ونبذوا الجمود والتعصب، وانطلقوا في آفاق الاجتهاد والتجديد، ولم يستسلموا للبيئة والنشأة في جغرافية المذهب وجمود الأفكار.
ونحسب الشيخ مقبل بن هادي الوادعي من هؤلاء، وهذا لا يعني أن الرجل معصوم من الخطاء أو محصن من النقد والرد عليه، فقد كان له وعليه ولكننا في هذا المقام لا نبحث في حسناته وسيئاته، وإنما نتحدث عن جهده واجتهاده في مقارعته للتعصب المذهبي وموقفه من التشيع الزيدي الهادوي، والذي استمر عليه حتى وفاته رحمه الله.
واستمر طلابه وتلاميذه على نفس المنهج والموقف من انحرافات الشيعة وغلاة الزيدية، ومع بروز الحركة الحوثية والتمرد على الدولة واندلاع المواجهات المسلحة، إلا أن طلاب العلم في مركز دماج ظلوا على منهجهم العلمي في التعامل مع المخالف والموقف من التشيع، ولم ينخرطوا في أي عمل مسلح أو مارسوا العنف أو استخدموا القوة، مع قربهم الجغرافي من مسرح المواجهات وميدان المعركة، وأخذوا مبدأ الحياد، وواصلوا مسيرتهم العلمية كالمعتاد، لدرجة أنهم لم يتنبهوا أن الدور سيأتي عليهم، وأن الحوثين يتربصون بهم الدوائر.
ولا شك أن هذا من غفلة الصالحين، وسوء التدبير والتقدير، وقلة الوعي بالأحداث والمستجدات، وغياب فقه الأولويات وغيرها من العوامل والأسباب، فلم يستيقظوا إلا على أصوات الرصاص ووحشية العدوان الذي شنته عصابات الإجرام على مركز دماج أواخر عام 2011م، ومع أنه لا مقارنة بين الطرفين، من حيث القوة والعدة والعتاد والتسليح ؛ فقد استطاع أهالي دماج بفضل الله صدّ العدوان والدفاع عن أنفسهم، وقام رجال القبائل وشباب الدعوة والصادقون والشرفاء، بواجب النصرة، وتشكيل جبهة كتاف، والزحف نحو صعدة لفك الحصار عن دماج، وإحداث توازن في القوة.
وحسب موقع مأرب برس ؛ فقد تزامن مع ذلك صمت مطبق من قبل السلطات، وتقاعس عن القيام بواجباتها في حماية المواطنين وإيقاف المعتدين، فضلًا عن ردعهم ومحاسبتهم، بل تجاوزت السلطات ذلك إلى تمويل جماعة الحوثي - حسب اتهامات من أطراف عدة، أفادتها تقارير صحفية وإعلامية، نشرت في حينه.
ونتيجة صمت الحكومة تحالفت عدد من القبائل اليمنية لنصرة السلفيين، وكان من أهم القبائل المنضوية في هذا التحالف: وائلة، ذو حسين، آل جعيد، عبيدة، بني عوير، سحار، حاشد، مراد، بني ضبيان.
وبحسب الإحصائيات والمصادر الخاصة فإن المعارك التي دامت – في جبهة كتاف - ثلاثة أشهر، قد كبدت تلك القبائل قرابة 70 قتيلًا، ونحو 200 جريح و8 مفقودين، إضافة إلى خسائر في المعدات.
وقد شكلت القبائل، وعلى رأسها قبيلة وائلة، حلفا للنصرة، إنه حلف الفضول الجديد، ومعسكر الحق المبين، وجبهة الدفاع عن الدين والنفس والعرض والمال، إنها ظاهرة فريدة، وتجربة رائدة في توحد وتكاتف وتعاون أهل الحق والخير والنصرة.
لقد كان تشكيل حلف يجمع القبائل اليمنية من أهل السنة والنصرة واجباً شرعياً وواقعياً لمواجهة العدوان الحوثي النازي، وقد جاء حصار دماج والعدوان الذي وقع عليها سبباً لإقامة هذا الحلف وتأسيس هذه الجبهة، وهذا الحلف ليس له دوافع حزبية أو سياسية أو مذهبية أو سلالية أو مناطقية، وإنما يهدف -حسب ما ورد في بنوده إلى قيام الموقعين على وثيقة الحلف- إلى المناصرة في حال وقع ظلم واعتداء من الحوثي، وأن يتعاون أبناء الحلف بتأمين طرق تواجدهم، وأن يتوصلوا إلى هدنة بين أبناء قبائل الحلف، ويعتبر هذا الحلف عهداً لله بين أبنائه الموقعين عليه، وأن بنوده قابلة للتعديل والإضافة.
وقد كان موقف قبائل الحلف واضحاً وصريحاً وحاسماً وشجاعاً ؛ فقد كان موقفهم قائما على أسس وبنود، ومن أهمها وأبرزها: إن كان الحوثي يريد أن يعيش مواطناً كسائر المواطنين في جميع المحافظات، فنحن مستعدون للتحاور والتعايش معه، وأن يعودوا مواطنين مثلهم مثل غيرهم، لهم من الحقوق مثل ما عليهم من الواجبات، فإن هم استجابوا لذلك ولن يفعلوا دخل الناس في صلح وتصالحٍ وأدى ذلك إلى التعايش.
وبعد أن أدركهم الغرق وشعروا بالهزيمة والانكسار طلب الحوثيون الوساطة والصلح، كعمل تكتيكي، وهذه هي عادة الشرذمة الحوثية عندما تجد نفسها في هزائم متلاحقة، وتضييق للخناق ويدركهم الغرق، يطلبون الوساطة لأجل الاستعداد لمواجهة قادمة ومعركة أخرى.
وبالفعل فقد جاء العدوان الثاني على دماج أواخر 2013م أكثر وحشية ودموية لدرجة الإبادة الجماعية، والحق أن ما حدث ويحدث في منطقة دماج من حصار ظالم وعدوان غاشم يشكل لحظة تاريخية فارقة في مسيرة هذه الفرقة الضالة والمجاميع المضللة. إن الحوثيين ماتوقفوا يوماً واحداً عن التخريب والقتل والتوسع والانتشار والتقطع والاستفزاز، والهدم والتخريب والإثارة والفتنة، حاربوا وقاتلوا الدولة والمجتمع والأحزاب والجماعات، ونسي الحوثيون وأنصارهم والمتعاطفون معهم أن الحق لا يسقط بالتقادم، وأن الباطل لا يترسخ بالقوة العسكرية والإعلامية والمناورات السياسية والتسريبات والشائعات والأكاذيب والأباطيل، وإن ما يردده الحوثيون عن أنهم يستهدفون دماج بسبب وجود (أجانب) لا يعد أن يكون كذباً وتضليلاً ودجلاً وتزييفاً.
وهم يعرفون أننا نعرف أن السبب والعامل الحقيقي وراء هذه الاعتداءات الغاشمة والحرب الظالمة على دماج المسالمة، هو سبب طائفي وعامل مذهبي، يتمثل بوجود مركز سني بحجم مركز دماج في محافظة زيدية كما يزعمون، وهذا الأمر لم يعد سرا وليس جديدا ولا غريبا على جماعة أقامت كيانها من البداية على أساس طائفي ومذهبي وعنصري وسلالي، والذي لا يعرفه الكثير من الناس أن عدداً من كبار علماء الزيدية كانوا قد طالبوا قبل عدة سنوات بإخراج مركز دماج من محافظة صعدة باعتبارها محافظه زيدية !!
ففي شهر فبراير 2007م، أصدر مجموعة من علماء الزيدية بياناً وقع عليه عدد من علماء الزيدية، وعلى رأسهم العلامة محمد بن محمد المنصور، والعلامة حمود بن عباس المؤيد، والعلامة علي بن محمد الشامي، والعلامة إبراهيم بن محمد الوزير، والعلامة المرتضى بن زيد المحطوري، طرحوا فيه ما قالوا أنها مقترحات لإنهاء ملف صعدة والحرب التي كانت دائرة بين الحوثيين والدولة، وجاء البيان في تسعة عشر بنداً ونقطة، ومنها ما يلي:
- المطالبة بسحب وتغيير القادة العسكريين المنتمين للتيار السلفي.
- سحب جميع الخطباء السلفيين.
- سحب مركز دماج السلفي من المحافظة باعتبارها زيدية، ووجود المركز استفزاز ومحاربة للمذهب الزيدي.
- منع نشر جميع الكتب السلفية في المناطق الزيدية!!.
فتأملوا معي في هذه المطالب والمقترحات التي تحمل نفساً طائفياً مقيتاً وتوجهاً مذهبياً بغيضاً في غاية العصبية والتعصب. يريدون (سحب) وتأملوا كلمة (سحب) التي تكررت في الرسالة كثيرا: سحب القادة العسكريين، الذين لا يرضون عنهم ولم يقفوا معهم، واتهامهم بالانتماء للتيار السلفي.. وهم يقصدون طبعاً الانتماء للمذهب السني ؛ لأنه لا يوجد قادة عسكريون سلفيون، وبالتالي فالقصد هو سحب وإخراج وطرد كل القادة العسكريين والمدنيين الذين ليسوا زيدية ولا يدينون بالولاء والطاعة للحوثيين.
إنها ثقافة الإقصاء والإلغاء للآخر والمخالف مذهبيا وفكريا (سحب الخطباء السلفيين)، (سحب مركز دماج السلفي)، (منع جميع الكتب السلفية)... وهذا الخطاب الإقصائي لم يأتِ من قادة التمرد الحوثي في صعدة، وإنما جاء على لسان علماء الزيدية في صنعاء، وفي ذلك معانٍ كثيرةٌ ودلالاتٌ خطيرة لا تخفى على لبيب ولا متابع رشيد!!
وقد تم تنفيذ البنود المتعلقة بسحب القادة العسكريين، وطرد القادة المدنيين، وعلى رأسهم محافظ المحافظة المعيّن من الدولة طه هاجر، وتعيّن محافظ من قبل الحوثي، تم اختياره بعناية، باعتباره يدين بالولاء والطاعة، بعدها أصبحت صعدة تحت سيطرة الطغمة، ومغلقة على هذه المجاميع المسلحة والحركة المتمردة، ولم يبق إلا مركز دماج شوكة في حلوقهم وغصة في نفوسهم.
فكان لا بد من «سحب مركز دماج السلفي من المحافظة، باعتبارها زيدية، ووجود المركز استفزاز ومحاربة للمذهب الزيدي»!! حسب ما جاء في مذكرة وبيان علماء الزيدية بالحرف والنص، فوجود هذا المركز السني يعتبر استفزاز ومحاربة للمذهب الزيدي، وتأملوا جيدا وانظروا مليا في صياغة العبارة (وجود المركز ليس فقط استفزاز وإنما محاربة أيضا)، ولمن؟! ليس للحوثيين فحسب وإنما للمذهب الزيدي!!
وأختتم هذه السطور –للمرة الثانية- بقول الشيخ مقبل رحمه الله: «وإني أحمد الله، فغالب وادعة الذين هم بجوار صعدة يدافع عني وعن الدعوة، بعضهم بدافع الدين، وبعضهم بدافع التعصب القبلي، ولولا الله ثم هم لما أبقى لنا أعداء الدعوة، خصوصاً شيعة صعدة، عيناً ولا أثراً».
*نشوان نيوز
ترجمة:
الشيخ مقْبل بن هادِي بنِ مقْبِلِ بنِ قائِدة (اسم رجل) الهمْداني الوادعِي رحمه الله، هو أحد علماء السلفية باليمن وأحد رواد الحديث، قام بالدعوة السلفية في اليمن، وأنشأ مدرسة علمية سلفية بدماج سماها بدار الحديث يفد إليها الطلاب من أنحاء اليمن، ومن بلدان أخرى، وتخرّج على يديه شيوخ أنشئوا مدارس في عدد من مناطق اليمن.
ولد في قرية دماج التابعة لمحافظة صعدة باليمن، ولم يؤرخ ميلاده على وجه التحديد ؛ لكونه نشأ في بيئة أمِّية، ولكن يعتقد أنه في حدود عام 1351ه، وقد نشأ يتيماً لأب، وهو من قبيلة وادعة من همْدان.
ويقول الشيخ رحمه الله عن نفسه:«أنا مقبل بن هادي بن مقبل بن قائدة الهمداني الوادعي الخلالي، من قبيلة آل راشد. وشيباتنا يقولون: إن وادعة من بكيل، وادعة في بلاد شتي من البلاد اليمنية، وأكبرها فيما أعلم الساكنون بلواء صعدة، فهم يسكنون بدماج شرقي صعدة، وبصحوة في أعلى دماج تحت جبل براش، وبالدرب، وآل حجاج، والطلول بين شرقي صعدة وجنوبها، وبشمال صعدة الزور، وآل نائل، وآل رطاس، والرزامات في وادي نشور».
ويضيف قائلا: «وإني أحمد الله، فغالب وادعة الذين هم بجوار صعدة يدافع عني وعن الدعوة، بعضهم بدافع الدين، وبعضهم بدافع التعصب القبلي، ولولا الله ثم هم لما أبقى لنا أعداء الدعوة، خصوصاً شيعة صعدة، عيناً ولا أثراً.
وكان الشيخ مقبل -رحمه الله- منذ بداية شبابه محباً للعلم والعلماء ؛ لأجل ذلك وفد إلى جامع الهادي في صعدة، وأخذ يدرس اللغة والنحو، ولكنه نفر من دراسة المذهب الزيدي ؛ لأنه وجد فيه انحراف المعتزلة وغلو الشيعة، رغم أنه ولد ونشأ في بيئة زيدية شيعية، وأخذ وتتلمذ على العلامة والمرجع الزيدي مجد الدين المؤيدي، إلا أنه مال إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح.
ويقول الشيخ عن تلك الفترة:«كنت محباً لطلب العلم، وطلبت العلم في (جامع الهادي) فلم أساعد على طلب العلم، وبعد زمن اغتربت إلى أرض الحرمين ونجد، فكنت أسمع الواعظين ويعجبني وعظهم، فاستنصحت بعض الواعظين ما هي الكتب المفيدة حتى أشتريها؟ فأرشدني إلى (صحيح البخاري)، و(بلوغ المرام)، و(رياض الصالحين)، و(فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)، وكنت حارساً في عمارة في الحجون بمكة، فعكفت على تلك الكتب، وكانت تعلق بالذهن لأن العمل في بلدنا على خلاف ما فيها، خصوصاً (فتح المجيد).
وبعد مدة من الزمن رجعت إلى بلدي أنكر كل ما رأيته يخالف ما في تلك الكتب من الذبح لغير الله، وبناء القباب على الأموات، ونداء الأموات، فبلغ الشيعة ذلك، فأنكروا ما أنا عليه، فقائل منهم يقول: من بدل دينه فاقتلوه، والآخر يرسل إلى أقربائي ويقول: إن لم تمنعوه فسنسجنه، وبعد ذلك قرروا أن يدخلوني (جامع الهادي) من أجل الدراسة عندهم لإزالة الشبهات التي قد علقت بقلبي، وبعد ذلك دخلت للدراسة عندهم في جامع الهادي، ومدير الدراسة القاضي (مطهر حنش)، فدرست في (العقد الثمين)، وفي (الثلاثين المسألة وشرحها) لحابس، ومن الذين درسونا فيها (محمد بن حسن المتميز) وكنا في مسألة الرؤية، فصار يسخر من ابن خزيمة وغيره من أئمة أهل السنة، وأنا أكتم عقيدتي، إلا أني ضعفت عن وضع اليد اليمني على اليسرى في الصلاة وأرسلت يدي، ودرسنا في (متن الأزهار) إلى النكاح مفهوماً ومنطوقاً، وفي شرح الفرائض كتاب ضخم فوق مستوانا فلم أستفد منه.
فلما رأيت الكتب المدرّسة غير مفيدة حاشا النحو فإني درست عندهم (الآجرومية) و(قطر الندى)، ثم طلبت من القاضي (قاسم بن يحيي شويل) أن يدرسني في (بلوغ المرام) وبدأنا فيه، وأنكر علينا ذلك ثم تركنا، فلما رأيت أن الكتب المقررة شيعية معتزلية قررت الإقبال على النحو فدرست (قطر الندى) مراراً على (إسماعيل حطبة) رحمه الله في المسجد الذي أسكن ويصلي فيه، وكان يهتم بنا غاية الاهتمام، وفي ذات مرة أتى إلى المسجد (محمد بن حورية) فنصحته أن يترك التنجيم، فنصحهم أن يطردوني من الدراسة، فشفعوا لي عنده وسكت، وكان يمر بنا بعض الشيعة ونحن ندرس في (القطر) ويقول: «قبيلي صبن غرارة» بمعنى أن التعليم لا يؤثر فيّ، وأنا أسكت وأستفيد في النحو» انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
وفي هذا الكلام مسائل مهمة ينبغي التوقف عندها والإشارة إليها ؛ فإن الشيعة الزيدية لما رأوا الشيخ ينكر عليهم بعض البدع والمنكرات، قال قائل منهم اقتلوه، وقال الآخر اسجنوه، وقال أعدلهم اذهبوا به للدراسة بجامع الهادي غصباً إكراهاً، بهدف غسل دماغه من كتب السنة وإزالة الشبهات من رأسه حسب اعتقادهم، ومع أنه درس بعض كتبهم، مثل: (الأزهار، والعقد الثمين، و الثلاثين مسألة) ؛ إلا أن كتب السنة والحديث والأخذ بالدليل قد شعشع في قلبه وأنار الله به بصيرته، وهذا من فضل الله ورحمته ومشيئته. فهذا الشاب المحب للعلم، والذي أردوا أن يزيلوا الشبهات من رأسه، أصبح علما من أعلام السنة، وأسس في عقر دارهم منارة من منارات العلم، وجامعة من جامعات الحديث، ولم يكن الشيخ مقبل أول ولا آخر عالم خرج من ضيق المذهب الزيدي إلى سعة الاتباع للنبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقد سبقه إلى ذلك عدد كبير من أئمة اليمن الأعلام، منهم: ابن الوزير، والمقبلي، والصنعاني، والشوكاني.. وغيرهم، وفي صعدة معقل المذهب، ومنطلق الدولة الزيدية، ظهر ضياء السنة، وارتفع لواؤها بفضل الله، ثم الشيخ وجهوده.
والمسألة الثانية التي تتطلب الوقوف عندها قول الشيخ كما سبق ذكره: «يمر بنا بعض الشيعة ونحن ندرس في (القطر) ويقول: «قبيلي صبن غرارة» بمعنى أن التعليم لا يؤثر فيّ وأنا أسكت!! وحسب ما ذهب إليه الزميل نبيل البكيري ؛ فإن «ملاحظة الوادعي لذلك الازدراء من قبل علماء الزيدية الهاشميين له ولأمثاله من أبناء القبائل، لم يكن مجرد صدفة، بل كانت هي التطبيق الطبيعي لنظرية البطنين الجينية الثيوقراطية الصارمة، التي تعلي من شأن سلالة بعينها على حساب الآخرين، في تعارض صارخ مع أبسط حقوق الإنسان، كالمساواة وتكريم الإنسان بعمله لا بنسبه، ولكنه أثناء فترة تعلمه كان ينظر إليه كقبيلي بدوي لا يصلح للعلم كغيره من أبناء القبائل اليمنية ؛ كون العلم كالحكم -بحسب نظرية الهادي- لا يصلح له سوى الهاشميين السادة فقط».
والحاصل أن الشيخ بعد ذلك هاجر للسعودية للعمل والدراسة، وهناك أخذ العلم على كبار العلماء، وواضب على حلقات العلم في المساجد، ثم التحق في دراسته الجامعية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وهناك انتظم في دراسته بكلية الدعوة وأصول الدين وانتسب إلى كلية الشريعة، فحصل على شهادتين، وعقب الحصول على البكالوريوس من الكلّيتين في 1394ه و1395ه -على التوالي- سجل في الدراسات العليا، وأنهى تحقيق كتابي (الإلزامات والتتبع) للدارقطني ليحصل على درجة الماجستير بجدارة.
وقد عاد الشيخ مقبل إلى اليمن على إثر حادثة الحرم عام 1400ه ؛ ليستقر في دماج، وينطلق بدعوته السنية إلى آفاق اليمن، مشعلا جذوة من الحركة العلمية والدعوة السلفية التي لم تقف حيث وقف الشيخ في اجتهاده، وإنما أخذت بالمنهج السني الذي نبه إليه الشيخ والفهم السلفي الذي صدر منه في دعوته.
وفي دماج أسس الشيخ (دار الحديث) لتكون مركزا ومنطلقا لدعوته، وهناك بدأ استقباله للراغبين في طلب العلم، وانتشر صيتها في أنحاء اليمن، حيث درس الشيخ فيها العقيدة والفقه والحديث واللغة، وكانت الدراسة تعقد في المسجد كما جرت به العادة، مع توفير السكن والغذاء للطلاب، وبلغ الإقبال إليها من الدول العربية، ومؤخرا من الدول الإسلامية والغربية عموما.
ومنذ البداية ظهر حقد الشيعة وعدواتهم للدعوة السلفية السنية، وأول أعمالهم العدوانية أنهم منعوا وصول مكتبة الشيخ إلى مركز دماج، بحجة أنها كتب (وهابية) وقد أخذ الأمر قدر كبير من الإشكال والأخذ والرد، حتى وصل الموضوع إلى رئيس الجمهورية السابق علي عبدالله صالح، وتدخل بعض مشايخ القبائل، ومنهم: الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، والشيخ هزاع ضبعان، ومنهم القاضي يحيى الفسيل، والشيخ عائض بن علي مسمار، والشيخ قائد مجلي ؛ وفي الأخير تم تسلّم الشيخ المكتبة.
ويحدثنا الشيخ رحمه الله عن حادثة حصلت له قائلا: «طلبني مسؤول، فدخل معي إليه (حسين بن قائد مجلي) فتكلم على الشيعة، وشرح له أننا ندعو إلى الكتاب والسنة، وأن الشيعة حسدونا على ذلك، ويخافون أن تظهر الحقائق، فقال المسؤول: إن الشيعة سوّدت تاريخ اليمن، وما دامت دعوتك كذلك فادع ونحن معك».
وقد كانت دعوة الشيخ مقبل موضع ترحيب عدد كبير من قبائل صعدة، وفتحت قلوبها لدعوته ولطلابه الذين كانوا يخرجون للمحاضرات والخطب والدعوة، في رازح و خولان عامر و كنى أو المهاذر أو بني عوير أو غير ذلك من مناطق سحار وهمدان ووائلة.
ولم يبق على التعصب المذهبي سوى مناطق محدودة، مثل: ضحيان ورحبان والطلح، وبعض مناطق ساقين في خولان عامر. ولا شك أن مثل هذا التحول والانتشار للسنة في منطقة صعدة التي تعد قلعة الزيدية الهادوية ومنطلقها في اليمن، قد أثار ذلك حفيظة علماء الزيدية، وخاصة المتعصبين منهم ممن تأثر بزخم الثورة الإيرانية الخمينية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، غير أن التعايش السلمي ظل هو السائد بين الجميع كما هو الحال في بقية مناطق اليمن.
الشيخ مقبل ومعاركه الفكرية مع علماء الزيدية:
لقد دخل الشيخ مقبل في معارك فكرية وعلمية مع بعض علماء الزيدية، وعلى رأسهم العلامة بدر الدين الحوثي، فكتب الشيخ عدداً من الكتب والرسائل منتقدا عقائد الشيعة وانحرافات الزيدية، ومن ذلك كتاب (رياض الجنة في الرد على أعداء السنة)، و(الطليعة في الرد على غلاة الشيعة) وغيرها، يقول الشيخ عن هذه الكتب إنها: «قرّت بها أعين أهل السنة، وتنافسوا بحمد الله في اقتنائها، وقد أحدثت ضجة بين القبائل، أما المخرّفون فلا تسأل عن غيظهم، وما أكثر الدعايات التي بثوها بين القبائل ؛ فتارة يقولون يسبّ علي بن أبي طالب، وأخرى يسبّ أهل البيت.. والله يعلم أني ما ألّفت هذه الرسائل للمراء والجدل، ولكن ألّفتها لبيان الحق، وما ضرني بعد هذا أن يقولوا أنني كذاب ’’سيعْلمون غدًا منِ الْكذاب الْأشِر’’».
وعن تلك الكتب يقول بدر الدين الحوثي في كتابه (تحرير الأفكار): «لمّا سمعت الفرقة الناجية والعصابة الهادية بما يحاك ضد الحق وأهله، فقام العلماء للإرشاد والتعليم، وجدّ الطلاب في التعلّم وطلب التحقيق، بحركة من الفريقين زائدة على العادة، واهتمام لكشف كيد الأعداء، وذلك لما انتشرت في البلاد كتب المخربين، وظهرت مكائد المفسدين، ومن ذلك كتاب مقبل، المشتمل على ثلاثة كتب: (الرياض، والطليعة، والرسالة) الداعية إلى تخريب قبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».
وكتاب (تحرير الأفكار) ألّفه بدر الدين الحوثي ردا مباشرا على كتب ورسائل الشيخ هادي، وكما يذكر بدر الدين فقد: «كان بعض الإخوان أيدهم الله قد أشار بالإعراض عنه ؛ لأن في الإعراض عنه المعارضة له بنقيض قصده، لأنهم يرون صنيع مقبل غرضه فيه التصنع لدى أسياده، ليبذلوا له الأموال الجزيلة، وترتفع درجته عندهم، ويرون في الإعراض عنه إخمالاً لما جاء به، وتفويتاً لذلك الغرض، أما قيام العلماء ضدّه فهو تشهير به وبما جاء به، وذلك غاية مرامه منهم، لتكون النتيجة ما ينال من المال والجاه عند أسياده، ولكني رأيت الدفع عن الحق أهم من المعارضة المذكورة ؛ لأن في كتابه ما قد يغتر به بعض القاصرين، فتكون المفسدة في ذلك أعظم، فشرعت في الجواب، وبالله التوفيق إلى الصواب».
ثم أخذ بدر الدين بالرد على الشيخ مقبل مسألة مسألة، وبعيدا عن الخطأ والصواب والحق والباطل، فقد جاء رد الحوثي علميا وموثقا وفق معتقداته وقناعاته، مثلما جاء نقد الشيخ مقبل علميا ومدعما بالدليل من الكتاب والسنة واتفاق الأمة، لقد كانت معركة فكرية ومناظرة علمية، صحيح أن الخصومة شديدة والاختلافات كبيرة والتباينات عميقة، إلا أن القضية تبقى محصورة في نطاقها الفكري وإطارها العلمي، معركة الكلمة والرأي، لا معركة الرصاصة والقنص.
والحق أن ما دار بين الرجلين، الوادعي الرمز والحوثي الأب، يحتاج إلى دراسة ونظر وبحث واستقراء، لا يسمح المقام في هذا المقال للتطرق إليها والغوص في ثناياها، لعلّ الله ييسر ويوفق للقيام بذلك في وقت آخر، وبالجملة ومع أن المعركة كانت بين الرجلين بصورة مباشرة، إلا أنها في الأساس معركة أفكار ومعتقدات وعقائد وتيارات ومذاهب.
فالشيخ مقبل يمثل التيار السني السلفي، والحوثي يمثل التيار الشيعي، الوادعي امتداد لابن الوزير وابن الأمير والشوكاني ومدرسة الاجتهاد والتجديد والبحث والدليل، والحوثي امتداد لعبد الله بن حمزة، وأحمد بن سليمان، وابن حريوة السماوي، ومدرسة التمذهب والتعصب والجمود والتقليد. ولا شك أن التعصب والتقليد والتمذهب آفة كبيرة ومرض يصيب الكثير من أهل العلم، ولذلك أسباب عديدة ذكرها الإمام الشوكاني في كتابه (أدب الطلب) ومنها:
- النشوء في بلد متمذهب بمذهب معيّن.
- حب الشرف والمال.
- الجدال والمراء وحب الظّهور.
- حب القرابة والتعصب للأجداد.
- صعوبة الرجوع إلى الحق لقوله بخلافه.
- كون المنافس المتكلم بالحق صغير السن أو الشأن.
وكما يؤكد الإمام الشوكاني فإن «النشوء فِي بلد متمذهب بمذهب معين هو أكْثرها وقوعا وأشدها بلاء أن ينشأ طالب الْعلم في بلد من الْبلدانِ الّتِي قد تمذهب أهلها بِمذهب معين واقْتدوا بعالم مخْصوص، وهذا الدّاء قد طبق في بلاد الْإِسْلام وعم أهلها، وهؤلاءِ الّذين ألّفوا هذِه الْمذاهب قد صاروا يعْتقِدون أنّها هِي الشّرِيعة، وأن ما خرج عنْها خارج عن الدّين مباين لسبيل الْمؤمنِين، فأهل هذا الْمذْهب يعْتقِدون أن الْحق بِأيْدِيهِم، وأن غيرهم على الْخطأ والضلال والبدعة، وأهل الْمذْهب الآخر يقابلونهم بِمثل ذلِك، والسّبب أنهم نشأوا فوجدوا آباءهم وسائِر قراباتهم على ذلِك، وإِذا وجد فيهم من يعرف الْحق فهو لا يسْتطِيع أن ينْطق بذلك مع أخص خواصه وأقرب قرابته فضلا عن غيره، لما يخافه على نفسه أو على ماله أو على جاهه، بِحسب اخْتِلاف الْمقاصِد وتباين العزائم الدِّينِيّة، فيحصل من قصورهم مع تغير فطرهم بِمن أرشدهم إِلى الْبقاء على ما هم عليْهِ، وأنه الْحق وخلافه الْباطِل وسكوت من له فطنة ولدينه عرفان وعِنْده إنصاف عن تعليمهم معالم الْإِنْصاف وهدايتهم إِلى طرق الحق ما يوجب جمودهم على ما هم عليْهِ، واعتقادهم أن الْحق مقْصور عليْهِ منحصر فِيهِ، وأن غيره ليْس من الدّين ولا هو من الْحق، فإِذا سمع عالما من الْعلماء يفْتي بِخِلافِهِ أو يعْمل على ما لا يوافقه اعْتقد أنه من أهل الضلال ومن الدعاة إِلى الْبِدْعة، وهذا إِذا عجز عن إِنْزال الضّرر بِهِ بِيدِهِ أو لِسانه، فإِن تمكّن من ذلِك فعله معْتقدًا أنه من أعظم ما يتقرّب بِهِ إِلى الله».
وما حكاه الشوكاني هو واقع الحال الذي عاشه وخبره بنفسه من يكالب المتعصبين والمقلدين عليه وإيذائه، كما فعلوا مع من سبقه من العلماء المجتهدين والأئمة المجددين ومن جاء بعده، ممن خلعوا ربقة التقليد والتمذهب، ونبذوا الجمود والتعصب، وانطلقوا في آفاق الاجتهاد والتجديد، ولم يستسلموا للبيئة والنشأة في جغرافية المذهب وجمود الأفكار.
ونحسب الشيخ مقبل بن هادي الوادعي من هؤلاء، وهذا لا يعني أن الرجل معصوم من الخطاء أو محصن من النقد والرد عليه، فقد كان له وعليه ولكننا في هذا المقام لا نبحث في حسناته وسيئاته، وإنما نتحدث عن جهده واجتهاده في مقارعته للتعصب المذهبي وموقفه من التشيع الزيدي الهادوي، والذي استمر عليه حتى وفاته رحمه الله.
واستمر طلابه وتلاميذه على نفس المنهج والموقف من انحرافات الشيعة وغلاة الزيدية، ومع بروز الحركة الحوثية والتمرد على الدولة واندلاع المواجهات المسلحة، إلا أن طلاب العلم في مركز دماج ظلوا على منهجهم العلمي في التعامل مع المخالف والموقف من التشيع، ولم ينخرطوا في أي عمل مسلح أو مارسوا العنف أو استخدموا القوة، مع قربهم الجغرافي من مسرح المواجهات وميدان المعركة، وأخذوا مبدأ الحياد، وواصلوا مسيرتهم العلمية كالمعتاد، لدرجة أنهم لم يتنبهوا أن الدور سيأتي عليهم، وأن الحوثين يتربصون بهم الدوائر.
ولا شك أن هذا من غفلة الصالحين، وسوء التدبير والتقدير، وقلة الوعي بالأحداث والمستجدات، وغياب فقه الأولويات وغيرها من العوامل والأسباب، فلم يستيقظوا إلا على أصوات الرصاص ووحشية العدوان الذي شنته عصابات الإجرام على مركز دماج أواخر عام 2011م، ومع أنه لا مقارنة بين الطرفين، من حيث القوة والعدة والعتاد والتسليح ؛ فقد استطاع أهالي دماج بفضل الله صدّ العدوان والدفاع عن أنفسهم، وقام رجال القبائل وشباب الدعوة والصادقون والشرفاء، بواجب النصرة، وتشكيل جبهة كتاف، والزحف نحو صعدة لفك الحصار عن دماج، وإحداث توازن في القوة.
وحسب موقع مأرب برس ؛ فقد تزامن مع ذلك صمت مطبق من قبل السلطات، وتقاعس عن القيام بواجباتها في حماية المواطنين وإيقاف المعتدين، فضلًا عن ردعهم ومحاسبتهم، بل تجاوزت السلطات ذلك إلى تمويل جماعة الحوثي - حسب اتهامات من أطراف عدة، أفادتها تقارير صحفية وإعلامية، نشرت في حينه.
ونتيجة صمت الحكومة تحالفت عدد من القبائل اليمنية لنصرة السلفيين، وكان من أهم القبائل المنضوية في هذا التحالف: وائلة، ذو حسين، آل جعيد، عبيدة، بني عوير، سحار، حاشد، مراد، بني ضبيان.
وبحسب الإحصائيات والمصادر الخاصة فإن المعارك التي دامت – في جبهة كتاف - ثلاثة أشهر، قد كبدت تلك القبائل قرابة 70 قتيلًا، ونحو 200 جريح و8 مفقودين، إضافة إلى خسائر في المعدات.
وقد شكلت القبائل، وعلى رأسها قبيلة وائلة، حلفا للنصرة، إنه حلف الفضول الجديد، ومعسكر الحق المبين، وجبهة الدفاع عن الدين والنفس والعرض والمال، إنها ظاهرة فريدة، وتجربة رائدة في توحد وتكاتف وتعاون أهل الحق والخير والنصرة.
لقد كان تشكيل حلف يجمع القبائل اليمنية من أهل السنة والنصرة واجباً شرعياً وواقعياً لمواجهة العدوان الحوثي النازي، وقد جاء حصار دماج والعدوان الذي وقع عليها سبباً لإقامة هذا الحلف وتأسيس هذه الجبهة، وهذا الحلف ليس له دوافع حزبية أو سياسية أو مذهبية أو سلالية أو مناطقية، وإنما يهدف -حسب ما ورد في بنوده إلى قيام الموقعين على وثيقة الحلف- إلى المناصرة في حال وقع ظلم واعتداء من الحوثي، وأن يتعاون أبناء الحلف بتأمين طرق تواجدهم، وأن يتوصلوا إلى هدنة بين أبناء قبائل الحلف، ويعتبر هذا الحلف عهداً لله بين أبنائه الموقعين عليه، وأن بنوده قابلة للتعديل والإضافة.
وقد كان موقف قبائل الحلف واضحاً وصريحاً وحاسماً وشجاعاً ؛ فقد كان موقفهم قائما على أسس وبنود، ومن أهمها وأبرزها: إن كان الحوثي يريد أن يعيش مواطناً كسائر المواطنين في جميع المحافظات، فنحن مستعدون للتحاور والتعايش معه، وأن يعودوا مواطنين مثلهم مثل غيرهم، لهم من الحقوق مثل ما عليهم من الواجبات، فإن هم استجابوا لذلك ولن يفعلوا دخل الناس في صلح وتصالحٍ وأدى ذلك إلى التعايش.
وبعد أن أدركهم الغرق وشعروا بالهزيمة والانكسار طلب الحوثيون الوساطة والصلح، كعمل تكتيكي، وهذه هي عادة الشرذمة الحوثية عندما تجد نفسها في هزائم متلاحقة، وتضييق للخناق ويدركهم الغرق، يطلبون الوساطة لأجل الاستعداد لمواجهة قادمة ومعركة أخرى.
وبالفعل فقد جاء العدوان الثاني على دماج أواخر 2013م أكثر وحشية ودموية لدرجة الإبادة الجماعية، والحق أن ما حدث ويحدث في منطقة دماج من حصار ظالم وعدوان غاشم يشكل لحظة تاريخية فارقة في مسيرة هذه الفرقة الضالة والمجاميع المضللة. إن الحوثيين ماتوقفوا يوماً واحداً عن التخريب والقتل والتوسع والانتشار والتقطع والاستفزاز، والهدم والتخريب والإثارة والفتنة، حاربوا وقاتلوا الدولة والمجتمع والأحزاب والجماعات، ونسي الحوثيون وأنصارهم والمتعاطفون معهم أن الحق لا يسقط بالتقادم، وأن الباطل لا يترسخ بالقوة العسكرية والإعلامية والمناورات السياسية والتسريبات والشائعات والأكاذيب والأباطيل، وإن ما يردده الحوثيون عن أنهم يستهدفون دماج بسبب وجود (أجانب) لا يعد أن يكون كذباً وتضليلاً ودجلاً وتزييفاً.
وهم يعرفون أننا نعرف أن السبب والعامل الحقيقي وراء هذه الاعتداءات الغاشمة والحرب الظالمة على دماج المسالمة، هو سبب طائفي وعامل مذهبي، يتمثل بوجود مركز سني بحجم مركز دماج في محافظة زيدية كما يزعمون، وهذا الأمر لم يعد سرا وليس جديدا ولا غريبا على جماعة أقامت كيانها من البداية على أساس طائفي ومذهبي وعنصري وسلالي، والذي لا يعرفه الكثير من الناس أن عدداً من كبار علماء الزيدية كانوا قد طالبوا قبل عدة سنوات بإخراج مركز دماج من محافظة صعدة باعتبارها محافظه زيدية !!
ففي شهر فبراير 2007م، أصدر مجموعة من علماء الزيدية بياناً وقع عليه عدد من علماء الزيدية، وعلى رأسهم العلامة محمد بن محمد المنصور، والعلامة حمود بن عباس المؤيد، والعلامة علي بن محمد الشامي، والعلامة إبراهيم بن محمد الوزير، والعلامة المرتضى بن زيد المحطوري، طرحوا فيه ما قالوا أنها مقترحات لإنهاء ملف صعدة والحرب التي كانت دائرة بين الحوثيين والدولة، وجاء البيان في تسعة عشر بنداً ونقطة، ومنها ما يلي:
- المطالبة بسحب وتغيير القادة العسكريين المنتمين للتيار السلفي.
- سحب جميع الخطباء السلفيين.
- سحب مركز دماج السلفي من المحافظة باعتبارها زيدية، ووجود المركز استفزاز ومحاربة للمذهب الزيدي.
- منع نشر جميع الكتب السلفية في المناطق الزيدية!!.
فتأملوا معي في هذه المطالب والمقترحات التي تحمل نفساً طائفياً مقيتاً وتوجهاً مذهبياً بغيضاً في غاية العصبية والتعصب. يريدون (سحب) وتأملوا كلمة (سحب) التي تكررت في الرسالة كثيرا: سحب القادة العسكريين، الذين لا يرضون عنهم ولم يقفوا معهم، واتهامهم بالانتماء للتيار السلفي.. وهم يقصدون طبعاً الانتماء للمذهب السني ؛ لأنه لا يوجد قادة عسكريون سلفيون، وبالتالي فالقصد هو سحب وإخراج وطرد كل القادة العسكريين والمدنيين الذين ليسوا زيدية ولا يدينون بالولاء والطاعة للحوثيين.
إنها ثقافة الإقصاء والإلغاء للآخر والمخالف مذهبيا وفكريا (سحب الخطباء السلفيين)، (سحب مركز دماج السلفي)، (منع جميع الكتب السلفية)... وهذا الخطاب الإقصائي لم يأتِ من قادة التمرد الحوثي في صعدة، وإنما جاء على لسان علماء الزيدية في صنعاء، وفي ذلك معانٍ كثيرةٌ ودلالاتٌ خطيرة لا تخفى على لبيب ولا متابع رشيد!!
وقد تم تنفيذ البنود المتعلقة بسحب القادة العسكريين، وطرد القادة المدنيين، وعلى رأسهم محافظ المحافظة المعيّن من الدولة طه هاجر، وتعيّن محافظ من قبل الحوثي، تم اختياره بعناية، باعتباره يدين بالولاء والطاعة، بعدها أصبحت صعدة تحت سيطرة الطغمة، ومغلقة على هذه المجاميع المسلحة والحركة المتمردة، ولم يبق إلا مركز دماج شوكة في حلوقهم وغصة في نفوسهم.
فكان لا بد من «سحب مركز دماج السلفي من المحافظة، باعتبارها زيدية، ووجود المركز استفزاز ومحاربة للمذهب الزيدي»!! حسب ما جاء في مذكرة وبيان علماء الزيدية بالحرف والنص، فوجود هذا المركز السني يعتبر استفزاز ومحاربة للمذهب الزيدي، وتأملوا جيدا وانظروا مليا في صياغة العبارة (وجود المركز ليس فقط استفزاز وإنما محاربة أيضا)، ولمن؟! ليس للحوثيين فحسب وإنما للمذهب الزيدي!!
وأختتم هذه السطور –للمرة الثانية- بقول الشيخ مقبل رحمه الله: «وإني أحمد الله، فغالب وادعة الذين هم بجوار صعدة يدافع عني وعن الدعوة، بعضهم بدافع الدين، وبعضهم بدافع التعصب القبلي، ولولا الله ثم هم لما أبقى لنا أعداء الدعوة، خصوصاً شيعة صعدة، عيناً ولا أثراً».
*نشوان نيوز