زين العابدين الركابي
كان مدير الاستخبارات الأميركية الأسبق «روبرت ولسي» قد سجل هذه الملاحظة أو المعلومة عام 1993 وهي أن: «العالم يعود الآن إلى ما كان عليه قبل 1914 عندما أدت المشاعر والأفكار المهتاجة إلى اشتعال الحرب العالمية الأولى».. ولم يك هذا الرجل الممسك بـ«ملف الأمن العالمي» - بحكم وظيفته - لم يك يقصد الردة البشرية التقنية إلى الحقبة التي كان يفصلها عن كلامه نحو قرن من الزمان. فالترقي التقني لا يزال يطرد ويصّاعد، ولم ينتكس قط عبر ذلك المدى. المقصود - إذن - بالردة إلى ما قبل عام 1914 هو كم الأفكار والمفاهيم المضطربة ونوعها.. وتدني المقدرة العقلية.. وسوء السياسات الدولية.. وسيادة «العمى الاستراتيجي» بوجه عام. ولعل المؤرخ الأوروبي الرصين الشهير «هربرت فيشر» خليق بأن ندعه يصور مشهدا من مشاهد تلك الظروف الهائجة المائجة التي سبقت الحرب العالمية الأولى. فقد قال - في كتابه «تاريخ أوروبا في العصر الحديث»: «وكانت تزيد من قوة هذا النداء الفكري الجموح عاطفة بغض وكراهية متبادلة.. فقد كان المجريون مقيتين في أعين الكرواتيين مقتهم في أعين الصربيين. وقد ظهرت أحاسيس الكراهية والبغضاء بين صربيا والمجر في شكل حرب جمركية مشؤومة نشبت بينهما، وكانت هذه الأحاسيس مهيأة لأن تنقلب إعصارا أهوج يعم آفاق السياسة الدولية».
نعم: إن العالم - يومئذ - كان يسرع الخطى نحو «فوضى عالمية» تتغذى بالأفكار الشريرة والمفاهيم المنحرفة، والسياسات العمياء، والمظالم التي لم تعدم من يفلسفها ويقننها.. تضاف إلى ذلك: العنصريات الجموح التي تمجد ذاتها، وتحتقر الآخرين، أيما احتقار.
وإزاء نذر الفوضى هذه، هل كان العالم كله صامتا موافقا وراضيا بما يجري؟.. لا.. بل كانت هناك أصوات راشدة تنبه إلى أن كارثة دولية ستقع هنا أو هناك.. والتنبيه ليس من باب التنجيم والتكهن، وإنما كان بناء على نظرة موضوعية تستقرئ الأحداث والمواقف وتفسدها بجرأة ومنطق وباستقلال حر عن غريزة القطيع.. ولكن اكتنف هذه الأصوات الراشدة أمران سلبيان: القلة والندرة من جهة.. وصم آذان القادة والشعوب عن تلك الأصوات العاقلة النذير من جهة أخرى، فكان ما كان.
وبالانتقال من التاريخ القريب - نسبيا - إلى الواقع الماثل، ينشأ السؤال الكبير: هل يشهد عالمنا البشري اليوم مثل الذي شهده العالم قبيل الحرب العالمية الأولى؟
التطابق في الظروف من كل جانب قول تعروه المبالغة والغلو. فالحقب التاريخية المتعاقبة لا تتطابق في كل شيء.. وبتجريد النظرة من المبالغة: تتضح «ملامح مشتركة» بين ما كان، وما هو كائن، أو في طور التكون والخلق.
مثلا:
1) كانت حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى - وكذلك المدى الزمني الفاصل بين الحربين العالميتين: الأولى والثانية.. كانت تلك الحقبة الزمنية مشحونة بالأفكار الخطرة، والمفاهيم الشريرة. فهل يشهد حاضر البشرية مثل هذه الأفكار والمفاهيم أو يشهد ما هو قريب من نوعها وأثرها؟
إن الناس مشغولون - إلى درجة الغرق - بقضايا معينة مثل: الكساد الاقتصادي.. والتوترات الإقليمية العالمية (الأزمة السورية وتوابعها.. والأزمة الأوكرانية وتداعياتها).. وليس باطلا ولا ترفا أن ينشغل الناس بمثل هذه القضايا الحيوية، بيد أن الخطيئة تكمن في الغفلة الكاملة – تقريبا - عن قضية نحسبها «أم القضايا» وهي قضية «القنابل الفكرية»!! فليس يستخف بخطورة الأفكار إلا مخبول أو مجنون أو سطحي يتلهى بما هو على السطح من دون أن يغوص إلى العمق لكي يعرف ما يحرك الأحداث من أفكار ومفاهيم.
إذا كانت الجريمة – مثلا - هي «الصورة المادية» لهذه الأفكار، فإن هذه الجريمة - أيا كان نوعها - كانت تتخلق – قبلا - وتعيش في عالم «غير مرئي» وهو «عالم الذهن والدماغ والكفر».
ويحسن أن نستعيد ما قاله قبل قليل هربرت فيشر عن تسبب الأفكار والمشاعر المهتاجة في التمهيد للحرب العالمية الأولى. وينبغي أن يستقر في الوعي - العام والخاص - أن هناك رباطا معنويا ووظيفيا بين «الفوضى الفكرية» و«فوضى الأحداث» ومنها الحروب الكبيرة العاصفة.
مثلا:
أ) كانت خميرة الحرب العالمية الثانية «أفكارا» نازية و«أفكارا» فاشية. فقد تحولت هذه الأفكار العنصرية العدوانية إلى استراتيجيات وسياسات أدى تطبيقها إلى الحرب العالمية الثانية.
ب) كانت «الشيوعية الدولية» التي صممت على تغيير العالم بالعنف والقوة «منظومة أفكار» تصر على أن يتكيف العالم كله معها بحسبانها التفسير الأوحد والأصح للتاريخ، وبحسبانها ميزان العدالة المطلقة بين الطبقات البشرية وبين الأمم من ثم.
صحيح: أن الشيوعية – كأفكار - لم تتسبب في نشوب حرب عالمية وذلك لأسباب منها:
أولا: أن ثمة ظروفا تمنع من تلك الحرب. فالرأسمالية العالمية كانت أقوى تسليحا من الاتحاد السوفياتي.. وليس سياسيا محنكا من يغامر بالدخول في حرب، اختلت فيها موازين القوى لغير صالحه.
ثانيا: بناء على هذه الظروف نفسها نشأت الحرب الباردة كبديل للحرب الساخنة، وهي حرب مدمرة أيضا.. ومن صور دمارها أن الاتحاد السوفياتي اضطر لإنفاق أموال هائلة على التسلح وهو إنفاق عطل التنمية المدنية للشعوب السوفياتية مما تسبب في تذمر هائل في نفوس الناس استغلته الدعاية الغربية في تشويه صورة السوفيات في نظر شعوبهم.. ولقد استغل الرئيس الأميركي الأسبق «رونالد ريغان» هذه الظروف فأعلن «حرب النجوم» وذلك لكي يضطر السوفيات إلى دخول هذه الحرب أو الاستعداد لها عبر إنفاقات مالية باهظة تنعكس بالسلب على حياة شعوب الاتحاد السوفياتي.
إن الخشية من وقوع «فوضى عالمية» تجاوزت مرحلة الهمس أو حديث النفس إلى مرحلة المعالنة والمكاشفة.. ومن أوائل الذين أنذروا بإمكان حدوث هذه الفوضى المفكر الاستراتيجي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي في كتابه «عالم خارج السيطرة».. ومن هؤلاء المحذرين الكاتب الأميركي المعروف ويليام باف، فقد قال: «إن الوثيقة الجديدة للأمن الأميركي التي صدرت في 20 سبتمبر (أيلول) 2002 هي إلغاء للنظام العالمي الذي قام على الدولة القومية منذ اتفاقية وستفاليا عام 1649. وحين يلغى النظام العالمي تتهيأ أوسع الفرص لـ(الفوضى العالمية)».
فهل في العالم اليوم عقلاء يفكرون في هذه القضية ويعطونها ما تستحق من وضوح واهتمام وجد؟
كان مدير الاستخبارات الأميركية الأسبق «روبرت ولسي» قد سجل هذه الملاحظة أو المعلومة عام 1993 وهي أن: «العالم يعود الآن إلى ما كان عليه قبل 1914 عندما أدت المشاعر والأفكار المهتاجة إلى اشتعال الحرب العالمية الأولى».. ولم يك هذا الرجل الممسك بـ«ملف الأمن العالمي» - بحكم وظيفته - لم يك يقصد الردة البشرية التقنية إلى الحقبة التي كان يفصلها عن كلامه نحو قرن من الزمان. فالترقي التقني لا يزال يطرد ويصّاعد، ولم ينتكس قط عبر ذلك المدى. المقصود - إذن - بالردة إلى ما قبل عام 1914 هو كم الأفكار والمفاهيم المضطربة ونوعها.. وتدني المقدرة العقلية.. وسوء السياسات الدولية.. وسيادة «العمى الاستراتيجي» بوجه عام. ولعل المؤرخ الأوروبي الرصين الشهير «هربرت فيشر» خليق بأن ندعه يصور مشهدا من مشاهد تلك الظروف الهائجة المائجة التي سبقت الحرب العالمية الأولى. فقد قال - في كتابه «تاريخ أوروبا في العصر الحديث»: «وكانت تزيد من قوة هذا النداء الفكري الجموح عاطفة بغض وكراهية متبادلة.. فقد كان المجريون مقيتين في أعين الكرواتيين مقتهم في أعين الصربيين. وقد ظهرت أحاسيس الكراهية والبغضاء بين صربيا والمجر في شكل حرب جمركية مشؤومة نشبت بينهما، وكانت هذه الأحاسيس مهيأة لأن تنقلب إعصارا أهوج يعم آفاق السياسة الدولية».
نعم: إن العالم - يومئذ - كان يسرع الخطى نحو «فوضى عالمية» تتغذى بالأفكار الشريرة والمفاهيم المنحرفة، والسياسات العمياء، والمظالم التي لم تعدم من يفلسفها ويقننها.. تضاف إلى ذلك: العنصريات الجموح التي تمجد ذاتها، وتحتقر الآخرين، أيما احتقار.
وإزاء نذر الفوضى هذه، هل كان العالم كله صامتا موافقا وراضيا بما يجري؟.. لا.. بل كانت هناك أصوات راشدة تنبه إلى أن كارثة دولية ستقع هنا أو هناك.. والتنبيه ليس من باب التنجيم والتكهن، وإنما كان بناء على نظرة موضوعية تستقرئ الأحداث والمواقف وتفسدها بجرأة ومنطق وباستقلال حر عن غريزة القطيع.. ولكن اكتنف هذه الأصوات الراشدة أمران سلبيان: القلة والندرة من جهة.. وصم آذان القادة والشعوب عن تلك الأصوات العاقلة النذير من جهة أخرى، فكان ما كان.
وبالانتقال من التاريخ القريب - نسبيا - إلى الواقع الماثل، ينشأ السؤال الكبير: هل يشهد عالمنا البشري اليوم مثل الذي شهده العالم قبيل الحرب العالمية الأولى؟
التطابق في الظروف من كل جانب قول تعروه المبالغة والغلو. فالحقب التاريخية المتعاقبة لا تتطابق في كل شيء.. وبتجريد النظرة من المبالغة: تتضح «ملامح مشتركة» بين ما كان، وما هو كائن، أو في طور التكون والخلق.
مثلا:
1) كانت حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى - وكذلك المدى الزمني الفاصل بين الحربين العالميتين: الأولى والثانية.. كانت تلك الحقبة الزمنية مشحونة بالأفكار الخطرة، والمفاهيم الشريرة. فهل يشهد حاضر البشرية مثل هذه الأفكار والمفاهيم أو يشهد ما هو قريب من نوعها وأثرها؟
إن الناس مشغولون - إلى درجة الغرق - بقضايا معينة مثل: الكساد الاقتصادي.. والتوترات الإقليمية العالمية (الأزمة السورية وتوابعها.. والأزمة الأوكرانية وتداعياتها).. وليس باطلا ولا ترفا أن ينشغل الناس بمثل هذه القضايا الحيوية، بيد أن الخطيئة تكمن في الغفلة الكاملة – تقريبا - عن قضية نحسبها «أم القضايا» وهي قضية «القنابل الفكرية»!! فليس يستخف بخطورة الأفكار إلا مخبول أو مجنون أو سطحي يتلهى بما هو على السطح من دون أن يغوص إلى العمق لكي يعرف ما يحرك الأحداث من أفكار ومفاهيم.
إذا كانت الجريمة – مثلا - هي «الصورة المادية» لهذه الأفكار، فإن هذه الجريمة - أيا كان نوعها - كانت تتخلق – قبلا - وتعيش في عالم «غير مرئي» وهو «عالم الذهن والدماغ والكفر».
ويحسن أن نستعيد ما قاله قبل قليل هربرت فيشر عن تسبب الأفكار والمشاعر المهتاجة في التمهيد للحرب العالمية الأولى. وينبغي أن يستقر في الوعي - العام والخاص - أن هناك رباطا معنويا ووظيفيا بين «الفوضى الفكرية» و«فوضى الأحداث» ومنها الحروب الكبيرة العاصفة.
مثلا:
أ) كانت خميرة الحرب العالمية الثانية «أفكارا» نازية و«أفكارا» فاشية. فقد تحولت هذه الأفكار العنصرية العدوانية إلى استراتيجيات وسياسات أدى تطبيقها إلى الحرب العالمية الثانية.
ب) كانت «الشيوعية الدولية» التي صممت على تغيير العالم بالعنف والقوة «منظومة أفكار» تصر على أن يتكيف العالم كله معها بحسبانها التفسير الأوحد والأصح للتاريخ، وبحسبانها ميزان العدالة المطلقة بين الطبقات البشرية وبين الأمم من ثم.
صحيح: أن الشيوعية – كأفكار - لم تتسبب في نشوب حرب عالمية وذلك لأسباب منها:
أولا: أن ثمة ظروفا تمنع من تلك الحرب. فالرأسمالية العالمية كانت أقوى تسليحا من الاتحاد السوفياتي.. وليس سياسيا محنكا من يغامر بالدخول في حرب، اختلت فيها موازين القوى لغير صالحه.
ثانيا: بناء على هذه الظروف نفسها نشأت الحرب الباردة كبديل للحرب الساخنة، وهي حرب مدمرة أيضا.. ومن صور دمارها أن الاتحاد السوفياتي اضطر لإنفاق أموال هائلة على التسلح وهو إنفاق عطل التنمية المدنية للشعوب السوفياتية مما تسبب في تذمر هائل في نفوس الناس استغلته الدعاية الغربية في تشويه صورة السوفيات في نظر شعوبهم.. ولقد استغل الرئيس الأميركي الأسبق «رونالد ريغان» هذه الظروف فأعلن «حرب النجوم» وذلك لكي يضطر السوفيات إلى دخول هذه الحرب أو الاستعداد لها عبر إنفاقات مالية باهظة تنعكس بالسلب على حياة شعوب الاتحاد السوفياتي.
إن الخشية من وقوع «فوضى عالمية» تجاوزت مرحلة الهمس أو حديث النفس إلى مرحلة المعالنة والمكاشفة.. ومن أوائل الذين أنذروا بإمكان حدوث هذه الفوضى المفكر الاستراتيجي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي في كتابه «عالم خارج السيطرة».. ومن هؤلاء المحذرين الكاتب الأميركي المعروف ويليام باف، فقد قال: «إن الوثيقة الجديدة للأمن الأميركي التي صدرت في 20 سبتمبر (أيلول) 2002 هي إلغاء للنظام العالمي الذي قام على الدولة القومية منذ اتفاقية وستفاليا عام 1649. وحين يلغى النظام العالمي تتهيأ أوسع الفرص لـ(الفوضى العالمية)».
فهل في العالم اليوم عقلاء يفكرون في هذه القضية ويعطونها ما تستحق من وضوح واهتمام وجد؟