مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
أيها الدعاة .. شيئاً من العبادة !!
سعد بن عبد الله القعود
تكمن أهمية ودور العبادة في إعداد الداعية إلى الله تربوياً من كونها الغاية الكبرى التي خلق الله الخلق لأجلها، كما قال تعالى:
((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبدُونِ)) ومن هنا فعلى الداعية المسلم أن يدرك ضرورة وعظم أثر الأخذ بوافر الحظ والنصيب من التعبد والتأله والتقرب إلى الله تعالى بشتى أنواع العبادات الظاهرة والباطنة في تزكية وصلاح نفسه، وذلك بإقامة الفرائض كما أمر الله تعالى، والاستكثار من النوافل، والاشتغال بالأذكار والأوراد الشرعية، وكثرة تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، وغير ذلك من أنواع القربات والطاعات المختلفة ، ولهـذا فـقد أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأرشده للإعداد والتزود بزاد الطاعة والتقوى ليستطيع القيام بحمل أعباء الدعوة الثقيلة، فقال -سبحانه-:
((يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)) .
قال صاحب الظلال -رحمه الله- ’’أي: قم.. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك.. قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد.. وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه -صلى اللّه عليه وسلم- من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ، لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.. إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا، ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا !! فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير.. فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟! ، ولقد عرف رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- حقيقة الأمر وقدّره، فقال لخديجة -رضي اللّه عنها- وهي تدعوه أن يطمئن وينام: «مضى عهد النوم يا خديجة»([1])! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق!!..
إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة.. قيام الليل.. وكان هذا الإعداد للقول الثقيل الذي سينزله اللّه عليه..!!
وإن تلقي هذا الفيض من النور والمعرفة واستيعابه، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل..
وإن التعامل مع الحقائق الكونية الكبرى المجردة، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل..
وإن الاتصال بالملأ الأعلى وبروح الوجود وأرواح الخلائق الحية والجامدة على النحو الذي تهيأ لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل..
وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب، ولا تلفت هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات، لثقيل، يحتاج إلى استعداد طويل..
وإن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها والاتصال باللّه، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل.. واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته.. في الليل الساجي.. إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول -صلى اللّه عليه وسلم- وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير..!!’’([2])
وتأمل أخي الداعية أثر إقامة الصلاة في تهذيب النفس وتربيتها في قول الله تعالى:
((اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)).
وكذلك ما أرشد الله به عباده المؤمنين لفريضة الصيام وأثرها في تربية النفس وأن من غاياتها العظمى هو إعداد النفس الإيماني لتقوية الإرادة والصبر ومجاهدة النفس لتصل وتحقق تقوى الله –عز وجل- كما قال تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))
وكذلك المتأمل لعبادة الزكاة ليجد أن لها من اسمها وافر الحظ والنصيب وأنها من أعظم وسائل تزكية وتربية النفس على البذل والعطاء والشفقة والرحمة، وتطهيرها من البخل والشح ودسائس النفس السيئة، ولهذا قال الله -عز وجل-:
((خذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))
وكذلك عبادة الحج إلى بيت الله الحرام والتي تعتبر من أهم وسائل التربية والتدريب العملي على امتثال أوامر الله -عزَّ وجلَّ-، وإعداد النفس وتربيتها على القدرة على جهاد النفس وتحمُّل المشــاق، قال تعالى:
((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ))
وإن من أعظم العبادات التي تعين في إعداد الداعية تربوياً لزوم ذكر الله –عز وجل- ’’منشورِ الولاية، الذي من أعطية اتصل، ومن منعه عُزل، وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجسام لها قبوراً، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بوراً، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منه القلوب’’([3]) والذي هو من أكبر مقاصد تشريع العبادات كما قال تعالى:
((وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)) ، وقد حث الله –تعالى- عبادة المؤمنين على ذكره ذكراً كثيرا، في كل وقت وعلى كل حال، كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)) وكما قال تعالى عن عباده الصالحين:
((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))
لما يعلم سبحانه ما لذكره –تعالى- من تأثير في قرب العبد لربه وأنسه به ومدى تأثيره في تربية وتزكية نفس العبد الضعيف، يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- عن أهمية ملازمة ذكر الله –تعالى- ومدى تأثيره في قوة العبد المسكين وتزكية نفسه:
’’إنه –أي: ذكر الله- يورث حياة القلب وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله تعالى روحه- يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟.. وهو قوت القلب والروح فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي أو كلاما قريبا من هذا وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر أو كلاما هذا معناه..’’([4]).
فاللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) لم أجد له أصلا، ولعله من أسلوب المؤلف الأدبي -رحمه الله- حكاه بلسان الحال .

([2]) في ظلال القرآن، لسيد قطب، دار الشروق – بيروت، ط:11 1405 هـ - 1985م 6/ 3745.

([3]) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية ت: محمد حامد الفقي دار الكتاب العربي – بيروت ط:2، 1393 – 1973 2/ 423.

([4]) الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي - بيروت، ط: 1 1405– 1985 1/63.
*ينابيع
أضافة تعليق