مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
التعايش مع الآخر حقيقة تاريخية وضرورة واقعية
محمد الحسن الددو

خلق الله الإنسان وسخر له الكون ليكون خليفة الله في الأرض ، قال الله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.. }
ومن قديم الزمان انقسم بنو الإنسان إلى مؤمن وكافر وبر وفاجر، ولم يمنع ذلك من عيشهم على هذا الكوكب ؛ بل وتعاونهم في شؤونهم اليومية في غير أوقات الحروب والنزاعات .
وبحكم الاختلاف الحتمي والطبيعي بين الناس فليس أمامهم من خيار غير التعاون في المتفق فيه الذي يفترض أن يتوصل إليه بواسطة حوار بناء أطرافه متكافئة ومتسامحة وبهذا يمكن التعايش بين الناس وإن اختلفت عقائدهم وتعددت مشاربهم وتباينت أهدافهم وبغيره يقع ما لا تحمد عقباه من تنافر وتناحر يقطع الأرحام ويهلك الحرث والنسل ويأتي على الأخضر واليابس ومحاولة لبيان هذا الموضوع أكثر أورد النقاط التالية :

المحور الأول: من نحن ومن الآخر ؟

أما المقصود بعبارة ( نحن ) فهم من عنتهم الآية الكريمة { يأيها الذين امنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واعتصموا بالله هو موليكم فنعم المولى ونعم النصير}
وأي فرد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وعمل بمقتضى ذلك ، داخل في هذا التعريف ، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم آخر نبي وآخر رسول وكانت أمته آخر أمة أنزل إليها وحي من الله – لما كان ذلك كذلك – اقتضت حكمة الله أن تكون هذه الأمة متميزة عن غيرها من الأمم وهذا التميز شامل لمناحي الحياة ، عقدية واقتصادية وسياسية واجتماعية .
إذ ليس مقبولا شرعا ولا مستساغا عقلا أن تكون آخر أمة أخرجت للناس لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله تابعة لأمة أخرى مهما علا شأنها قال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }
أما الآخر فنعني به من لا يعتقد عقيدتنا ولا يؤمن بديننا وهذا التعريف يشمل أتباع الديانات السماوية السابقة يهودا ومسيحيين كما يشمل من يدينون بديانات أخرى ، ومن لا يدينون بشيء مع استحضار واستدراك المكانة الخاصة لأهل الكتاب لدى المسلمين والفروق بين الفريقين (المسلمين وغيرهم)؛ عديدة لكنها لا تصل إلى التضاد والتناقض المطلق، ولا تمنع التعايش ولذا لزم البحث عن أرضية مشتركة يمكن أن يقف عليها الفريقان ليعيشا في سلام وأمان ويعملا لتعمير الأرض وسعادة الإنسان …

المحور الثاني: أرضية التعايش

لا يخفى على دارس تعدد وتنوع واختلاف عقائد وعادات وتقاليد البشرية ، فلكل قوم ملتهم ومذهبهم ونظرتهم إلى الكون وإلى الحياة وهذا التنوع الذي قد أوجد هذا الاختلاف يمكن فهمه والتعايش معه إذا وجد الجميع أرضية صلبة يقفون عليها يرتضونها جميعا .
وللوصول إلى تلك الأرضية أقترح ما يلي :
‌أ. أن ينطلق الجميع من حقيقة لا جدال فيها وهي أن الناس لا يمكن أن يكونوا نسخة مكررة لأن الله لم يفطرهم على ذلك بل جعل الاختلاف سنة فيهم قال تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ...}الآية 118 و 119 من سورة هود ، أي لو شاء الله لجعل الناس كلهم مؤمنين مهتدين على ملة الإسلام ولكنه لم يفعل ذلك لحكمة.
( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) أي ولا يزالون مختلفين على أديان شتى وملل متعددة ما بين يهودي ونصراني ومجوسي إلا ناسا هداهم الله من فضله وهم أهل الحق ( ولذلك خلقهم ) اللام لام العاقبة أي خلقهم لتكون العاقبة اختلافهم مابين شقي وسعيد ، قال الطبري : المعنى للاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم ..
‌ب. احترام المعتقدات والمبادئ الأساسية لكل طرف :
وهذه مسألة بالغة الأهمية ولها أثرها الطيب على العلاقات بين الأمم والمجتمعات فلكل أمة عقيدة أو مبادئ تقدسها وتلتزم بها وتعتبرها أسمى من غيرها ويدخل في هذا أركان الإيمان عند المسلمين ، من إيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره .. ولغير المسلمين ما يقدسونه ويحتفون به من آلهة يعبدونها ، أو مبادئ يعتزون بها .. ومبدأ الاحترام مبدأ قرآني أصيل دل عليه قوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ..} الآية 108 من سورة الأنعام .
أي لا تسبوا آلهة المشركين وأصنامهم فيسبوا الله جهلا واعتداء لعدم معرفتهم بعظمة الله ، قال ابن عباس : قال المشركون لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم .
ومعاملة أي من الطرفين للآخر بعدم احترام وخاصة في هذا الجانب لها آثار مأساوية ، وأنصع مثال على ذلك ما اقترفته الصحيفة الدانمركية ورساميها من تعريض وسخرية بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو المكر الشنيع الذي أوقد نارا لا تزال مشتعلة ، وقد أتى حريقها على الأرواح والأموال ... وسبب هذا المنكر الشنيع شرخا يصعب تجاوزه بين المسلمين والغرب مالم يبادر الغرب إلى الاعتذار وتشريع ما يحول دون فعل مماثل .
‌ج. العمل على إرساء مبدأ التعاون والتشارك بدل الاستعمار والاستغلال والقهر ..
وفي هذا السياق على الغرب أن يقنع أن ثروات المسلمين وبقية العالم الثالث ليست ملكا للغرب ينهبها مباشرة أو عن طريق أعوان يصنعهم على عينه ويتعاهد هم بحمايته ورعايته بل هي ملك للشعوب التي جعلها الله في أرضها وخصها بها ... وليس خافيا أن نهب الدول الغربية لثروات الغير في الماضي والحاضر سبب مجاعات وكوارث لا حصر لها .
‌د. احترام المبادئ الإنسانية المشتركة كالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان :
فهذه قيم إنسانية سامية إن لم تتخذ مطية للإساءة إلى الغير والتهجم عليه بحجة حرية التعبير ... ويؤخذ على الغرب ترسيخه لهذه القيم في دوله وتشجيعه للاستبداد والظلم في الدول الأخرى ، وخاصة في بلاد المسلمين وهو أمر له ضرره البين على الجانبين .
هـ. احترام إرادة الشعوب في الاختيار :
اختيارها لدساتيرها وقوانينها ... ومن يحكمها ولا مجال لوصاية أمة على أخرى فكما لا تقبل الدول الأوربية مثلا أن تحكم بشريعة الإسلام ، عليها أن لا تحاول فرض نموذجها العلماني الليبرالي على المسلمين وما الضجة الكبرى التي أعقبت الفوز الساحق لحركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) في فلسطين وما رافقها من تهديد ووعيد إلا دليل صارخ على النفاق والأنانية وحتى العنصرية المتنامية في الدول الغربية .. وقد آن الأوان لاعتراف الرجل الأبيض أنه ليس وحده القاطن في هذا الكوكب .. وليس وحده المؤهل للتفكير والتنظير والتنفيذ أصالة عن نفسه ونيابة عن غيره، فتلك مرحلة في طريقها إلى الانتهاء بعد عودة المسلمين إلى أصالتهم وحضارتهم وبزوغ نجم الصين والهند كدولتين تزداد قوتهما البشرية والاقتصادية.. ليستمر التدافع والتوازن الذي إذا اختفى اختفت الحياة ، قال تعالى:
{ ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }
‌و. إعادة النظر في المؤسسات الدولية القائمة :
كالأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة من مجلس أمن .. إلخ لأن النظام الذي تقوم عليه يخدم الأقوى ولا مصلحة فيه للضعيف ، والعلاقة بين البشر لا يمكن أن تكون قائمة على ذلك ، وقد باتت المؤسسات الدولية تابعة لدولة واحدة هي الولايات المتحدة تغزو بها من تشاء ، وتحاصر من تريد ، وتكافئ من يدور في فلكها .. وهو أمر أفقد المؤسسات الدولية مصداقيتها ومبرر وجودها .
‌ز. وضع أسس جديدة للاقتصاد العالمي :
بخلاف ما هو قائم من سيطرة البنك وصندوق النقد الدوليين على مقدرات الشعوب المختلفة لتسخيرها لخدمة دول بعينها هي أمريكا وأوروبا ولو هلك بقية الخلق عن بكرة أبيهم .. ولابد أن تكون الأسس الجديدة مبنية على ما يخدم مصلحة الجميع وأن تتيح للأمم المختلفة إبراز مبادئها وخصوصياتها ، وفي هذا السياق ليس من حق النافذين في العالم العربي أن يفرضوا على المسلمين التعامل بالربا ... وهو في دينهم من أعظم المحرمات قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ... } الآية
وفي الصحيحين : «اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا وما هي يا رسول الله ، قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
‌ح. إتاحة فرص التطور التكنولوجي والاقتصادي والسياسي .. أمام كل الأمم :
فالسياسة الحالية التي يحتكر فيها الغرب الصناعي إبراز العلوم والتقنيات ، والسعي الحثيث بوضع القواعد الصارمة لحرمان المسلمين خاصة من التكنولوجيا المتقدمة .. تنكر لأيادي المسلمين البيضاء وأنانية وعنصرية يتحتم التخلي عنها واستبدالها بنشر أسرار العلوم التجريبية لتعم فائدتها الجميع .
‌ط. معالجة الأزمات الكبرى : بعدالة تزيل أو تقلل الشعور بالظلم والمهانة السائد بين المسلمين بسبب سلب أرضهم وانتهاك عرضهم ونهب ثرواتهم واستهداف مقدساتهم ... والأمثلة على هذا أوضح من الشمس في رابعة النهار:
ففلسطين مغتصبة والأقصى مدنس والعراق تسيل الدماء فيه كالأنهار وأفغانستان مستباحة والشيشان مستلبة ... والاستمرار في هذا الطريق لا يترك للمسلمين إلا خيارا واحدا هو خيار الجهاد والمقاومة قال تعالى : { ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ..... } .
‌ي. أن لا تكون التكتلات الكبرى حكرا على غير المسلمين
فالولايات المتحد موحدة ، والاتحاد الأوروبي مجتمع ، والصين تجمع شملها ... أما المسلمون فيفرض عليهم التشرذم والتفرق والتجزؤ .... لإبقائهم ضعافا مفككين عاجزين .... رغم أن دينهم لا يقرهم على ذلك ولا يقبله منهم قال تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } .

المحور الثالث: فوائد التعاون

التعايش والتفاهم والتعاون بين الأمم المختلفة أمر تحتاجه الإنسانية حاجة ماسة ، وقد شرع الإسلام التسامح وأمر بالعدل والرحمة والبر بين البشرية ، قال تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } الآية 8 من الممتحنة .
وقال : { إن الله يأمر بالعدل ولإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي }
وقد ضرب المسلمون طيلة تاريخهم أنصع مثال على حسن معاملة غيرهم فلم يفعلوا ما فعلته أوروبا باليهود ، كما لم يقتر فوا الأسبان بالمسلمين .
وامتدت معاملة المسلمين الحسنة لغير المسلمين قرونا عديدة ولا تزال إلى اليوم ويشهد لذلك وجود النصارى وغيرهم بين المسلمين في أماكن كثيرة ...
والتعاون بين بني الإنسان لا غنى عنه وفيه فوائد كثيرة منها :
- انتشار المبادئ والأخلاق الأكثر إقناعا وجاذبية كالمساواة والحرية والديمقراطية والعدالة .. والصدق والأمانة .. والوفاء .
- استفادة كل فريق من خبرات وتجارب الفريق الثاني في كل مناحي الحياة : سياسية ، اقتصادية ، اجتماعية ، وإعلامية .
- تنمية وتعزيز القوا سم المشتركة بين الفرقاء جميعا لأن مركبا واحدا يجمعهم وأي خلل فيه سيدفع الجميع ثمنه غاليا .
- ازدهار العلوم والفنون المختلفة بتلاقح الحضارات وإثراء بعضها للبعض الآخر .
- سرعة التطور العلمي والتكنولوجي لما فيه مصلحة الإنسانية .
- تكامل الموارد الاقتصادية بتبادل السلع والخدمات بشكل منصف يكفل للكل العيش الكريم للفرقاء جميعا .
- حرية التنقل والتملك .
- الشعور بالأمان والسلام .

المحور الرابع: أضرار التصادم

التصادم بين الحضارات والأمم عواقبه مدمرة لا تخفى على أحد ولا يسعى إليها عاقل وقد روج العديد من المنظرين الغربيين لصراع الحضارات كالأمريكي هنكتتن وغيره ، والهدف الأول لهم المسلمون والحضارة الإسلامية وإن عدوا معها أحيانا الحضارة الصينية .
ومالم يبادر العقلاء إلى استدراك الأمر والسعي للسير بالبشرية في الطريق الآخر طريق تعاون وتكامل الحضارات فإن الحياة على هذه الأرض لن تكون سعيدة، بل ستكون مليئة بالأحزان والأحقاد التي هي حتمية للظلم والجور والقهر ...

خـاتمـة :

مرت حتى الآن حقب طويلة على الجنس البشري على هذا الكوكب الأرضي تراوحت العلاقة فيها – بين بني الإنسان – بين التفاهم والتكامل ، والتعاون ... وبين الخلاف والنزاع والشقاق ..
وكانت نتيجة الأولى إيجابية على الجميع ، أما الثانية فكانت سلبية بكل المقاييس ، ولذا من المصلحة بل من المتحتم أن يعمل المخلصون لمبادئهم وأوطانهم .. للوصول إلى قواسم مشتركة يتفق عليها الجميع ويعمل من أجلها لتقل أسباب ودواعي صراع وتصادم الحضارات الذي أباد أمما وشعوبا في الماضي والحاضر، وقد يبيدها في المستقبل – لاقدر الله – مالم يتدارك الموقف..
والمسلمون – من جانبهم – ممثلين في التيار الوسطي العقلاني المعتدل جاهزون للتعاطي إيجابيا مع أي قوم يعاملونهم باحترام ، ويضعون قدراتهم وإمكانياتهم معهم في خدمة الإنسانية .
*مقال سابق نشر لفضيلة الشيخ
أضافة تعليق