هويدي 17-12-2002
من أراد أن يتعرف علي المعني الحقيقي للعلمانية غير الذكية فليذهب إلي تركيا, حيث يفاجأ بأن الدولة كلها بساستها ومؤسساتها وقوانينها وجيشها, لا هم لهم إلا شيء واحد هو: يكون الحجاب أو لا يكون, فإذا لم يكن فالعلمانية بخير, وكذلك الديمقراطية والجمهورية, أما إذا كان فتلك نهاية التاريخ وعلي الأمة السلام!
(1)
لا يكاد المرء يصدق عينيه وأذنيه وهو يتابع الصرعة التي أصابت النخبة التركية حين نشرت الصحف صورة رئيس البرلمان بولند ارينج وإلي جواره زوجته المحجبة, وهما يتقدمان مودعي رئيس الجمهورية في سفرته إلي براج لحضور قمة حلف الأطلسي, مصطحبا زوجته. إذ ظهرت عناوين صحف اليوم التالي صائحة مولولة, وناعية إلي الناس نبأ الكارثة التي حلت بالعلمانية حين أطل ذلك تلك الرأس المحجب في الوداع الرسمي لرئيس الجمهورية.
كان للخبر وقع الصاعقة, حيث ما خطر ببال النخبة المهيمنة أن يأتي زمان علي الجمهورية التركية يظهر فيه الحجاب في مناسبة رسمية وفي حضور رئيس الجمهورية. كان عنوان صحيفة حريت: الحجاب يغطي رأس الدولة التركية باعتبار أن رئيس البرلمان هو الذي يتولي مهام رئاسة الدولة بالوكالة, في غياب الرئيس.
أما صحيفة ملليت فكان عنوانها: الحجاب في بروتوكول الدولة, أما التعقيبات علي الحدث الجلل فقد ركزت علي أن هذه هي المرة الأولي في تاريخ الجمهورية الكمالية( التي تأسست في عام1923) التي يظهر فيها الحجاب علي رأس امرأة في مناسبة رسمية, واعتبرته خطرا علي العلمانية, ومقدمة للانقلاب علي الجمهورية بأسرها.
منذ وقعت الواقعة يوم11/20 وحتي الآن, أي نحو شهر تقريبا, والصرعة مستمرة, متجلية في تعليقات يومية حول موضوع الحجاب علي صفحات الصحف, وحوارات لا نهاية لها علي شاشات التليفزيون بمحطاته وقنواته المختلفة( عددها15 محطة), وعلي الرغم من أن استطلاعات الرأي التي أجريت حول الموضوع أسفرت عن أن70% من أفراد الشعب يؤيدون رفع القيود المفروضة من قبل السلطة علي الحجاب, إلا أن النخبة المهيمنة التي احتكرت صدارة المجتمع تجاهلت تلك الحقيقة ومضت تتجادل حول الخطر الذي يمثله الحجاب, وحول مشروعية حظره, وهل الحظر يستند إلي الدستور وإلي تعاليم مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك؟ أم إلي نص القانون أو روحه؟
كان هناك مؤيدون لرفع الحظر, استنادا إلي النص علي حرية الاعتقاد في الدستور, وإلي مبادئ ميثاق حقوق الإنسان. في الوقت نفسه فإن صحف الاتجاه الإسلامي أضافت أن أتاتورك لم يمنع الحجاب علي الرغم من أنه منع ارتداء العمائم إلا في أماكن العبادة فقط. ونشرت بعض تلك الصحف صورا لأتاتورك مع زوجته لطيفة هانم وقد ارتدت حجابا كاملا, مشيرة إلي أن أمه زبيدة هانم كانت محجبة أيضا, أما مؤيدو حظر الحجاب فقد استندوا إلي أحكام القضاء وتعميمات مؤسسات الدولة وما أطلقوا عليه تقاليد الجمهورية.
رئيس الجمهورية أحمد نجدت سيزر لم يصطحب زوجته في سفرة لاحقة إلي ألمانيا, حتي لا يأتي رئيس البرلمان بزوجته المحجبة في وداعه, كما تقضي قواعد البروتوكول, ومن ثم تتكرر الأزمة ويتضاعف الهياج السياسي والإعلامي في البلد. وفي أول فرصة ـ حين زاره وفد من المعلمين ـ أعلن الرئيس سيزر أن إلغاء الحظر علي الحجاب في الأماكن الرسمية والجامعات يعني التنازل عن المبادئ العلمانية الأساسية للجمهورية, ويتعارض مع أحكام المحكمة الدستورية العليا, التي كان يرأسها يوما ما. وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه القادة العسكريون في أول اجتماع لمجلس الأمن القومي بعد تشكيل الوزارة الجديدة.
(2)
بعد فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية في الانتخابات, فإن الجدل في الأوساط السياسية والإعلامية تجاهل القضايا الحياتية الملحة في البلاد, وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية, وشيوع الفساد ومسائل الحريات العامة, وفتح ملف الحجاب وموقف الحكومة الجديدة منه. ولأن زعماء الحزب وأكثر أعضاء الحكومة لهم خلفيات إسلامية لا تكاد تتجاوز حدود التدين العادي الذي نعرفه في بلادنا, فإن أركان المؤسسة العلمانية اعتبروا موضوع الحجاب حدا فاصلا بين الولاء للجمهورية والانقلاب عليها, وذهبوا إلي أن استمرار الحظر عليه هو المعيار الأول للثقة في الحكومة وفي جدارتها بالاستمرار.
الذي أثار التساؤل بعد فوز الحزب أن رئيسه الطيب أردوغان زوجته ترتدي الحجاب, وكذلك ابنتاه اللتان لم تستطيعا الالتحاق بالجامعات التركية بسبب حظرها للحجاب, ومن ثم اضطرتا إلي مواصلة تعليمهما في الولايات المتحدة, وهو ما تفعله كثيرات من بنات الأسر التركية. كذلك الحال بالنسبة لنائبه عبدالله جول, وأغلب قيادات الحزب, لذلك فإنه منذ اليوم الأول لإعلان فوز حزب العدالة بالأغلبية كتبت صحيفة صباح متسائلة: هل ستكون زوجة رئيس الوزراء محجبة؟ وكان السؤال استنكاريا, لأنها أردفت تقول: لم يحدث سوي مرة واحدة في تركيا الحديثة أن تجرأت زوجة مسئول كبير علي الظهور بالحجاب, الذي تعتبره النخبة التركية المقربة من الغرب بمثابة نيل من القيم الحديثة العلمانية. وهو ما لم يلق استحسانا, لأن الجيش قام في نهاية المطاف بطرد زوجها رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان.
في أول مؤتمر صحفي عقد بمقر رئاسة الجمهورية عقب إعلان نتائج الانتخابات, طرح السؤال علي الناطق باسم الرئيس سيزر, لكنه رفض أن يوضح ما إذا كانت مسألة الحجاب ستكون من العناصر الحاسمة في اختيار رئيس الوزراء الجديد, غير أن الصحف لم تتوقف عن تقليب الموضوع ومناقشته, عبر نشر صور المرشحين وزوجاتهم, واحتدمت تلك المناقشة حين عين عبدالله جول رئيسا للوزراء علي الرغم من أن زوجته ترتدي الحجاب, وحين تبين أن زوجات16 من24 وزيرا في الحكومة الجديدة محجبات أيضا, الأمر الذي أثار موجة من التعليقات, لا علي كفاءة الوزراء وأفكارهم ومسئولياتهم, ولكن علي أردية زوجاتهم وحجابهن, والمشكلات البروتوكولية التي يمكن أن تترتب علي ذلك الوضع غير المسبوق في تاريخ الجمهورية.
(3)
منذ الثمانينيات والجدل مستمر حول موضوع الحجاب في الدوائر السياسية والإعلامية. فقد صدر قانون بعد انقلاب العسكر عام81 منع الطالبات المحجبات من دخول الجامعات, لكن بعدما تولي توركوت أوزال رئاسة الحكومة في عام83 نجح نواب حزبه( الوطن الأم) في استصدار قانون يحمي حرية دخول الجامعات, ولكن طعن في القانون الجديد أمام المحكمة الدستورية العليا التي أبطلته وعادت المشكلة إلي نقطة الصفر مرة أخري, وظلت موضع شد وجذب إلي أن قام العسكر بانقلابهم الأبيض الشهير في فبراير1997, مما أدي إلي استقالة حكومة نجم الدين أربكان, ونصت قرارات مجلس الأمن القومي التي أحدثت ذلك الانقلاب علي ضرورة تطبيق قوانين الثورة فيما يتعلق بالزي الواجب ارتداؤه. والمقصود هو قانون الزي( يسمونه قانون القيافة) الصادر في عام1934, الذي يتطرق إلي زي الرجل وليس المرأة, حيث يفرض ارتداء القبعة بدلا من الطربوش والبنطلون بدلا من الجبة( في الدستور الحالي نص بهذا المعني), وبعد إعلان قرارات المجلس الذي يتحكم فيه رئيس الأركان وقادة أسلحة الجيش, صدر تعميم في مجلس التعليم العالي بمنع المحجبات من دخول الجامعات, وهو المنع الذي لا يزال مستمرا إلي الآن.
أشرت توا إلي أنه بسبب ذلك الحظر اضطر عدد غير قليل من الفتيات إلي الالتحاق بجامعات أخري خارج تركيا, بعضهن ذهبن إلي بلد مسلم مثل أذربيجان والأخريات توزعن علي الدول القريبة نسبيا مثل المجر( الأقل تكلفة) والنمسا وألمانيا وهولندا, لكن العلمانية الكمالية أبت إلا أن تطارد المحجبات حتي إذا درسن في الخارج, فقد قرر المجلس الأعلي للتعليم ألا يعتمد الشهادات الممنوحة في الخارج إلا إذا أجري الطالب أو الطالبة اختبار قبول بعد عودته إلي بلده, وهو ما وضع أمام الطالبات المحجبات عقبة لم تكن في الحسبان, لأن ذلك الاختبار محظور عليهن إلا إذا خلعن الحجاب!
المشكلة نفسها حدثت في البرلمان التركي حين نجحت في الانتخابات التي جرت في سنة1999 نائبتان محجبتان, إحداهما عن حزب الحركة القومية اسمها نسرين اونال, والثانية عن حزب الفضيلة واسمها مروي قاواقجي, الاثنتان كانتا تعرفان أن النظام الداخلي للمجلس يقضي أن ترتدي النائبة تايور, وليس فيه شيء يتعلق بغطاء الرأس, لكنهما كانتا تعرفان أيضا أن هناك من يتربص بهما, نسرين تجنبت المواجهة, وحلت الإشكال حين خلعت حجابها قبل أن تدلف إلي القاعة. أما مروي قاواقجي فأصرت علي الدخول بحجابها, وسط تصفيق نواب حزبها( الفضيلة) وصيحات نائبات ونواب الحزب الحاكم( اليسار الديمقراطي) الغاضبة, التي ظلت تهتف بصوت هيستيري عال: ديشاريا ـ ديشاريا, أي إلي الخارج إلي الخارج.
وراء الكواليس كانت هناك ترتيبات أخري, كان العسكر قد أبلغوا الحزب الحاكم بأن مروي قاواقجي يجب ألا تحلف اليمين, حيث لا مكان في البرلمان الذي أسسه أتاتورك لامرأة ترتدي الحجاب, وتسربت أنباء عن أن الرسالة نقلها رئيس أركان الجيش إلي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء, الأمر الذي بدا وكأنه تهديد من الجيش بالتدخل.
وسط الغضب والضجيج وقف بولند أجاويد رئيس الوزراء وأخرج من جيبه نصا مكتوبا أعد سلفا لمواجهة هذه اللحظة, ومن النص قرأ: هنا ليس مكانا لتحدي الجمهورية! وتتابعت بعد ذلك فصول القصة التي انتهت بإسقاط عضوية مروي, بل وإسقاط الجنسية التركية عنها, بحجة أنها حصلت علي الجنسية الأمريكية دون إذن أو إخطار!
(4)
اللوثة مازالت مستمرة, فحين ذهب بعض الوزراء إلي حفل إفطار في أثناء رمضان في فندق هيلتون, ثم انتحوا جانبا في أحد ممرات الفندق أدوا فيه صلاة المغرب, قامت الدنيا ولم تقعد, وتصاعدت الأصوات الغاضبة في وسائل الإعلام محذرة من الخطر الداهم الذي يهدد العلمانية, من جراء قيام بعض الوزراء بالصلاة في مكان عام.. وأين؟ في فندق هيلتون, ذي الخمس نجوم, الذي يؤمه وجهاء البلد!
قامت القيامة أيضا حين أذيع خبر إذاعة صلاة الجمعة عبر مكبر للصوت, للمرة الأولي, من مسجد ملحق بمقر رئاسة الحكومة, وهو ما سارع عبد الله جول إلي نفيه قائلا: إنه لا يعرف أن هناك أصلا مسجدا ملحقا بمكتبه!
هذه الأحداث التي هي عندنا أخبار عادية وممارسات يقدم عليها أي مسلم بسيط في أي مكان بالدنيا, تحولت في تركيا إلي مخاطر تهدد العلمانية, الأمر الذي حولها إلي حملة مضادة لأبسط مظاهر وشعائر التدين, ولو أن هذا السلوك عبر عنه آحاد الناس أو بعض الفئات المحددة لهان, ولكن المشكلة أنه مسلك تتبناه النخبة المهيمنة في السلطة والأحزاب والجيش والعديد من المؤسسات المدنية, الأمر الذي يقدم لنا نموذجا للعلمانية يختلف كثيرا عما نعرفه, وهو نموذج يرفع الالتباس عن العلاقة بين العلمانية والليبرالية, ويقطع بأنه لا تلازم ضروري بين الاثنين كما يدعي البعض, وهو أوضح ما يكون في نموذج العلمانية التركية, حتي أن البرنامج الإصلاحي لحكومة حزب العدالة ذي الخلفية الإسلامية يبدو أكثر ليبرالية من موقف النخبة التقليدية الحاكمة.
إن بعض الباحثين المحترمين ـ الدكتور عبدالوهاب المسيري تحديدا ـ ما برحوا يحدثوننا عن العلمانية الشاملة التي هي بمثابة منهج ورؤية متكاملة للكون والإله والحياة, وأخري جزئية تدعو إلي فصل الدين عن الدولة( له كتاب من جزءين صدر أخيرا في الموضوع), لكن ما رأيته في تركيا يقدم شيئا ثالثا, فهو ليس رؤية شاملة, ولا هو جزئية, لكنه خليط من حبس الدين في الدولة( في داخل البيوت بالكاد) أو طرد له من الدولة, بمعني نفيه تماما من مؤسساتها ومن الحياة العامة, وفي كل أحوالها فهي علمانية لا تعمد إلي تهميش الدين, لكنها تخاصمه وتطارد مظانه ومظاهره!
وإذ يحدث ذلك في بلد98% من سكانه مسلمون, ويقترن بخلل هائل في أولويات ومعايير العمل الوطني, فإنها تغدو علمانية غير ذكية بامتياز, تصادر إمكان التوصل إلي صيغة مشتركة لمشروع الأمة أو حتي حلمها, ولا تسأل عن البؤس الذي يطول هويتها وحقيقة انتمائها! الأمر الذي يصيبنا بالدهشة والارتباك, بالغثيان إن شئت الدقة, إزاء الدعوة التي يرددها بعض المتعالمين في العالم العربي, مشيدين فيها بما سموه الإسلام التركي ومشجعين الآخرين علي احتذاء نموذجه.
(5)
في كتابات سابقة دعوت إلي التفرقة في التعامل مع العلمانيين بين المتطرفين منهم والمعتدلين, وقلت إنه من المتعذر العثور علي أرضية حوار مشترك مع الأولين الذين يخاصمون الدين ويجعلون من نفيه واقتلاعه هدفا لهم, مبطنا وليس معلنا بطبيعة الحال, لأن منهم من يتستر وراء الدعوة ـ مثلا ـ إلي ما يسمي صحيح الدين لكي يهدم كل الموجود. أما العلمانيون المعتدلون المتصالحون مع الدين والداعون إلي مجرد الفصل بين الدين والدولة, فالمشترك معهم قائم ليس فقط في قاعدة الإيمان, ولكن أيضا في كل قضايا العمل الوطني الراهنة, وهي جسيمة وملحة, علي الرغم من وجود الاختلاف حول المقاصد النهائية, التي آجالها في علم الغيب, ومن العبث ومضيعة الوقت أن تستدعي لكي تحسم في الوقت الراهن.
النموذج الذي قدمه حزب العدالة والتنمية في تركيا يجسد تلك المصالحة المنشودة, تماما كما أن الحوار القومي الإسلامي الذي تبناه مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بمثابة تجسيد آخر يحاول بلورة الفكرة وإخراجها إلي حيز الواقع, وهي الفكرة نفسها التي تحدث عنها قبل أيام الدكتور هشام شرابي أستاذ التاريخ في جامعة جورج تاون الأمريكية, في مقال دعا فيه إلي تجاوز الفصام العلماني والإسلامي, وأرجع تشرذم الشارع العربي إلي ذلك الفصام النكد, كان عنوان المقال: لهذه الأسباب لم يتحرك الشارع العربي( القدس اللندنية1/12), وهو هاجس عبر عنه آخرون, ومنهم الكاتب التونسي البارز صلاح الدين الجورشي الذي نشرت له صحيفة الحياة في12/5 مقالا تحت عنوان: الرسالة التركية: العلمانية المؤمنة مقابل الدولة الإسلامية.
إن الفكرة جديرة بأن تحتل مساحة أوسع من النقاش الذي إذا تكلل بالنجاح فإنه قد يساعد المخلصين من أبناء هذه الأمة علي تجاوز أحد مآزق واختناقات العمل الوطني, وهي المآزق التي يحرص آخرون علي استمرارها وتفجير عناوينها بين الحين والآخر, لأنهم يكتسبون شرعيتهم ويمارسون أدوارهم من وجودها وانشغال الرأي العام بتداعياتها.
من أراد أن يتعرف علي المعني الحقيقي للعلمانية غير الذكية فليذهب إلي تركيا, حيث يفاجأ بأن الدولة كلها بساستها ومؤسساتها وقوانينها وجيشها, لا هم لهم إلا شيء واحد هو: يكون الحجاب أو لا يكون, فإذا لم يكن فالعلمانية بخير, وكذلك الديمقراطية والجمهورية, أما إذا كان فتلك نهاية التاريخ وعلي الأمة السلام!
(1)
لا يكاد المرء يصدق عينيه وأذنيه وهو يتابع الصرعة التي أصابت النخبة التركية حين نشرت الصحف صورة رئيس البرلمان بولند ارينج وإلي جواره زوجته المحجبة, وهما يتقدمان مودعي رئيس الجمهورية في سفرته إلي براج لحضور قمة حلف الأطلسي, مصطحبا زوجته. إذ ظهرت عناوين صحف اليوم التالي صائحة مولولة, وناعية إلي الناس نبأ الكارثة التي حلت بالعلمانية حين أطل ذلك تلك الرأس المحجب في الوداع الرسمي لرئيس الجمهورية.
كان للخبر وقع الصاعقة, حيث ما خطر ببال النخبة المهيمنة أن يأتي زمان علي الجمهورية التركية يظهر فيه الحجاب في مناسبة رسمية وفي حضور رئيس الجمهورية. كان عنوان صحيفة حريت: الحجاب يغطي رأس الدولة التركية باعتبار أن رئيس البرلمان هو الذي يتولي مهام رئاسة الدولة بالوكالة, في غياب الرئيس.
أما صحيفة ملليت فكان عنوانها: الحجاب في بروتوكول الدولة, أما التعقيبات علي الحدث الجلل فقد ركزت علي أن هذه هي المرة الأولي في تاريخ الجمهورية الكمالية( التي تأسست في عام1923) التي يظهر فيها الحجاب علي رأس امرأة في مناسبة رسمية, واعتبرته خطرا علي العلمانية, ومقدمة للانقلاب علي الجمهورية بأسرها.
منذ وقعت الواقعة يوم11/20 وحتي الآن, أي نحو شهر تقريبا, والصرعة مستمرة, متجلية في تعليقات يومية حول موضوع الحجاب علي صفحات الصحف, وحوارات لا نهاية لها علي شاشات التليفزيون بمحطاته وقنواته المختلفة( عددها15 محطة), وعلي الرغم من أن استطلاعات الرأي التي أجريت حول الموضوع أسفرت عن أن70% من أفراد الشعب يؤيدون رفع القيود المفروضة من قبل السلطة علي الحجاب, إلا أن النخبة المهيمنة التي احتكرت صدارة المجتمع تجاهلت تلك الحقيقة ومضت تتجادل حول الخطر الذي يمثله الحجاب, وحول مشروعية حظره, وهل الحظر يستند إلي الدستور وإلي تعاليم مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك؟ أم إلي نص القانون أو روحه؟
كان هناك مؤيدون لرفع الحظر, استنادا إلي النص علي حرية الاعتقاد في الدستور, وإلي مبادئ ميثاق حقوق الإنسان. في الوقت نفسه فإن صحف الاتجاه الإسلامي أضافت أن أتاتورك لم يمنع الحجاب علي الرغم من أنه منع ارتداء العمائم إلا في أماكن العبادة فقط. ونشرت بعض تلك الصحف صورا لأتاتورك مع زوجته لطيفة هانم وقد ارتدت حجابا كاملا, مشيرة إلي أن أمه زبيدة هانم كانت محجبة أيضا, أما مؤيدو حظر الحجاب فقد استندوا إلي أحكام القضاء وتعميمات مؤسسات الدولة وما أطلقوا عليه تقاليد الجمهورية.
رئيس الجمهورية أحمد نجدت سيزر لم يصطحب زوجته في سفرة لاحقة إلي ألمانيا, حتي لا يأتي رئيس البرلمان بزوجته المحجبة في وداعه, كما تقضي قواعد البروتوكول, ومن ثم تتكرر الأزمة ويتضاعف الهياج السياسي والإعلامي في البلد. وفي أول فرصة ـ حين زاره وفد من المعلمين ـ أعلن الرئيس سيزر أن إلغاء الحظر علي الحجاب في الأماكن الرسمية والجامعات يعني التنازل عن المبادئ العلمانية الأساسية للجمهورية, ويتعارض مع أحكام المحكمة الدستورية العليا, التي كان يرأسها يوما ما. وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه القادة العسكريون في أول اجتماع لمجلس الأمن القومي بعد تشكيل الوزارة الجديدة.
(2)
بعد فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية في الانتخابات, فإن الجدل في الأوساط السياسية والإعلامية تجاهل القضايا الحياتية الملحة في البلاد, وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية, وشيوع الفساد ومسائل الحريات العامة, وفتح ملف الحجاب وموقف الحكومة الجديدة منه. ولأن زعماء الحزب وأكثر أعضاء الحكومة لهم خلفيات إسلامية لا تكاد تتجاوز حدود التدين العادي الذي نعرفه في بلادنا, فإن أركان المؤسسة العلمانية اعتبروا موضوع الحجاب حدا فاصلا بين الولاء للجمهورية والانقلاب عليها, وذهبوا إلي أن استمرار الحظر عليه هو المعيار الأول للثقة في الحكومة وفي جدارتها بالاستمرار.
الذي أثار التساؤل بعد فوز الحزب أن رئيسه الطيب أردوغان زوجته ترتدي الحجاب, وكذلك ابنتاه اللتان لم تستطيعا الالتحاق بالجامعات التركية بسبب حظرها للحجاب, ومن ثم اضطرتا إلي مواصلة تعليمهما في الولايات المتحدة, وهو ما تفعله كثيرات من بنات الأسر التركية. كذلك الحال بالنسبة لنائبه عبدالله جول, وأغلب قيادات الحزب, لذلك فإنه منذ اليوم الأول لإعلان فوز حزب العدالة بالأغلبية كتبت صحيفة صباح متسائلة: هل ستكون زوجة رئيس الوزراء محجبة؟ وكان السؤال استنكاريا, لأنها أردفت تقول: لم يحدث سوي مرة واحدة في تركيا الحديثة أن تجرأت زوجة مسئول كبير علي الظهور بالحجاب, الذي تعتبره النخبة التركية المقربة من الغرب بمثابة نيل من القيم الحديثة العلمانية. وهو ما لم يلق استحسانا, لأن الجيش قام في نهاية المطاف بطرد زوجها رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان.
في أول مؤتمر صحفي عقد بمقر رئاسة الجمهورية عقب إعلان نتائج الانتخابات, طرح السؤال علي الناطق باسم الرئيس سيزر, لكنه رفض أن يوضح ما إذا كانت مسألة الحجاب ستكون من العناصر الحاسمة في اختيار رئيس الوزراء الجديد, غير أن الصحف لم تتوقف عن تقليب الموضوع ومناقشته, عبر نشر صور المرشحين وزوجاتهم, واحتدمت تلك المناقشة حين عين عبدالله جول رئيسا للوزراء علي الرغم من أن زوجته ترتدي الحجاب, وحين تبين أن زوجات16 من24 وزيرا في الحكومة الجديدة محجبات أيضا, الأمر الذي أثار موجة من التعليقات, لا علي كفاءة الوزراء وأفكارهم ومسئولياتهم, ولكن علي أردية زوجاتهم وحجابهن, والمشكلات البروتوكولية التي يمكن أن تترتب علي ذلك الوضع غير المسبوق في تاريخ الجمهورية.
(3)
منذ الثمانينيات والجدل مستمر حول موضوع الحجاب في الدوائر السياسية والإعلامية. فقد صدر قانون بعد انقلاب العسكر عام81 منع الطالبات المحجبات من دخول الجامعات, لكن بعدما تولي توركوت أوزال رئاسة الحكومة في عام83 نجح نواب حزبه( الوطن الأم) في استصدار قانون يحمي حرية دخول الجامعات, ولكن طعن في القانون الجديد أمام المحكمة الدستورية العليا التي أبطلته وعادت المشكلة إلي نقطة الصفر مرة أخري, وظلت موضع شد وجذب إلي أن قام العسكر بانقلابهم الأبيض الشهير في فبراير1997, مما أدي إلي استقالة حكومة نجم الدين أربكان, ونصت قرارات مجلس الأمن القومي التي أحدثت ذلك الانقلاب علي ضرورة تطبيق قوانين الثورة فيما يتعلق بالزي الواجب ارتداؤه. والمقصود هو قانون الزي( يسمونه قانون القيافة) الصادر في عام1934, الذي يتطرق إلي زي الرجل وليس المرأة, حيث يفرض ارتداء القبعة بدلا من الطربوش والبنطلون بدلا من الجبة( في الدستور الحالي نص بهذا المعني), وبعد إعلان قرارات المجلس الذي يتحكم فيه رئيس الأركان وقادة أسلحة الجيش, صدر تعميم في مجلس التعليم العالي بمنع المحجبات من دخول الجامعات, وهو المنع الذي لا يزال مستمرا إلي الآن.
أشرت توا إلي أنه بسبب ذلك الحظر اضطر عدد غير قليل من الفتيات إلي الالتحاق بجامعات أخري خارج تركيا, بعضهن ذهبن إلي بلد مسلم مثل أذربيجان والأخريات توزعن علي الدول القريبة نسبيا مثل المجر( الأقل تكلفة) والنمسا وألمانيا وهولندا, لكن العلمانية الكمالية أبت إلا أن تطارد المحجبات حتي إذا درسن في الخارج, فقد قرر المجلس الأعلي للتعليم ألا يعتمد الشهادات الممنوحة في الخارج إلا إذا أجري الطالب أو الطالبة اختبار قبول بعد عودته إلي بلده, وهو ما وضع أمام الطالبات المحجبات عقبة لم تكن في الحسبان, لأن ذلك الاختبار محظور عليهن إلا إذا خلعن الحجاب!
المشكلة نفسها حدثت في البرلمان التركي حين نجحت في الانتخابات التي جرت في سنة1999 نائبتان محجبتان, إحداهما عن حزب الحركة القومية اسمها نسرين اونال, والثانية عن حزب الفضيلة واسمها مروي قاواقجي, الاثنتان كانتا تعرفان أن النظام الداخلي للمجلس يقضي أن ترتدي النائبة تايور, وليس فيه شيء يتعلق بغطاء الرأس, لكنهما كانتا تعرفان أيضا أن هناك من يتربص بهما, نسرين تجنبت المواجهة, وحلت الإشكال حين خلعت حجابها قبل أن تدلف إلي القاعة. أما مروي قاواقجي فأصرت علي الدخول بحجابها, وسط تصفيق نواب حزبها( الفضيلة) وصيحات نائبات ونواب الحزب الحاكم( اليسار الديمقراطي) الغاضبة, التي ظلت تهتف بصوت هيستيري عال: ديشاريا ـ ديشاريا, أي إلي الخارج إلي الخارج.
وراء الكواليس كانت هناك ترتيبات أخري, كان العسكر قد أبلغوا الحزب الحاكم بأن مروي قاواقجي يجب ألا تحلف اليمين, حيث لا مكان في البرلمان الذي أسسه أتاتورك لامرأة ترتدي الحجاب, وتسربت أنباء عن أن الرسالة نقلها رئيس أركان الجيش إلي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء, الأمر الذي بدا وكأنه تهديد من الجيش بالتدخل.
وسط الغضب والضجيج وقف بولند أجاويد رئيس الوزراء وأخرج من جيبه نصا مكتوبا أعد سلفا لمواجهة هذه اللحظة, ومن النص قرأ: هنا ليس مكانا لتحدي الجمهورية! وتتابعت بعد ذلك فصول القصة التي انتهت بإسقاط عضوية مروي, بل وإسقاط الجنسية التركية عنها, بحجة أنها حصلت علي الجنسية الأمريكية دون إذن أو إخطار!
(4)
اللوثة مازالت مستمرة, فحين ذهب بعض الوزراء إلي حفل إفطار في أثناء رمضان في فندق هيلتون, ثم انتحوا جانبا في أحد ممرات الفندق أدوا فيه صلاة المغرب, قامت الدنيا ولم تقعد, وتصاعدت الأصوات الغاضبة في وسائل الإعلام محذرة من الخطر الداهم الذي يهدد العلمانية, من جراء قيام بعض الوزراء بالصلاة في مكان عام.. وأين؟ في فندق هيلتون, ذي الخمس نجوم, الذي يؤمه وجهاء البلد!
قامت القيامة أيضا حين أذيع خبر إذاعة صلاة الجمعة عبر مكبر للصوت, للمرة الأولي, من مسجد ملحق بمقر رئاسة الحكومة, وهو ما سارع عبد الله جول إلي نفيه قائلا: إنه لا يعرف أن هناك أصلا مسجدا ملحقا بمكتبه!
هذه الأحداث التي هي عندنا أخبار عادية وممارسات يقدم عليها أي مسلم بسيط في أي مكان بالدنيا, تحولت في تركيا إلي مخاطر تهدد العلمانية, الأمر الذي حولها إلي حملة مضادة لأبسط مظاهر وشعائر التدين, ولو أن هذا السلوك عبر عنه آحاد الناس أو بعض الفئات المحددة لهان, ولكن المشكلة أنه مسلك تتبناه النخبة المهيمنة في السلطة والأحزاب والجيش والعديد من المؤسسات المدنية, الأمر الذي يقدم لنا نموذجا للعلمانية يختلف كثيرا عما نعرفه, وهو نموذج يرفع الالتباس عن العلاقة بين العلمانية والليبرالية, ويقطع بأنه لا تلازم ضروري بين الاثنين كما يدعي البعض, وهو أوضح ما يكون في نموذج العلمانية التركية, حتي أن البرنامج الإصلاحي لحكومة حزب العدالة ذي الخلفية الإسلامية يبدو أكثر ليبرالية من موقف النخبة التقليدية الحاكمة.
إن بعض الباحثين المحترمين ـ الدكتور عبدالوهاب المسيري تحديدا ـ ما برحوا يحدثوننا عن العلمانية الشاملة التي هي بمثابة منهج ورؤية متكاملة للكون والإله والحياة, وأخري جزئية تدعو إلي فصل الدين عن الدولة( له كتاب من جزءين صدر أخيرا في الموضوع), لكن ما رأيته في تركيا يقدم شيئا ثالثا, فهو ليس رؤية شاملة, ولا هو جزئية, لكنه خليط من حبس الدين في الدولة( في داخل البيوت بالكاد) أو طرد له من الدولة, بمعني نفيه تماما من مؤسساتها ومن الحياة العامة, وفي كل أحوالها فهي علمانية لا تعمد إلي تهميش الدين, لكنها تخاصمه وتطارد مظانه ومظاهره!
وإذ يحدث ذلك في بلد98% من سكانه مسلمون, ويقترن بخلل هائل في أولويات ومعايير العمل الوطني, فإنها تغدو علمانية غير ذكية بامتياز, تصادر إمكان التوصل إلي صيغة مشتركة لمشروع الأمة أو حتي حلمها, ولا تسأل عن البؤس الذي يطول هويتها وحقيقة انتمائها! الأمر الذي يصيبنا بالدهشة والارتباك, بالغثيان إن شئت الدقة, إزاء الدعوة التي يرددها بعض المتعالمين في العالم العربي, مشيدين فيها بما سموه الإسلام التركي ومشجعين الآخرين علي احتذاء نموذجه.
(5)
في كتابات سابقة دعوت إلي التفرقة في التعامل مع العلمانيين بين المتطرفين منهم والمعتدلين, وقلت إنه من المتعذر العثور علي أرضية حوار مشترك مع الأولين الذين يخاصمون الدين ويجعلون من نفيه واقتلاعه هدفا لهم, مبطنا وليس معلنا بطبيعة الحال, لأن منهم من يتستر وراء الدعوة ـ مثلا ـ إلي ما يسمي صحيح الدين لكي يهدم كل الموجود. أما العلمانيون المعتدلون المتصالحون مع الدين والداعون إلي مجرد الفصل بين الدين والدولة, فالمشترك معهم قائم ليس فقط في قاعدة الإيمان, ولكن أيضا في كل قضايا العمل الوطني الراهنة, وهي جسيمة وملحة, علي الرغم من وجود الاختلاف حول المقاصد النهائية, التي آجالها في علم الغيب, ومن العبث ومضيعة الوقت أن تستدعي لكي تحسم في الوقت الراهن.
النموذج الذي قدمه حزب العدالة والتنمية في تركيا يجسد تلك المصالحة المنشودة, تماما كما أن الحوار القومي الإسلامي الذي تبناه مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بمثابة تجسيد آخر يحاول بلورة الفكرة وإخراجها إلي حيز الواقع, وهي الفكرة نفسها التي تحدث عنها قبل أيام الدكتور هشام شرابي أستاذ التاريخ في جامعة جورج تاون الأمريكية, في مقال دعا فيه إلي تجاوز الفصام العلماني والإسلامي, وأرجع تشرذم الشارع العربي إلي ذلك الفصام النكد, كان عنوان المقال: لهذه الأسباب لم يتحرك الشارع العربي( القدس اللندنية1/12), وهو هاجس عبر عنه آخرون, ومنهم الكاتب التونسي البارز صلاح الدين الجورشي الذي نشرت له صحيفة الحياة في12/5 مقالا تحت عنوان: الرسالة التركية: العلمانية المؤمنة مقابل الدولة الإسلامية.
إن الفكرة جديرة بأن تحتل مساحة أوسع من النقاش الذي إذا تكلل بالنجاح فإنه قد يساعد المخلصين من أبناء هذه الأمة علي تجاوز أحد مآزق واختناقات العمل الوطني, وهي المآزق التي يحرص آخرون علي استمرارها وتفجير عناوينها بين الحين والآخر, لأنهم يكتسبون شرعيتهم ويمارسون أدوارهم من وجودها وانشغال الرأي العام بتداعياتها.