مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
العلمـــــانية غيـر الذكيـــة
هويدي 17-12-2002

من أراد أن يتعرف علي المعني الحقيقي للعلمانية غير الذكية فليذهب إلي تركيا‏,‏ حيث يفاجأ بأن الدولة كلها بساستها ومؤسساتها وقوانينها وجيشها‏,‏ لا هم لهم إلا شيء واحد هو‏:‏ يكون الحجاب أو لا يكون‏,‏ فإذا لم يكن فالعلمانية بخير‏,‏ وكذلك الديمقراطية والجمهورية‏,‏ أما إذا كان فتلك نهاية التاريخ وعلي الأمة السلام‏!‏

‏(1)‏
لا يكاد المرء يصدق عينيه وأذنيه وهو يتابع الصرعة التي أصابت النخبة التركية حين نشرت الصحف صورة رئيس البرلمان بولند ارينج وإلي جواره زوجته المحجبة‏,‏ وهما يتقدمان مودعي رئيس الجمهورية في سفرته إلي براج لحضور قمة حلف الأطلسي‏,‏ مصطحبا زوجته‏.‏ إذ ظهرت عناوين صحف اليوم التالي صائحة مولولة‏,‏ وناعية إلي الناس نبأ الكارثة التي حلت بالعلمانية حين أطل ذلك تلك الرأس المحجب في الوداع الرسمي لرئيس الجمهورية‏.‏
كان للخبر وقع الصاعقة‏,‏ حيث ما خطر ببال النخبة المهيمنة أن يأتي زمان علي الجمهورية التركية يظهر فيه الحجاب في مناسبة رسمية وفي حضور رئيس الجمهورية‏.‏ كان عنوان صحيفة حريت‏:‏ الحجاب يغطي رأس الدولة التركية باعتبار أن رئيس البرلمان هو الذي يتولي مهام رئاسة الدولة بالوكالة‏,‏ في غياب الرئيس‏.‏

أما صحيفة ملليت فكان عنوانها‏:‏ الحجاب في بروتوكول الدولة‏,‏ أما التعقيبات علي الحدث الجلل فقد ركزت علي أن هذه هي المرة الأولي في تاريخ الجمهورية الكمالية‏(‏ التي تأسست في عام‏1923)‏ التي يظهر فيها الحجاب علي رأس امرأة في مناسبة رسمية‏,‏ واعتبرته خطرا علي العلمانية‏,‏ ومقدمة للانقلاب علي الجمهورية بأسرها‏.‏
منذ وقعت الواقعة يوم‏11/20‏ وحتي الآن‏,‏ أي نحو شهر تقريبا‏,‏ والصرعة مستمرة‏,‏ متجلية في تعليقات يومية حول موضوع الحجاب علي صفحات الصحف‏,‏ وحوارات لا نهاية لها علي شاشات التليفزيون بمحطاته وقنواته المختلفة‏(‏ عددها‏15‏ محطة‏),‏ وعلي الرغم من أن استطلاعات الرأي التي أجريت حول الموضوع أسفرت عن أن‏70%‏ من أفراد الشعب يؤيدون رفع القيود المفروضة من قبل السلطة علي الحجاب‏,‏ إلا أن النخبة المهيمنة التي احتكرت صدارة المجتمع تجاهلت تلك الحقيقة ومضت تتجادل حول الخطر الذي يمثله الحجاب‏,‏ وحول مشروعية حظره‏,‏ وهل الحظر يستند إلي الدستور وإلي تعاليم مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك؟ أم إلي نص القانون أو روحه؟

كان هناك مؤيدون لرفع الحظر‏,‏ استنادا إلي النص علي حرية الاعتقاد في الدستور‏,‏ وإلي مبادئ ميثاق حقوق الإنسان‏.‏ في الوقت نفسه فإن صحف الاتجاه الإسلامي أضافت أن أتاتورك لم يمنع الحجاب علي الرغم من أنه منع ارتداء العمائم إلا في أماكن العبادة فقط‏.‏ ونشرت بعض تلك الصحف صورا لأتاتورك مع زوجته لطيفة هانم وقد ارتدت حجابا كاملا‏,‏ مشيرة إلي أن أمه زبيدة هانم كانت محجبة أيضا‏,‏ أما مؤيدو حظر الحجاب فقد استندوا إلي أحكام القضاء وتعميمات مؤسسات الدولة وما أطلقوا عليه تقاليد الجمهورية‏.‏
رئيس الجمهورية أحمد نجدت سيزر لم يصطحب زوجته في سفرة لاحقة إلي ألمانيا‏,‏ حتي لا يأتي رئيس البرلمان بزوجته المحجبة في وداعه‏,‏ كما تقضي قواعد البروتوكول‏,‏ ومن ثم تتكرر الأزمة ويتضاعف الهياج السياسي والإعلامي في البلد‏.‏ وفي أول فرصة ـ حين زاره وفد من المعلمين ـ أعلن الرئيس سيزر أن إلغاء الحظر علي الحجاب في الأماكن الرسمية والجامعات يعني التنازل عن المبادئ العلمانية الأساسية للجمهورية‏,‏ ويتعارض مع أحكام المحكمة الدستورية العليا‏,‏ التي كان يرأسها يوما ما‏.‏ وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه القادة العسكريون في أول اجتماع لمجلس الأمن القومي بعد تشكيل الوزارة الجديدة‏.‏

‏(2)‏
بعد فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية في الانتخابات‏,‏ فإن الجدل في الأوساط السياسية والإعلامية تجاهل القضايا الحياتية الملحة في البلاد‏,‏ وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية‏,‏ وشيوع الفساد ومسائل الحريات العامة‏,‏ وفتح ملف الحجاب وموقف الحكومة الجديدة منه‏.‏ ولأن زعماء الحزب وأكثر أعضاء الحكومة لهم خلفيات إسلامية لا تكاد تتجاوز حدود التدين العادي الذي نعرفه في بلادنا‏,‏ فإن أركان المؤسسة العلمانية اعتبروا موضوع الحجاب حدا فاصلا بين الولاء للجمهورية والانقلاب عليها‏,‏ وذهبوا إلي أن استمرار الحظر عليه هو المعيار الأول للثقة في الحكومة وفي جدارتها بالاستمرار‏.‏
الذي أثار التساؤل بعد فوز الحزب أن رئيسه الطيب أردوغان زوجته ترتدي الحجاب‏,‏ وكذلك ابنتاه اللتان لم تستطيعا الالتحاق بالجامعات التركية بسبب حظرها للحجاب‏,‏ ومن ثم اضطرتا إلي مواصلة تعليمهما في الولايات المتحدة‏,‏ وهو ما تفعله كثيرات من بنات الأسر التركية‏.‏ كذلك الحال بالنسبة لنائبه عبدالله جول‏,‏ وأغلب قيادات الحزب‏,‏ لذلك فإنه منذ اليوم الأول لإعلان فوز حزب العدالة بالأغلبية كتبت صحيفة صباح متسائلة‏:‏ هل ستكون زوجة رئيس الوزراء محجبة؟ وكان السؤال استنكاريا‏,‏ لأنها أردفت تقول‏:‏ لم يحدث سوي مرة واحدة في تركيا الحديثة أن تجرأت زوجة مسئول كبير علي الظهور بالحجاب‏,‏ الذي تعتبره النخبة التركية المقربة من الغرب بمثابة نيل من القيم الحديثة العلمانية‏.‏ وهو ما لم يلق استحسانا‏,‏ لأن الجيش قام في نهاية المطاف بطرد زوجها رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان‏.‏
في أول مؤتمر صحفي عقد بمقر رئاسة الجمهورية عقب إعلان نتائج الانتخابات‏,‏ طرح السؤال علي الناطق باسم الرئيس سيزر‏,‏ لكنه رفض أن يوضح ما إذا كانت مسألة الحجاب ستكون من العناصر الحاسمة في اختيار رئيس الوزراء الجديد‏,‏ غير أن الصحف لم تتوقف عن تقليب الموضوع ومناقشته‏,‏ عبر نشر صور المرشحين وزوجاتهم‏,‏ واحتدمت تلك المناقشة حين عين عبدالله جول رئيسا للوزراء علي الرغم من أن زوجته ترتدي الحجاب‏,‏ وحين تبين أن زوجات‏16‏ من‏24‏ وزيرا في الحكومة الجديدة محجبات أيضا‏,‏ الأمر الذي أثار موجة من التعليقات‏,‏ لا علي كفاءة الوزراء وأفكارهم ومسئولياتهم‏,‏ ولكن علي أردية زوجاتهم وحجابهن‏,‏ والمشكلات البروتوكولية التي يمكن أن تترتب علي ذلك الوضع غير المسبوق في تاريخ الجمهورية‏.‏

‏(3)‏
منذ الثمانينيات والجدل مستمر حول موضوع الحجاب في الدوائر السياسية والإعلامية‏.‏ فقد صدر قانون بعد انقلاب العسكر عام‏81‏ منع الطالبات المحجبات من دخول الجامعات‏,‏ لكن بعدما تولي توركوت أوزال رئاسة الحكومة في عام‏83‏ نجح نواب حزبه‏(‏ الوطن الأم‏)‏ في استصدار قانون يحمي حرية دخول الجامعات‏,‏ ولكن طعن في القانون الجديد أمام المحكمة الدستورية العليا التي أبطلته وعادت المشكلة إلي نقطة الصفر مرة أخري‏,‏ وظلت موضع شد وجذب إلي أن قام العسكر بانقلابهم الأبيض الشهير في فبراير‏1997,‏ مما أدي إلي استقالة حكومة نجم الدين أربكان‏,‏ ونصت قرارات مجلس الأمن القومي التي أحدثت ذلك الانقلاب علي ضرورة تطبيق قوانين الثورة فيما يتعلق بالزي الواجب ارتداؤه‏.‏ والمقصود هو قانون الزي‏(‏ يسمونه قانون القيافة‏)‏ الصادر في عام‏1934,‏ الذي يتطرق إلي زي الرجل وليس المرأة‏,‏ حيث يفرض ارتداء القبعة بدلا من الطربوش والبنطلون بدلا من الجبة‏(‏ في الدستور الحالي نص بهذا المعني‏),‏ وبعد إعلان قرارات المجلس الذي يتحكم فيه رئيس الأركان وقادة أسلحة الجيش‏,‏ صدر تعميم في مجلس التعليم العالي بمنع المحجبات من دخول الجامعات‏,‏ وهو المنع الذي لا يزال مستمرا إلي الآن‏.‏

أشرت توا إلي أنه بسبب ذلك الحظر اضطر عدد غير قليل من الفتيات إلي الالتحاق بجامعات أخري خارج تركيا‏,‏ بعضهن ذهبن إلي بلد مسلم مثل أذربيجان والأخريات توزعن علي الدول القريبة نسبيا مثل المجر‏(‏ الأقل تكلفة‏)‏ والنمسا وألمانيا وهولندا‏,‏ لكن العلمانية الكمالية أبت إلا أن تطارد المحجبات حتي إذا درسن في الخارج‏,‏ فقد قرر المجلس الأعلي للتعليم ألا يعتمد الشهادات الممنوحة في الخارج إلا إذا أجري الطالب أو الطالبة اختبار قبول بعد عودته إلي بلده‏,‏ وهو ما وضع أمام الطالبات المحجبات عقبة لم تكن في الحسبان‏,‏ لأن ذلك الاختبار محظور عليهن إلا إذا خلعن الحجاب‏!‏
المشكلة نفسها حدثت في البرلمان التركي حين نجحت في الانتخابات التي جرت في سنة‏1999‏ نائبتان محجبتان‏,‏ إحداهما عن حزب الحركة القومية اسمها نسرين اونال‏,‏ والثانية عن حزب الفضيلة واسمها مروي قاواقجي‏,‏ الاثنتان كانتا تعرفان أن النظام الداخلي للمجلس يقضي أن ترتدي النائبة تايور‏,‏ وليس فيه شيء يتعلق بغطاء الرأس‏,‏ لكنهما كانتا تعرفان أيضا أن هناك من يتربص بهما‏,‏ نسرين تجنبت المواجهة‏,‏ وحلت الإشكال حين خلعت حجابها قبل أن تدلف إلي القاعة‏.‏ أما مروي قاواقجي فأصرت علي الدخول بحجابها‏,‏ وسط تصفيق نواب حزبها‏(‏ الفضيلة‏)‏ وصيحات نائبات ونواب الحزب الحاكم‏(‏ اليسار الديمقراطي‏)‏ الغاضبة‏,‏ التي ظلت تهتف بصوت هيستيري عال‏:‏ ديشاريا ـ ديشاريا‏,‏ أي إلي الخارج إلي الخارج‏.‏

وراء الكواليس كانت هناك ترتيبات أخري‏,‏ كان العسكر قد أبلغوا الحزب الحاكم بأن مروي قاواقجي يجب ألا تحلف اليمين‏,‏ حيث لا مكان في البرلمان الذي أسسه أتاتورك لامرأة ترتدي الحجاب‏,‏ وتسربت أنباء عن أن الرسالة نقلها رئيس أركان الجيش إلي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء‏,‏ الأمر الذي بدا وكأنه تهديد من الجيش بالتدخل‏.‏
وسط الغضب والضجيج وقف بولند أجاويد رئيس الوزراء وأخرج من جيبه نصا مكتوبا أعد سلفا لمواجهة هذه اللحظة‏,‏ ومن النص قرأ‏:‏ هنا ليس مكانا لتحدي الجمهورية‏!‏ وتتابعت بعد ذلك فصول القصة التي انتهت بإسقاط عضوية مروي‏,‏ بل وإسقاط الجنسية التركية عنها‏,‏ بحجة أنها حصلت علي الجنسية الأمريكية دون إذن أو إخطار‏!‏

‏(4)‏
اللوثة مازالت مستمرة‏,‏ فحين ذهب بعض الوزراء إلي حفل إفطار في أثناء رمضان في فندق هيلتون‏,‏ ثم انتحوا جانبا في أحد ممرات الفندق أدوا فيه صلاة المغرب‏,‏ قامت الدنيا ولم تقعد‏,‏ وتصاعدت الأصوات الغاضبة في وسائل الإعلام محذرة من الخطر الداهم الذي يهدد العلمانية‏,‏ من جراء قيام بعض الوزراء بالصلاة في مكان عام‏..‏ وأين؟ في فندق هيلتون‏,‏ ذي الخمس نجوم‏,‏ الذي يؤمه وجهاء البلد‏!‏
قامت القيامة أيضا حين أذيع خبر إذاعة صلاة الجمعة عبر مكبر للصوت‏,‏ للمرة الأولي‏,‏ من مسجد ملحق بمقر رئاسة الحكومة‏,‏ وهو ما سارع عبد الله جول إلي نفيه قائلا‏:‏ إنه لا يعرف أن هناك أصلا مسجدا ملحقا بمكتبه‏!‏

هذه الأحداث التي هي عندنا أخبار عادية وممارسات يقدم عليها أي مسلم بسيط في أي مكان بالدنيا‏,‏ تحولت في تركيا إلي مخاطر تهدد العلمانية‏,‏ الأمر الذي حولها إلي حملة مضادة لأبسط مظاهر وشعائر التدين‏,‏ ولو أن هذا السلوك عبر عنه آحاد الناس أو بعض الفئات المحددة لهان‏,‏ ولكن المشكلة أنه مسلك تتبناه النخبة المهيمنة في السلطة والأحزاب والجيش والعديد من المؤسسات المدنية‏,‏ الأمر الذي يقدم لنا نموذجا للعلمانية يختلف كثيرا عما نعرفه‏,‏ وهو نموذج يرفع الالتباس عن العلاقة بين العلمانية والليبرالية‏,‏ ويقطع بأنه لا تلازم ضروري بين الاثنين كما يدعي البعض‏,‏ وهو أوضح ما يكون في نموذج العلمانية التركية‏,‏ حتي أن البرنامج الإصلاحي لحكومة حزب العدالة ذي الخلفية الإسلامية يبدو أكثر ليبرالية من موقف النخبة التقليدية الحاكمة‏.‏
إن بعض الباحثين المحترمين ـ الدكتور عبدالوهاب المسيري تحديدا ـ ما برحوا يحدثوننا عن العلمانية الشاملة التي هي بمثابة منهج ورؤية متكاملة للكون والإله والحياة‏,‏ وأخري جزئية تدعو إلي فصل الدين عن الدولة‏(‏ له كتاب من جزءين صدر أخيرا في الموضوع‏),‏ لكن ما رأيته في تركيا يقدم شيئا ثالثا‏,‏ فهو ليس رؤية شاملة‏,‏ ولا هو جزئية‏,‏ لكنه خليط من حبس الدين في الدولة‏(‏ في داخل البيوت بالكاد‏)‏ أو طرد له من الدولة‏,‏ بمعني نفيه تماما من مؤسساتها ومن الحياة العامة‏,‏ وفي كل أحوالها فهي علمانية لا تعمد إلي تهميش الدين‏,‏ لكنها تخاصمه وتطارد مظانه ومظاهره‏!‏
وإذ يحدث ذلك في بلد‏98%‏ من سكانه مسلمون‏,‏ ويقترن بخلل هائل في أولويات ومعايير العمل الوطني‏,‏ فإنها تغدو علمانية غير ذكية بامتياز‏,‏ تصادر إمكان التوصل إلي صيغة مشتركة لمشروع الأمة أو حتي حلمها‏,‏ ولا تسأل عن البؤس الذي يطول هويتها وحقيقة انتمائها‏!‏ الأمر الذي يصيبنا بالدهشة والارتباك‏,‏ بالغثيان إن شئت الدقة‏,‏ إزاء الدعوة التي يرددها بعض المتعالمين في العالم العربي‏,‏ مشيدين فيها بما سموه الإسلام التركي ومشجعين الآخرين علي احتذاء نموذجه‏.‏

‏(5)‏
في كتابات سابقة دعوت إلي التفرقة في التعامل مع العلمانيين بين المتطرفين منهم والمعتدلين‏,‏ وقلت إنه من المتعذر العثور علي أرضية حوار مشترك مع الأولين الذين يخاصمون الدين ويجعلون من نفيه واقتلاعه هدفا لهم‏,‏ مبطنا وليس معلنا بطبيعة الحال‏,‏ لأن منهم من يتستر وراء الدعوة ـ مثلا ـ إلي ما يسمي صحيح الدين لكي يهدم كل الموجود‏.‏ أما العلمانيون المعتدلون المتصالحون مع الدين والداعون إلي مجرد الفصل بين الدين والدولة‏,‏ فالمشترك معهم قائم ليس فقط في قاعدة الإيمان‏,‏ ولكن أيضا في كل قضايا العمل الوطني الراهنة‏,‏ وهي جسيمة وملحة‏,‏ علي الرغم من وجود الاختلاف حول المقاصد النهائية‏,‏ التي آجالها في علم الغيب‏,‏ ومن العبث ومضيعة الوقت أن تستدعي لكي تحسم في الوقت الراهن‏.‏
النموذج الذي قدمه حزب العدالة والتنمية في تركيا يجسد تلك المصالحة المنشودة‏,‏ تماما كما أن الحوار القومي الإسلامي الذي تبناه مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بمثابة تجسيد آخر يحاول بلورة الفكرة وإخراجها إلي حيز الواقع‏,‏ وهي الفكرة نفسها التي تحدث عنها قبل أيام الدكتور هشام شرابي أستاذ التاريخ في جامعة جورج تاون الأمريكية‏,‏ في مقال دعا فيه إلي تجاوز الفصام العلماني والإسلامي‏,‏ وأرجع تشرذم الشارع العربي إلي ذلك الفصام النكد‏,‏ كان عنوان المقال‏:‏ لهذه الأسباب لم يتحرك الشارع العربي‏(‏ القدس اللندنية‏1/12),‏ وهو هاجس عبر عنه آخرون‏,‏ ومنهم الكاتب التونسي البارز صلاح الدين الجورشي الذي نشرت له صحيفة الحياة في‏12/5‏ مقالا تحت عنوان‏:‏ الرسالة التركية‏:‏ العلمانية المؤمنة مقابل الدولة الإسلامية‏.‏
إن الفكرة جديرة بأن تحتل مساحة أوسع من النقاش الذي إذا تكلل بالنجاح فإنه قد يساعد المخلصين من أبناء هذه الأمة علي تجاوز أحد مآزق واختناقات العمل الوطني‏,‏ وهي المآزق التي يحرص آخرون علي استمرارها وتفجير عناوينها بين الحين والآخر‏,‏ لأنهم يكتسبون شرعيتهم ويمارسون أدوارهم من وجودها وانشغال الرأي العام بتداعياتها‏.‏
أضافة تعليق