مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
قراءة أخري للمشهد التركي
10-12-2002

ثمة فارق بين الأصل والصورة في المشهد التركي‏,‏ وهو ما لمسته في أثناء زيارة قمت بها في الأسبوع الماضي لأنقرة واستنبول‏,‏ أقنعتني مجددا بأنه ليس من رأي كمن سمع أو قرأ‏,‏ ذلك أن ما وقعت عليه هناك يدعونا إلي إعادة النظر في الكثير مما استقر في أذهاننا في حقيقة الزلزال الذي وقع هناك‏.‏

‏(1)‏
لا يزال الزلزال عنوانا لما جري في اليوم الثالث من نوفمبر‏,‏ حين فاز حزب العدالة والتنمية بأغلبية كاسحة في الانتخابات النيابية‏(‏ حصد‏34%‏ من الأصوات‏),‏ جعلته يقلب الساحة رأسا علي عقب ويشكل الحكومة منفردا‏,‏ علي الرغم من أنه دخل إلي حلبة الملاكمة السياسية منذ خمسة عشر شهرا فقط‏,‏ لكن ما اختلف في المقارنة بين الأصل والصورة هو طبيعة الزلزال‏,‏ وخلفياته واتجاهاته ومقاصده‏,‏ وجاء هذا الاختلاف نتيجة للطريقة التي قرأنا بها الحدث‏,‏ حيث قرأناه اعتمادا علي ذاكرة التاريخ‏,‏ وأحيانا تعلقا بما تمنيناه‏,‏ وليس استنادا إلي حقائق الواقع ومعطياته‏,‏ وبعيون عربية وإسلامية وليس بعيون تركية‏,‏ وإذ اختلف المنهج فقد كان طبيعيا أن تختلف النتائج‏,‏ الأمر الذي قادنا إلي الكثير من الانطباعات والتحليلات غير الدقيقة أو الخاطئة‏,‏ وهذه مسألة تحتاج إلي شرح‏,‏ أستأذن في أن أعتمد فيه علي تجريتبي الشخصية‏.‏
فقادة حزب العدالة أعرفهم وأتابعهم منذ عقدين من الزمان تقريبا‏,‏ خصوصا رئيسه رجب الطيب أردوغان ونائبه عبدالله جول رئيس الوزراء الحالي‏,‏ إذ كانا آنذاك من بين الشباب الواعدين في الحركة الإسلامية‏,‏ ممثلة في حزب الرفاه ثم حزب الفضيلة‏,‏ والأب الروحي للحزبين هو الزعيم الإسلامي المعروف الدكتور نجم الدين أربكان‏,‏ وقد لمع نجم أردوغان حين انتخب رئيسا لبلدية استنبول في منتصف التسعينيات وحقق نجاحا كبيرا رفع من شعبيته في العاصمة الثانية للبلاد‏.‏ أما عبدالله جول فقد عرفته شابا متمردا وطموحا وداعيا إلي التجديد داخل الحركة الإسلامية‏,‏ ثم وزيرا للعلاقات الخارجية في حكومة أربكان‏(‏ عام‏96),‏ إلي أن رشح نفسه زعيما لحزب الفضيلة‏(‏ بعد حل الرفاه‏,‏ وحرمان أربكان من العمل السياسي‏),‏ ولكن أربكان والتيار التقليدي في الحزب تكتلا ضده ففاز بالزعامة المهندس رجائي قوطان‏(‏ كان آنذاك في السبعين من عمره‏).‏

ظلت هذه الصورة مهيمنة علي إدراك الكثيرين خصوصا المتابعين للشأن الإسلامي خارج تركيا‏,‏ وأنا واحد منهم‏,‏ وعلي البعد لم نلاحظ أن شباب الثلاثينيات أصبحوا في الخمسينيات‏,‏ وأن آفاقهم اتسعت‏,‏ وأفكارهم تطورت‏,‏ وأن رؤيتهم للعمل السياسي تأثرت بما اكتسبوه من خبرة خلال تلك الفترة‏(‏ أردوغان قضي أربعة أشهر في السجن‏),‏ وما تعلموه من دروس‏,‏ لعل أهمها تجربة الأستاذ نجم الدين أربكان في الحكم‏,‏ التي انتهت باستنفار العسكر والصدام مع قادتهم‏,‏ علي النحو الذي سنتحدث عنه بعد قليل‏.‏
حين أسس أردوغان ورفيقه عبدالله جول حزب‏(‏ العدالة والتنمية‏)‏ قبل سنة ونصف سنة‏,‏ استقبلت تلك الخطوة بحسبانها انشقاقا عاديا داخل الحركة الإسلامية‏,‏ كانت بوادره قد لاحت بالفعل في أثناء التنافس علي قيادة حزب الفضيلة‏(‏ في شهر مايو عام‏2000).‏ في الخارج لاحظنا التغير في الأشخاص‏,‏ ولم نلاحظ التغير في الأفكار‏,‏ ومن ثم فقد اعتبرنا أن حزب العدالة والتنمية امتداد أو عن الرفاه والفضيلة‏,‏ واعتقدنا أنه بمثابة قطار آخر يسير علي القضبان نفسه‏,‏ في حين كانت الحقيقة غير ذلك‏,‏ لأن الفريق الجديد كان قد اختط طريقا آخر واختار لمسيرته قضبانا مغايرة‏,‏ تختلف عن تلك التي عرفناها وألفناها‏.‏

‏(2)‏
بعدما التقيت في أنقرة واستنبول بعدد من السياسيين في المقدمة‏,‏ منهم عبدالله جول رئيس الوزراء وسليمان ديميريل الرئيس الأسبق‏,‏ وعدد آخر من الدبلوماسيين والمراقبين‏,‏ ومن ثم استمعت إلي وجهات النظر المختلفة‏,‏ خرجت بخلاصة مفادها أننا بصدد تجربة فريدة في الساحة التركية‏,‏ وأن جوهر الفرق بين أربكان وأردوغان يكمن في أن الأول نظر إلي تركيا الإسلامية‏,‏ ومن ثم فإنه أسس حزبا استلهم تجربة العمل الإسلامي في العالم العربي بوجه أخص‏.‏
أما الثاني فإنه تعامل مع الكمالية في تركيا المسلمة‏,‏ واختار صيغة في العمل السياسي نابعة من طبيعة وظروف الساحة التركية ولا علاقة لها بما يجري في عالمنا‏.‏ إن شئت فقل إن أربكان وضع الإسلام أمامه‏,‏ أما أردوغان فإنه وضعه في قلبه‏,‏ وفي حين لم يتردد الأول في أن يشتبك مع المؤسسة العلمانية الكمالية ويستفزها‏(‏ مثلا‏:‏ عبر دعوة مشايخ الطرق إلي الإفطار في مقر رئاسة الوزراء ومحاولة إقامة مسجد في ميدان تقسيم باستنبول‏,‏ الذي يعد أحد رموز العلمانية الكمالية وفيه تمثال كبير لأتاتورك‏),‏ فإن الثاني جاء متصالحا مع المؤسسة العلمانية وحريصا علي تجنب الاشتباك أو الصدام معها‏,‏ حتي رفض مثلا الاستدراج للدخول في معركة بشأن الحجاب‏,‏ وقال في أكثر من مناسبة‏:‏ إن موضوعه ليس مدرجا ضمن أولويات برنامج الحزب أو الحكومة‏.‏
وإذا جاز لي أن أستطرد في المقابلة‏,‏ فقد أقول أيضا إن أربكان جعل من حزبه إطارا لحركة إسلامية‏,‏ في حين أراد أردوغان لحزبه أن يصبح مظلة لتجمع إصلاحي محافظ‏,‏ وقد حرص علي استخدام هذا الوصف في التعريف باتجاه حزبه‏,‏ وهو ما ألح عليه أيضا عبدالله جول أكثر من مرة‏,‏ ولأن هذه هي الحقيقة فلم يكن مستغربا أن يكرر الاثنان نفيهما لوصف الحزب بأنه إسلامي تبعا للمفهوم الشائع عندنا وعند غيرنا‏,‏ وتمسكهما بالصيغة التي لا تستبعد الإسلام ولكن تضعه في وعاء يتعايش فيه مع الديمقراطية والعلمانية وغيرهما من القيم السائدة في المجتمع التركي‏,‏ وهو ما يدعوني إلي القول بأن حزب العدالة أقرب إلي حزب الوفد في مصر مثلا منه إلي الإخوان المسلمين‏.‏

‏(3)‏
قد لا نبالغ إذا قلنا إن الجغرافيا فضلا عن التاريخ تآمرا علي الهوية التركية‏,‏ حتي حولاها إلي حالة بالغة الخصوصية‏,‏ يندر أن نجد لها مثيلا في الشرق أو الغرب‏.‏ فقد فرضت الجغرافيا علي تركيا أن يكون جزء منها في أوروبا‏(‏ بنسبة‏3%‏ ويطلق عليه تراقيا‏),‏ والجزء الآخر في آسيا‏,‏ وهو المعروف باسم الأناضول‏,‏ الأمر الذي جعل لها نسبا هنا وقدما هناك‏,‏ وحولها بالتالي إلي منطقة تجازب بين الشرق والغرب‏.‏
وعلي الرغم من أن المراجع التاريخية تتحدث عن علاقات للأتراك بأوروبا في القرن الثالث قبل الميلاد‏,‏ الذين توغلوا فيها وأسسوا الإمبراطورية الهونية الغربية‏,‏ كما تتحدث عن توجه السلطان سليم الثالث صوب الغرب في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي‏,‏ لتحديث بلاده وانتشالها من وهدتها‏,‏ فإن القدر المتيقن أن كمال أتاتورك هو الذي عمل علي انتزاع تركيا من الشرق بالكامل والتحاقها بالغرب‏,‏ وقد سعي إلي ذلك منذ تأسيس الجمهورية في عام‏1923‏ علي أنقاض الخلافة العثمانية التي ألغاها‏,‏ حيث كانت تلك بداية القطيعة بين تركيا ومختلف مظاهر الانتماء إلي الإسلام‏,‏ الذي ألغي كدين رسمي للدولة‏,‏ وجري النص في الدستور‏(‏ عام‏1937)‏ علي أن تركيا دولة علمانية‏,‏ ولأنها كانت علمانية علي النمط الفرنسي المخاصم للدين‏(‏ علي عكس العلمانية الأنجلوسكسونية المتصالحة مع الدين‏,‏ وفي ظلها اعتبرت ملكة انجلترا رئيسة للكنيسة‏),‏ فقد أصبح نفي الدين والضيق بمختلف مظاهر التدين في مكونات الجمهورية التركية‏,‏ وجزءا من ثقافة النخبة‏,‏ واعتبر الجيش حارسا لهذا الموقف‏,‏ باعتباره حارسا للنظام الجمهوري‏.‏
خلال سبعين عاما من الحكم الجمهوري‏,‏ نشأت أجيال تربت علي تلك الثقافة‏,‏ والتقت علي قيمها مؤسسات ضخمة ومصالح هائلة وارتباطات يتعذر الإحاطة بحدودها أو تشعباتها‏,‏ وتحول هؤلاء جمعيا إلي مراكز قوي سياسية واقتصادية وعسكرية‏,‏ تقمع بشدة أي بادرة تشتم فيها رائحة الخروج علي النص الكمالي‏,‏ إذا جاز التعبير‏,‏ ليس ذلك وحسب‏,‏ وإنما تولي هؤلاء تحديد ضوابط اللعبة السياسية وقواعدها‏,‏ والمباح وغير المباح فيها‏,‏ وأصبح مجلس الأمن القومي الذي يشارك فيه رئيس الأركان وقادة أسلحة الجيش مع عدد من كبار المسئولين المدنيين‏,‏ في مقدمتهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء‏,‏ هو المرجعية الحقيقية التي تحدد شروط اللعبة السياسية وسقفها‏,‏ كما تحدد رؤيتهم للعلمانية‏.‏

‏(4)‏
خلال العهد الجمهوري‏,‏ منذ عام‏1923,‏ أصبحت تركيا بمثابة جسم مسلم‏(99%‏ من السكان يدينون بالإسلام‏)‏ له رأس علماني مخاصم للإسلام‏,‏ ولمختلف مظاهر التدين‏,‏ وحتي سنة‏1970‏ كان النشاط الإسلامي محصورا في بقايا الطرق الصوفية التي لجأت إلي العمل السري‏,‏ بعدما حظر الكماليون وجودها ولاحقوا أفرادها طوال فترة الحزب الواحد‏(‏ بين عامي‏23‏ و‏1950),‏ وكان جل اهتمام تلك الطرق منصبا علي حماية البنية الفكرية والاجتماعية لها من التفكك والإبادة‏,‏ ولم تمارس بطبيعتها أي نشاط سياسي‏,‏ ناهيك عن أنها لم تمارس أي نشاط علني‏.‏
غير أن المياه الراكدة في التحرك ابتداء من عام‏1950,‏ بعد تطبيق التعددية السياسية‏,‏ في إطار احتذاء النموذج الغربي‏,‏ وفوز الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس‏,‏ الذي ترأس الوزارة‏,‏ وفي محاولة من جانبه لامتصاص التوتر السائد في مجتمع من جراء الحملة علي مظاهر التدين‏,‏ فإنه اتخذ مجموعة من الخطوات البسيطة‏,‏ مثل إعادة رفع الأذان باللغة العربية‏,‏ بعدما كان يرفع بالتركية‏,‏ والسماح بإذاعة تلاوة القرآن مرة كل أسبوع‏(‏ صباح الجمعة‏),‏ ومرتين في اليوم‏(‏ صباحا ومساء‏)‏ خلال شهر رمضان‏,‏ وفتح مدارس الأئمة والخطباء‏,‏ وإدخال المواد الدينية ضمن برامج المدارس الابتدائية‏,‏ غير أن تلك الإجراءات قوبلت بغضب شديد من جانب قادة الجيش‏,‏ التي اعتبرتها عودة إلي الرجعية وارتدادا إلي عصور الظلام‏,‏ وانتهز الجيش أجواء الأزمة الاقتصادية والسياسية التي عانت منها تركيا في أواخر الخمسينيات‏,‏ فقام قادته بانقلاب في عام‏1960‏ أطاحوا فيه بحكومة عدنان مندريس‏,‏ انتهي بإعدام الرجل ووزيري الخارجية والمالية في حكومته‏,‏ وكانت تلك بداية عسكرة الديمقراطية التركية‏,‏ التي مازالت مستمرة إلي الآن‏.‏

لم يغلق إعدام مندريس ملف الانبعاث الإسلامي النسبي في تركيا‏,‏ لأن السنوات العشر التي مرت بين عامي‏1950‏ و‏1960‏ أتاحت للإسلام الفكري والاجتماعي أن يلتقط أنفاسه‏,‏ وأن يعبر عن بعض تطلعاته‏,‏ وفي الوقت نفسه فإنها أتاحت للعامل الإسلامي أن يثبت حضوره في الحياة السياسية من خلال بعض أحزاب النظام نفسه‏.‏
وإذا لاحظت أن مظاهر الانبعاث الذي نتحدث عنه لا تتجاوز الحدود الدنيا التي تتراوح بين رفع الأذان باللغة العربية وإتاحة الفرصة لتعريف تلاميذ المدارس بدينهم‏,‏ فإن ذلك يبين لك الفارق بين مدلول المصطلح هناك ومدلوله في عالمنا العربي علي سبيل المثال‏,‏ وهذا الفارق حاصل في استخدام مصطلحات أخري كثيرة‏,‏ هي عندهم مسكونة بمعان مختلفة تماما عنها في بلادنا‏,‏ حتي إن مصلطح الإسلام السياسي مثلا لا يعدو في المفهوم التركي أن يكون تعبيرا عن الهوية الإسلامية وبعض مظاهر الالتزام بالشعائر‏,‏ وليس له أي صلة بفكرة الدولة الإسلامية‏.‏

هذا الحضور الإسلامي المتواضع في الحياة العامة التركية ظل قائما بدرجات متفاوتة في بعض الأحزاب السياسية التي ضمت متدينين واحترمت شعائر الإسلام‏(‏ حزب العدالة بزعامة سليمان ديميريل‏,‏ وحزب الوطن الأم الذي أسسه توركت أوزال‏),‏ غير أن ذلك الحضور تبلور لأول مرة في حزب سياسي مستقل مع تأسيس البروفيسور نجم الدين أربكان لحزب النظام الوطني في سنة‏1970,‏ ثم حزب السلام الوطني‏,‏ ومشاركة أربكان بصفته تلك في ثلاث حكومات‏,‏ ترأسها مرة بولنت أجاويد اليساري‏,‏ ومرتين سليمان ديميريل المحسوب علي اليمين‏,‏ وكانت تلك المشاركات‏,‏ فضلا عن التحولات التي شهدتها تركيا في الثمانينيات والتطورات العالمية في التسعينيات‏,‏ هي التي فتحت الطريق للصعود التدريجي لثالث الأحزاب الإسلامية التي شكلها أربكان‏(‏ الرفاه‏),‏ حتي فاز بالمرتبة الأولي في انتخابات البلدية عام‏94,‏ والنيابية عام‏95,‏ وهو الصعود الذي لم تحتمله أيضا مراكز القوي العلمانية‏,‏ بأذرعها العسكرية والإعلامية والاقتصادية‏,‏ الأمر الذي أدي إلي تدخل القيادة العسكرية التي أرادت وضع حد لحضور أربكان وحزبه في الساحة السياسية‏,‏ وهو ما دعا مجلس الأمن القومي إلي القيام بانقلاب أبيض في‏28‏ فبراير سنة‏97,‏ حيث اجتمع أركانه وأصدروا عدة قرارات استهدفت وقف مختلف الأنشطة الإسلامية‏,‏ وأجبرت نجم الدين أربكان علي الاستقالة من رئاسة الحكومة‏(‏ حكم القضاء بحل حزبه وسجنه لاحقا‏),‏ وبهذه الخطوة أسدل الستار ـ ولو مؤقتا ـ علي تجربة أربكان وحزبه في المسرح السياسي التركي‏.‏

‏(5)‏
هذه التحولات كلها كانت حاضرة في إدراك قادة حزب العدالة‏,‏ الذين كانوا جزءا منها في بعض مراحلها‏,‏ وإذ تعلموا دروسها‏,‏ واستوعبوا شروط النجاح والاستمرار في الساحة السياسية‏,‏ فإنهم حرصوا علي أن يقدموا صيغة تصالحية بين الدين والعلمانية والديمقراطية‏,‏ نجحت في استقطاب قطاع غير قليل من النخبة‏,‏ وقطاع كبير من الجماهير‏,‏ التي أعطتهم أصواتها وثقتها في الانتخابات‏,‏ وحين اعتبروا أنفسهم حزبا محافظا وديمقراطيا‏,‏ فقد كان ذلك يعني مباشرة التزامهم باحترام القيم الأساسية في المجتمع التركي وفي مقدمتها الدين والعلمانية‏,‏ وحين فعلوا ذلك فإنهم استعادوا الركن المغيب في الهوية السياسية التركية‏,‏ وهو الدين الذي نفته العلمانية الكمالية في مشروعها المهيمن منذ سبعة عقود‏,‏ وفي حدود السقف المتاح‏,‏ فإن استدعاءهم للدين تم في الإطار الاجتماعي وليس السياسي‏,‏ وبذلك فإنهم قدموا المشروع الإصلاحي علي الأيديولوجي‏,‏ وهو ما يفسر تقليلهم من شأن معركة الحجاب التي افتعلها العلمانيون الغلاة‏,‏ وانشغالهم عنها بمواجهة الأزمة الاقتصادية وتعزيز الحريات والانضمام إلي الاتحاد الأوروبي‏.‏
أختم بملاحظتين مهتمين لنافي العالم العربي‏,‏ الأولي‏:‏ أن قادة حزب العدالة قدموا صيغة للعمل السياسي استخلصوها من خصوصية الواقع التركي‏,‏ بشروطه وسقفه‏,‏ تعاملت مع الحد الممكن وليس الحد الأقصي‏,‏ ومع الحقائق وليس مع الأمنيات‏.‏
أما الملاحظة الثانية فهي أن تطوير مشروعهم وإنضاجه لم يتم من خلال الجلوس علي المكاتب أو الحوار في القاعات المغلفة‏,‏ لكنها أجواءالممارسة الديمقراطية علي الرغم من محدوديتها‏,‏ هي التي أتاحت فرصة التطوير والإنضاج واكتساب الخبرات‏,‏ وهو ما أسجله تعليقا علي الأصوات التي ترددت في بعض وسائل الإعلام داعية أصحاب المشروع الإسلامي إلي تطوير برامجهم وأفكارهم‏,‏ متجاهلين الشرط الأساسي لإطلاق شرارة التطوير‏,‏ وهو الممارسة التي وفرتها أجواء العافية الديمقراطية‏,‏ وناسين أن الحصان ينبغي أن يوضع أمام العربة لكي تسير‏,‏ بل إن منهم من افترض أن العربة يمكن أن تسير بغير حصان‏!‏
أضافة تعليق