10-12-2002
ثمة فارق بين الأصل والصورة في المشهد التركي, وهو ما لمسته في أثناء زيارة قمت بها في الأسبوع الماضي لأنقرة واستنبول, أقنعتني مجددا بأنه ليس من رأي كمن سمع أو قرأ, ذلك أن ما وقعت عليه هناك يدعونا إلي إعادة النظر في الكثير مما استقر في أذهاننا في حقيقة الزلزال الذي وقع هناك.
(1)
لا يزال الزلزال عنوانا لما جري في اليوم الثالث من نوفمبر, حين فاز حزب العدالة والتنمية بأغلبية كاسحة في الانتخابات النيابية( حصد34% من الأصوات), جعلته يقلب الساحة رأسا علي عقب ويشكل الحكومة منفردا, علي الرغم من أنه دخل إلي حلبة الملاكمة السياسية منذ خمسة عشر شهرا فقط, لكن ما اختلف في المقارنة بين الأصل والصورة هو طبيعة الزلزال, وخلفياته واتجاهاته ومقاصده, وجاء هذا الاختلاف نتيجة للطريقة التي قرأنا بها الحدث, حيث قرأناه اعتمادا علي ذاكرة التاريخ, وأحيانا تعلقا بما تمنيناه, وليس استنادا إلي حقائق الواقع ومعطياته, وبعيون عربية وإسلامية وليس بعيون تركية, وإذ اختلف المنهج فقد كان طبيعيا أن تختلف النتائج, الأمر الذي قادنا إلي الكثير من الانطباعات والتحليلات غير الدقيقة أو الخاطئة, وهذه مسألة تحتاج إلي شرح, أستأذن في أن أعتمد فيه علي تجريتبي الشخصية.
فقادة حزب العدالة أعرفهم وأتابعهم منذ عقدين من الزمان تقريبا, خصوصا رئيسه رجب الطيب أردوغان ونائبه عبدالله جول رئيس الوزراء الحالي, إذ كانا آنذاك من بين الشباب الواعدين في الحركة الإسلامية, ممثلة في حزب الرفاه ثم حزب الفضيلة, والأب الروحي للحزبين هو الزعيم الإسلامي المعروف الدكتور نجم الدين أربكان, وقد لمع نجم أردوغان حين انتخب رئيسا لبلدية استنبول في منتصف التسعينيات وحقق نجاحا كبيرا رفع من شعبيته في العاصمة الثانية للبلاد. أما عبدالله جول فقد عرفته شابا متمردا وطموحا وداعيا إلي التجديد داخل الحركة الإسلامية, ثم وزيرا للعلاقات الخارجية في حكومة أربكان( عام96), إلي أن رشح نفسه زعيما لحزب الفضيلة( بعد حل الرفاه, وحرمان أربكان من العمل السياسي), ولكن أربكان والتيار التقليدي في الحزب تكتلا ضده ففاز بالزعامة المهندس رجائي قوطان( كان آنذاك في السبعين من عمره).
ظلت هذه الصورة مهيمنة علي إدراك الكثيرين خصوصا المتابعين للشأن الإسلامي خارج تركيا, وأنا واحد منهم, وعلي البعد لم نلاحظ أن شباب الثلاثينيات أصبحوا في الخمسينيات, وأن آفاقهم اتسعت, وأفكارهم تطورت, وأن رؤيتهم للعمل السياسي تأثرت بما اكتسبوه من خبرة خلال تلك الفترة( أردوغان قضي أربعة أشهر في السجن), وما تعلموه من دروس, لعل أهمها تجربة الأستاذ نجم الدين أربكان في الحكم, التي انتهت باستنفار العسكر والصدام مع قادتهم, علي النحو الذي سنتحدث عنه بعد قليل.
حين أسس أردوغان ورفيقه عبدالله جول حزب( العدالة والتنمية) قبل سنة ونصف سنة, استقبلت تلك الخطوة بحسبانها انشقاقا عاديا داخل الحركة الإسلامية, كانت بوادره قد لاحت بالفعل في أثناء التنافس علي قيادة حزب الفضيلة( في شهر مايو عام2000). في الخارج لاحظنا التغير في الأشخاص, ولم نلاحظ التغير في الأفكار, ومن ثم فقد اعتبرنا أن حزب العدالة والتنمية امتداد أو عن الرفاه والفضيلة, واعتقدنا أنه بمثابة قطار آخر يسير علي القضبان نفسه, في حين كانت الحقيقة غير ذلك, لأن الفريق الجديد كان قد اختط طريقا آخر واختار لمسيرته قضبانا مغايرة, تختلف عن تلك التي عرفناها وألفناها.
(2)
بعدما التقيت في أنقرة واستنبول بعدد من السياسيين في المقدمة, منهم عبدالله جول رئيس الوزراء وسليمان ديميريل الرئيس الأسبق, وعدد آخر من الدبلوماسيين والمراقبين, ومن ثم استمعت إلي وجهات النظر المختلفة, خرجت بخلاصة مفادها أننا بصدد تجربة فريدة في الساحة التركية, وأن جوهر الفرق بين أربكان وأردوغان يكمن في أن الأول نظر إلي تركيا الإسلامية, ومن ثم فإنه أسس حزبا استلهم تجربة العمل الإسلامي في العالم العربي بوجه أخص.
أما الثاني فإنه تعامل مع الكمالية في تركيا المسلمة, واختار صيغة في العمل السياسي نابعة من طبيعة وظروف الساحة التركية ولا علاقة لها بما يجري في عالمنا. إن شئت فقل إن أربكان وضع الإسلام أمامه, أما أردوغان فإنه وضعه في قلبه, وفي حين لم يتردد الأول في أن يشتبك مع المؤسسة العلمانية الكمالية ويستفزها( مثلا: عبر دعوة مشايخ الطرق إلي الإفطار في مقر رئاسة الوزراء ومحاولة إقامة مسجد في ميدان تقسيم باستنبول, الذي يعد أحد رموز العلمانية الكمالية وفيه تمثال كبير لأتاتورك), فإن الثاني جاء متصالحا مع المؤسسة العلمانية وحريصا علي تجنب الاشتباك أو الصدام معها, حتي رفض مثلا الاستدراج للدخول في معركة بشأن الحجاب, وقال في أكثر من مناسبة: إن موضوعه ليس مدرجا ضمن أولويات برنامج الحزب أو الحكومة.
وإذا جاز لي أن أستطرد في المقابلة, فقد أقول أيضا إن أربكان جعل من حزبه إطارا لحركة إسلامية, في حين أراد أردوغان لحزبه أن يصبح مظلة لتجمع إصلاحي محافظ, وقد حرص علي استخدام هذا الوصف في التعريف باتجاه حزبه, وهو ما ألح عليه أيضا عبدالله جول أكثر من مرة, ولأن هذه هي الحقيقة فلم يكن مستغربا أن يكرر الاثنان نفيهما لوصف الحزب بأنه إسلامي تبعا للمفهوم الشائع عندنا وعند غيرنا, وتمسكهما بالصيغة التي لا تستبعد الإسلام ولكن تضعه في وعاء يتعايش فيه مع الديمقراطية والعلمانية وغيرهما من القيم السائدة في المجتمع التركي, وهو ما يدعوني إلي القول بأن حزب العدالة أقرب إلي حزب الوفد في مصر مثلا منه إلي الإخوان المسلمين.
(3)
قد لا نبالغ إذا قلنا إن الجغرافيا فضلا عن التاريخ تآمرا علي الهوية التركية, حتي حولاها إلي حالة بالغة الخصوصية, يندر أن نجد لها مثيلا في الشرق أو الغرب. فقد فرضت الجغرافيا علي تركيا أن يكون جزء منها في أوروبا( بنسبة3% ويطلق عليه تراقيا), والجزء الآخر في آسيا, وهو المعروف باسم الأناضول, الأمر الذي جعل لها نسبا هنا وقدما هناك, وحولها بالتالي إلي منطقة تجازب بين الشرق والغرب.
وعلي الرغم من أن المراجع التاريخية تتحدث عن علاقات للأتراك بأوروبا في القرن الثالث قبل الميلاد, الذين توغلوا فيها وأسسوا الإمبراطورية الهونية الغربية, كما تتحدث عن توجه السلطان سليم الثالث صوب الغرب في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي, لتحديث بلاده وانتشالها من وهدتها, فإن القدر المتيقن أن كمال أتاتورك هو الذي عمل علي انتزاع تركيا من الشرق بالكامل والتحاقها بالغرب, وقد سعي إلي ذلك منذ تأسيس الجمهورية في عام1923 علي أنقاض الخلافة العثمانية التي ألغاها, حيث كانت تلك بداية القطيعة بين تركيا ومختلف مظاهر الانتماء إلي الإسلام, الذي ألغي كدين رسمي للدولة, وجري النص في الدستور( عام1937) علي أن تركيا دولة علمانية, ولأنها كانت علمانية علي النمط الفرنسي المخاصم للدين( علي عكس العلمانية الأنجلوسكسونية المتصالحة مع الدين, وفي ظلها اعتبرت ملكة انجلترا رئيسة للكنيسة), فقد أصبح نفي الدين والضيق بمختلف مظاهر التدين في مكونات الجمهورية التركية, وجزءا من ثقافة النخبة, واعتبر الجيش حارسا لهذا الموقف, باعتباره حارسا للنظام الجمهوري.
خلال سبعين عاما من الحكم الجمهوري, نشأت أجيال تربت علي تلك الثقافة, والتقت علي قيمها مؤسسات ضخمة ومصالح هائلة وارتباطات يتعذر الإحاطة بحدودها أو تشعباتها, وتحول هؤلاء جمعيا إلي مراكز قوي سياسية واقتصادية وعسكرية, تقمع بشدة أي بادرة تشتم فيها رائحة الخروج علي النص الكمالي, إذا جاز التعبير, ليس ذلك وحسب, وإنما تولي هؤلاء تحديد ضوابط اللعبة السياسية وقواعدها, والمباح وغير المباح فيها, وأصبح مجلس الأمن القومي الذي يشارك فيه رئيس الأركان وقادة أسلحة الجيش مع عدد من كبار المسئولين المدنيين, في مقدمتهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء, هو المرجعية الحقيقية التي تحدد شروط اللعبة السياسية وسقفها, كما تحدد رؤيتهم للعلمانية.
(4)
خلال العهد الجمهوري, منذ عام1923, أصبحت تركيا بمثابة جسم مسلم(99% من السكان يدينون بالإسلام) له رأس علماني مخاصم للإسلام, ولمختلف مظاهر التدين, وحتي سنة1970 كان النشاط الإسلامي محصورا في بقايا الطرق الصوفية التي لجأت إلي العمل السري, بعدما حظر الكماليون وجودها ولاحقوا أفرادها طوال فترة الحزب الواحد( بين عامي23 و1950), وكان جل اهتمام تلك الطرق منصبا علي حماية البنية الفكرية والاجتماعية لها من التفكك والإبادة, ولم تمارس بطبيعتها أي نشاط سياسي, ناهيك عن أنها لم تمارس أي نشاط علني.
غير أن المياه الراكدة في التحرك ابتداء من عام1950, بعد تطبيق التعددية السياسية, في إطار احتذاء النموذج الغربي, وفوز الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس, الذي ترأس الوزارة, وفي محاولة من جانبه لامتصاص التوتر السائد في مجتمع من جراء الحملة علي مظاهر التدين, فإنه اتخذ مجموعة من الخطوات البسيطة, مثل إعادة رفع الأذان باللغة العربية, بعدما كان يرفع بالتركية, والسماح بإذاعة تلاوة القرآن مرة كل أسبوع( صباح الجمعة), ومرتين في اليوم( صباحا ومساء) خلال شهر رمضان, وفتح مدارس الأئمة والخطباء, وإدخال المواد الدينية ضمن برامج المدارس الابتدائية, غير أن تلك الإجراءات قوبلت بغضب شديد من جانب قادة الجيش, التي اعتبرتها عودة إلي الرجعية وارتدادا إلي عصور الظلام, وانتهز الجيش أجواء الأزمة الاقتصادية والسياسية التي عانت منها تركيا في أواخر الخمسينيات, فقام قادته بانقلاب في عام1960 أطاحوا فيه بحكومة عدنان مندريس, انتهي بإعدام الرجل ووزيري الخارجية والمالية في حكومته, وكانت تلك بداية عسكرة الديمقراطية التركية, التي مازالت مستمرة إلي الآن.
لم يغلق إعدام مندريس ملف الانبعاث الإسلامي النسبي في تركيا, لأن السنوات العشر التي مرت بين عامي1950 و1960 أتاحت للإسلام الفكري والاجتماعي أن يلتقط أنفاسه, وأن يعبر عن بعض تطلعاته, وفي الوقت نفسه فإنها أتاحت للعامل الإسلامي أن يثبت حضوره في الحياة السياسية من خلال بعض أحزاب النظام نفسه.
وإذا لاحظت أن مظاهر الانبعاث الذي نتحدث عنه لا تتجاوز الحدود الدنيا التي تتراوح بين رفع الأذان باللغة العربية وإتاحة الفرصة لتعريف تلاميذ المدارس بدينهم, فإن ذلك يبين لك الفارق بين مدلول المصطلح هناك ومدلوله في عالمنا العربي علي سبيل المثال, وهذا الفارق حاصل في استخدام مصطلحات أخري كثيرة, هي عندهم مسكونة بمعان مختلفة تماما عنها في بلادنا, حتي إن مصلطح الإسلام السياسي مثلا لا يعدو في المفهوم التركي أن يكون تعبيرا عن الهوية الإسلامية وبعض مظاهر الالتزام بالشعائر, وليس له أي صلة بفكرة الدولة الإسلامية.
هذا الحضور الإسلامي المتواضع في الحياة العامة التركية ظل قائما بدرجات متفاوتة في بعض الأحزاب السياسية التي ضمت متدينين واحترمت شعائر الإسلام( حزب العدالة بزعامة سليمان ديميريل, وحزب الوطن الأم الذي أسسه توركت أوزال), غير أن ذلك الحضور تبلور لأول مرة في حزب سياسي مستقل مع تأسيس البروفيسور نجم الدين أربكان لحزب النظام الوطني في سنة1970, ثم حزب السلام الوطني, ومشاركة أربكان بصفته تلك في ثلاث حكومات, ترأسها مرة بولنت أجاويد اليساري, ومرتين سليمان ديميريل المحسوب علي اليمين, وكانت تلك المشاركات, فضلا عن التحولات التي شهدتها تركيا في الثمانينيات والتطورات العالمية في التسعينيات, هي التي فتحت الطريق للصعود التدريجي لثالث الأحزاب الإسلامية التي شكلها أربكان( الرفاه), حتي فاز بالمرتبة الأولي في انتخابات البلدية عام94, والنيابية عام95, وهو الصعود الذي لم تحتمله أيضا مراكز القوي العلمانية, بأذرعها العسكرية والإعلامية والاقتصادية, الأمر الذي أدي إلي تدخل القيادة العسكرية التي أرادت وضع حد لحضور أربكان وحزبه في الساحة السياسية, وهو ما دعا مجلس الأمن القومي إلي القيام بانقلاب أبيض في28 فبراير سنة97, حيث اجتمع أركانه وأصدروا عدة قرارات استهدفت وقف مختلف الأنشطة الإسلامية, وأجبرت نجم الدين أربكان علي الاستقالة من رئاسة الحكومة( حكم القضاء بحل حزبه وسجنه لاحقا), وبهذه الخطوة أسدل الستار ـ ولو مؤقتا ـ علي تجربة أربكان وحزبه في المسرح السياسي التركي.
(5)
هذه التحولات كلها كانت حاضرة في إدراك قادة حزب العدالة, الذين كانوا جزءا منها في بعض مراحلها, وإذ تعلموا دروسها, واستوعبوا شروط النجاح والاستمرار في الساحة السياسية, فإنهم حرصوا علي أن يقدموا صيغة تصالحية بين الدين والعلمانية والديمقراطية, نجحت في استقطاب قطاع غير قليل من النخبة, وقطاع كبير من الجماهير, التي أعطتهم أصواتها وثقتها في الانتخابات, وحين اعتبروا أنفسهم حزبا محافظا وديمقراطيا, فقد كان ذلك يعني مباشرة التزامهم باحترام القيم الأساسية في المجتمع التركي وفي مقدمتها الدين والعلمانية, وحين فعلوا ذلك فإنهم استعادوا الركن المغيب في الهوية السياسية التركية, وهو الدين الذي نفته العلمانية الكمالية في مشروعها المهيمن منذ سبعة عقود, وفي حدود السقف المتاح, فإن استدعاءهم للدين تم في الإطار الاجتماعي وليس السياسي, وبذلك فإنهم قدموا المشروع الإصلاحي علي الأيديولوجي, وهو ما يفسر تقليلهم من شأن معركة الحجاب التي افتعلها العلمانيون الغلاة, وانشغالهم عنها بمواجهة الأزمة الاقتصادية وتعزيز الحريات والانضمام إلي الاتحاد الأوروبي.
أختم بملاحظتين مهتمين لنافي العالم العربي, الأولي: أن قادة حزب العدالة قدموا صيغة للعمل السياسي استخلصوها من خصوصية الواقع التركي, بشروطه وسقفه, تعاملت مع الحد الممكن وليس الحد الأقصي, ومع الحقائق وليس مع الأمنيات.
أما الملاحظة الثانية فهي أن تطوير مشروعهم وإنضاجه لم يتم من خلال الجلوس علي المكاتب أو الحوار في القاعات المغلفة, لكنها أجواءالممارسة الديمقراطية علي الرغم من محدوديتها, هي التي أتاحت فرصة التطوير والإنضاج واكتساب الخبرات, وهو ما أسجله تعليقا علي الأصوات التي ترددت في بعض وسائل الإعلام داعية أصحاب المشروع الإسلامي إلي تطوير برامجهم وأفكارهم, متجاهلين الشرط الأساسي لإطلاق شرارة التطوير, وهو الممارسة التي وفرتها أجواء العافية الديمقراطية, وناسين أن الحصان ينبغي أن يوضع أمام العربة لكي تسير, بل إن منهم من افترض أن العربة يمكن أن تسير بغير حصان!
ثمة فارق بين الأصل والصورة في المشهد التركي, وهو ما لمسته في أثناء زيارة قمت بها في الأسبوع الماضي لأنقرة واستنبول, أقنعتني مجددا بأنه ليس من رأي كمن سمع أو قرأ, ذلك أن ما وقعت عليه هناك يدعونا إلي إعادة النظر في الكثير مما استقر في أذهاننا في حقيقة الزلزال الذي وقع هناك.
(1)
لا يزال الزلزال عنوانا لما جري في اليوم الثالث من نوفمبر, حين فاز حزب العدالة والتنمية بأغلبية كاسحة في الانتخابات النيابية( حصد34% من الأصوات), جعلته يقلب الساحة رأسا علي عقب ويشكل الحكومة منفردا, علي الرغم من أنه دخل إلي حلبة الملاكمة السياسية منذ خمسة عشر شهرا فقط, لكن ما اختلف في المقارنة بين الأصل والصورة هو طبيعة الزلزال, وخلفياته واتجاهاته ومقاصده, وجاء هذا الاختلاف نتيجة للطريقة التي قرأنا بها الحدث, حيث قرأناه اعتمادا علي ذاكرة التاريخ, وأحيانا تعلقا بما تمنيناه, وليس استنادا إلي حقائق الواقع ومعطياته, وبعيون عربية وإسلامية وليس بعيون تركية, وإذ اختلف المنهج فقد كان طبيعيا أن تختلف النتائج, الأمر الذي قادنا إلي الكثير من الانطباعات والتحليلات غير الدقيقة أو الخاطئة, وهذه مسألة تحتاج إلي شرح, أستأذن في أن أعتمد فيه علي تجريتبي الشخصية.
فقادة حزب العدالة أعرفهم وأتابعهم منذ عقدين من الزمان تقريبا, خصوصا رئيسه رجب الطيب أردوغان ونائبه عبدالله جول رئيس الوزراء الحالي, إذ كانا آنذاك من بين الشباب الواعدين في الحركة الإسلامية, ممثلة في حزب الرفاه ثم حزب الفضيلة, والأب الروحي للحزبين هو الزعيم الإسلامي المعروف الدكتور نجم الدين أربكان, وقد لمع نجم أردوغان حين انتخب رئيسا لبلدية استنبول في منتصف التسعينيات وحقق نجاحا كبيرا رفع من شعبيته في العاصمة الثانية للبلاد. أما عبدالله جول فقد عرفته شابا متمردا وطموحا وداعيا إلي التجديد داخل الحركة الإسلامية, ثم وزيرا للعلاقات الخارجية في حكومة أربكان( عام96), إلي أن رشح نفسه زعيما لحزب الفضيلة( بعد حل الرفاه, وحرمان أربكان من العمل السياسي), ولكن أربكان والتيار التقليدي في الحزب تكتلا ضده ففاز بالزعامة المهندس رجائي قوطان( كان آنذاك في السبعين من عمره).
ظلت هذه الصورة مهيمنة علي إدراك الكثيرين خصوصا المتابعين للشأن الإسلامي خارج تركيا, وأنا واحد منهم, وعلي البعد لم نلاحظ أن شباب الثلاثينيات أصبحوا في الخمسينيات, وأن آفاقهم اتسعت, وأفكارهم تطورت, وأن رؤيتهم للعمل السياسي تأثرت بما اكتسبوه من خبرة خلال تلك الفترة( أردوغان قضي أربعة أشهر في السجن), وما تعلموه من دروس, لعل أهمها تجربة الأستاذ نجم الدين أربكان في الحكم, التي انتهت باستنفار العسكر والصدام مع قادتهم, علي النحو الذي سنتحدث عنه بعد قليل.
حين أسس أردوغان ورفيقه عبدالله جول حزب( العدالة والتنمية) قبل سنة ونصف سنة, استقبلت تلك الخطوة بحسبانها انشقاقا عاديا داخل الحركة الإسلامية, كانت بوادره قد لاحت بالفعل في أثناء التنافس علي قيادة حزب الفضيلة( في شهر مايو عام2000). في الخارج لاحظنا التغير في الأشخاص, ولم نلاحظ التغير في الأفكار, ومن ثم فقد اعتبرنا أن حزب العدالة والتنمية امتداد أو عن الرفاه والفضيلة, واعتقدنا أنه بمثابة قطار آخر يسير علي القضبان نفسه, في حين كانت الحقيقة غير ذلك, لأن الفريق الجديد كان قد اختط طريقا آخر واختار لمسيرته قضبانا مغايرة, تختلف عن تلك التي عرفناها وألفناها.
(2)
بعدما التقيت في أنقرة واستنبول بعدد من السياسيين في المقدمة, منهم عبدالله جول رئيس الوزراء وسليمان ديميريل الرئيس الأسبق, وعدد آخر من الدبلوماسيين والمراقبين, ومن ثم استمعت إلي وجهات النظر المختلفة, خرجت بخلاصة مفادها أننا بصدد تجربة فريدة في الساحة التركية, وأن جوهر الفرق بين أربكان وأردوغان يكمن في أن الأول نظر إلي تركيا الإسلامية, ومن ثم فإنه أسس حزبا استلهم تجربة العمل الإسلامي في العالم العربي بوجه أخص.
أما الثاني فإنه تعامل مع الكمالية في تركيا المسلمة, واختار صيغة في العمل السياسي نابعة من طبيعة وظروف الساحة التركية ولا علاقة لها بما يجري في عالمنا. إن شئت فقل إن أربكان وضع الإسلام أمامه, أما أردوغان فإنه وضعه في قلبه, وفي حين لم يتردد الأول في أن يشتبك مع المؤسسة العلمانية الكمالية ويستفزها( مثلا: عبر دعوة مشايخ الطرق إلي الإفطار في مقر رئاسة الوزراء ومحاولة إقامة مسجد في ميدان تقسيم باستنبول, الذي يعد أحد رموز العلمانية الكمالية وفيه تمثال كبير لأتاتورك), فإن الثاني جاء متصالحا مع المؤسسة العلمانية وحريصا علي تجنب الاشتباك أو الصدام معها, حتي رفض مثلا الاستدراج للدخول في معركة بشأن الحجاب, وقال في أكثر من مناسبة: إن موضوعه ليس مدرجا ضمن أولويات برنامج الحزب أو الحكومة.
وإذا جاز لي أن أستطرد في المقابلة, فقد أقول أيضا إن أربكان جعل من حزبه إطارا لحركة إسلامية, في حين أراد أردوغان لحزبه أن يصبح مظلة لتجمع إصلاحي محافظ, وقد حرص علي استخدام هذا الوصف في التعريف باتجاه حزبه, وهو ما ألح عليه أيضا عبدالله جول أكثر من مرة, ولأن هذه هي الحقيقة فلم يكن مستغربا أن يكرر الاثنان نفيهما لوصف الحزب بأنه إسلامي تبعا للمفهوم الشائع عندنا وعند غيرنا, وتمسكهما بالصيغة التي لا تستبعد الإسلام ولكن تضعه في وعاء يتعايش فيه مع الديمقراطية والعلمانية وغيرهما من القيم السائدة في المجتمع التركي, وهو ما يدعوني إلي القول بأن حزب العدالة أقرب إلي حزب الوفد في مصر مثلا منه إلي الإخوان المسلمين.
(3)
قد لا نبالغ إذا قلنا إن الجغرافيا فضلا عن التاريخ تآمرا علي الهوية التركية, حتي حولاها إلي حالة بالغة الخصوصية, يندر أن نجد لها مثيلا في الشرق أو الغرب. فقد فرضت الجغرافيا علي تركيا أن يكون جزء منها في أوروبا( بنسبة3% ويطلق عليه تراقيا), والجزء الآخر في آسيا, وهو المعروف باسم الأناضول, الأمر الذي جعل لها نسبا هنا وقدما هناك, وحولها بالتالي إلي منطقة تجازب بين الشرق والغرب.
وعلي الرغم من أن المراجع التاريخية تتحدث عن علاقات للأتراك بأوروبا في القرن الثالث قبل الميلاد, الذين توغلوا فيها وأسسوا الإمبراطورية الهونية الغربية, كما تتحدث عن توجه السلطان سليم الثالث صوب الغرب في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي, لتحديث بلاده وانتشالها من وهدتها, فإن القدر المتيقن أن كمال أتاتورك هو الذي عمل علي انتزاع تركيا من الشرق بالكامل والتحاقها بالغرب, وقد سعي إلي ذلك منذ تأسيس الجمهورية في عام1923 علي أنقاض الخلافة العثمانية التي ألغاها, حيث كانت تلك بداية القطيعة بين تركيا ومختلف مظاهر الانتماء إلي الإسلام, الذي ألغي كدين رسمي للدولة, وجري النص في الدستور( عام1937) علي أن تركيا دولة علمانية, ولأنها كانت علمانية علي النمط الفرنسي المخاصم للدين( علي عكس العلمانية الأنجلوسكسونية المتصالحة مع الدين, وفي ظلها اعتبرت ملكة انجلترا رئيسة للكنيسة), فقد أصبح نفي الدين والضيق بمختلف مظاهر التدين في مكونات الجمهورية التركية, وجزءا من ثقافة النخبة, واعتبر الجيش حارسا لهذا الموقف, باعتباره حارسا للنظام الجمهوري.
خلال سبعين عاما من الحكم الجمهوري, نشأت أجيال تربت علي تلك الثقافة, والتقت علي قيمها مؤسسات ضخمة ومصالح هائلة وارتباطات يتعذر الإحاطة بحدودها أو تشعباتها, وتحول هؤلاء جمعيا إلي مراكز قوي سياسية واقتصادية وعسكرية, تقمع بشدة أي بادرة تشتم فيها رائحة الخروج علي النص الكمالي, إذا جاز التعبير, ليس ذلك وحسب, وإنما تولي هؤلاء تحديد ضوابط اللعبة السياسية وقواعدها, والمباح وغير المباح فيها, وأصبح مجلس الأمن القومي الذي يشارك فيه رئيس الأركان وقادة أسلحة الجيش مع عدد من كبار المسئولين المدنيين, في مقدمتهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء, هو المرجعية الحقيقية التي تحدد شروط اللعبة السياسية وسقفها, كما تحدد رؤيتهم للعلمانية.
(4)
خلال العهد الجمهوري, منذ عام1923, أصبحت تركيا بمثابة جسم مسلم(99% من السكان يدينون بالإسلام) له رأس علماني مخاصم للإسلام, ولمختلف مظاهر التدين, وحتي سنة1970 كان النشاط الإسلامي محصورا في بقايا الطرق الصوفية التي لجأت إلي العمل السري, بعدما حظر الكماليون وجودها ولاحقوا أفرادها طوال فترة الحزب الواحد( بين عامي23 و1950), وكان جل اهتمام تلك الطرق منصبا علي حماية البنية الفكرية والاجتماعية لها من التفكك والإبادة, ولم تمارس بطبيعتها أي نشاط سياسي, ناهيك عن أنها لم تمارس أي نشاط علني.
غير أن المياه الراكدة في التحرك ابتداء من عام1950, بعد تطبيق التعددية السياسية, في إطار احتذاء النموذج الغربي, وفوز الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس, الذي ترأس الوزارة, وفي محاولة من جانبه لامتصاص التوتر السائد في مجتمع من جراء الحملة علي مظاهر التدين, فإنه اتخذ مجموعة من الخطوات البسيطة, مثل إعادة رفع الأذان باللغة العربية, بعدما كان يرفع بالتركية, والسماح بإذاعة تلاوة القرآن مرة كل أسبوع( صباح الجمعة), ومرتين في اليوم( صباحا ومساء) خلال شهر رمضان, وفتح مدارس الأئمة والخطباء, وإدخال المواد الدينية ضمن برامج المدارس الابتدائية, غير أن تلك الإجراءات قوبلت بغضب شديد من جانب قادة الجيش, التي اعتبرتها عودة إلي الرجعية وارتدادا إلي عصور الظلام, وانتهز الجيش أجواء الأزمة الاقتصادية والسياسية التي عانت منها تركيا في أواخر الخمسينيات, فقام قادته بانقلاب في عام1960 أطاحوا فيه بحكومة عدنان مندريس, انتهي بإعدام الرجل ووزيري الخارجية والمالية في حكومته, وكانت تلك بداية عسكرة الديمقراطية التركية, التي مازالت مستمرة إلي الآن.
لم يغلق إعدام مندريس ملف الانبعاث الإسلامي النسبي في تركيا, لأن السنوات العشر التي مرت بين عامي1950 و1960 أتاحت للإسلام الفكري والاجتماعي أن يلتقط أنفاسه, وأن يعبر عن بعض تطلعاته, وفي الوقت نفسه فإنها أتاحت للعامل الإسلامي أن يثبت حضوره في الحياة السياسية من خلال بعض أحزاب النظام نفسه.
وإذا لاحظت أن مظاهر الانبعاث الذي نتحدث عنه لا تتجاوز الحدود الدنيا التي تتراوح بين رفع الأذان باللغة العربية وإتاحة الفرصة لتعريف تلاميذ المدارس بدينهم, فإن ذلك يبين لك الفارق بين مدلول المصطلح هناك ومدلوله في عالمنا العربي علي سبيل المثال, وهذا الفارق حاصل في استخدام مصطلحات أخري كثيرة, هي عندهم مسكونة بمعان مختلفة تماما عنها في بلادنا, حتي إن مصلطح الإسلام السياسي مثلا لا يعدو في المفهوم التركي أن يكون تعبيرا عن الهوية الإسلامية وبعض مظاهر الالتزام بالشعائر, وليس له أي صلة بفكرة الدولة الإسلامية.
هذا الحضور الإسلامي المتواضع في الحياة العامة التركية ظل قائما بدرجات متفاوتة في بعض الأحزاب السياسية التي ضمت متدينين واحترمت شعائر الإسلام( حزب العدالة بزعامة سليمان ديميريل, وحزب الوطن الأم الذي أسسه توركت أوزال), غير أن ذلك الحضور تبلور لأول مرة في حزب سياسي مستقل مع تأسيس البروفيسور نجم الدين أربكان لحزب النظام الوطني في سنة1970, ثم حزب السلام الوطني, ومشاركة أربكان بصفته تلك في ثلاث حكومات, ترأسها مرة بولنت أجاويد اليساري, ومرتين سليمان ديميريل المحسوب علي اليمين, وكانت تلك المشاركات, فضلا عن التحولات التي شهدتها تركيا في الثمانينيات والتطورات العالمية في التسعينيات, هي التي فتحت الطريق للصعود التدريجي لثالث الأحزاب الإسلامية التي شكلها أربكان( الرفاه), حتي فاز بالمرتبة الأولي في انتخابات البلدية عام94, والنيابية عام95, وهو الصعود الذي لم تحتمله أيضا مراكز القوي العلمانية, بأذرعها العسكرية والإعلامية والاقتصادية, الأمر الذي أدي إلي تدخل القيادة العسكرية التي أرادت وضع حد لحضور أربكان وحزبه في الساحة السياسية, وهو ما دعا مجلس الأمن القومي إلي القيام بانقلاب أبيض في28 فبراير سنة97, حيث اجتمع أركانه وأصدروا عدة قرارات استهدفت وقف مختلف الأنشطة الإسلامية, وأجبرت نجم الدين أربكان علي الاستقالة من رئاسة الحكومة( حكم القضاء بحل حزبه وسجنه لاحقا), وبهذه الخطوة أسدل الستار ـ ولو مؤقتا ـ علي تجربة أربكان وحزبه في المسرح السياسي التركي.
(5)
هذه التحولات كلها كانت حاضرة في إدراك قادة حزب العدالة, الذين كانوا جزءا منها في بعض مراحلها, وإذ تعلموا دروسها, واستوعبوا شروط النجاح والاستمرار في الساحة السياسية, فإنهم حرصوا علي أن يقدموا صيغة تصالحية بين الدين والعلمانية والديمقراطية, نجحت في استقطاب قطاع غير قليل من النخبة, وقطاع كبير من الجماهير, التي أعطتهم أصواتها وثقتها في الانتخابات, وحين اعتبروا أنفسهم حزبا محافظا وديمقراطيا, فقد كان ذلك يعني مباشرة التزامهم باحترام القيم الأساسية في المجتمع التركي وفي مقدمتها الدين والعلمانية, وحين فعلوا ذلك فإنهم استعادوا الركن المغيب في الهوية السياسية التركية, وهو الدين الذي نفته العلمانية الكمالية في مشروعها المهيمن منذ سبعة عقود, وفي حدود السقف المتاح, فإن استدعاءهم للدين تم في الإطار الاجتماعي وليس السياسي, وبذلك فإنهم قدموا المشروع الإصلاحي علي الأيديولوجي, وهو ما يفسر تقليلهم من شأن معركة الحجاب التي افتعلها العلمانيون الغلاة, وانشغالهم عنها بمواجهة الأزمة الاقتصادية وتعزيز الحريات والانضمام إلي الاتحاد الأوروبي.
أختم بملاحظتين مهتمين لنافي العالم العربي, الأولي: أن قادة حزب العدالة قدموا صيغة للعمل السياسي استخلصوها من خصوصية الواقع التركي, بشروطه وسقفه, تعاملت مع الحد الممكن وليس الحد الأقصي, ومع الحقائق وليس مع الأمنيات.
أما الملاحظة الثانية فهي أن تطوير مشروعهم وإنضاجه لم يتم من خلال الجلوس علي المكاتب أو الحوار في القاعات المغلفة, لكنها أجواءالممارسة الديمقراطية علي الرغم من محدوديتها, هي التي أتاحت فرصة التطوير والإنضاج واكتساب الخبرات, وهو ما أسجله تعليقا علي الأصوات التي ترددت في بعض وسائل الإعلام داعية أصحاب المشروع الإسلامي إلي تطوير برامجهم وأفكارهم, متجاهلين الشرط الأساسي لإطلاق شرارة التطوير, وهو الممارسة التي وفرتها أجواء العافية الديمقراطية, وناسين أن الحصان ينبغي أن يوضع أمام العربة لكي تسير, بل إن منهم من افترض أن العربة يمكن أن تسير بغير حصان!