مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
رياح الدعــايات المغشــوشـة
هويدي 1-10-2002

بشارة الموسم زفتها إلينا مستشارة الأمن القومي الأمريكي‏,‏ التي أعلنت في الأسبوع الماضي أن واشنطن ستقود مسيرة الحرية والديمقراطية في العالم الإسلامي‏,‏ ولأن الكلام لم يصدر في سياق ثرثرة علي مقهي‏,‏ ولا كان في مقام التندر أو الفكاهة‏,‏ وإنما جاء ضمن حوار نشرته صحيفة إنجليزية محترمة‏,‏ فليس أمامنا إلا أن نحمله علي محمل الجد‏,‏ فنتدبره ونحاول أن نسبر غوره‏,‏ ونتقصي خلفياته ومقاصده‏.‏

‏(1)‏
الكلام قالته السيدة كوندوليزا رايس في أثناء حوار نشرته صحيفة فينانشيال تايمز في‏9/23,‏ حيث ذكرت أن الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن الديمقراطية في العالم الإسلامي‏,‏ الأمرالذي يتطلب منها أن تقود مسيرة الحرية لدي المسلمين‏.‏ وفي هذا الصدد فإنها عبرت عن إعجابها وتقديرها للخطوات الإصلاحية التي تم اتخاذها في ثلاث دول عربية هي‏:‏ الأردن والبحرين وقطر‏.‏
هذا الادعاء بالدفاع عن الحرية والديمقراطية في العالم الإسلامي أصبح أحد محاور الخطاب السياسي والإعلامي في الولايات المتحدة‏,‏ خصوصا في أجواء الإعداد للهجوم علي العراق وإسقاط نظامه‏,‏ استنادا إلي مزاعم عدة‏.‏ وضعت فيها حكاية إعادة الاعتبار للديمقراطية هناك جنبا إلي جنب مع مسألة نزع أسلحة الدمارالشامل‏.‏

ذات المعني تردد بصيغة أخري في رسالة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أعلنها الرئيس بوش يوم‏9/21,‏ وقال فيها إن معركة الولايات المتحدة ضد الإرهاب تفرض عليها ــ وهي دولة الحرية والديمقراطية ــ أن تخوض معركة موازية ضد الأفكار في العالم الإسلامي‏.‏ وهو ما لايعد صداما بين الحضارات‏,‏ ولكنه صدام داخل الحضارة الإسلامية ذاتها يحدد مصير مجتمعاتها‏,‏ ومعركة كهذه لابد أن تتفوق فيها الولايات المتحدة وتكسبها‏.‏
وحسبما نشرت مجلة نيوزويك في عددها الأخير‏(10/1)‏ فإن زعيم الأقلية في مجلس النواب الأمريكي ديك جيبهارت ــ ديمقراطي منسوب إلي الصقور ــ صدق الحكاية واقترح أن يطلق علي الحملة العسكرية الموجهة ضد العراق اسم الانتصار لقيم الديمقراطية‏,‏ ولكن أحد كتاب المجلة ــ جوناثان آلتر ــ وجد أن العنوان يحمل طموحا أكثر من اللازم‏,‏ فاقترح اسما آخر أكثر تواضعا وحذرا هو‏:‏ بناء الجمهوريات‏.‏

هذا الكلام الذي يردده السياسيون‏,‏ عبر عنه سيل من الكتابات الصحفية‏,‏ التي سوقت أفكارهم بطرق شتي‏.‏ وكان توماس فريدمان واحدا من هؤلاء‏,‏ حيث نشرت له الشرق الأوسط في‏9/19‏ ــ نقلا عن لوس انجيليس تايمز ــ مقالة قال فيها إن إشاعة الديمقراطية في العراق أمر صعب للغاية‏,‏ لكن القدر المتيقن أنه لاسبيل إلي إيقاف الماكينة التي تنتج أجيال الإرهابيين‏,‏ إلا بمساعدة العرب‏(‏ أمريكيا بطبيعة الحال‏)‏ علي إحداث التغيير التدريجي للمناخ العام الذي يعيشون في ظلاله‏.‏ وهو مناخ تتحكم فيه ـ كما يقول ـ أنظمة غير ديمقراطية‏,‏ وقادة دينيون‏,‏ ورجال تربية معادون للحداثة‏.‏

‏(2)‏
ليس عندي دفاع عن الحالة الديمقراطية في العالم العربي‏,‏ فأمرها يعلمه الجميع‏.‏ غير أن الرسالة الأمريكية تثير أسئلة كثيرة في مقدمتها السؤال التالي‏:‏ هل الأمريكيون جادون في الدفاع عن الديمقراطية خارج حدود بلادهم؟
وبرغم أن نقض الادعاء بالدور الرسالي الذي تقوم به الإدارة الأمريكية في الدفاع عن الديمقراطية لايحتاج إلي مرافعة‏,‏ باعتبار انه بات عندنا من المعلوم بالضرورة في دنيا السياسة‏,‏ إلا أنني أود أن أضيف إلي علم الكافة بعضا من الخبرات الشخصية في هذا الصدد‏..‏

لقد كنت في زيارة لأفغانستان قبل أسبوعين‏,‏ وحرصت في أثناء لقاءاتي مع من أعرف من القادة الأفغان علي أن أتتبع ما جري في اجتماعات اللويا جيركا في شهر يونيو الماضي‏,‏ وهي الاجتماعات التي التقي فيها ممثلو الولايات والأعراق المختلفة بالبلاد‏(‏ بلغ عددهم‏1500‏ شخص‏)‏ لتقرير شكل ومؤسسات النظام الجديد بعد سقوط نظام حركة طالبان‏,‏ من الحكومة إلي مجلس الشوري والدستور‏,‏ وكان قد لفت نظري أن المجلس عقد وانقض بسرعة‏,‏ ولم يفعل شيئا أكثر من تشكيل الحكومة‏.‏
ألقيت أسئلتي في هذا الصدد علي الشيخ عبدرب الرسول سياف زعيم الاتحاد الإسلامي‏,‏ وأحد أركان التحالف الشمالي‏,‏ فأطلق ضحكة عالية وقال‏:‏ الديمقراطية الأمريكية هي التي أجهضت اللويا جيركا‏.‏ وحين طلبت مزيدا من الإيضاح قال‏:‏ تعرف أنه منذ تم إسقاط نظام طالبان فإن إرادة الشعب الأفغاني لم تقرر شيئا في مصير البلد‏.‏ الحكومة شكلت في بون بألمانيا‏,‏ وأعضاؤها تم اختيارهم بالاتفاق بين الأمريكيين وممثلي الأمم المتحدة‏.‏ وحين عقد اللويا جيركا تصور الأمريكيون أن حلقات السيناريو الذي وضعوه سوف تستمر‏.‏ خصوصا في هوية الدولة الجديدة ودستورها‏.‏ حيث أرادوا لها أن تكون دولة علمانية علي النموذج التركي‏,‏ وكان بعض المتأمريكين من الوزراء القادمين من الخارج‏,‏ وبعض الشيوعيين من مؤيدي ذلك الاتجاه الذي برز في أروقة المؤتمر وكواليسه‏,‏ وحين جرت مناقشة حول اسم الدولة التي أرادها انتقالية افغانية‏,‏ طلبت الكلمة وقلت إنه ينبغي أن نبقي علي الهوية الإسلامية للدولة‏,‏ ونضيف إلي اسمها هذه الصفة‏.‏ وما أن انتهيت من كلمتي حتي دوت القاعة بالتصفيق الشديد‏,‏ وأعلنت الأغلبية الساحقة تأيدها للاقتراح‏,‏ واستمر التصفيق حين وقف آية الله محسني ـ ممثل الشيعة ـ وأعلن تأييده للاقتراح‏,‏ الأمر الذي فوجئ به منظمو المؤتمر الذي أسقط في ييدهم‏,‏ بعدما وجدوا أن السنة والشيعة التفوا علي ضرورة إضفاء الصفة الإسلامية علي الدولة‏.‏ وأمام شبه الإجماع الذي حدث‏,‏ لم يكن أمامهم سوي التسليم‏,‏ والاستجابة لرغبة الأغلبية الساحقة‏.‏ وإزاء بروز الالتزام بالتوجه الإسلامي‏,‏ فإن منظمي المؤتمر خشوا أن تعبر تلك الروح عن نفسها في تشكيل البرلمان وصياغة الدستور‏,‏ ولذلك فإنهم تعجلوا إنهاء أعمال اللويا جيركا‏,‏ وتم الاكتفاء فيه بتشكيل الحكومة‏,‏ والسكوت علي القضايا الأخري‏.‏ وأضاف الشيخ سياف الذي لم تفارقه ضحكته قائلا‏:‏ ألا يذكرك ذلك بالديمقراطية التي دعا إليها الأمريكيون في فلسطين‏,‏ حيث أرادوها ديمقراطية لا تعيد انتخاب ياسر عرفات‏,‏ حتي وإن أيدته أغلبية الفلسطينيين‏.‏ إنهم فعلوا نفس الشئ عندنا‏,‏ أرادوها ديمقراطية علي هواهم‏.‏

‏(3)‏
استأذن في إيراد شهادة أخري‏,‏ وقعت عليها في جمهوريات آسيا الوسطي‏,‏ التي كنت في زيارة لها في شهر يوليو الماضي‏,‏ ذلك أن تلك الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة ظلت طيلة المرحلة السوفيتية تخضع لحكم قمعي متسلط نهب البلاد وأذل العباد‏.‏ وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي نالت تلك الجمهوريات استقلالها من الناحية القانونية علي الأقل‏,‏ لكن النخبة الحاكمة فيها ظلت كما هي‏,‏ بعدما غيرت من لافتاتها وشعاراتها‏,‏ إلا أنها ضاعفت من ممارساتها القمعية والاستبدادية‏,‏ لسبب جوهري هو أن الناس ظنوا أن غياب الشيوعية سيفتح الباب لهم كي يستردوا هويتهم ويشبعوا أشواقهم الإسلامية التي افتقدوها في العهد السابق‏,‏ وحين عبروا عن تلك الرغبة في تجليات شتي‏,‏ فإنها ووجهت بدرجة عالية من القمع الوحشي والشرس‏.‏
ما يهمنا في المشهد أن منطقة وسط آسيا استقبلت في مرحلة الإعداد للهجوم علي أفغانستان وجودا أمريكيا لأول مرة في تاريخها‏,‏ ترجم إلي قواعد عسكرية في نهاية المطاف‏,‏ أقيمت في ظل تحالفات واغراءات أمريكية مع الأنظمة القائمة‏,‏ المستبدة والقاهرة‏.‏ وكنت قد لقيت في موسكو عددا من اللاجئين الهاربين من البطش في بعض تلك الجمهوريات‏,‏ وخاصة اوزبكستان‏,‏ التي أصبحت أهم حليف للولايات المتحدة في وسط آسيا‏,‏ وكانت قواتها الخاصة وطائراتها قد انطلقت من أراضيها لكي تدعم قوات التحالف الشمالي‏,‏ وتقصف مواقع طالبان في مزار شريف وغيرها من المواقع الاستراتيجية‏.‏

ولولا أن الذين حدثوني من أبناء تلك الجمهوريات عن معاناة شعوبهم طلبوا مني كتمان أسمائهم حتي لايتعرض أهلوهم للأذي لنقلت علي لسان كل واحد منهم ما قاله‏.‏ لكني أحيل من يريد الوقوف علي التفاصيل إلي تقارير منظمة حقوق الإنسان الروسية‏,‏ التي أفردت فصولا مطولة لمختلف الانتهاكات التي تتم في جمهوريات اسيا الوسطي‏,‏ ولازوبكستان نصيب وافر منها‏.‏
في تركمانستان الغنية بالغاز‏,‏ إضافة أخري إلي مظاهر الاستبداد والتسلط‏,‏ تتمثل في المبالغة الشديدة في عبادة الفرد‏,‏ وهو ماتجلي في تنصيب زعيم البلاد الذي كان سكرتيرا للحزب الشيوعي في السابق ـ رئيسا مدي الحياة‏,‏ وإزالة مساكن الفقراء في العاصمة لإقامة تماثيل له تحيط بها الزينات والنوافير‏.‏ وابتداعه تقويما جديدا غير فيه اسماء الشهور‏,‏ بحيث تبدأ السنة بشهر تسمي باللقب الذي أطلقه علي نفسه‏(‏ تركمان باشي ومعناها ابو التركمان‏)‏ أما الشهر الخامس‏(‏ مايو‏)‏ فقد اصبح يحمل اسم السيدة والدته‏(‏ قربان سلطان‏)!‏

مايستخلصه المرء من مشهد تحالف الولايات المتحدة مع الزعماء الظلمة والطغاة في جمهوريات آسيا الوسطي هو أن مسألة الديمقراطية تصبح هاجسا وذريعة فقط حين لايكون النظام في خدمة السياسة الأمريكية‏,‏ الأمر الذي يدعونا إلي القول‏:‏ إن مشكلة الرئيس صدام حسين الحقيقية ليست في انه حاكم مستبد‏,‏ فهذه مسألة يمكن غض الطرف عنها‏,‏ ولكن انه وهو كذلك لم يوفق اوضاعه مع المصالح والسياسات الأمريكية‏.‏ يؤكد ذلك انه حينما فعلها قبل احتلال الكويت في عام‏91,‏ فانه كان مرضيا عنه‏,‏ وكانت مختلف ممارساته ـ بما في ذلك قصف الأكراد بالغاز السام في حلبجة ـ من قبيل العفو واللمم الذي يغتفر ولايفسد للود قضية‏!‏

‏(4)‏
لا أظن أن هذا الذي قلته أضاف جديدا إلي اقتناع أحد‏,‏ لأن مسألة تقدم المصالح علي المباديء أصبحت من القضايا المستقرة والمسلم بها لدي الإدراك العام‏,‏ وغاية مايمكن أن يقال أن ما أوردته من شواهد وملاحظات ربما أكد الاقتناع‏,‏ ولم ينشئه بأي حال‏.‏ الأمر الذي يعني أن الذين يروجون لمقولة الديمقراطية إنما يسوقون بضاعة يعرف الجميع أنها مغشوشة‏.‏
في الحالة العراقية لم يعد سرا أن لافتة الديمقراطية ليست سوي ستار‏,‏ اذا أزحته بيدك فلن تري سوي آبار النفط ولن تشم سوي رائحته‏.‏ كثيرون اشاروا إلي هذه المسألة‏,‏ وقد تحدث عنها بصراحة اثنان من كتاب واشنطن بوست‏(‏ عدد‏9/16)‏ حين قالا إن شركات النفط الأمريكية العملاقة هي التي ستدير بترول العراق بعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين‏.‏ وفيما يتعلق بروسيا وفرنسا اللتين أبرمتا صفقات اسطورية مع بغداد تقدر بنحو مائة مليار دولار‏,‏ فسيكون عليهما ارضاء الولايات المتحدة سياسيا أولا‏,‏ لكي تدرس منحهما حصصا مافي النفط العراقي‏.‏

هذا التوجه أكده احمد جبلي زعيم المؤتمر العراقي المعارض والمؤيد من واشنطن‏,‏ الذي قال انه يحبذ اقامة كونسيرتيوم بقيادة الولايات المتحدة‏,‏ لتطوير حقول النفط العراقية‏.‏
ذلك نموذج واحد للدعايات المغشوشة التي تروج بيننا هذه الأيام‏,‏ وللمسلسل بقية في الأسبوع القادم بإذن الله‏.‏
أضافة تعليق