هويدي 1-10-2002
بشارة الموسم زفتها إلينا مستشارة الأمن القومي الأمريكي, التي أعلنت في الأسبوع الماضي أن واشنطن ستقود مسيرة الحرية والديمقراطية في العالم الإسلامي, ولأن الكلام لم يصدر في سياق ثرثرة علي مقهي, ولا كان في مقام التندر أو الفكاهة, وإنما جاء ضمن حوار نشرته صحيفة إنجليزية محترمة, فليس أمامنا إلا أن نحمله علي محمل الجد, فنتدبره ونحاول أن نسبر غوره, ونتقصي خلفياته ومقاصده.
(1)
الكلام قالته السيدة كوندوليزا رايس في أثناء حوار نشرته صحيفة فينانشيال تايمز في9/23, حيث ذكرت أن الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن الديمقراطية في العالم الإسلامي, الأمرالذي يتطلب منها أن تقود مسيرة الحرية لدي المسلمين. وفي هذا الصدد فإنها عبرت عن إعجابها وتقديرها للخطوات الإصلاحية التي تم اتخاذها في ثلاث دول عربية هي: الأردن والبحرين وقطر.
هذا الادعاء بالدفاع عن الحرية والديمقراطية في العالم الإسلامي أصبح أحد محاور الخطاب السياسي والإعلامي في الولايات المتحدة, خصوصا في أجواء الإعداد للهجوم علي العراق وإسقاط نظامه, استنادا إلي مزاعم عدة. وضعت فيها حكاية إعادة الاعتبار للديمقراطية هناك جنبا إلي جنب مع مسألة نزع أسلحة الدمارالشامل.
ذات المعني تردد بصيغة أخري في رسالة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أعلنها الرئيس بوش يوم9/21, وقال فيها إن معركة الولايات المتحدة ضد الإرهاب تفرض عليها ــ وهي دولة الحرية والديمقراطية ــ أن تخوض معركة موازية ضد الأفكار في العالم الإسلامي. وهو ما لايعد صداما بين الحضارات, ولكنه صدام داخل الحضارة الإسلامية ذاتها يحدد مصير مجتمعاتها, ومعركة كهذه لابد أن تتفوق فيها الولايات المتحدة وتكسبها.
وحسبما نشرت مجلة نيوزويك في عددها الأخير(10/1) فإن زعيم الأقلية في مجلس النواب الأمريكي ديك جيبهارت ــ ديمقراطي منسوب إلي الصقور ــ صدق الحكاية واقترح أن يطلق علي الحملة العسكرية الموجهة ضد العراق اسم الانتصار لقيم الديمقراطية, ولكن أحد كتاب المجلة ــ جوناثان آلتر ــ وجد أن العنوان يحمل طموحا أكثر من اللازم, فاقترح اسما آخر أكثر تواضعا وحذرا هو: بناء الجمهوريات.
هذا الكلام الذي يردده السياسيون, عبر عنه سيل من الكتابات الصحفية, التي سوقت أفكارهم بطرق شتي. وكان توماس فريدمان واحدا من هؤلاء, حيث نشرت له الشرق الأوسط في9/19 ــ نقلا عن لوس انجيليس تايمز ــ مقالة قال فيها إن إشاعة الديمقراطية في العراق أمر صعب للغاية, لكن القدر المتيقن أنه لاسبيل إلي إيقاف الماكينة التي تنتج أجيال الإرهابيين, إلا بمساعدة العرب( أمريكيا بطبيعة الحال) علي إحداث التغيير التدريجي للمناخ العام الذي يعيشون في ظلاله. وهو مناخ تتحكم فيه ـ كما يقول ـ أنظمة غير ديمقراطية, وقادة دينيون, ورجال تربية معادون للحداثة.
(2)
ليس عندي دفاع عن الحالة الديمقراطية في العالم العربي, فأمرها يعلمه الجميع. غير أن الرسالة الأمريكية تثير أسئلة كثيرة في مقدمتها السؤال التالي: هل الأمريكيون جادون في الدفاع عن الديمقراطية خارج حدود بلادهم؟
وبرغم أن نقض الادعاء بالدور الرسالي الذي تقوم به الإدارة الأمريكية في الدفاع عن الديمقراطية لايحتاج إلي مرافعة, باعتبار انه بات عندنا من المعلوم بالضرورة في دنيا السياسة, إلا أنني أود أن أضيف إلي علم الكافة بعضا من الخبرات الشخصية في هذا الصدد..
لقد كنت في زيارة لأفغانستان قبل أسبوعين, وحرصت في أثناء لقاءاتي مع من أعرف من القادة الأفغان علي أن أتتبع ما جري في اجتماعات اللويا جيركا في شهر يونيو الماضي, وهي الاجتماعات التي التقي فيها ممثلو الولايات والأعراق المختلفة بالبلاد( بلغ عددهم1500 شخص) لتقرير شكل ومؤسسات النظام الجديد بعد سقوط نظام حركة طالبان, من الحكومة إلي مجلس الشوري والدستور, وكان قد لفت نظري أن المجلس عقد وانقض بسرعة, ولم يفعل شيئا أكثر من تشكيل الحكومة.
ألقيت أسئلتي في هذا الصدد علي الشيخ عبدرب الرسول سياف زعيم الاتحاد الإسلامي, وأحد أركان التحالف الشمالي, فأطلق ضحكة عالية وقال: الديمقراطية الأمريكية هي التي أجهضت اللويا جيركا. وحين طلبت مزيدا من الإيضاح قال: تعرف أنه منذ تم إسقاط نظام طالبان فإن إرادة الشعب الأفغاني لم تقرر شيئا في مصير البلد. الحكومة شكلت في بون بألمانيا, وأعضاؤها تم اختيارهم بالاتفاق بين الأمريكيين وممثلي الأمم المتحدة. وحين عقد اللويا جيركا تصور الأمريكيون أن حلقات السيناريو الذي وضعوه سوف تستمر. خصوصا في هوية الدولة الجديدة ودستورها. حيث أرادوا لها أن تكون دولة علمانية علي النموذج التركي, وكان بعض المتأمريكين من الوزراء القادمين من الخارج, وبعض الشيوعيين من مؤيدي ذلك الاتجاه الذي برز في أروقة المؤتمر وكواليسه, وحين جرت مناقشة حول اسم الدولة التي أرادها انتقالية افغانية, طلبت الكلمة وقلت إنه ينبغي أن نبقي علي الهوية الإسلامية للدولة, ونضيف إلي اسمها هذه الصفة. وما أن انتهيت من كلمتي حتي دوت القاعة بالتصفيق الشديد, وأعلنت الأغلبية الساحقة تأيدها للاقتراح, واستمر التصفيق حين وقف آية الله محسني ـ ممثل الشيعة ـ وأعلن تأييده للاقتراح, الأمر الذي فوجئ به منظمو المؤتمر الذي أسقط في ييدهم, بعدما وجدوا أن السنة والشيعة التفوا علي ضرورة إضفاء الصفة الإسلامية علي الدولة. وأمام شبه الإجماع الذي حدث, لم يكن أمامهم سوي التسليم, والاستجابة لرغبة الأغلبية الساحقة. وإزاء بروز الالتزام بالتوجه الإسلامي, فإن منظمي المؤتمر خشوا أن تعبر تلك الروح عن نفسها في تشكيل البرلمان وصياغة الدستور, ولذلك فإنهم تعجلوا إنهاء أعمال اللويا جيركا, وتم الاكتفاء فيه بتشكيل الحكومة, والسكوت علي القضايا الأخري. وأضاف الشيخ سياف الذي لم تفارقه ضحكته قائلا: ألا يذكرك ذلك بالديمقراطية التي دعا إليها الأمريكيون في فلسطين, حيث أرادوها ديمقراطية لا تعيد انتخاب ياسر عرفات, حتي وإن أيدته أغلبية الفلسطينيين. إنهم فعلوا نفس الشئ عندنا, أرادوها ديمقراطية علي هواهم.
(3)
استأذن في إيراد شهادة أخري, وقعت عليها في جمهوريات آسيا الوسطي, التي كنت في زيارة لها في شهر يوليو الماضي, ذلك أن تلك الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة ظلت طيلة المرحلة السوفيتية تخضع لحكم قمعي متسلط نهب البلاد وأذل العباد. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي نالت تلك الجمهوريات استقلالها من الناحية القانونية علي الأقل, لكن النخبة الحاكمة فيها ظلت كما هي, بعدما غيرت من لافتاتها وشعاراتها, إلا أنها ضاعفت من ممارساتها القمعية والاستبدادية, لسبب جوهري هو أن الناس ظنوا أن غياب الشيوعية سيفتح الباب لهم كي يستردوا هويتهم ويشبعوا أشواقهم الإسلامية التي افتقدوها في العهد السابق, وحين عبروا عن تلك الرغبة في تجليات شتي, فإنها ووجهت بدرجة عالية من القمع الوحشي والشرس.
ما يهمنا في المشهد أن منطقة وسط آسيا استقبلت في مرحلة الإعداد للهجوم علي أفغانستان وجودا أمريكيا لأول مرة في تاريخها, ترجم إلي قواعد عسكرية في نهاية المطاف, أقيمت في ظل تحالفات واغراءات أمريكية مع الأنظمة القائمة, المستبدة والقاهرة. وكنت قد لقيت في موسكو عددا من اللاجئين الهاربين من البطش في بعض تلك الجمهوريات, وخاصة اوزبكستان, التي أصبحت أهم حليف للولايات المتحدة في وسط آسيا, وكانت قواتها الخاصة وطائراتها قد انطلقت من أراضيها لكي تدعم قوات التحالف الشمالي, وتقصف مواقع طالبان في مزار شريف وغيرها من المواقع الاستراتيجية.
ولولا أن الذين حدثوني من أبناء تلك الجمهوريات عن معاناة شعوبهم طلبوا مني كتمان أسمائهم حتي لايتعرض أهلوهم للأذي لنقلت علي لسان كل واحد منهم ما قاله. لكني أحيل من يريد الوقوف علي التفاصيل إلي تقارير منظمة حقوق الإنسان الروسية, التي أفردت فصولا مطولة لمختلف الانتهاكات التي تتم في جمهوريات اسيا الوسطي, ولازوبكستان نصيب وافر منها.
في تركمانستان الغنية بالغاز, إضافة أخري إلي مظاهر الاستبداد والتسلط, تتمثل في المبالغة الشديدة في عبادة الفرد, وهو ماتجلي في تنصيب زعيم البلاد الذي كان سكرتيرا للحزب الشيوعي في السابق ـ رئيسا مدي الحياة, وإزالة مساكن الفقراء في العاصمة لإقامة تماثيل له تحيط بها الزينات والنوافير. وابتداعه تقويما جديدا غير فيه اسماء الشهور, بحيث تبدأ السنة بشهر تسمي باللقب الذي أطلقه علي نفسه( تركمان باشي ومعناها ابو التركمان) أما الشهر الخامس( مايو) فقد اصبح يحمل اسم السيدة والدته( قربان سلطان)!
مايستخلصه المرء من مشهد تحالف الولايات المتحدة مع الزعماء الظلمة والطغاة في جمهوريات آسيا الوسطي هو أن مسألة الديمقراطية تصبح هاجسا وذريعة فقط حين لايكون النظام في خدمة السياسة الأمريكية, الأمر الذي يدعونا إلي القول: إن مشكلة الرئيس صدام حسين الحقيقية ليست في انه حاكم مستبد, فهذه مسألة يمكن غض الطرف عنها, ولكن انه وهو كذلك لم يوفق اوضاعه مع المصالح والسياسات الأمريكية. يؤكد ذلك انه حينما فعلها قبل احتلال الكويت في عام91, فانه كان مرضيا عنه, وكانت مختلف ممارساته ـ بما في ذلك قصف الأكراد بالغاز السام في حلبجة ـ من قبيل العفو واللمم الذي يغتفر ولايفسد للود قضية!
(4)
لا أظن أن هذا الذي قلته أضاف جديدا إلي اقتناع أحد, لأن مسألة تقدم المصالح علي المباديء أصبحت من القضايا المستقرة والمسلم بها لدي الإدراك العام, وغاية مايمكن أن يقال أن ما أوردته من شواهد وملاحظات ربما أكد الاقتناع, ولم ينشئه بأي حال. الأمر الذي يعني أن الذين يروجون لمقولة الديمقراطية إنما يسوقون بضاعة يعرف الجميع أنها مغشوشة.
في الحالة العراقية لم يعد سرا أن لافتة الديمقراطية ليست سوي ستار, اذا أزحته بيدك فلن تري سوي آبار النفط ولن تشم سوي رائحته. كثيرون اشاروا إلي هذه المسألة, وقد تحدث عنها بصراحة اثنان من كتاب واشنطن بوست( عدد9/16) حين قالا إن شركات النفط الأمريكية العملاقة هي التي ستدير بترول العراق بعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين. وفيما يتعلق بروسيا وفرنسا اللتين أبرمتا صفقات اسطورية مع بغداد تقدر بنحو مائة مليار دولار, فسيكون عليهما ارضاء الولايات المتحدة سياسيا أولا, لكي تدرس منحهما حصصا مافي النفط العراقي.
هذا التوجه أكده احمد جبلي زعيم المؤتمر العراقي المعارض والمؤيد من واشنطن, الذي قال انه يحبذ اقامة كونسيرتيوم بقيادة الولايات المتحدة, لتطوير حقول النفط العراقية.
ذلك نموذج واحد للدعايات المغشوشة التي تروج بيننا هذه الأيام, وللمسلسل بقية في الأسبوع القادم بإذن الله.
بشارة الموسم زفتها إلينا مستشارة الأمن القومي الأمريكي, التي أعلنت في الأسبوع الماضي أن واشنطن ستقود مسيرة الحرية والديمقراطية في العالم الإسلامي, ولأن الكلام لم يصدر في سياق ثرثرة علي مقهي, ولا كان في مقام التندر أو الفكاهة, وإنما جاء ضمن حوار نشرته صحيفة إنجليزية محترمة, فليس أمامنا إلا أن نحمله علي محمل الجد, فنتدبره ونحاول أن نسبر غوره, ونتقصي خلفياته ومقاصده.
(1)
الكلام قالته السيدة كوندوليزا رايس في أثناء حوار نشرته صحيفة فينانشيال تايمز في9/23, حيث ذكرت أن الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن الديمقراطية في العالم الإسلامي, الأمرالذي يتطلب منها أن تقود مسيرة الحرية لدي المسلمين. وفي هذا الصدد فإنها عبرت عن إعجابها وتقديرها للخطوات الإصلاحية التي تم اتخاذها في ثلاث دول عربية هي: الأردن والبحرين وقطر.
هذا الادعاء بالدفاع عن الحرية والديمقراطية في العالم الإسلامي أصبح أحد محاور الخطاب السياسي والإعلامي في الولايات المتحدة, خصوصا في أجواء الإعداد للهجوم علي العراق وإسقاط نظامه, استنادا إلي مزاعم عدة. وضعت فيها حكاية إعادة الاعتبار للديمقراطية هناك جنبا إلي جنب مع مسألة نزع أسلحة الدمارالشامل.
ذات المعني تردد بصيغة أخري في رسالة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أعلنها الرئيس بوش يوم9/21, وقال فيها إن معركة الولايات المتحدة ضد الإرهاب تفرض عليها ــ وهي دولة الحرية والديمقراطية ــ أن تخوض معركة موازية ضد الأفكار في العالم الإسلامي. وهو ما لايعد صداما بين الحضارات, ولكنه صدام داخل الحضارة الإسلامية ذاتها يحدد مصير مجتمعاتها, ومعركة كهذه لابد أن تتفوق فيها الولايات المتحدة وتكسبها.
وحسبما نشرت مجلة نيوزويك في عددها الأخير(10/1) فإن زعيم الأقلية في مجلس النواب الأمريكي ديك جيبهارت ــ ديمقراطي منسوب إلي الصقور ــ صدق الحكاية واقترح أن يطلق علي الحملة العسكرية الموجهة ضد العراق اسم الانتصار لقيم الديمقراطية, ولكن أحد كتاب المجلة ــ جوناثان آلتر ــ وجد أن العنوان يحمل طموحا أكثر من اللازم, فاقترح اسما آخر أكثر تواضعا وحذرا هو: بناء الجمهوريات.
هذا الكلام الذي يردده السياسيون, عبر عنه سيل من الكتابات الصحفية, التي سوقت أفكارهم بطرق شتي. وكان توماس فريدمان واحدا من هؤلاء, حيث نشرت له الشرق الأوسط في9/19 ــ نقلا عن لوس انجيليس تايمز ــ مقالة قال فيها إن إشاعة الديمقراطية في العراق أمر صعب للغاية, لكن القدر المتيقن أنه لاسبيل إلي إيقاف الماكينة التي تنتج أجيال الإرهابيين, إلا بمساعدة العرب( أمريكيا بطبيعة الحال) علي إحداث التغيير التدريجي للمناخ العام الذي يعيشون في ظلاله. وهو مناخ تتحكم فيه ـ كما يقول ـ أنظمة غير ديمقراطية, وقادة دينيون, ورجال تربية معادون للحداثة.
(2)
ليس عندي دفاع عن الحالة الديمقراطية في العالم العربي, فأمرها يعلمه الجميع. غير أن الرسالة الأمريكية تثير أسئلة كثيرة في مقدمتها السؤال التالي: هل الأمريكيون جادون في الدفاع عن الديمقراطية خارج حدود بلادهم؟
وبرغم أن نقض الادعاء بالدور الرسالي الذي تقوم به الإدارة الأمريكية في الدفاع عن الديمقراطية لايحتاج إلي مرافعة, باعتبار انه بات عندنا من المعلوم بالضرورة في دنيا السياسة, إلا أنني أود أن أضيف إلي علم الكافة بعضا من الخبرات الشخصية في هذا الصدد..
لقد كنت في زيارة لأفغانستان قبل أسبوعين, وحرصت في أثناء لقاءاتي مع من أعرف من القادة الأفغان علي أن أتتبع ما جري في اجتماعات اللويا جيركا في شهر يونيو الماضي, وهي الاجتماعات التي التقي فيها ممثلو الولايات والأعراق المختلفة بالبلاد( بلغ عددهم1500 شخص) لتقرير شكل ومؤسسات النظام الجديد بعد سقوط نظام حركة طالبان, من الحكومة إلي مجلس الشوري والدستور, وكان قد لفت نظري أن المجلس عقد وانقض بسرعة, ولم يفعل شيئا أكثر من تشكيل الحكومة.
ألقيت أسئلتي في هذا الصدد علي الشيخ عبدرب الرسول سياف زعيم الاتحاد الإسلامي, وأحد أركان التحالف الشمالي, فأطلق ضحكة عالية وقال: الديمقراطية الأمريكية هي التي أجهضت اللويا جيركا. وحين طلبت مزيدا من الإيضاح قال: تعرف أنه منذ تم إسقاط نظام طالبان فإن إرادة الشعب الأفغاني لم تقرر شيئا في مصير البلد. الحكومة شكلت في بون بألمانيا, وأعضاؤها تم اختيارهم بالاتفاق بين الأمريكيين وممثلي الأمم المتحدة. وحين عقد اللويا جيركا تصور الأمريكيون أن حلقات السيناريو الذي وضعوه سوف تستمر. خصوصا في هوية الدولة الجديدة ودستورها. حيث أرادوا لها أن تكون دولة علمانية علي النموذج التركي, وكان بعض المتأمريكين من الوزراء القادمين من الخارج, وبعض الشيوعيين من مؤيدي ذلك الاتجاه الذي برز في أروقة المؤتمر وكواليسه, وحين جرت مناقشة حول اسم الدولة التي أرادها انتقالية افغانية, طلبت الكلمة وقلت إنه ينبغي أن نبقي علي الهوية الإسلامية للدولة, ونضيف إلي اسمها هذه الصفة. وما أن انتهيت من كلمتي حتي دوت القاعة بالتصفيق الشديد, وأعلنت الأغلبية الساحقة تأيدها للاقتراح, واستمر التصفيق حين وقف آية الله محسني ـ ممثل الشيعة ـ وأعلن تأييده للاقتراح, الأمر الذي فوجئ به منظمو المؤتمر الذي أسقط في ييدهم, بعدما وجدوا أن السنة والشيعة التفوا علي ضرورة إضفاء الصفة الإسلامية علي الدولة. وأمام شبه الإجماع الذي حدث, لم يكن أمامهم سوي التسليم, والاستجابة لرغبة الأغلبية الساحقة. وإزاء بروز الالتزام بالتوجه الإسلامي, فإن منظمي المؤتمر خشوا أن تعبر تلك الروح عن نفسها في تشكيل البرلمان وصياغة الدستور, ولذلك فإنهم تعجلوا إنهاء أعمال اللويا جيركا, وتم الاكتفاء فيه بتشكيل الحكومة, والسكوت علي القضايا الأخري. وأضاف الشيخ سياف الذي لم تفارقه ضحكته قائلا: ألا يذكرك ذلك بالديمقراطية التي دعا إليها الأمريكيون في فلسطين, حيث أرادوها ديمقراطية لا تعيد انتخاب ياسر عرفات, حتي وإن أيدته أغلبية الفلسطينيين. إنهم فعلوا نفس الشئ عندنا, أرادوها ديمقراطية علي هواهم.
(3)
استأذن في إيراد شهادة أخري, وقعت عليها في جمهوريات آسيا الوسطي, التي كنت في زيارة لها في شهر يوليو الماضي, ذلك أن تلك الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة ظلت طيلة المرحلة السوفيتية تخضع لحكم قمعي متسلط نهب البلاد وأذل العباد. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي نالت تلك الجمهوريات استقلالها من الناحية القانونية علي الأقل, لكن النخبة الحاكمة فيها ظلت كما هي, بعدما غيرت من لافتاتها وشعاراتها, إلا أنها ضاعفت من ممارساتها القمعية والاستبدادية, لسبب جوهري هو أن الناس ظنوا أن غياب الشيوعية سيفتح الباب لهم كي يستردوا هويتهم ويشبعوا أشواقهم الإسلامية التي افتقدوها في العهد السابق, وحين عبروا عن تلك الرغبة في تجليات شتي, فإنها ووجهت بدرجة عالية من القمع الوحشي والشرس.
ما يهمنا في المشهد أن منطقة وسط آسيا استقبلت في مرحلة الإعداد للهجوم علي أفغانستان وجودا أمريكيا لأول مرة في تاريخها, ترجم إلي قواعد عسكرية في نهاية المطاف, أقيمت في ظل تحالفات واغراءات أمريكية مع الأنظمة القائمة, المستبدة والقاهرة. وكنت قد لقيت في موسكو عددا من اللاجئين الهاربين من البطش في بعض تلك الجمهوريات, وخاصة اوزبكستان, التي أصبحت أهم حليف للولايات المتحدة في وسط آسيا, وكانت قواتها الخاصة وطائراتها قد انطلقت من أراضيها لكي تدعم قوات التحالف الشمالي, وتقصف مواقع طالبان في مزار شريف وغيرها من المواقع الاستراتيجية.
ولولا أن الذين حدثوني من أبناء تلك الجمهوريات عن معاناة شعوبهم طلبوا مني كتمان أسمائهم حتي لايتعرض أهلوهم للأذي لنقلت علي لسان كل واحد منهم ما قاله. لكني أحيل من يريد الوقوف علي التفاصيل إلي تقارير منظمة حقوق الإنسان الروسية, التي أفردت فصولا مطولة لمختلف الانتهاكات التي تتم في جمهوريات اسيا الوسطي, ولازوبكستان نصيب وافر منها.
في تركمانستان الغنية بالغاز, إضافة أخري إلي مظاهر الاستبداد والتسلط, تتمثل في المبالغة الشديدة في عبادة الفرد, وهو ماتجلي في تنصيب زعيم البلاد الذي كان سكرتيرا للحزب الشيوعي في السابق ـ رئيسا مدي الحياة, وإزالة مساكن الفقراء في العاصمة لإقامة تماثيل له تحيط بها الزينات والنوافير. وابتداعه تقويما جديدا غير فيه اسماء الشهور, بحيث تبدأ السنة بشهر تسمي باللقب الذي أطلقه علي نفسه( تركمان باشي ومعناها ابو التركمان) أما الشهر الخامس( مايو) فقد اصبح يحمل اسم السيدة والدته( قربان سلطان)!
مايستخلصه المرء من مشهد تحالف الولايات المتحدة مع الزعماء الظلمة والطغاة في جمهوريات آسيا الوسطي هو أن مسألة الديمقراطية تصبح هاجسا وذريعة فقط حين لايكون النظام في خدمة السياسة الأمريكية, الأمر الذي يدعونا إلي القول: إن مشكلة الرئيس صدام حسين الحقيقية ليست في انه حاكم مستبد, فهذه مسألة يمكن غض الطرف عنها, ولكن انه وهو كذلك لم يوفق اوضاعه مع المصالح والسياسات الأمريكية. يؤكد ذلك انه حينما فعلها قبل احتلال الكويت في عام91, فانه كان مرضيا عنه, وكانت مختلف ممارساته ـ بما في ذلك قصف الأكراد بالغاز السام في حلبجة ـ من قبيل العفو واللمم الذي يغتفر ولايفسد للود قضية!
(4)
لا أظن أن هذا الذي قلته أضاف جديدا إلي اقتناع أحد, لأن مسألة تقدم المصالح علي المباديء أصبحت من القضايا المستقرة والمسلم بها لدي الإدراك العام, وغاية مايمكن أن يقال أن ما أوردته من شواهد وملاحظات ربما أكد الاقتناع, ولم ينشئه بأي حال. الأمر الذي يعني أن الذين يروجون لمقولة الديمقراطية إنما يسوقون بضاعة يعرف الجميع أنها مغشوشة.
في الحالة العراقية لم يعد سرا أن لافتة الديمقراطية ليست سوي ستار, اذا أزحته بيدك فلن تري سوي آبار النفط ولن تشم سوي رائحته. كثيرون اشاروا إلي هذه المسألة, وقد تحدث عنها بصراحة اثنان من كتاب واشنطن بوست( عدد9/16) حين قالا إن شركات النفط الأمريكية العملاقة هي التي ستدير بترول العراق بعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين. وفيما يتعلق بروسيا وفرنسا اللتين أبرمتا صفقات اسطورية مع بغداد تقدر بنحو مائة مليار دولار, فسيكون عليهما ارضاء الولايات المتحدة سياسيا أولا, لكي تدرس منحهما حصصا مافي النفط العراقي.
هذا التوجه أكده احمد جبلي زعيم المؤتمر العراقي المعارض والمؤيد من واشنطن, الذي قال انه يحبذ اقامة كونسيرتيوم بقيادة الولايات المتحدة, لتطوير حقول النفط العراقية.
ذلك نموذج واحد للدعايات المغشوشة التي تروج بيننا هذه الأيام, وللمسلسل بقية في الأسبوع القادم بإذن الله.