هويدي 3-9-2002
إذا صحت الأنباء القادمة من واشنطن فإن المنطقة العربية, وربما العالم الإسلامي بأسره, بصدد تلقي دروس خصوصية أمريكية في الديمقراطية وحقوق الإنسان, الأمر الذي يعني أن إدارة الرئيس بوش لن تكتفي بمهمة التأديب التي حدثت في أفغانستان ويخطط لتكرارها في العراق, وإنما ستواصل دورها الرسالي عن طريق ممارسة التهذيب والإصلاح في دول أخري بهدف إعادة تأهيل المنطقة للانخراط في مجري العصر والتاريخ.
(1)
ليس في هذا الذي اشرت إليه أي مبالغة أو ادعاء ناهيك عن انه كلام جاد, ليس فيه شئ من السخرية أو الهزل, رغم أن ظاهر الكلام يوحي بشئ من ذلك القبيل, فقد تواترت أنباء تقويم وتهذيب وإصلاح الأمة العربية والإسلامية في رسائل أمريكية عديدة, جري بثها علي نحو اكثر تحديدا ابتداء من اليوم العشرين في الشهر الماضي, فقد تحدثت واشنطن بوست مثلا( في8/21) عن اعتزام إدارة الرئيس بوش إطلاق مبادرة تحتوي علي برنامج للاصلاحات الديمقراطية في الشرق الأوسط, بداية من الخريف المقبل, وحتي نهاية العام الحالي, وسيقوم كولن باول وزير الخارجية بالكشف عن معالم تلك الخطة التي تستهدف تشجيع ونشر الإصلاح التعليمي والاقتصادي والسياسي, وسوف يخصص لهذا الهدف ــ بصفة مبدئية ــ مبلغ25 مليون دولار ستمول مشروعات تجريبية لتدريب الناشطين السياسيين والصحفيين والقيادات النقابية, ونسبت الصحيفة الأمريكية هذه المعلومات إلي مسئول أمريكي كبير في البيت الأبيض, مشيرة إلي أن مركز مشروع الإصلاحات الديمقراطية يجري مراجعة واسعة لكيفية صرف واستخدام برنامج المساعدات الأمريكية للدول العربية الذي يخصص له مليار دولار, بحيث يخدم تلك الأهداف.
نقلت واشنطن بوست عن مسئول البيت الأبيض قوله إن الخطة الأمريكية تهدف أيضا لتهيئة المجتمع العربي لاستقبال منافع العولمة الأمر الذي يقتضي اجراء تغييرات تدريجية وبطيئة تهدف لبناء صحافة حرة, ومؤسسات حكم محلي فاعلة, ومؤسسات مجتمع مدني جديد, وقد تحدث العاملون في المشروع أيضا عن محاولات لبناء علاقات شراكة بين هذه المؤسسات والدولة خاصة في عمان والمغرب.
أضافت الصحيفة أن الهجمات علي أمريكا في العام الماضي دفعت باتجاه تغيير موقف الإدارة الأمريكية من ملفات حقوق الإنسان, والإصلاح الاقتصادي, حيث تري أن الدافع الحقيقي للهجمات كان غياب حقوق الإنسان في عدد من الدول التي جاء منها المهاجمون.
ربط محللون دعوة بوش التي تدعو لاعتناق المبادئ الإنسانية لحقوق الإنسان, والدعوات المحافظية الجديدة بالحملة الأمريكية أثناء الحرب الباردة التي حاولت تشجيع الانشقاق والتمرد علي الانظمة الشيوعية, وأشار معلقون إلي أن إدارة الرئيس بوش تأخذ كثيرا من افكار وكتابات المنشق الشيوعي السابق, والمتطرف الداعي لترحيل الفلسطينيين نتان شيرانسكي الذي يدعو في كتاباته للإصلاح الديمقراطي في العالم العربي, وغالبا ما تدرس مقالاته بعناية في داخل دائرة الرئيس بوش.
أشارت المصادر إلي أن من بين البرامج التي ستقوم الإدارة الأمريكية بالاشراف عليها, محاضرات تدريبية حول الديمقواطية ومؤسساتها ستعقد في لبنان وعمان والمغرب, كما سيتم عقد ورشة عمل لصحفيين عرب من11 دولة, وتركز الإدارة الأمريكية علي المرأة حيث تخطط لإحضار ناشطات نسويات من العالم العربي أثناء الانتخابات في الخريف المقبل, حيث ستنظم الخارجية لهن زيارات لعدد من المدن الأمريكية والمؤسسات, ومحاضرات عن النظام السياسي الأمريكي.
(2)
سياسة التأديب والتهذيب والإصلاح التي قررت الإدارة الأمريكية أن تمارسها بعد11 سبتمبر, من تجليات فكر الاستقواء والهيمنة علي مقدرات العالم, المسيطر الآن علي القرار الأمريكي, والذي وجد له أنصارا ما برحوا يسوغونه وينظرون له, بحسبانه مسئولية ألقت بها الأقدار علي كاهل الولايات المتحدة, بعدما نصبتها في صدارة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, لن أكرر ما سبق أن عرضته في هذا الصدد, من حديث البعض عن اللحظة الاستعمارية الجديدة إلي تبني آخرين لفكرة حروب السلام الوحشية وقول ماكس بوت أحد كبار كتاب وول ستريت جورنال إن الولايات المتحدة ينبغي ألا تخشي من خوض الحروب الصغيرة التي تستهدف تحسين أوضاع قطاعات عريضة من البشر, لا يتمتعون بالسعادة مثلنا, فقط ألفت النظر إلي أن الأفكار الأساسية التي تتردد هذه الأيام عن مسئولية الولايات المتحدة إزاء إصلاح الكون, هي ذاتها التي استخدمها المستشار الألماني بسمارك في اجتماع لزعماء الدول الأوروبية عام1884 م لتحديد قواعد المنافسة بينها في مجال السيطرة علي بقية العالم, حيث ادعي انهم ما قصدوا إلا الأخذ بيد الشعوب المتخلفة لكي ترتقي في مدراج التقدم والرقي.
لقد أصبحت الإمبريالية موضة في عهد الرئيس بوش, والوصف ليس من عندي, ولكنه أحد عناوين عدد7/8 من مجلة تايم الأمريكية, وكان العنوان لمقالة كتبها جيمس كارني وأبدي فيها استغرابه من مسلك إدارة الرئيس بوش وفريقه الجمهوري, واعتبرها مفارقة أن يظل الجمهوريون لمدة ثماني سنوات بنتقدون إدارة الرئيس كلينتون إزاء ممارساتها التي اعتبروها نوعا من الاستعمار الجديد, في البوسنة والصومال وهايتي, وكانت حجتهم الاساسية أن ما قامت به إدارة كلينتون مثل انحرافا عن المهام الأمريكية الرئيسية, المتمثلة في تعزيز الدفاع القومي, وإقامة نظام أمن عالمي يرتكز علي العلاقات مع الدول الكبري الأخري, وقد دارت دورة الزمن, وإذا بالزعامة الجمهورية تواصل مسلسل الاستعمار الجديد, وتندفع في ذات الاتجاه الامبريالي الذي انتقدته من قبل.
فبعد إسقاط نظام طالبان وتنصيب حكومة موالية جديدة سابقة التجهيز في كابول, اتجهت الإدارة الأمريكية صوب فلسطين واصرت علي تغيير الرئيس عرفات وإعادة بناء السلطة من خلال ما أسمته بالإصلاحات وفي الوقت ذاته فإنها تعد العدة لإسقاط النظام العراقي وإقامة نظام آخر من ذات النوع سابق التجهيز.
في هذا السياق ظل يتردد باستمرار مصطلح إعادة التأهيل, ولتشجيع الناس علي قبول الفكرة والاطمئنان علي حصيلتها, فقد تواترت الإشارة إلي نموذج اليابان وألمانيا, وهما البلدان اللذان خرجا مدمرين ومهزومين بعد الحرب العالمية الثانية, وخضعا في ظل الاحتلال لعملية إعادة التأهيل.
أغراني ذلك الإلحاح علي الفكرة بأن أتحري حقيقة ما حدث في اليابان وألمانيا, وأن أبحث عن حجم الدور الذي قام به الأمريكان والدول المنتصرة بعامة في إعادة تأهيل البلدين, حتي بلغا ما بلغاه الآن من علو ورفعة.
أثناء البحث وجدت ضالتي في كتاب أصدره هذا العام الدكتور محمد السيد سليم, أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة, تحت عنوان: تطور السياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وفيه افرد فصلا لدراسة إعادة تأهيل وإدماج الدول المهزومة في السياسة الدولية وإذ فوجئت بما قرأت في ذلك المبحث من وقائع ومعلومات, فأنني أضع خلاصتها امام الجميع, من باب العلم لا اكثر.
(3)
لفت الباحث الانتباه إلي أن الولايات المتحدة حين اتبعت سياسة إعادة التأهيل تجاه اليابان وألمانيا لم تفعل ذلك لوجه الله, وإنما دفعها إلي ذلك بروز التحدي السوفيتي الشيوعي, وخشية واشنطن من أن يؤدي الضغط علي الدول المهزومة المتمثل في الحصار والتعويضات, إلي انتشار الشيوعية, الأمر الذي اراد الأمريكيون الحيلولة دون وقوعه.
تولي الجنرال ماك آرثر قائد قوات الاحتلال الأمريكية مهمة إعادة تأهيل اليابان سياسيا واقتصاديا, فتم إجراء انتخابات ديمقراطية فاز فيها الحزب الليبرالي الذي كانت قيادته رهن إشارة الجنرال ماك ارثر, وأبدت استعدادا لوضع اليابان تحت الحماية العسكرية الأمريكية ثم اعد دستورا جديدا نص علي رفض الشعب الياباني إلي الأبد للحرب كحق من حقوق السيادة للامة, الأمر الذي أدي إلي تنازل الدولة اليابانية عن حقها في شن الحرب, كما أدي إلي تسريح كل القوات المسلحة وتجريد اليابان من السلاح, كما تم إصدار قانون للإصلاح الزراعي لتفتيت سلطة العائلات الإقطاعية, ثم جر تفتيت الشركات الصناعية الكبري باعتبارها مسئولة عن التوسع الياباني.
أوفدت الولايات المتحدة بعد ذلك بعثة تعليمية إلي اليابان, تولت تحديد عناصر النظام التعليمي الياباني وأهدافه, بحيث يركز علي المفاهيم الديمقراطية والواجبات المدنية للمواطن, وكانت تعليمات الإمبراطور المهزوم والمقدس قد دعت الشعب إلي التجاوب مع رغبات قائد جيش الاحتلال, وبعد مرور ثلاث سنوات من التفكيك وإعادة الترتيب أرسلت الولايات المتحدة أحد خبراء المال الأمريكيين إلي اليابان لمساعدتها في بناء ميزانية متوازنة, وطيلة مرحلة إعادة التأهيل, لم يكن لليابان أي دور يذكر في الساحة الدولية.
نعم لاحت بودار انتعاش الاقتصاد الياباني مع بداية الخمسينيات غير أن ذلك كان نتيجة لعوامل أخري, في مقدمتها إرادة الشعب الياباني وإصراره علي إعادة بناء بلده, ثم قيام الحرب الكورية في سنة50, الأمر الذي أدي إلي زيادة الطلب علي السلع اليابانية لتمويل المجهود الحربي للدول التي تحارب في كوريا, وبعد انتصار الشيوعيين في الصين وإعلان جمهورية الصين الشعبية( عام1949) بدأت الولايات المتحدة في التحول نحو الاعتماد علي اليابان كشريك استراتيجي في شرق آسيا لمواجهة الخطر الجديد.
وفي هذا السياق تم توقيع معاهدة سان فرانسيسكو عام51, التي بمقتضاها تنازلت اليابان عن كل الجزر التي كانت تابعة لها في المحيط الهادي, وانتقلت الوصاية عليها إلي الولايات المتحدة, ثم جري توقيع معاهدة أمنية بين البلدين تعهدت فيها اليابان بالسماح للقوات الأمريكية بالبقاء علي أراضيها.
وطوال سنوات الحرب الباردة ظلت الولايات المتحدة تقدم التسهيلات والمزايا التفضيلية إلي اليابان لكي تعزز موقفها كقلعة حليفة متقدمة في مواجهة الدولتين الشيوعيتين الكبيرتين: الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية, وهو ما استفادت منه اليابان اقتصاديا, الأمر الذي اسهم إلي جانب الظروف السابق ذكرها في دفع عجلة الاقتصاد وازدهارها, واستصحب ذلك تغريبا متزايدا للمجتمع الياباني, الذي لاتزال القواعد الأمريكية مرابطة علي أرضه, بعد مضي أكثر من نصف قرن علي تطبيق سياسة إعادة التأهيل.
(4)
ألمانيا كان حظها اتعس ــ فعلي خلاف اليابان التي انفرد الأمريكيون باحتلالها, فإن ألمانيا خضعت لاحتلال رباعي( أمريكي ــ بريطاني ــ فرنسي ــ سوفيتي) الأمر الذي أدي إلي اختلاف مناهج الدول في ممارسة عملية إعادة التأهيل, رغم أن الجميع اتفقوا علي ضرورة الاستسلام غير المشروط للجيش الألماني, بل والأمة كلها.
اتفق الجميع أيضا علي محاكمة قادة النظام النازي في إطار محاكمات نورمبرج وإعدام بعضهم, كذلك تم القبض علي آلاف العناصر الالمانية المتعاطفة مع النازي, ومع نهاية سنة1946 كان هناك64 ألف سجين ألماني في السجون البريطانية, و95 ألفا في السجون الأمريكية, و19 ألفا في السجون الفرنسية و67 ألف في السجون السوفيتية, كما تم طرد آلاف أخري من وظائفهم في عملية تطهير للجهاز الحكومي من كل العناصر التي اشتبه في تعاونها مع النازي, ومنع نحو390 ألف ألماني من تولي أي وظائف عامة في منطقتي الاحتلال الفرنسية والبريطانية, وحدث الشئ ذاته في منطقتي الاحتلال الأمريكية والسوفيتية.
وفي منطقة الاحتلال الغربية أجبر كل ألماني علي ملء استمارة توضح تاريخ حياته, واستخدمت الاجابات علي تلك الاستمارات لمحاكمة الاف المواطنين, وذلك تحت شعار محو النازية من ألمانيا.
وهكذا شنت دول الحلفاء عملية تطهير اجتماعي واسعة أخضعت الشعب الألماني لإرهاب سياسي شامل, طال حتي العناصر التي كانت تعادي الحزب النازي, ولم ينج من العملية سوي العناصر التي وجدها المحتلون مفيدة للمساعدة في إدارة مناطق الاحتلال.
في الوقت ذاته, ركز المحتلون الغربيون علي إعادة تعليم الشعب الألماني, لكي يصبح محبا للديمقراطية الغربية, باللين أو بالعنف, فتم حظر الجمعيات ذات التوجهات الايديولوجية وحظر إصدار الصحف, مع تشجيع إنشاء الجمعيات والنوادي الشبابية غير السياسية وإصدار نشرات صحفية تعبر عن القيم الديمقراطية الغربية, وتمول من دول الاحتلال, وتمت معاملة الشعب الألماني بازدراء, وحظر الاتصال بين قوات الاحتلال والألمان, وحظر التنقل بين مناطق الاحتلال الغربية.
وعلي المستوي الاقتصادي فرضت دول الاحتلال عدة سياسات تمثلت في الاستيلاء علي المصانع الألمانية, والحد من الإنتاج الصناعي الألماني, وتحويل الصناعة الحربية إلي الإنتاج المدني, وفرض ضرائب باهظة علي الألمان لتغطية نفقات الاحتلال, وترحيل الألمان إلي الخارج للعمل لخدمة اقتصادات دول الاحتلال( في حالة فرنسا تم نقل470 ألف ألماني للعمل في مختلف مجالات الاقتصاد الفرنسي وتحطيم الاحتكارات والكارتلات الصناعية الألمانية وتجزئتها, كذلك تم إنشاء مؤسسات تعليمية جديدة, ومنها جامعة ميتز التي أنشأها الفرنسيون, وأعيدت كتابة الكتب المدرسية بما يتفق مع الرؤية الغربية عن المسئولية الجماعية للشعب الألماني عن جرائم النازية, وتولت دول الاحتلال اختيار القيادات الألمانية التي أشرفت علي تلك العملية, وتم طرد كل مسئول ألماني يعترض عليها.
وهو ما وصفه أحد الباحثين بفرض الديمقراطية بطرق تسلطية.
وإذا كان ذلك ما فعلته دول العالم الحر فلك أن تتصور ما فعله السوفيت, الذين انطلقوا من نقطتين, الأولي أن النازية هي نتاج للرأسمالية الألمانية, وأن الحل يكمن في تدمير الأخيرة, والثاني انهم ركزوا علي التحويل الاجتماعي الشامل للألمان من خلال تقويض أسس الرأسمالية الألمانية, لذلك طرد السوفيت400 ألف موظف وعامل من وظائفهم, وقاموا بتفكيك ونقل13 ألف مصنع, و4500 ميل من خطوط السكك الحديدية الألمانية إلي الاتحاد السوفيتي, وفرضوا علي بعض المصانع الألمانية أن تعمل لخدمة المصانع السوفيتية, كما قاموا بعملية تثقيف ايديولوجي ماركسي ــ لينيني تشبه في الشكل والادوات ما تم تطبيقه في مناطق الاحتلال الغربية, وأن اختلف المضمون.
إذا صحت الأنباء القادمة من واشنطن فإن المنطقة العربية, وربما العالم الإسلامي بأسره, بصدد تلقي دروس خصوصية أمريكية في الديمقراطية وحقوق الإنسان, الأمر الذي يعني أن إدارة الرئيس بوش لن تكتفي بمهمة التأديب التي حدثت في أفغانستان ويخطط لتكرارها في العراق, وإنما ستواصل دورها الرسالي عن طريق ممارسة التهذيب والإصلاح في دول أخري بهدف إعادة تأهيل المنطقة للانخراط في مجري العصر والتاريخ.
(1)
ليس في هذا الذي اشرت إليه أي مبالغة أو ادعاء ناهيك عن انه كلام جاد, ليس فيه شئ من السخرية أو الهزل, رغم أن ظاهر الكلام يوحي بشئ من ذلك القبيل, فقد تواترت أنباء تقويم وتهذيب وإصلاح الأمة العربية والإسلامية في رسائل أمريكية عديدة, جري بثها علي نحو اكثر تحديدا ابتداء من اليوم العشرين في الشهر الماضي, فقد تحدثت واشنطن بوست مثلا( في8/21) عن اعتزام إدارة الرئيس بوش إطلاق مبادرة تحتوي علي برنامج للاصلاحات الديمقراطية في الشرق الأوسط, بداية من الخريف المقبل, وحتي نهاية العام الحالي, وسيقوم كولن باول وزير الخارجية بالكشف عن معالم تلك الخطة التي تستهدف تشجيع ونشر الإصلاح التعليمي والاقتصادي والسياسي, وسوف يخصص لهذا الهدف ــ بصفة مبدئية ــ مبلغ25 مليون دولار ستمول مشروعات تجريبية لتدريب الناشطين السياسيين والصحفيين والقيادات النقابية, ونسبت الصحيفة الأمريكية هذه المعلومات إلي مسئول أمريكي كبير في البيت الأبيض, مشيرة إلي أن مركز مشروع الإصلاحات الديمقراطية يجري مراجعة واسعة لكيفية صرف واستخدام برنامج المساعدات الأمريكية للدول العربية الذي يخصص له مليار دولار, بحيث يخدم تلك الأهداف.
نقلت واشنطن بوست عن مسئول البيت الأبيض قوله إن الخطة الأمريكية تهدف أيضا لتهيئة المجتمع العربي لاستقبال منافع العولمة الأمر الذي يقتضي اجراء تغييرات تدريجية وبطيئة تهدف لبناء صحافة حرة, ومؤسسات حكم محلي فاعلة, ومؤسسات مجتمع مدني جديد, وقد تحدث العاملون في المشروع أيضا عن محاولات لبناء علاقات شراكة بين هذه المؤسسات والدولة خاصة في عمان والمغرب.
أضافت الصحيفة أن الهجمات علي أمريكا في العام الماضي دفعت باتجاه تغيير موقف الإدارة الأمريكية من ملفات حقوق الإنسان, والإصلاح الاقتصادي, حيث تري أن الدافع الحقيقي للهجمات كان غياب حقوق الإنسان في عدد من الدول التي جاء منها المهاجمون.
ربط محللون دعوة بوش التي تدعو لاعتناق المبادئ الإنسانية لحقوق الإنسان, والدعوات المحافظية الجديدة بالحملة الأمريكية أثناء الحرب الباردة التي حاولت تشجيع الانشقاق والتمرد علي الانظمة الشيوعية, وأشار معلقون إلي أن إدارة الرئيس بوش تأخذ كثيرا من افكار وكتابات المنشق الشيوعي السابق, والمتطرف الداعي لترحيل الفلسطينيين نتان شيرانسكي الذي يدعو في كتاباته للإصلاح الديمقراطي في العالم العربي, وغالبا ما تدرس مقالاته بعناية في داخل دائرة الرئيس بوش.
أشارت المصادر إلي أن من بين البرامج التي ستقوم الإدارة الأمريكية بالاشراف عليها, محاضرات تدريبية حول الديمقواطية ومؤسساتها ستعقد في لبنان وعمان والمغرب, كما سيتم عقد ورشة عمل لصحفيين عرب من11 دولة, وتركز الإدارة الأمريكية علي المرأة حيث تخطط لإحضار ناشطات نسويات من العالم العربي أثناء الانتخابات في الخريف المقبل, حيث ستنظم الخارجية لهن زيارات لعدد من المدن الأمريكية والمؤسسات, ومحاضرات عن النظام السياسي الأمريكي.
(2)
سياسة التأديب والتهذيب والإصلاح التي قررت الإدارة الأمريكية أن تمارسها بعد11 سبتمبر, من تجليات فكر الاستقواء والهيمنة علي مقدرات العالم, المسيطر الآن علي القرار الأمريكي, والذي وجد له أنصارا ما برحوا يسوغونه وينظرون له, بحسبانه مسئولية ألقت بها الأقدار علي كاهل الولايات المتحدة, بعدما نصبتها في صدارة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, لن أكرر ما سبق أن عرضته في هذا الصدد, من حديث البعض عن اللحظة الاستعمارية الجديدة إلي تبني آخرين لفكرة حروب السلام الوحشية وقول ماكس بوت أحد كبار كتاب وول ستريت جورنال إن الولايات المتحدة ينبغي ألا تخشي من خوض الحروب الصغيرة التي تستهدف تحسين أوضاع قطاعات عريضة من البشر, لا يتمتعون بالسعادة مثلنا, فقط ألفت النظر إلي أن الأفكار الأساسية التي تتردد هذه الأيام عن مسئولية الولايات المتحدة إزاء إصلاح الكون, هي ذاتها التي استخدمها المستشار الألماني بسمارك في اجتماع لزعماء الدول الأوروبية عام1884 م لتحديد قواعد المنافسة بينها في مجال السيطرة علي بقية العالم, حيث ادعي انهم ما قصدوا إلا الأخذ بيد الشعوب المتخلفة لكي ترتقي في مدراج التقدم والرقي.
لقد أصبحت الإمبريالية موضة في عهد الرئيس بوش, والوصف ليس من عندي, ولكنه أحد عناوين عدد7/8 من مجلة تايم الأمريكية, وكان العنوان لمقالة كتبها جيمس كارني وأبدي فيها استغرابه من مسلك إدارة الرئيس بوش وفريقه الجمهوري, واعتبرها مفارقة أن يظل الجمهوريون لمدة ثماني سنوات بنتقدون إدارة الرئيس كلينتون إزاء ممارساتها التي اعتبروها نوعا من الاستعمار الجديد, في البوسنة والصومال وهايتي, وكانت حجتهم الاساسية أن ما قامت به إدارة كلينتون مثل انحرافا عن المهام الأمريكية الرئيسية, المتمثلة في تعزيز الدفاع القومي, وإقامة نظام أمن عالمي يرتكز علي العلاقات مع الدول الكبري الأخري, وقد دارت دورة الزمن, وإذا بالزعامة الجمهورية تواصل مسلسل الاستعمار الجديد, وتندفع في ذات الاتجاه الامبريالي الذي انتقدته من قبل.
فبعد إسقاط نظام طالبان وتنصيب حكومة موالية جديدة سابقة التجهيز في كابول, اتجهت الإدارة الأمريكية صوب فلسطين واصرت علي تغيير الرئيس عرفات وإعادة بناء السلطة من خلال ما أسمته بالإصلاحات وفي الوقت ذاته فإنها تعد العدة لإسقاط النظام العراقي وإقامة نظام آخر من ذات النوع سابق التجهيز.
في هذا السياق ظل يتردد باستمرار مصطلح إعادة التأهيل, ولتشجيع الناس علي قبول الفكرة والاطمئنان علي حصيلتها, فقد تواترت الإشارة إلي نموذج اليابان وألمانيا, وهما البلدان اللذان خرجا مدمرين ومهزومين بعد الحرب العالمية الثانية, وخضعا في ظل الاحتلال لعملية إعادة التأهيل.
أغراني ذلك الإلحاح علي الفكرة بأن أتحري حقيقة ما حدث في اليابان وألمانيا, وأن أبحث عن حجم الدور الذي قام به الأمريكان والدول المنتصرة بعامة في إعادة تأهيل البلدين, حتي بلغا ما بلغاه الآن من علو ورفعة.
أثناء البحث وجدت ضالتي في كتاب أصدره هذا العام الدكتور محمد السيد سليم, أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة, تحت عنوان: تطور السياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وفيه افرد فصلا لدراسة إعادة تأهيل وإدماج الدول المهزومة في السياسة الدولية وإذ فوجئت بما قرأت في ذلك المبحث من وقائع ومعلومات, فأنني أضع خلاصتها امام الجميع, من باب العلم لا اكثر.
(3)
لفت الباحث الانتباه إلي أن الولايات المتحدة حين اتبعت سياسة إعادة التأهيل تجاه اليابان وألمانيا لم تفعل ذلك لوجه الله, وإنما دفعها إلي ذلك بروز التحدي السوفيتي الشيوعي, وخشية واشنطن من أن يؤدي الضغط علي الدول المهزومة المتمثل في الحصار والتعويضات, إلي انتشار الشيوعية, الأمر الذي اراد الأمريكيون الحيلولة دون وقوعه.
تولي الجنرال ماك آرثر قائد قوات الاحتلال الأمريكية مهمة إعادة تأهيل اليابان سياسيا واقتصاديا, فتم إجراء انتخابات ديمقراطية فاز فيها الحزب الليبرالي الذي كانت قيادته رهن إشارة الجنرال ماك ارثر, وأبدت استعدادا لوضع اليابان تحت الحماية العسكرية الأمريكية ثم اعد دستورا جديدا نص علي رفض الشعب الياباني إلي الأبد للحرب كحق من حقوق السيادة للامة, الأمر الذي أدي إلي تنازل الدولة اليابانية عن حقها في شن الحرب, كما أدي إلي تسريح كل القوات المسلحة وتجريد اليابان من السلاح, كما تم إصدار قانون للإصلاح الزراعي لتفتيت سلطة العائلات الإقطاعية, ثم جر تفتيت الشركات الصناعية الكبري باعتبارها مسئولة عن التوسع الياباني.
أوفدت الولايات المتحدة بعد ذلك بعثة تعليمية إلي اليابان, تولت تحديد عناصر النظام التعليمي الياباني وأهدافه, بحيث يركز علي المفاهيم الديمقراطية والواجبات المدنية للمواطن, وكانت تعليمات الإمبراطور المهزوم والمقدس قد دعت الشعب إلي التجاوب مع رغبات قائد جيش الاحتلال, وبعد مرور ثلاث سنوات من التفكيك وإعادة الترتيب أرسلت الولايات المتحدة أحد خبراء المال الأمريكيين إلي اليابان لمساعدتها في بناء ميزانية متوازنة, وطيلة مرحلة إعادة التأهيل, لم يكن لليابان أي دور يذكر في الساحة الدولية.
نعم لاحت بودار انتعاش الاقتصاد الياباني مع بداية الخمسينيات غير أن ذلك كان نتيجة لعوامل أخري, في مقدمتها إرادة الشعب الياباني وإصراره علي إعادة بناء بلده, ثم قيام الحرب الكورية في سنة50, الأمر الذي أدي إلي زيادة الطلب علي السلع اليابانية لتمويل المجهود الحربي للدول التي تحارب في كوريا, وبعد انتصار الشيوعيين في الصين وإعلان جمهورية الصين الشعبية( عام1949) بدأت الولايات المتحدة في التحول نحو الاعتماد علي اليابان كشريك استراتيجي في شرق آسيا لمواجهة الخطر الجديد.
وفي هذا السياق تم توقيع معاهدة سان فرانسيسكو عام51, التي بمقتضاها تنازلت اليابان عن كل الجزر التي كانت تابعة لها في المحيط الهادي, وانتقلت الوصاية عليها إلي الولايات المتحدة, ثم جري توقيع معاهدة أمنية بين البلدين تعهدت فيها اليابان بالسماح للقوات الأمريكية بالبقاء علي أراضيها.
وطوال سنوات الحرب الباردة ظلت الولايات المتحدة تقدم التسهيلات والمزايا التفضيلية إلي اليابان لكي تعزز موقفها كقلعة حليفة متقدمة في مواجهة الدولتين الشيوعيتين الكبيرتين: الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية, وهو ما استفادت منه اليابان اقتصاديا, الأمر الذي اسهم إلي جانب الظروف السابق ذكرها في دفع عجلة الاقتصاد وازدهارها, واستصحب ذلك تغريبا متزايدا للمجتمع الياباني, الذي لاتزال القواعد الأمريكية مرابطة علي أرضه, بعد مضي أكثر من نصف قرن علي تطبيق سياسة إعادة التأهيل.
(4)
ألمانيا كان حظها اتعس ــ فعلي خلاف اليابان التي انفرد الأمريكيون باحتلالها, فإن ألمانيا خضعت لاحتلال رباعي( أمريكي ــ بريطاني ــ فرنسي ــ سوفيتي) الأمر الذي أدي إلي اختلاف مناهج الدول في ممارسة عملية إعادة التأهيل, رغم أن الجميع اتفقوا علي ضرورة الاستسلام غير المشروط للجيش الألماني, بل والأمة كلها.
اتفق الجميع أيضا علي محاكمة قادة النظام النازي في إطار محاكمات نورمبرج وإعدام بعضهم, كذلك تم القبض علي آلاف العناصر الالمانية المتعاطفة مع النازي, ومع نهاية سنة1946 كان هناك64 ألف سجين ألماني في السجون البريطانية, و95 ألفا في السجون الأمريكية, و19 ألفا في السجون الفرنسية و67 ألف في السجون السوفيتية, كما تم طرد آلاف أخري من وظائفهم في عملية تطهير للجهاز الحكومي من كل العناصر التي اشتبه في تعاونها مع النازي, ومنع نحو390 ألف ألماني من تولي أي وظائف عامة في منطقتي الاحتلال الفرنسية والبريطانية, وحدث الشئ ذاته في منطقتي الاحتلال الأمريكية والسوفيتية.
وفي منطقة الاحتلال الغربية أجبر كل ألماني علي ملء استمارة توضح تاريخ حياته, واستخدمت الاجابات علي تلك الاستمارات لمحاكمة الاف المواطنين, وذلك تحت شعار محو النازية من ألمانيا.
وهكذا شنت دول الحلفاء عملية تطهير اجتماعي واسعة أخضعت الشعب الألماني لإرهاب سياسي شامل, طال حتي العناصر التي كانت تعادي الحزب النازي, ولم ينج من العملية سوي العناصر التي وجدها المحتلون مفيدة للمساعدة في إدارة مناطق الاحتلال.
في الوقت ذاته, ركز المحتلون الغربيون علي إعادة تعليم الشعب الألماني, لكي يصبح محبا للديمقراطية الغربية, باللين أو بالعنف, فتم حظر الجمعيات ذات التوجهات الايديولوجية وحظر إصدار الصحف, مع تشجيع إنشاء الجمعيات والنوادي الشبابية غير السياسية وإصدار نشرات صحفية تعبر عن القيم الديمقراطية الغربية, وتمول من دول الاحتلال, وتمت معاملة الشعب الألماني بازدراء, وحظر الاتصال بين قوات الاحتلال والألمان, وحظر التنقل بين مناطق الاحتلال الغربية.
وعلي المستوي الاقتصادي فرضت دول الاحتلال عدة سياسات تمثلت في الاستيلاء علي المصانع الألمانية, والحد من الإنتاج الصناعي الألماني, وتحويل الصناعة الحربية إلي الإنتاج المدني, وفرض ضرائب باهظة علي الألمان لتغطية نفقات الاحتلال, وترحيل الألمان إلي الخارج للعمل لخدمة اقتصادات دول الاحتلال( في حالة فرنسا تم نقل470 ألف ألماني للعمل في مختلف مجالات الاقتصاد الفرنسي وتحطيم الاحتكارات والكارتلات الصناعية الألمانية وتجزئتها, كذلك تم إنشاء مؤسسات تعليمية جديدة, ومنها جامعة ميتز التي أنشأها الفرنسيون, وأعيدت كتابة الكتب المدرسية بما يتفق مع الرؤية الغربية عن المسئولية الجماعية للشعب الألماني عن جرائم النازية, وتولت دول الاحتلال اختيار القيادات الألمانية التي أشرفت علي تلك العملية, وتم طرد كل مسئول ألماني يعترض عليها.
وهو ما وصفه أحد الباحثين بفرض الديمقراطية بطرق تسلطية.
وإذا كان ذلك ما فعلته دول العالم الحر فلك أن تتصور ما فعله السوفيت, الذين انطلقوا من نقطتين, الأولي أن النازية هي نتاج للرأسمالية الألمانية, وأن الحل يكمن في تدمير الأخيرة, والثاني انهم ركزوا علي التحويل الاجتماعي الشامل للألمان من خلال تقويض أسس الرأسمالية الألمانية, لذلك طرد السوفيت400 ألف موظف وعامل من وظائفهم, وقاموا بتفكيك ونقل13 ألف مصنع, و4500 ميل من خطوط السكك الحديدية الألمانية إلي الاتحاد السوفيتي, وفرضوا علي بعض المصانع الألمانية أن تعمل لخدمة المصانع السوفيتية, كما قاموا بعملية تثقيف ايديولوجي ماركسي ــ لينيني تشبه في الشكل والادوات ما تم تطبيقه في مناطق الاحتلال الغربية, وأن اختلف المضمون.