الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد ابتليت أمة الإسلام في الأزمنة المتأخرة بإقصاء حكم الله عن البلاد والعباد، وإحلال الأحكام الوضعية البشرية التي صاغتها عقول مهما عظمت فهي قاصرة، وقبلتها نفوس مستسلمة للهوى والشهوات، ما أدى إلى الانصراف عن شرع الله وحكمه في جلّ شؤون الناس، باستثناء مسائل اضطرارية في الأحوال الشخصية تعسَّر على المفسدين نقضها بالكلية، أو نهش قسم كبير منها؛ لتعلقها بخاصة حياة الأفراد الذين لا يرتضون حكماً غير شريعة ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ولأن الشريعة كانت مقصية عن الحكم وشؤون الحياة، فقد تقلص البحث في الشؤون العامة من منطلقات أصول الإسلام وقواعده، وزاد الطين بلة ما حمله بعض أبناء جلدتنا رواية ودراية عن جمع من المستشرقين الذين كانوا أحرص ما يكون على نفي أي صفة سياسية عن أحكام الإسلام، بل نفي وجود دولة إسلامية ذات سيادة ومرجعية ونظام، وفاه هؤلاء بإفكهم وما يفترون عبر وسائل التوجيه والتأثير حتى غدا غريباً لدى بعض المجتمعات أن يتحدث أحد عن سياسة شرعية، أو عن دولة تقوم على الشريعة الربانية وتستفيد من بعض الطرائق الحديثة في الحكم والنظام.
وفي خضم هذه الظلم والضلالات نجمت الصحوة الإسلامية على يد علماء مجاهدين وشباب صادقين، فكانت مباركة الأثر عظيمة النفع، وكان من أثرها أن تعطشت المجتمعات الإسلامية للعودة إلى أمر ربها ونهيه، ومجانبة كل نظام أو قانون يخالف الوحي الشريف، وكان لهذه العودة الحميدة صور شتى ما بين فردية وجماعية، وسياسية واجتماعية، وعلمية وعملية، حتى شرق بثمارها وآثارها منافقو الأمة وأكابر مجرميها.
ومن نتائج هذه الأوبة الراشدة طرح أسئلة عميقة في السياسة والحكم، وعقد مقارنات مع نظم وقوانين سادت بقوة دولية أو بتغول وإرجاف، وقد قادت هذه الأسئلة إلى ظهور كمّ كبير متميّز من الدراسات العلمية والرسائل الجامعية حول موضوعات السياسة الشرعية، والفقه الدستوري، وأنظمة الحكم، والسياسات المالية، والعلاقات الدولية، ومقارنتها بالنظم والقوانين الأخرى، منطلقة من تعظيم النص الشرعي والاحتكام إليه وحده دون سواه من المنتجات البشرية إلا ما كان منها متفقاً مع أصول الشريعة وقواعدها.
ونتيجة لذلك ضمت المكتبة الإسلامية كتباً تتحدث عن علاقة الحاكم بالمحكوم، وبيان الحقوق والواجبات لكل منهما، وأخرى تبحث في نظام الحكم أو السياسة الدستورية، أو تنظر إلى علاقة الدولة المسلمة بغيرها من الدول في حالتي السلم والحرب، أو تدرس موارد الدولة المالية ومصارفها واستثمارها ضمن سياسات مالية واقتصادية عملية وشرعية، فضلاً عن التأليف في النظام القضائي كما ينبغي أن يكون، أو استقراء تطبيقات السياسة الشرعية في عهد أول دولة إسلامية، خاصة ما كان منها في عهد الملهم الفاروق - رضوان الله عليه -، وهو بحق شيخ السياسة الشرعية استنباطاً وتنفيذاً، وصاحب أوليات فريدة في السياسة وفي الإدارة والقضاء.
وقرأ الناس تبعاً لذلك كتباً نفيسة عن الإمامة العظمى، وصفات أهل الحل والعقد ووظائفهم، وأهلية الولايات، ووعوا مفاهيم الطاعة والعصيان، وسمو الرقابة من المنظور الإسلامي، وفقهوا أحكام الانتخابات والاستفتاء الشعبي، وأحوال تعيين الحاكم وعزله، وحدود الحقوق السياسية للمرأة وأهل الذمة والمبتدعة، وعرفوا مدى سلطان الدولة في تقييد الحق، وضوابط التعددية الحزبية في ظل الدولة الإسلامية، واستبانت لهم حقوق الإنسان، ومقارنة النظام السياسي الإسلامي بالدولة القانونية، فضلاً عن كتب التراث التي أكرمنا الله بتسخير من يحققها ويشرحها؛ ليقرأ طلاب العلم والمثقفون الأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية، والغياثي، والطرق الحكمية، وغيرها، وكأنها كتبت لهم ولعصرهم.
ولا يزال هذا العلم روضاً أنفاً وواحة خصبة للباحثين الصادقين الجادين، بل تزداد الحاجة إليه مع وصول الأحزاب الإسلامية لحكم عدد من بلاد المسلمين، ما يجعل الفرصة سانحة أكثر من ذي قبل لبحث النوازل والحوادث أو أي موضوعات تشتد الحاجة إليها؛ وكان التضييق والبطش فيما مضى يحولان دون درسها بحرية علمية وتجرد للحق.
وقد كان لعلماء الشريعة الذين درسوا القانون، ولأساتيذ القانون الذين نهلوا من معين الشريعة العذب؛ أكبر الأثر في إثراء هذا المجال، ولقد امتلأت كتبهم بتعظيم شرع الله ودينه بعد أن قارنوا بينه وبين قوانين البشر التي لا تسلم مما يعتري واضعيها من نقص وخلل، ولله الحجة البالغة. ووقف غالب هؤلاء الخيرة من الباحثين خلف الشريعة لا أمامها، وصار الواحد منهم منقاداً للشريعة وأصولها لا معتسفاً نصوصها أو مجتزئاً دلالاتها، وتساموا بعزة الإسلام حين أعملوا مصطلحاته واستخدموها مخلفين وراءهم المصطلحات البشرية وإن كان لها بريق وحضور.
وفي مجال التطبيق الذي غدا أكثر رحابة بفضل الله، فإنه يجدر بعلماء المسلمين أن يسترجعوا الولاية الشرعية التي منحها الله لأهل العلم والفقه وسلبها منهم المجرمون والسراق، فعلماء الشريعة شركاء في ولاية الأمر، وأهم مكون في أهل الحل والعقد، ولهم مقام عظيم ما استمسكوا بأهداب العلم الشريف الذي امتن الله عليهم به، وعسى أن نرى خطوات حثيثة حكيمة في هذا الطريق من علماء البلاد التي تحررت بعد عقود من القهر والجبر، حتى تبرأ ذممهم ويقدموا أنموذجاً يحتذى، فالعلم ولاية لا تحدها الخرائط ولا تحكمها السياسة، والأحوال مواتية لتحقيق هذا المطلب في البلدان التي يحكمها من لا يعادي الدين صراحة أو مواربة.
ومن المتعيّن الآن على العلماء والحكام الذين يملكون القدرة الشرعية على الاجتهاد، أن يقوموا بهذا الأمر ويبذلوا فيه الوسع والطاقة، خاصة مع كثرة النوازل وتجدد القضايا، ومع ما تلاقيه البلاد الإسلامية من عنت وتضييق يتولى كبره كافر معادٍ أو منافق يأتمر بإشارة من كافر، ولا بد لهذه المستجدات من أحكام منضبطة بأمر الله وحكمه، حتى تستقيم حياة الناس وشؤون الدول، مع التقيد بهدي الله وشرعه.
وفي هذا السياق يبرز اقتراح بعض علماء السياسة الشرعية[1] بإنشاء مجمع علمي للتشريع الإسلامي، واستخراج أحكام السياسة الشرعية وجمعها من بطون كتب الفقه، وأيضاً إنشاء معاهد عليا متخصصة بالسياسة الشرعية؛ وبذلك كله يتمكّن الحكام من تدبير شؤون الدولة الإسلامية التي لم يرد بحكمها نص صريح، أو التي من شأنها أن تتغيّر وتتبدل، بما فيه مصلحة الأمة، ويتفق مع أحكام الشريعة وأصولها العامة، وبهذا تكون السياسة موزونة بمعايير شرعية خالية من الهوى، وكم في السياسة الشرعية من التوسعة على الحكام وفتح آفاق العمل لهم لاتخاذ القرارات بنفس راضية مطمئنة.
وفي شريعة الله متسع لكل من يطلب رضى الله وطاعته، وقد جاءت بأحكام وقواعد وأصول ومقاصد تشمل ما كان وما سيكون، ويستطيع الفقيه المجتهد استنباط الحكم الشرعي في كل واقعة سياسية تعرض له، سواء كانت في السياسة الداخلية أو الخارجية، وصدق الله سبحانه حين قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. والحمد لله أن امتن علينا بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] بعد أن أقام علينا الحجة بقوله جل وعلا: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْـخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وبقول النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الألباني: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي...».
والأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، وقد أقام عليهم الحجة وأبان لهم المحجة بهذه الشريعة المتكاملة في نصوصها وأحكامها وقواعدها ومقاصدها وأصولها، الصالحة المصلحة لكل حال وزمان ومكان؛ إذا وجدت مؤسسة حاكمة من أولي الأمر أهل العلم وأصحاب السلطان الذين يصدقون النية، ويخلصون القصد، ويحسنون العمل، وعندها ستسعد الدنيا بحكم راشد ينطلق من حكم الرب المعبود بحق ويسعى لإرضائه، والعدل بين عباده، وجلب كل منفعة، ودفع أي مضرة.
*البيان
فقد ابتليت أمة الإسلام في الأزمنة المتأخرة بإقصاء حكم الله عن البلاد والعباد، وإحلال الأحكام الوضعية البشرية التي صاغتها عقول مهما عظمت فهي قاصرة، وقبلتها نفوس مستسلمة للهوى والشهوات، ما أدى إلى الانصراف عن شرع الله وحكمه في جلّ شؤون الناس، باستثناء مسائل اضطرارية في الأحوال الشخصية تعسَّر على المفسدين نقضها بالكلية، أو نهش قسم كبير منها؛ لتعلقها بخاصة حياة الأفراد الذين لا يرتضون حكماً غير شريعة ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ولأن الشريعة كانت مقصية عن الحكم وشؤون الحياة، فقد تقلص البحث في الشؤون العامة من منطلقات أصول الإسلام وقواعده، وزاد الطين بلة ما حمله بعض أبناء جلدتنا رواية ودراية عن جمع من المستشرقين الذين كانوا أحرص ما يكون على نفي أي صفة سياسية عن أحكام الإسلام، بل نفي وجود دولة إسلامية ذات سيادة ومرجعية ونظام، وفاه هؤلاء بإفكهم وما يفترون عبر وسائل التوجيه والتأثير حتى غدا غريباً لدى بعض المجتمعات أن يتحدث أحد عن سياسة شرعية، أو عن دولة تقوم على الشريعة الربانية وتستفيد من بعض الطرائق الحديثة في الحكم والنظام.
وفي خضم هذه الظلم والضلالات نجمت الصحوة الإسلامية على يد علماء مجاهدين وشباب صادقين، فكانت مباركة الأثر عظيمة النفع، وكان من أثرها أن تعطشت المجتمعات الإسلامية للعودة إلى أمر ربها ونهيه، ومجانبة كل نظام أو قانون يخالف الوحي الشريف، وكان لهذه العودة الحميدة صور شتى ما بين فردية وجماعية، وسياسية واجتماعية، وعلمية وعملية، حتى شرق بثمارها وآثارها منافقو الأمة وأكابر مجرميها.
ومن نتائج هذه الأوبة الراشدة طرح أسئلة عميقة في السياسة والحكم، وعقد مقارنات مع نظم وقوانين سادت بقوة دولية أو بتغول وإرجاف، وقد قادت هذه الأسئلة إلى ظهور كمّ كبير متميّز من الدراسات العلمية والرسائل الجامعية حول موضوعات السياسة الشرعية، والفقه الدستوري، وأنظمة الحكم، والسياسات المالية، والعلاقات الدولية، ومقارنتها بالنظم والقوانين الأخرى، منطلقة من تعظيم النص الشرعي والاحتكام إليه وحده دون سواه من المنتجات البشرية إلا ما كان منها متفقاً مع أصول الشريعة وقواعدها.
ونتيجة لذلك ضمت المكتبة الإسلامية كتباً تتحدث عن علاقة الحاكم بالمحكوم، وبيان الحقوق والواجبات لكل منهما، وأخرى تبحث في نظام الحكم أو السياسة الدستورية، أو تنظر إلى علاقة الدولة المسلمة بغيرها من الدول في حالتي السلم والحرب، أو تدرس موارد الدولة المالية ومصارفها واستثمارها ضمن سياسات مالية واقتصادية عملية وشرعية، فضلاً عن التأليف في النظام القضائي كما ينبغي أن يكون، أو استقراء تطبيقات السياسة الشرعية في عهد أول دولة إسلامية، خاصة ما كان منها في عهد الملهم الفاروق - رضوان الله عليه -، وهو بحق شيخ السياسة الشرعية استنباطاً وتنفيذاً، وصاحب أوليات فريدة في السياسة وفي الإدارة والقضاء.
وقرأ الناس تبعاً لذلك كتباً نفيسة عن الإمامة العظمى، وصفات أهل الحل والعقد ووظائفهم، وأهلية الولايات، ووعوا مفاهيم الطاعة والعصيان، وسمو الرقابة من المنظور الإسلامي، وفقهوا أحكام الانتخابات والاستفتاء الشعبي، وأحوال تعيين الحاكم وعزله، وحدود الحقوق السياسية للمرأة وأهل الذمة والمبتدعة، وعرفوا مدى سلطان الدولة في تقييد الحق، وضوابط التعددية الحزبية في ظل الدولة الإسلامية، واستبانت لهم حقوق الإنسان، ومقارنة النظام السياسي الإسلامي بالدولة القانونية، فضلاً عن كتب التراث التي أكرمنا الله بتسخير من يحققها ويشرحها؛ ليقرأ طلاب العلم والمثقفون الأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية، والغياثي، والطرق الحكمية، وغيرها، وكأنها كتبت لهم ولعصرهم.
ولا يزال هذا العلم روضاً أنفاً وواحة خصبة للباحثين الصادقين الجادين، بل تزداد الحاجة إليه مع وصول الأحزاب الإسلامية لحكم عدد من بلاد المسلمين، ما يجعل الفرصة سانحة أكثر من ذي قبل لبحث النوازل والحوادث أو أي موضوعات تشتد الحاجة إليها؛ وكان التضييق والبطش فيما مضى يحولان دون درسها بحرية علمية وتجرد للحق.
وقد كان لعلماء الشريعة الذين درسوا القانون، ولأساتيذ القانون الذين نهلوا من معين الشريعة العذب؛ أكبر الأثر في إثراء هذا المجال، ولقد امتلأت كتبهم بتعظيم شرع الله ودينه بعد أن قارنوا بينه وبين قوانين البشر التي لا تسلم مما يعتري واضعيها من نقص وخلل، ولله الحجة البالغة. ووقف غالب هؤلاء الخيرة من الباحثين خلف الشريعة لا أمامها، وصار الواحد منهم منقاداً للشريعة وأصولها لا معتسفاً نصوصها أو مجتزئاً دلالاتها، وتساموا بعزة الإسلام حين أعملوا مصطلحاته واستخدموها مخلفين وراءهم المصطلحات البشرية وإن كان لها بريق وحضور.
وفي مجال التطبيق الذي غدا أكثر رحابة بفضل الله، فإنه يجدر بعلماء المسلمين أن يسترجعوا الولاية الشرعية التي منحها الله لأهل العلم والفقه وسلبها منهم المجرمون والسراق، فعلماء الشريعة شركاء في ولاية الأمر، وأهم مكون في أهل الحل والعقد، ولهم مقام عظيم ما استمسكوا بأهداب العلم الشريف الذي امتن الله عليهم به، وعسى أن نرى خطوات حثيثة حكيمة في هذا الطريق من علماء البلاد التي تحررت بعد عقود من القهر والجبر، حتى تبرأ ذممهم ويقدموا أنموذجاً يحتذى، فالعلم ولاية لا تحدها الخرائط ولا تحكمها السياسة، والأحوال مواتية لتحقيق هذا المطلب في البلدان التي يحكمها من لا يعادي الدين صراحة أو مواربة.
ومن المتعيّن الآن على العلماء والحكام الذين يملكون القدرة الشرعية على الاجتهاد، أن يقوموا بهذا الأمر ويبذلوا فيه الوسع والطاقة، خاصة مع كثرة النوازل وتجدد القضايا، ومع ما تلاقيه البلاد الإسلامية من عنت وتضييق يتولى كبره كافر معادٍ أو منافق يأتمر بإشارة من كافر، ولا بد لهذه المستجدات من أحكام منضبطة بأمر الله وحكمه، حتى تستقيم حياة الناس وشؤون الدول، مع التقيد بهدي الله وشرعه.
وفي هذا السياق يبرز اقتراح بعض علماء السياسة الشرعية[1] بإنشاء مجمع علمي للتشريع الإسلامي، واستخراج أحكام السياسة الشرعية وجمعها من بطون كتب الفقه، وأيضاً إنشاء معاهد عليا متخصصة بالسياسة الشرعية؛ وبذلك كله يتمكّن الحكام من تدبير شؤون الدولة الإسلامية التي لم يرد بحكمها نص صريح، أو التي من شأنها أن تتغيّر وتتبدل، بما فيه مصلحة الأمة، ويتفق مع أحكام الشريعة وأصولها العامة، وبهذا تكون السياسة موزونة بمعايير شرعية خالية من الهوى، وكم في السياسة الشرعية من التوسعة على الحكام وفتح آفاق العمل لهم لاتخاذ القرارات بنفس راضية مطمئنة.
وفي شريعة الله متسع لكل من يطلب رضى الله وطاعته، وقد جاءت بأحكام وقواعد وأصول ومقاصد تشمل ما كان وما سيكون، ويستطيع الفقيه المجتهد استنباط الحكم الشرعي في كل واقعة سياسية تعرض له، سواء كانت في السياسة الداخلية أو الخارجية، وصدق الله سبحانه حين قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. والحمد لله أن امتن علينا بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] بعد أن أقام علينا الحجة بقوله جل وعلا: {وَإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْـخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وبقول النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الألباني: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي...».
والأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، وقد أقام عليهم الحجة وأبان لهم المحجة بهذه الشريعة المتكاملة في نصوصها وأحكامها وقواعدها ومقاصدها وأصولها، الصالحة المصلحة لكل حال وزمان ومكان؛ إذا وجدت مؤسسة حاكمة من أولي الأمر أهل العلم وأصحاب السلطان الذين يصدقون النية، ويخلصون القصد، ويحسنون العمل، وعندها ستسعد الدنيا بحكم راشد ينطلق من حكم الرب المعبود بحق ويسعى لإرضائه، والعدل بين عباده، وجلب كل منفعة، ودفع أي مضرة.
*البيان