بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فمن المعلوم من سنن الله - تعالى - في الأنفس والآفاق، أن الله - تعالى - إذا أراد شيئاً يسَّر أسبابه، تسريعاً لموجباته وتعطيلاً لموقِفَاته، كما قال - سبحانه -: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] والتاريخ أعطى ولا يزال أمثلة واضحة على ذلك؛ فمثلاً:
عندما أراد الله - تعالى - لأمة العرب المنسية قبل عصر النبوة المحمدية أن تتهيأ لدور قيادي ريادي على مستوى العالم، أخضع القوتين العُظمَيَين آنذاك (الفرس والروم) إلى سلسلة من أحداث التدافع والصراع والحروب في ما بينهما، لينتهي ذلك إلى إنهاك كلٍّ منهما للأخرى، في مرحلة من التراجع سجلها القرآن الكريم في أول سورة الروم: {غُلِبَتِ الرُّومُ 2 فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 3 فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْـمُؤْمِنُونَ} [الروم: 2 - 4]، وقد كان مخبوءاً في القدر أن كياناً مغموراً في قلب الجزيرة العربية سوف يسطع نجمه في ظروف سنوات قلائل قادمة؛ ليرث إمبراطورية فارس، ويقلِّص أمجاد إمبراطورية الروم، وكان حدثاً مبهراً أن يتزامن الفصل الأخير من صراع القطبين الأعظمين، مع الفصل الأول من سلسلة انتصارات المسلمين بدءاً من يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان في بدر.
ولما تضعضع أمر المسلمين في زمان الحملات الصليبية وسقطت بلاد الشام بأيدي النصارى، وأراد الله بعدها أن يكسر هذه الموجة العدوانية، هيأ لها من الأسباب ما يجعل كيانات أوروبا تتخالف في ما بينها بعد تحالفها، وفي الوقت نفسه تشتد عزيمة المسلمين على الثأر بسبب حماقات بعض القادة الصليبيين كالبارون (أرناط)، ليستغل صلاح الدين الظرف ويضرب ضربة الفتح المبين في معركة حطين سنة 583هـ - 1187م.
وكذلك لما استحكمت نكبة اجتياح الشرق الإسلامي من قِبَل القبائل الهمجية التتارية وأراد الله - تعالى - أن يكتب النجاة منها، ساق الأقدار لذلك؛ حيث تمادى التتار في الغرور، وعزم قائدهم (هولاكو) على غزو مصر بعد الشام، فألقى الله في قلب سيف الدين قطز نخوة وعزة وشجاعة. فعزم على غزوهم في الشام قبل أن يغزو مصر، فتحقق وعد الله بالنصر كما بشَّر العز بن عبد السلام رحمه الله، وكانت الهزيمة المنكرة للمغول في عين جالوت بفلسطين عام 685هـ - 1260م.
وفي العصر الحديث، بعد ما تواصل احتلال الدول الأوروبية النصرانية لبلدان عربية عديدة لعقود متتابعة في كلٍّ من مصر والسودان وليبيا والجزائر وتونس في الشطر الغربي من بلاد العرب، إضافة إلى كل من سورية والعراق واليمن وإمارات الخليج في الشطر الشرقي منه، شاء الله - تعالى - بعد هذا الظلم الطويل أن يُجلِي تلك الجيوش الكافرة، فتوالت حركات الاستقلال العربية بعد فترة متواصلة من الانتفاضات والثورات ضد المستعمر أجبرته على الرحيل.
لكن العالَم العربي بعد الثورات - التي كانت بداياتُ معظمها إسلامية - دخل مرحلةً من فقدان الهوية بعد أن سرقت أنظمةٌ عَلمانية محلية الحكم بعد رحيل الجيوش الاستعمارية الأجنبية؛ حيث فاقت تلك الأنظمة المحلية المستبدة (في ظلمها وظلامها) ما كانت الدول الاستعمارية الأوروبية تقوم به من فساد وإفساد، وانتهاك للآدمية وقهر للحرية؛ لقد أراد الله أن تفقد كلُّ تلك الأفكار والنظريات - التي حكم بها العَلمانيون - أرصدتها الجماهيرية.
وإن إرادة الله كانت ماضية في أن تظل هذه الأمة على خيريتها، فلم تفلح جهود التنكيل والتكبيل أن توقف مدَّ الدعوة الإسلامية السلمية؛ حيث كانت الاتجاهات الإسلامية بجميع فصائلها تتحايل للوصول إلى الناس، وإيصال الدعوة إليهم بالمستطاع من القول والفعل؛ وكأن العقل الجمعي لجميع تلك الجماعات كان يتهيأ لمرحلة تحتاج الأمة فيها للانتفاض لتحقيق إرادتها في العيش بكرامة وحرية تحت المظلة الإسلامية.
كانت جميع سبل المشاركة السياسية مغلقة أمام الإسلاميين، في الوقت الذي سُمِح فيه لكل الاتجاهات العَلمانية - بما فيها الشيوعية الماركسية - أن تُنشِئ أحزاباً وجمعيات، وتشارك بصورة أو أخرى في إدارة البلاد، حتى الأقليات غير الإسلامية كان لها من الفُرَص في الأداء السياسي والاقتصادي والإعلامي، ما لم يكن لمجموع الاتجاهات الإسلامية التي تمثل الأغلبية.
لكن أمراً ربما فات هؤلاء العَلمانيين المتسلطين، بل ربما فات الإسلاميين أنفسهم، وهو أن دعاة الإسلام كانوا يمارسون عملاً من صميم الفعل السياسي في صمت وخفاء، لم يفطن أعداؤهم إلى خطورته، هذا الفعل هو: (صناعة الأنصار) التي تُعَد العمود الأكبر في أي عمل سياسي. لقد تضافرت جهود الدعوة - على ضعفها وتواضعها في مرحلة الاستضعاف - في أن تحشد الأنصار بالملايين في سكون، وتربي العناصر بالآلاف في هدوء، وتصنع القيادات بالمئات في حركة شبه عفوية، حتى دنت لحظات القدر المخبوء.
المشروع الإسلامي... واقتناص اللحظة:
سارت الأمور بتقدير الله - مثلما رأى الجميع - لتنقلب الأوضاع في العديد من بلدان المنطقة رأساً على عقب، ليعلو صوت الإسلام مع هدير الجماهير التي ربما كانت بدايات ثورتها لدنياها، فأبى الله إلا أن يتحول مجراها لتكون لدينها. إن (المشروع الإسلامي) كان الحاضرَ الغائبَ طوال عقود عديدة خلت؛ فكل الاتجاهات الإسلامية كانت تعمل بوسائل مختلفة لأجل العودة إلى الحياة الإسلامية التي اختُصرَت في عبارة (المشروع الإسلامي)؛ هذا المشروع الذي ربما لم تكتمل معالمه الواقعية والفكرية حتى عند أكثر المتحدثين عنه، بل ربما لم يكن له كبير اهتمام عند قطاعات أخرى من الإسلاميين؛ لا لتخليهم عنه، ولكن لاستطالتهم المسافة إليه؛ فقد كان القهر العَلماني محبطاً إلى حدٍّ جعل الإسلاميين - وغير الإسلاميين - يظنون أن عهد التغيير بعيد المنال لا تزال دونه أجيال وأجيال.
لقد تطورت الأمور بسرعة لدرجة أن الإسلاميين وجدوا أنفسهم - على غير سابق انتظار - في واجهة المشهد، ثم في صدارة الحدث، ثم في قمة المسؤولية... كيف حدث هذا؟ ومتى حدث؟
عام واحد مضى منذ بدء الثورات، لكن تغييراته اختصرت عقوداً في شهور، ليصل الإسلاميون إلى واقع جديد لم يكن لهم به عهد، ولم يسبق لهم لأجله كبير استعداد.
لسنا الآن بصدد الحديث عن مكونات المشروع الإسلامي والمعالم الواجب استمرارها واستقرارها فيه، فذلك أمر سبق للمجلة أن تناولته في أعداد سابقة[1]؛ ولكن المقصود ما يخص المرحلة، من أمور يجدر بالقائمين على أمر العمل الإسلامي ألا تغيب عنهم في زحمة الانشغال بالمنافسة، والانهماك في خطوات البناء، لعل من أهمها:
أولاً: أن ما حصل للإسلاميين من فوز ساحق في الانتخابات في عدد من البلدان العربية، يُعَد نوعاً من النصر وشكلاً من التمكين. صحيح أنه لم تتضح آثاره ومعالمه بَعْد، ولكنه على كل حال نقلة كبيرة من التوفيق، اعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء. إن التمكين مِنَّة إلهية، وإسقاط الطغيـان نعمـة ربانية، والله - تعالى - يريد ممن يشهدون نعمه أن يذكروها فيشكروها: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5 وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6]. والشكر يجمِّله ويكمِّله العمل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
ثانياً: مع أن التمكين تكريم وتشريف، لكنه قبل ذلك اختبار وتكليف؛ فهو نوع استخلاف له مسؤوليات وعليه تبعات، كما قال - تعالى -: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، ولعل أبرز تلك المسؤوليات والتبعات: تصديقُ القولِ العملَ، وتطابُق الممارسات مع الشعارات، ولا شك في أن أحكام الشريعة هي محتوى أي مشروع إسلامي، وقد أظهرت الأحداث أن إقامتها وتحكيمها هي أمل جمهور الأمة، ومع أن التطبيق العملي قد يحتاج في بعض أوجهه إلى تدرُّج وتمهيد بحسب قواعد السياسة الشرعية، لكن ما لا يحتمل تأجيلاً أو تسويفاً أو تساهلاً، هو حماية جناب هذا التشريع الإلهي، من أن يعود ألعوبة في أيدي العابثين باسم (اللعبة) الديمقراطية، التي تشترط رضا العبيد عن شرع رب العباد؛ فواجب الوقت إعادة الاعتبار للتحاكم القلبي للشريعة، الذي يسبق الحكم العملي بها في الأهمية، وهذا واجب المشتغلين بالدعوة، قبل المشتغلين بالسياسة.
ثالثاً: البناء، ثم البناء، ثم البناء، هو مطلب الوقت: البناء الاعتقادي، والبناء التشريعي، والبناء الاقتصادي، والبناء التربوي، والبناء التعليمي، والبناء الإعلامي، وحتى البناء العسكري... والبناء أصعب كثيراً من الهدم، لكنه أهم في البدء وأسرع للعطاء، والبناء في أرض جديدة ممهدة أسهل من البناء على أطلال مهدمة مهددة، وقد يراد استدراج أصحاب المشروع الإسلامي لهدم صروح الباطل أولاً، ولكن الفطنة تدعوهم للبدء بالبناء. وضرورة البدء به تفرض لكل فرد من المسلمين دوراً، أيّاً كان مكانه أو مكانته؛ ولهذا لا ينبغي أبداً أن يُختصر المشروع الإسلامي أو يُبتسر في أشخاص أو وأحزاب أو جماعات؛ فهو مشروع نهضة ينبغي أن يتضافر الجميع لانجاحه، حتى من خارج بلاد الثورات، حتى لا تضيع الفرصة التاريخية.
رابعاً: (النموذج الناجح)؟ هذا سؤال المرحلة الذي يسأله الجميع ويتساءل عنه ويُساءل به. وكثير من الناشطين الإسلاميين يبحثون عن (النموذج الناجح) ليتأسَّوا به، ويستنسخوا تجربته. لكن ينبغي أن يقال لهؤلاء: (كونوا أنتم النموذج الناجح) في بلدكم في بيئتكم تبعاً لظروفكم وإمكاناتكم، ومعكم مواد البناء ومَدد السماء، في هذا الدستور الجامع: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْـحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].
خامساً: (في المشروع الإسلامي) ثوابت وضوابط وأصول، لا ينبغي تخطيها أو تجاهلها؛ فمن تحدث باسم نفسه، فَلْيتحدث بما شاء وحسابه على الله. أما إذا كان يتحدث باسم الإسلام، أو ظن الناس أنه يمثل الإسلام، فلا يحل له أن يتحدث إلا وَفْق قواعد الإسلام، ولقد رأينا عجباً لا ينتهي من تصريحات وخطب، وربما برامج وخطط، تتخطى ما هو مستقر من أحكام الإسلام الاعتقادية والتشريعية، تصدر - للأسف - عن (إسلاميين) أعطاهم الناس ثقتهم وأصواتهم لأجل الإسلام، فإذا بذلك الإسلام تنتهك بعض حرماته على ألسنة بعضهم في قضايا باتت من بدهيات الدين ومسلَّمَات العقيدة: إما في مناورات انتخابية أو فلتات لسان لوسائل إعلامية، طمعاً ربما في إرضاء هذا الطرف أو ذاك {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إن كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62]، وإذا كان العَلمانيون - والليبـراليون منهم خاصة - لا يتنازلون عن ثوابت ليبراليتهم التي لا تعترف بأي ثابت إلا ثابت عدم الثبات؛ فما لبعض المتحدثين باسم المشروع الإسلامي لا يأبهون بثوابت شرائعه وشعائره، ولا يهتمون بمشاعر الملتفين حولهم والمتعاطفين معهم لأجل الإسلام؟ إننا لو جمعنا هذه الشذوذات المنهجية، لوجدناها تقوض أركان المشروع نظرياً، قبل أن يبدأ تطبيقه علمياً {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92].
سادساً: المستهدَفون بكل خير في خطاب المشروع الإسلامي هم المسلمون ابتداءً؛ فهؤلاء هم من يجب إرضاؤهم وخَطْب ودِّهم والعملُ على نفعهم قبل أي أحد آخر؛ فالعقــود والعهـود لا تُحترَم إلا للحفاظ على حُرُماتهم، والأقوال والأفعال لا وزن لها إلا أن تكون ولاءً لهم وبراءً من أعدائهم، هم أَوْلى الناس بحُسْن الخطاب، ولطف اللهجة، وصدق الموعدة، هم أَوْلى بالكرامة من الأقليات التي على غير الملة، أو الجماعات المنحرفة المحسوبة على الملة؛ أولئك الذين لن يرضوا مهما استُرضوا، ولئن يُؤتمَنوا مهما ائتُمِنوا، لا مانع من مدارة الكفار والمنافقين مع غربة الدين وضعف التمكين، ولكن الممنوع أن يكونوا مخصوصين عند البعض بالمحافظة على المشاعر واختيار العبارات، وكيل الوعود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57].
سابعاً: إذا كانت المظاهرات والهتافات الجماهيرية أمراً جعله الله سبباً في اختصار مراحل كثيرة لوصول الإسلاميين للواجهة، فإن هذه التحركات نفسها قد تكون - لا قدر الله - سبباً في عرقلة بقية المراحل أو تأخيرها؛ إذا لم ينتبه هؤلاء الإسلاميون لأسباب تحريكها وأطراف استغلالها؛ فمن ثار معك اليوم لما يؤمله منك، يمكن أن يثور عليك غداً إذا فقد آماله فيك. لهذا لا بد من استفراغ الوسع في اليقظة مع الحذر من الاسترخاء، فلن يضيِّع الأعداء فرصة تفريق الجموع وبث الفرقة وإيقاظ الفتن، فالاعتصام بالله وبكتابه وسنة رسوله والانحياز إلى أوليائه والحذر من أعدائه، ضمانات دائمة للنجاح في التغيير إلى الأفضل {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45].
وأخيراً: فإن هذه التحولات القدرية التاريخية الكبيرة، التي تعصف بالمنطقة (بل بالعالم) في هذه المرحلة لا نظن إلا أنها لأمر يهيئه الله؛ فقد سُبقَت تلك الأحداث الكبار، بأحداث أكبر منها بدأت بسقوط الاتحاد السوفييتي في القرن الماضي قبل عشرين سنة، ثم ببدء تراجع الاتحاد الأمريكي منذ عشر سنوات، ثم بتتابع الوهن في الاتحاد الأوروبي إلى حد الحديث الآن عن احتمال تفككه. إنها مرحلة تشبه مرحله انهيار قوَّتي الفرس والروم في فجر الإسلام؛ فهل نشهد فجراً جديداً؟ رجاؤنا في الله أن تكون عاقبة هذه المرحلة لنا لا علينا: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 40 الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 40 - 41].
[1] انظر - مثلاً - مقال: (المشروع الإسلامي... رؤية سلفية). في عدد (250) من المجلة شهر جمادى الآخرة لعام (1429هـ) الموافق شهر يونيو لعام (2008م).
*مجلة الفتيان
فمن المعلوم من سنن الله - تعالى - في الأنفس والآفاق، أن الله - تعالى - إذا أراد شيئاً يسَّر أسبابه، تسريعاً لموجباته وتعطيلاً لموقِفَاته، كما قال - سبحانه -: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] والتاريخ أعطى ولا يزال أمثلة واضحة على ذلك؛ فمثلاً:
عندما أراد الله - تعالى - لأمة العرب المنسية قبل عصر النبوة المحمدية أن تتهيأ لدور قيادي ريادي على مستوى العالم، أخضع القوتين العُظمَيَين آنذاك (الفرس والروم) إلى سلسلة من أحداث التدافع والصراع والحروب في ما بينهما، لينتهي ذلك إلى إنهاك كلٍّ منهما للأخرى، في مرحلة من التراجع سجلها القرآن الكريم في أول سورة الروم: {غُلِبَتِ الرُّومُ 2 فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 3 فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْـمُؤْمِنُونَ} [الروم: 2 - 4]، وقد كان مخبوءاً في القدر أن كياناً مغموراً في قلب الجزيرة العربية سوف يسطع نجمه في ظروف سنوات قلائل قادمة؛ ليرث إمبراطورية فارس، ويقلِّص أمجاد إمبراطورية الروم، وكان حدثاً مبهراً أن يتزامن الفصل الأخير من صراع القطبين الأعظمين، مع الفصل الأول من سلسلة انتصارات المسلمين بدءاً من يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان في بدر.
ولما تضعضع أمر المسلمين في زمان الحملات الصليبية وسقطت بلاد الشام بأيدي النصارى، وأراد الله بعدها أن يكسر هذه الموجة العدوانية، هيأ لها من الأسباب ما يجعل كيانات أوروبا تتخالف في ما بينها بعد تحالفها، وفي الوقت نفسه تشتد عزيمة المسلمين على الثأر بسبب حماقات بعض القادة الصليبيين كالبارون (أرناط)، ليستغل صلاح الدين الظرف ويضرب ضربة الفتح المبين في معركة حطين سنة 583هـ - 1187م.
وكذلك لما استحكمت نكبة اجتياح الشرق الإسلامي من قِبَل القبائل الهمجية التتارية وأراد الله - تعالى - أن يكتب النجاة منها، ساق الأقدار لذلك؛ حيث تمادى التتار في الغرور، وعزم قائدهم (هولاكو) على غزو مصر بعد الشام، فألقى الله في قلب سيف الدين قطز نخوة وعزة وشجاعة. فعزم على غزوهم في الشام قبل أن يغزو مصر، فتحقق وعد الله بالنصر كما بشَّر العز بن عبد السلام رحمه الله، وكانت الهزيمة المنكرة للمغول في عين جالوت بفلسطين عام 685هـ - 1260م.
وفي العصر الحديث، بعد ما تواصل احتلال الدول الأوروبية النصرانية لبلدان عربية عديدة لعقود متتابعة في كلٍّ من مصر والسودان وليبيا والجزائر وتونس في الشطر الغربي من بلاد العرب، إضافة إلى كل من سورية والعراق واليمن وإمارات الخليج في الشطر الشرقي منه، شاء الله - تعالى - بعد هذا الظلم الطويل أن يُجلِي تلك الجيوش الكافرة، فتوالت حركات الاستقلال العربية بعد فترة متواصلة من الانتفاضات والثورات ضد المستعمر أجبرته على الرحيل.
لكن العالَم العربي بعد الثورات - التي كانت بداياتُ معظمها إسلامية - دخل مرحلةً من فقدان الهوية بعد أن سرقت أنظمةٌ عَلمانية محلية الحكم بعد رحيل الجيوش الاستعمارية الأجنبية؛ حيث فاقت تلك الأنظمة المحلية المستبدة (في ظلمها وظلامها) ما كانت الدول الاستعمارية الأوروبية تقوم به من فساد وإفساد، وانتهاك للآدمية وقهر للحرية؛ لقد أراد الله أن تفقد كلُّ تلك الأفكار والنظريات - التي حكم بها العَلمانيون - أرصدتها الجماهيرية.
وإن إرادة الله كانت ماضية في أن تظل هذه الأمة على خيريتها، فلم تفلح جهود التنكيل والتكبيل أن توقف مدَّ الدعوة الإسلامية السلمية؛ حيث كانت الاتجاهات الإسلامية بجميع فصائلها تتحايل للوصول إلى الناس، وإيصال الدعوة إليهم بالمستطاع من القول والفعل؛ وكأن العقل الجمعي لجميع تلك الجماعات كان يتهيأ لمرحلة تحتاج الأمة فيها للانتفاض لتحقيق إرادتها في العيش بكرامة وحرية تحت المظلة الإسلامية.
كانت جميع سبل المشاركة السياسية مغلقة أمام الإسلاميين، في الوقت الذي سُمِح فيه لكل الاتجاهات العَلمانية - بما فيها الشيوعية الماركسية - أن تُنشِئ أحزاباً وجمعيات، وتشارك بصورة أو أخرى في إدارة البلاد، حتى الأقليات غير الإسلامية كان لها من الفُرَص في الأداء السياسي والاقتصادي والإعلامي، ما لم يكن لمجموع الاتجاهات الإسلامية التي تمثل الأغلبية.
لكن أمراً ربما فات هؤلاء العَلمانيين المتسلطين، بل ربما فات الإسلاميين أنفسهم، وهو أن دعاة الإسلام كانوا يمارسون عملاً من صميم الفعل السياسي في صمت وخفاء، لم يفطن أعداؤهم إلى خطورته، هذا الفعل هو: (صناعة الأنصار) التي تُعَد العمود الأكبر في أي عمل سياسي. لقد تضافرت جهود الدعوة - على ضعفها وتواضعها في مرحلة الاستضعاف - في أن تحشد الأنصار بالملايين في سكون، وتربي العناصر بالآلاف في هدوء، وتصنع القيادات بالمئات في حركة شبه عفوية، حتى دنت لحظات القدر المخبوء.
المشروع الإسلامي... واقتناص اللحظة:
سارت الأمور بتقدير الله - مثلما رأى الجميع - لتنقلب الأوضاع في العديد من بلدان المنطقة رأساً على عقب، ليعلو صوت الإسلام مع هدير الجماهير التي ربما كانت بدايات ثورتها لدنياها، فأبى الله إلا أن يتحول مجراها لتكون لدينها. إن (المشروع الإسلامي) كان الحاضرَ الغائبَ طوال عقود عديدة خلت؛ فكل الاتجاهات الإسلامية كانت تعمل بوسائل مختلفة لأجل العودة إلى الحياة الإسلامية التي اختُصرَت في عبارة (المشروع الإسلامي)؛ هذا المشروع الذي ربما لم تكتمل معالمه الواقعية والفكرية حتى عند أكثر المتحدثين عنه، بل ربما لم يكن له كبير اهتمام عند قطاعات أخرى من الإسلاميين؛ لا لتخليهم عنه، ولكن لاستطالتهم المسافة إليه؛ فقد كان القهر العَلماني محبطاً إلى حدٍّ جعل الإسلاميين - وغير الإسلاميين - يظنون أن عهد التغيير بعيد المنال لا تزال دونه أجيال وأجيال.
لقد تطورت الأمور بسرعة لدرجة أن الإسلاميين وجدوا أنفسهم - على غير سابق انتظار - في واجهة المشهد، ثم في صدارة الحدث، ثم في قمة المسؤولية... كيف حدث هذا؟ ومتى حدث؟
عام واحد مضى منذ بدء الثورات، لكن تغييراته اختصرت عقوداً في شهور، ليصل الإسلاميون إلى واقع جديد لم يكن لهم به عهد، ولم يسبق لهم لأجله كبير استعداد.
لسنا الآن بصدد الحديث عن مكونات المشروع الإسلامي والمعالم الواجب استمرارها واستقرارها فيه، فذلك أمر سبق للمجلة أن تناولته في أعداد سابقة[1]؛ ولكن المقصود ما يخص المرحلة، من أمور يجدر بالقائمين على أمر العمل الإسلامي ألا تغيب عنهم في زحمة الانشغال بالمنافسة، والانهماك في خطوات البناء، لعل من أهمها:
أولاً: أن ما حصل للإسلاميين من فوز ساحق في الانتخابات في عدد من البلدان العربية، يُعَد نوعاً من النصر وشكلاً من التمكين. صحيح أنه لم تتضح آثاره ومعالمه بَعْد، ولكنه على كل حال نقلة كبيرة من التوفيق، اعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء. إن التمكين مِنَّة إلهية، وإسقاط الطغيـان نعمـة ربانية، والله - تعالى - يريد ممن يشهدون نعمه أن يذكروها فيشكروها: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5 وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6]. والشكر يجمِّله ويكمِّله العمل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
ثانياً: مع أن التمكين تكريم وتشريف، لكنه قبل ذلك اختبار وتكليف؛ فهو نوع استخلاف له مسؤوليات وعليه تبعات، كما قال - تعالى -: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، ولعل أبرز تلك المسؤوليات والتبعات: تصديقُ القولِ العملَ، وتطابُق الممارسات مع الشعارات، ولا شك في أن أحكام الشريعة هي محتوى أي مشروع إسلامي، وقد أظهرت الأحداث أن إقامتها وتحكيمها هي أمل جمهور الأمة، ومع أن التطبيق العملي قد يحتاج في بعض أوجهه إلى تدرُّج وتمهيد بحسب قواعد السياسة الشرعية، لكن ما لا يحتمل تأجيلاً أو تسويفاً أو تساهلاً، هو حماية جناب هذا التشريع الإلهي، من أن يعود ألعوبة في أيدي العابثين باسم (اللعبة) الديمقراطية، التي تشترط رضا العبيد عن شرع رب العباد؛ فواجب الوقت إعادة الاعتبار للتحاكم القلبي للشريعة، الذي يسبق الحكم العملي بها في الأهمية، وهذا واجب المشتغلين بالدعوة، قبل المشتغلين بالسياسة.
ثالثاً: البناء، ثم البناء، ثم البناء، هو مطلب الوقت: البناء الاعتقادي، والبناء التشريعي، والبناء الاقتصادي، والبناء التربوي، والبناء التعليمي، والبناء الإعلامي، وحتى البناء العسكري... والبناء أصعب كثيراً من الهدم، لكنه أهم في البدء وأسرع للعطاء، والبناء في أرض جديدة ممهدة أسهل من البناء على أطلال مهدمة مهددة، وقد يراد استدراج أصحاب المشروع الإسلامي لهدم صروح الباطل أولاً، ولكن الفطنة تدعوهم للبدء بالبناء. وضرورة البدء به تفرض لكل فرد من المسلمين دوراً، أيّاً كان مكانه أو مكانته؛ ولهذا لا ينبغي أبداً أن يُختصر المشروع الإسلامي أو يُبتسر في أشخاص أو وأحزاب أو جماعات؛ فهو مشروع نهضة ينبغي أن يتضافر الجميع لانجاحه، حتى من خارج بلاد الثورات، حتى لا تضيع الفرصة التاريخية.
رابعاً: (النموذج الناجح)؟ هذا سؤال المرحلة الذي يسأله الجميع ويتساءل عنه ويُساءل به. وكثير من الناشطين الإسلاميين يبحثون عن (النموذج الناجح) ليتأسَّوا به، ويستنسخوا تجربته. لكن ينبغي أن يقال لهؤلاء: (كونوا أنتم النموذج الناجح) في بلدكم في بيئتكم تبعاً لظروفكم وإمكاناتكم، ومعكم مواد البناء ومَدد السماء، في هذا الدستور الجامع: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْـحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].
خامساً: (في المشروع الإسلامي) ثوابت وضوابط وأصول، لا ينبغي تخطيها أو تجاهلها؛ فمن تحدث باسم نفسه، فَلْيتحدث بما شاء وحسابه على الله. أما إذا كان يتحدث باسم الإسلام، أو ظن الناس أنه يمثل الإسلام، فلا يحل له أن يتحدث إلا وَفْق قواعد الإسلام، ولقد رأينا عجباً لا ينتهي من تصريحات وخطب، وربما برامج وخطط، تتخطى ما هو مستقر من أحكام الإسلام الاعتقادية والتشريعية، تصدر - للأسف - عن (إسلاميين) أعطاهم الناس ثقتهم وأصواتهم لأجل الإسلام، فإذا بذلك الإسلام تنتهك بعض حرماته على ألسنة بعضهم في قضايا باتت من بدهيات الدين ومسلَّمَات العقيدة: إما في مناورات انتخابية أو فلتات لسان لوسائل إعلامية، طمعاً ربما في إرضاء هذا الطرف أو ذاك {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إن كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62]، وإذا كان العَلمانيون - والليبـراليون منهم خاصة - لا يتنازلون عن ثوابت ليبراليتهم التي لا تعترف بأي ثابت إلا ثابت عدم الثبات؛ فما لبعض المتحدثين باسم المشروع الإسلامي لا يأبهون بثوابت شرائعه وشعائره، ولا يهتمون بمشاعر الملتفين حولهم والمتعاطفين معهم لأجل الإسلام؟ إننا لو جمعنا هذه الشذوذات المنهجية، لوجدناها تقوض أركان المشروع نظرياً، قبل أن يبدأ تطبيقه علمياً {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92].
سادساً: المستهدَفون بكل خير في خطاب المشروع الإسلامي هم المسلمون ابتداءً؛ فهؤلاء هم من يجب إرضاؤهم وخَطْب ودِّهم والعملُ على نفعهم قبل أي أحد آخر؛ فالعقــود والعهـود لا تُحترَم إلا للحفاظ على حُرُماتهم، والأقوال والأفعال لا وزن لها إلا أن تكون ولاءً لهم وبراءً من أعدائهم، هم أَوْلى الناس بحُسْن الخطاب، ولطف اللهجة، وصدق الموعدة، هم أَوْلى بالكرامة من الأقليات التي على غير الملة، أو الجماعات المنحرفة المحسوبة على الملة؛ أولئك الذين لن يرضوا مهما استُرضوا، ولئن يُؤتمَنوا مهما ائتُمِنوا، لا مانع من مدارة الكفار والمنافقين مع غربة الدين وضعف التمكين، ولكن الممنوع أن يكونوا مخصوصين عند البعض بالمحافظة على المشاعر واختيار العبارات، وكيل الوعود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57].
سابعاً: إذا كانت المظاهرات والهتافات الجماهيرية أمراً جعله الله سبباً في اختصار مراحل كثيرة لوصول الإسلاميين للواجهة، فإن هذه التحركات نفسها قد تكون - لا قدر الله - سبباً في عرقلة بقية المراحل أو تأخيرها؛ إذا لم ينتبه هؤلاء الإسلاميون لأسباب تحريكها وأطراف استغلالها؛ فمن ثار معك اليوم لما يؤمله منك، يمكن أن يثور عليك غداً إذا فقد آماله فيك. لهذا لا بد من استفراغ الوسع في اليقظة مع الحذر من الاسترخاء، فلن يضيِّع الأعداء فرصة تفريق الجموع وبث الفرقة وإيقاظ الفتن، فالاعتصام بالله وبكتابه وسنة رسوله والانحياز إلى أوليائه والحذر من أعدائه، ضمانات دائمة للنجاح في التغيير إلى الأفضل {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45].
وأخيراً: فإن هذه التحولات القدرية التاريخية الكبيرة، التي تعصف بالمنطقة (بل بالعالم) في هذه المرحلة لا نظن إلا أنها لأمر يهيئه الله؛ فقد سُبقَت تلك الأحداث الكبار، بأحداث أكبر منها بدأت بسقوط الاتحاد السوفييتي في القرن الماضي قبل عشرين سنة، ثم ببدء تراجع الاتحاد الأمريكي منذ عشر سنوات، ثم بتتابع الوهن في الاتحاد الأوروبي إلى حد الحديث الآن عن احتمال تفككه. إنها مرحلة تشبه مرحله انهيار قوَّتي الفرس والروم في فجر الإسلام؛ فهل نشهد فجراً جديداً؟ رجاؤنا في الله أن تكون عاقبة هذه المرحلة لنا لا علينا: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ 40 الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 40 - 41].
[1] انظر - مثلاً - مقال: (المشروع الإسلامي... رؤية سلفية). في عدد (250) من المجلة شهر جمادى الآخرة لعام (1429هـ) الموافق شهر يونيو لعام (2008م).
*مجلة الفتيان