هويدي 16-7-2002
أكثر ما أخشاه أن تضيع منا كليات الصراع الدائر علي أرض فلسطين, وسط سيل الأخبار التي تتدفق يوميا حول الاجتياحات والمداهمات والاعتقالات والاغتيالات وغير ذلك. فالذي يحدث الأن في فلسطين ليس حربا ضد السلطة, ولا هو محاولة لإغلاق ملف القضية, وإنما هو يستهدف تصفية الوجود المادي للشعب الفلسطيني ذاته. إن شئت فقل أنه نوع من الإبادة المادية والسياسية في آن واحد التي لها ما بعدها. وتلك هي الجريمة الكبري التي تتم الآن تحت أعين الجميع.
(1)
يوم السبت7/6 كانت أسرة محمد الهندي عائدة إلي بيتها في خان يونس, بعد أن شاركت في حفل زفاف أحد الأقارب في غزة. تعجلت الأم رندة في العودة المبكرة, قبل الزحام وتحسبا لأية طواريء تحدث علي الطريق. انحشر الجميع في سيارة الأسرة من طراز فولكس واجن, إذ كان عددهم ثمانية أشخاص. سلكوا الطريق الساحلي في السادسة صباحا من غزة الي خان يونس, حيث لم يكونوا وحدهم, وإنما انضموا إلي رتل صغير من السيارات. ما أن اقتربت الفولكس من محطة الجعل علي طريق البحر حتي انهالت علي ركابها طلقات الرصاص من أبراج المراقبة المقامة علي حدود مستوطنة نتساريم الاسرائيلية, التي تبعد نحو كيلو متر من الشاطيء. كان الرصاص كثيفا وزخاته تلمع وسط الضباب الكثيف المخيم علي المكان, والذي كاد يمنع الرؤية.
بقية الحكاية روتها نرجس الهندي زوجة الابن, التي كانت جالسة الي جوارحماتها رندة. حين دوت طلقات الرصاص احتضنت عمتي بقوة طفلتها نور التي لم تتجاوز سنتين من العمر, وانحنت فوقها, بينما أسرع عمر( الابن) بالسيارة لكي يتجاوز منطقة ضرب النار. وحين توقف إطلاق الرصاص, انعطف عمر بالسيارة جانبا وتوقف لكي يلتقط أنفاسه. طلبت من عمتي ان ترفع رأسها لكنها لم ترد علي. صرخت وحاولت تحريكها, فاكتشفت ان رأسها ووجهها من الناحية اليسري مكسوان بالدماء. نظرت الي نور, وأذهلني ما رأيت. كان رأسها مهشما تماما. حيث أصابته رصاصة مباشرة. كان المشهد مرعبا. فبجواري عمتي غارقة في دمائها, وعلي حجرها طفلتها نور بلا رأس تقريبا, وقد تناثر دماؤها علي المقعد, وعلي ثياب العمة التي كانت بلا حراك. كل ما فعلته أنني وضعت رأسها علي كتفي, ورحت أصرخ منادية الأثنتين: عمتي ونور.
ظهر السبت بثت وكالات الأنباء الخبر التالي: قالت مصادر طبية في مستشفي شهداء الأقصي في دير البلح(20 كيلو مترا جنوب غزة) أن رندة خالد الهندي(44 عاما) وطفلتها الرضيعة نور محمد الهندي( عامان) وصلتا الي المستشفي جثتين هامدتين. وأضافت المصادر ان الطفلة نور كانت بلا رأس تقريبا, إذ تهشم رأسها برصاصة من النوع الثقيل, كما أن الأم وصلت مصابة بأعيرة نارية مماثلة في مختلف أنحاء جسمها, وقال شهود عيان أن جنود الاحتلال المتمركزين في أبراج المستوطنة أطلقوا النار بكثافة في اتجاه عدد من السيارات المارة علي الطريق الساحلي بين مدينتي غزة وخان يونس, مما أدي إلي مصرع رنده الهندي وطفلتها, وأصابوا عددا آخر من المسافرين بجروح مختلفة, ونقلوا علي اثر ذلك إلي المستشفي.
(2)
يقشعر بدن الواحد منا وهو يقرأ التفاصيل. لكن الحادث اصبح يمثل لسكان الأرض المحتلة خبرا عاديا ويوميا. فلا الأم رندة هي أولي النساء اللاتي قتلن, ولا الطفلة نور آخر الأطفال الذين هشمت رؤوسهم. ذلك أن شبح الموت أصبح يظلل الجميع, لا من خرج من بيته مطمئن الي أنه سيعود سالما, ولا الذي اعتصم ببيته واثق من أنه في مأمن من الموت.
في ذات اليوم الذي نشر فيه خبر مقتل الأم وطفلتها, قتلت القوات الإسرائيلية خميس فهمي شراب(46 عاما) في منطقة قيزان أبو رشوان, ودمرت جرافة تحرسها دبابتان موقعا أمنيا فلسطينيا تابعا للقوات الحدودية جنوب معبر صوفاه شرق مدينة رفح. وتوغلت قوات الاحتلال في منطقة العزبة التابعة لبلدة بيت حانون, شمالي قطاع غزة, وصولا الي أبراج الندي القريبة. وأعلن ان ثلاثة من الأسري في مستشفي سجن نفيه ترتسا يواجهون خطر الموت, أحدهم مصاب بفشل كلوي ويحتاج الي جراحة سريعة لزراعة كلية, والثاني مصاب في القلب وبدوره يحتاج الي جراحة سريعة, والثلاثة مصاب بتلوث خطير يهدده بالشلل. والثلاثة نزلاء معتقل أنصار3 الذي كان قد أغلق في عام95, ثم أعيد افتتاحه في أعقاب الانتفاضة الأخيرة, ليصبح ساحة لتعذيب الفلسطينيين وإذلالهم. ونقلت الوكالة الفرنسية في رام الله أن شبانا فلسطينيين كان قد أطلق سراحهم من أحد السجون الاسرائيلية, لكنهم سجنوا مرة أخري وهم في طريق عودتهم إلي بيوتهم. وهو ما اكتشفته أسرة أحدهم( عبدالهادي ـ21 سنة) بعد أربعة أيام من اختفائه اثر الإفراج عنه, ونشرت الصحف صورة لاثنين من الشبان ظهرا شبه عاريين
وقد غطيت أعينهما, وكبلت أيديهما وراء ظهريهما, بينما وقف جندي إسرائيلي صغير السن, مدججا بالسلاح وتعلو وجهه ابتسامة بلهاء. وادعت اسرائيل ان العربيين كانا بصدد القيام بعملية ضد المستوطنين في غزة. كما نشرت تقارير صحفية أخري عن عذابات الآف الفلسطينيين الذين تجمعوا عند معبر رفح أو في أريحا, في انتظار اللحاق بأبنائهم وعوائلهم الذين اعتادوا السفر اليهم خلال فترة الصيف, وكيف ان معبر رفح مثلا لا يفتح إلا خمس ساعات يوميا, ويتعرض الفلسطينيون الي تفتيش طويل ومهين, بحيث لا يمكن أكثر من مائة أو مائتين علي أحسن الفروض من العبور كل يوم, في حين أن المعدل الطبيعي للعبور في السنوات السابقة كان ثلاثة الاف شخص يوميا. وهذه المعاناة المقترنة بالذل تحدثت عنها تقارير اخري عالجت أوضاع سكان المدن التي أعيد احتلالها, والتي تخضع لحظر التجول إلا في ساعات محدودة خلال النهار. بل أن محافظ طولكرم العميد عز الدين الشريف ذكر في تصريح صحفي ان منع التجول لم يرفع عن المدينة التي يسكنها90 ألف نسمة طيلة ثمانية أيام متواصلة, الأمر الذي حولها الي مدينة أشباح. وقال ان هناك عشرة الاف طفل بحاجة الي تطعيم طبي لا يتوافر لهم, ذلك غير عشرات النساء الحوامل اللاتي يواجهن صعوبات جمة, خصوصا في ظل شل حركة الطواقم الطبية والإسعاف.
هذه عناوين يوم واحد في الزمن الفلسطيني المجلل بالدم والمسكون بالمذلة والمهانة, هو السبت السادس من شهر يوليو الحالي. ليس كل العناوين بالتأكيد, ولكنها بعضها الذي تناقلته صحف ذلك الصباح.
(3)
لكي تكتمل صورة الجحيم في الأرض المحتلة فان الذين كتبت لهم الحياة, وظلوا خارج السجون ولم يساقوا الي المعتقلات المقامة وسط الصحراء, تلهب اسرائيل ظهورهم وتحاول تركيعهم وكسر إرادتهم من خلال سياسة التجويع المتعمد, التي تسير جنبا الي جنب مع سياسة الإهانة والإذلال, أن شئت فقل أن عملية التجويع هي أحدا حلقات تلك السياسة.
أشرت توا إلي ما حدث في طولكرم, التي منع التجول فيها تماما لمدة ثمانية أيام, بحيث لم يجرؤ أحد علي مغادرة بيته طيلة تلك المدة, ولم يكن بوسع أي بيت أن يدبر حاجته من الخبز أو الحليب أو الماء, ناهيك عن الدواء. وما جري في طولكرم يتكرر يوميا في بقية مدن وقري الضفة, الأمر الذي أصاب الحياة بالشلل وضاعف من عذابات الناس. وهم الذين تعطلت اعمالهم وانقطعت بهم أسباب الرزق.
قد بدأت الاحصاءات الإسرائيلية, وليست الفلسطينية ـ تتحدث عن نسبة عالية جدا من العاطلين عن العمل في الأرض المحتلة, بالمقابل فان مركز السكان وحقوق العاملين الفلسطيني, ذكر أن معدل البطالة بين الفلسطينيين وصل الي65%, في حين وصلت معدلات الفقر إلي مستوي غير مسبوق, وهو75%.
وذكرت الصحافة الاسرائيلية( يديعوت احرونوت) ان وكالة غوث وتشغيل اللاجئين( الأونروا) لم تعد تعني باللاجئين بل بمليون و800 الف معوز, والصليب الأحمر لم يعد يعالج قضايا الأسري بل يعالج ايضا المساعدة المعيشية الحقيقية... وفي كل شهر يفكر130 الف شخص يعملون موظفين, ما اذا كانوا سيحصلون اصلا علي رواتبهم. وبرغم معرفة الحكومة الاسرائيلية لهذه الأرقام فانها تواصل سياسة التجويع, الأمر الذي يعني ان السياسة متعمدة, ولها اهدافها ضمن المخططات الاسرائيلية.
في إطار سياسة التجويع تقوم اسرائيل بعرقلة وصول المساعدات, سواء تلك التي تصل من منظمات أهلية دولية. أو التي يرسلها العرب, أو تلك التي يرسلها الفلسطينيون من داخل دولة اسرائيل. وكان المركز القانوني للأقلية العربية في اسرائيل( عدالة), قد بعث برسالة طالبا التدخل الفوري لرفع الحصار عن طولكرم, ولفتت الرسالة الي ان القانون الدولي يحتم علي جيش الاحتلال توفير الحاجات الأساسية للمدنيين, وقبل ذلك بأيام, طالبت اثنتان وثلاثون منظمة انسانية, من بينها كير واوكسفام وأطباء بلا حدود, اسرائيل بتوفير منافذ ملائمة لموظفي الاغاثة, تمكنهم من الوصول الي المواطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة, وقال بيان صادر عن تلك الوكالات نحن نتعرض لتعطيل زائد عند نقاط التفتيش العسكرية, وأصبحنا عاجزين عن الوصول الي المدنيين المحتاجين الي مساعدات.
اتباع هذه السياسة كان له صداه في الأوساط الاسرائيلية ذاتها, التي تخوفت من أن تؤدي عملية التجويع الي تشجيع الفلسطينيين الي الأقدام علي المزيد من العمليات الاستشهادية, باعتبار ذلك حلا وحيدا تبقي لهم. ففي الكنيسيت حذر يوسي ساريد من كارثة انسانية في الأراضي الفلسطينية. وقال لاذاعة الجيش الاسرائيلي: كان علي بوش ان يعرف أن خطابه سيفتح الطريق امام اعادة احتلال الأراضي الفلسطينية ووقوع كارثة انسانية, وقال ساريد: يجب تذكير الرئيس بوش وآرييل شارون ان تجويع السكان المدنيين جريمة ضد الانسانية ينبغي محاسبة المسئولين عنها. أما داخل المجلس الوزاري الأمني المصغر, فقد تحدث شمعون بيريز وزير الخارجية قائلا: ان اسرائيل تمارس عقوبات جماعية في المناطق, وهذا غير صحيح وغير حكيم وغير أخلاقي.. والسياسة الحالية تنشئ وضعا خطيرا للغاية ولابد من تصحيحه قبل فوات الأوان. وشهد ذلك الاجتماع نقاشا صريحا عن استعمال التجويع كسياسة لجعل الناس يتحركون ضد السلطة الفلسطينية, فقدم قادة الأجهزة الأمنية تقارير تقول: ان الغضب داخل المناطق الفلسطينية اصبح موجها بالتساوي ضد اسرائيل وضد السلطة الفلسطينية.. فإذا خففت اسرائيل معاناتهم فان النسبة ستميل الي صالحها.
(4)
بالاضافة الي ماأصاب البشر من قهر واذلال وتدمير للذات في الحملة الراهنة, يلفت النظر لاريب المدي الذي ذهبت اليه اسرائيل في محاولتها تدمير المرافق والهياكل ومقومات استمرار الحياة في الضفة والقطاع. اذ علي مرآي ومسمع من العالم, قامت اسرائيل بتدمير شبكات المياه والكهرباء والهاتف, وشبكات الطرق والصرف الصحي والمرفأ والمطار, ومباني الشرطة والأمن والدوائر الرسمية, ومباني وزارات السلطة. وقسم كبير من المدارس والورش الصناعية.
وتجريف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية, الي جانب الدمار الواسع في الأحياء السكنية الفلسطينية, التي دمر بعضها علي قاطنيها.
هذا التدمير الوحشي واللاانساني لايمكن ان يسمي حربا, اذ للحرب قواعد وقوانين واعراف واخلاقيات, لكن الحاصل تجاوز ذلك كله. ان شئت فقل انه نوع من الافتراس للبشر والاكتساح للمكان.
وذلك لايمكن ان يكون قد تم بدافع الانتقام وحده أو حتي ضرب البنية التحتية للمقاومة, وهو الذي يمكن ان يتحقق بعشر معشار تلك الاجراءات المجنونة. وتبرير الحاصل بحسبانه نوعا من الدفاع عن النفس هو مزحة سمجة, تنم عن جهل فاحش أو سوء قصد, او الاثنين معا.
هذا الذي يحدث لايمكن ان يفسر الا بحسبانه محاولة لتهديم كل مرتكزات الوجود المادي للشعب الفلسطيني علي أرضه, بحيث يصبح ذلك الوجود أو ماتبقي منه هو الجحيم بعينه, الذي لا تحتمله طاقة البشر. وليست هذه نهاية المطاف, لأنني أري في الأفق محاولة لاستعادة المشهد الذي تم اثر هزيمة67, حيث شهدت الأرض الفلسطينية حركة نزوح واسعة النطاق باتجاه شرق الأردن, بكلام اخر, فان الجحيم الذي يقام الآن في الضفة والقطاع, يراد له ان يمهد الطريق لذلك النزوح الذي يحلم به شارون وجماعته من قوي اليمين, الذين يعتبرون الظروف الراهنة مهيأة تماما لتقليص الوجود الفلسطيني, واجبار اعداد كبيرة من الفلسطينيين علي النزوح وترك البلاد هربا من الجحيم, دون صدور قرار بالطرد أو الترحيل( ترانسفير). انه لن يطردوا احدا حتي لايسئ ذلك الي سمعتهم دوليا, لكنهم سيصلون الي ذات النتيجة عن طريق خلق ظروف طاردة تحقق المراد دون ألم!
(5)
لماذا يريدون طرد الفلسطينيين واستئصالهم؟
عند المتدينين اليهود وسطوتهم في الحكم كما نعرف الموقف محسوم فالتشريع الحربي واضح في سفر التثنية, الذي يتضمن نصا يقول: وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب الهك, فلا تستبق منها نسمة, بل تحرمها تحريما( أي تبيدها بالكامل) وحسب تفسيرات النص, فان الربانيين اليهود يقولون ان تلك الشعوب التي يجب ان تباد, هي القبائل الكنعانية العربية التي وجدت في فلسطين منذ فجر التاريخ.
اضافة الي هذه الخلفية التوراتية فهناك حسابات استراتيجية اخري. خلاصتها ان تعداد سكان اسرائيل حقق قفزة تاريخية خلال السنوات العشر الأخيرة, حيث ارتفع من4 ملايين الي خمسة ملايين ونصف, وتسعي حكومة شارون الي استجلاب مليون يهودي آخر خلال العقد الحالي لتعزيز الوجود السكاني اليهودي, وتمكينه من الصمود امام التزايد السكاني الفلسطيني عموما بعدما بينت الاحصاءات انه في سنة2020 سيمثل العرب55% من سكان فلسطين بينما لن يتجاوز نسبة الاسرائيليين45%.
واليوم يعيش في فلسطين مابين البحر والنهر تسعة ملايين نسمة, الأمر الذي يشكل ضغطا هائلا علي الموارد, خاصة المياه. اذ تبلغ الكثافة السكانية في فلسطين تسعة اضعافها في الأردن, وستة اضعاف مثيلتها في سوريا. وازاء نسبة النمو العالية بين الفلسطينيين(3.4%) فقد أدركت النخبة الاسرائيلية ان أي انسحاب واسع من اراضي الضفة الغربية سوف يشكل كارثة للمشروع الصهيوني, وستتضاعف الكارثة اذا ماعادت الي فلسطين اعداد من اللاجئين( توقعوا ان يعود مابين مليون ومليون ونصف لاجئ) بسبب هذه الحقيقة السكانية المهمة في الحسابات الاسرائيلية كان لابد من التراجع عن اتفاق اوسلو, والغاء فكرة الانسحاب, وهذا ماتم بالفعل. وبعد ان أطلقت الولايات المتحدة يد اسرائيل في الضفة والقطاع خصوصا بعد خطاب الرئيس بوش الأخير فان الظرف اصبح مواتيا للذهاب الي ماهو ابعد, واستئصال الوجود الفلسطيني قدر الامكان من الضفة والقطاع, للتخفف من عبء السكان والاعداد لاستقبال المهاجرين الجدد, وهذا مايجري تنفيذه الآن, انتهت الحكاية!
أكثر ما أخشاه أن تضيع منا كليات الصراع الدائر علي أرض فلسطين, وسط سيل الأخبار التي تتدفق يوميا حول الاجتياحات والمداهمات والاعتقالات والاغتيالات وغير ذلك. فالذي يحدث الأن في فلسطين ليس حربا ضد السلطة, ولا هو محاولة لإغلاق ملف القضية, وإنما هو يستهدف تصفية الوجود المادي للشعب الفلسطيني ذاته. إن شئت فقل أنه نوع من الإبادة المادية والسياسية في آن واحد التي لها ما بعدها. وتلك هي الجريمة الكبري التي تتم الآن تحت أعين الجميع.
(1)
يوم السبت7/6 كانت أسرة محمد الهندي عائدة إلي بيتها في خان يونس, بعد أن شاركت في حفل زفاف أحد الأقارب في غزة. تعجلت الأم رندة في العودة المبكرة, قبل الزحام وتحسبا لأية طواريء تحدث علي الطريق. انحشر الجميع في سيارة الأسرة من طراز فولكس واجن, إذ كان عددهم ثمانية أشخاص. سلكوا الطريق الساحلي في السادسة صباحا من غزة الي خان يونس, حيث لم يكونوا وحدهم, وإنما انضموا إلي رتل صغير من السيارات. ما أن اقتربت الفولكس من محطة الجعل علي طريق البحر حتي انهالت علي ركابها طلقات الرصاص من أبراج المراقبة المقامة علي حدود مستوطنة نتساريم الاسرائيلية, التي تبعد نحو كيلو متر من الشاطيء. كان الرصاص كثيفا وزخاته تلمع وسط الضباب الكثيف المخيم علي المكان, والذي كاد يمنع الرؤية.
بقية الحكاية روتها نرجس الهندي زوجة الابن, التي كانت جالسة الي جوارحماتها رندة. حين دوت طلقات الرصاص احتضنت عمتي بقوة طفلتها نور التي لم تتجاوز سنتين من العمر, وانحنت فوقها, بينما أسرع عمر( الابن) بالسيارة لكي يتجاوز منطقة ضرب النار. وحين توقف إطلاق الرصاص, انعطف عمر بالسيارة جانبا وتوقف لكي يلتقط أنفاسه. طلبت من عمتي ان ترفع رأسها لكنها لم ترد علي. صرخت وحاولت تحريكها, فاكتشفت ان رأسها ووجهها من الناحية اليسري مكسوان بالدماء. نظرت الي نور, وأذهلني ما رأيت. كان رأسها مهشما تماما. حيث أصابته رصاصة مباشرة. كان المشهد مرعبا. فبجواري عمتي غارقة في دمائها, وعلي حجرها طفلتها نور بلا رأس تقريبا, وقد تناثر دماؤها علي المقعد, وعلي ثياب العمة التي كانت بلا حراك. كل ما فعلته أنني وضعت رأسها علي كتفي, ورحت أصرخ منادية الأثنتين: عمتي ونور.
ظهر السبت بثت وكالات الأنباء الخبر التالي: قالت مصادر طبية في مستشفي شهداء الأقصي في دير البلح(20 كيلو مترا جنوب غزة) أن رندة خالد الهندي(44 عاما) وطفلتها الرضيعة نور محمد الهندي( عامان) وصلتا الي المستشفي جثتين هامدتين. وأضافت المصادر ان الطفلة نور كانت بلا رأس تقريبا, إذ تهشم رأسها برصاصة من النوع الثقيل, كما أن الأم وصلت مصابة بأعيرة نارية مماثلة في مختلف أنحاء جسمها, وقال شهود عيان أن جنود الاحتلال المتمركزين في أبراج المستوطنة أطلقوا النار بكثافة في اتجاه عدد من السيارات المارة علي الطريق الساحلي بين مدينتي غزة وخان يونس, مما أدي إلي مصرع رنده الهندي وطفلتها, وأصابوا عددا آخر من المسافرين بجروح مختلفة, ونقلوا علي اثر ذلك إلي المستشفي.
(2)
يقشعر بدن الواحد منا وهو يقرأ التفاصيل. لكن الحادث اصبح يمثل لسكان الأرض المحتلة خبرا عاديا ويوميا. فلا الأم رندة هي أولي النساء اللاتي قتلن, ولا الطفلة نور آخر الأطفال الذين هشمت رؤوسهم. ذلك أن شبح الموت أصبح يظلل الجميع, لا من خرج من بيته مطمئن الي أنه سيعود سالما, ولا الذي اعتصم ببيته واثق من أنه في مأمن من الموت.
في ذات اليوم الذي نشر فيه خبر مقتل الأم وطفلتها, قتلت القوات الإسرائيلية خميس فهمي شراب(46 عاما) في منطقة قيزان أبو رشوان, ودمرت جرافة تحرسها دبابتان موقعا أمنيا فلسطينيا تابعا للقوات الحدودية جنوب معبر صوفاه شرق مدينة رفح. وتوغلت قوات الاحتلال في منطقة العزبة التابعة لبلدة بيت حانون, شمالي قطاع غزة, وصولا الي أبراج الندي القريبة. وأعلن ان ثلاثة من الأسري في مستشفي سجن نفيه ترتسا يواجهون خطر الموت, أحدهم مصاب بفشل كلوي ويحتاج الي جراحة سريعة لزراعة كلية, والثاني مصاب في القلب وبدوره يحتاج الي جراحة سريعة, والثلاثة مصاب بتلوث خطير يهدده بالشلل. والثلاثة نزلاء معتقل أنصار3 الذي كان قد أغلق في عام95, ثم أعيد افتتاحه في أعقاب الانتفاضة الأخيرة, ليصبح ساحة لتعذيب الفلسطينيين وإذلالهم. ونقلت الوكالة الفرنسية في رام الله أن شبانا فلسطينيين كان قد أطلق سراحهم من أحد السجون الاسرائيلية, لكنهم سجنوا مرة أخري وهم في طريق عودتهم إلي بيوتهم. وهو ما اكتشفته أسرة أحدهم( عبدالهادي ـ21 سنة) بعد أربعة أيام من اختفائه اثر الإفراج عنه, ونشرت الصحف صورة لاثنين من الشبان ظهرا شبه عاريين
وقد غطيت أعينهما, وكبلت أيديهما وراء ظهريهما, بينما وقف جندي إسرائيلي صغير السن, مدججا بالسلاح وتعلو وجهه ابتسامة بلهاء. وادعت اسرائيل ان العربيين كانا بصدد القيام بعملية ضد المستوطنين في غزة. كما نشرت تقارير صحفية أخري عن عذابات الآف الفلسطينيين الذين تجمعوا عند معبر رفح أو في أريحا, في انتظار اللحاق بأبنائهم وعوائلهم الذين اعتادوا السفر اليهم خلال فترة الصيف, وكيف ان معبر رفح مثلا لا يفتح إلا خمس ساعات يوميا, ويتعرض الفلسطينيون الي تفتيش طويل ومهين, بحيث لا يمكن أكثر من مائة أو مائتين علي أحسن الفروض من العبور كل يوم, في حين أن المعدل الطبيعي للعبور في السنوات السابقة كان ثلاثة الاف شخص يوميا. وهذه المعاناة المقترنة بالذل تحدثت عنها تقارير اخري عالجت أوضاع سكان المدن التي أعيد احتلالها, والتي تخضع لحظر التجول إلا في ساعات محدودة خلال النهار. بل أن محافظ طولكرم العميد عز الدين الشريف ذكر في تصريح صحفي ان منع التجول لم يرفع عن المدينة التي يسكنها90 ألف نسمة طيلة ثمانية أيام متواصلة, الأمر الذي حولها الي مدينة أشباح. وقال ان هناك عشرة الاف طفل بحاجة الي تطعيم طبي لا يتوافر لهم, ذلك غير عشرات النساء الحوامل اللاتي يواجهن صعوبات جمة, خصوصا في ظل شل حركة الطواقم الطبية والإسعاف.
هذه عناوين يوم واحد في الزمن الفلسطيني المجلل بالدم والمسكون بالمذلة والمهانة, هو السبت السادس من شهر يوليو الحالي. ليس كل العناوين بالتأكيد, ولكنها بعضها الذي تناقلته صحف ذلك الصباح.
(3)
لكي تكتمل صورة الجحيم في الأرض المحتلة فان الذين كتبت لهم الحياة, وظلوا خارج السجون ولم يساقوا الي المعتقلات المقامة وسط الصحراء, تلهب اسرائيل ظهورهم وتحاول تركيعهم وكسر إرادتهم من خلال سياسة التجويع المتعمد, التي تسير جنبا الي جنب مع سياسة الإهانة والإذلال, أن شئت فقل أن عملية التجويع هي أحدا حلقات تلك السياسة.
أشرت توا إلي ما حدث في طولكرم, التي منع التجول فيها تماما لمدة ثمانية أيام, بحيث لم يجرؤ أحد علي مغادرة بيته طيلة تلك المدة, ولم يكن بوسع أي بيت أن يدبر حاجته من الخبز أو الحليب أو الماء, ناهيك عن الدواء. وما جري في طولكرم يتكرر يوميا في بقية مدن وقري الضفة, الأمر الذي أصاب الحياة بالشلل وضاعف من عذابات الناس. وهم الذين تعطلت اعمالهم وانقطعت بهم أسباب الرزق.
قد بدأت الاحصاءات الإسرائيلية, وليست الفلسطينية ـ تتحدث عن نسبة عالية جدا من العاطلين عن العمل في الأرض المحتلة, بالمقابل فان مركز السكان وحقوق العاملين الفلسطيني, ذكر أن معدل البطالة بين الفلسطينيين وصل الي65%, في حين وصلت معدلات الفقر إلي مستوي غير مسبوق, وهو75%.
وذكرت الصحافة الاسرائيلية( يديعوت احرونوت) ان وكالة غوث وتشغيل اللاجئين( الأونروا) لم تعد تعني باللاجئين بل بمليون و800 الف معوز, والصليب الأحمر لم يعد يعالج قضايا الأسري بل يعالج ايضا المساعدة المعيشية الحقيقية... وفي كل شهر يفكر130 الف شخص يعملون موظفين, ما اذا كانوا سيحصلون اصلا علي رواتبهم. وبرغم معرفة الحكومة الاسرائيلية لهذه الأرقام فانها تواصل سياسة التجويع, الأمر الذي يعني ان السياسة متعمدة, ولها اهدافها ضمن المخططات الاسرائيلية.
في إطار سياسة التجويع تقوم اسرائيل بعرقلة وصول المساعدات, سواء تلك التي تصل من منظمات أهلية دولية. أو التي يرسلها العرب, أو تلك التي يرسلها الفلسطينيون من داخل دولة اسرائيل. وكان المركز القانوني للأقلية العربية في اسرائيل( عدالة), قد بعث برسالة طالبا التدخل الفوري لرفع الحصار عن طولكرم, ولفتت الرسالة الي ان القانون الدولي يحتم علي جيش الاحتلال توفير الحاجات الأساسية للمدنيين, وقبل ذلك بأيام, طالبت اثنتان وثلاثون منظمة انسانية, من بينها كير واوكسفام وأطباء بلا حدود, اسرائيل بتوفير منافذ ملائمة لموظفي الاغاثة, تمكنهم من الوصول الي المواطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة, وقال بيان صادر عن تلك الوكالات نحن نتعرض لتعطيل زائد عند نقاط التفتيش العسكرية, وأصبحنا عاجزين عن الوصول الي المدنيين المحتاجين الي مساعدات.
اتباع هذه السياسة كان له صداه في الأوساط الاسرائيلية ذاتها, التي تخوفت من أن تؤدي عملية التجويع الي تشجيع الفلسطينيين الي الأقدام علي المزيد من العمليات الاستشهادية, باعتبار ذلك حلا وحيدا تبقي لهم. ففي الكنيسيت حذر يوسي ساريد من كارثة انسانية في الأراضي الفلسطينية. وقال لاذاعة الجيش الاسرائيلي: كان علي بوش ان يعرف أن خطابه سيفتح الطريق امام اعادة احتلال الأراضي الفلسطينية ووقوع كارثة انسانية, وقال ساريد: يجب تذكير الرئيس بوش وآرييل شارون ان تجويع السكان المدنيين جريمة ضد الانسانية ينبغي محاسبة المسئولين عنها. أما داخل المجلس الوزاري الأمني المصغر, فقد تحدث شمعون بيريز وزير الخارجية قائلا: ان اسرائيل تمارس عقوبات جماعية في المناطق, وهذا غير صحيح وغير حكيم وغير أخلاقي.. والسياسة الحالية تنشئ وضعا خطيرا للغاية ولابد من تصحيحه قبل فوات الأوان. وشهد ذلك الاجتماع نقاشا صريحا عن استعمال التجويع كسياسة لجعل الناس يتحركون ضد السلطة الفلسطينية, فقدم قادة الأجهزة الأمنية تقارير تقول: ان الغضب داخل المناطق الفلسطينية اصبح موجها بالتساوي ضد اسرائيل وضد السلطة الفلسطينية.. فإذا خففت اسرائيل معاناتهم فان النسبة ستميل الي صالحها.
(4)
بالاضافة الي ماأصاب البشر من قهر واذلال وتدمير للذات في الحملة الراهنة, يلفت النظر لاريب المدي الذي ذهبت اليه اسرائيل في محاولتها تدمير المرافق والهياكل ومقومات استمرار الحياة في الضفة والقطاع. اذ علي مرآي ومسمع من العالم, قامت اسرائيل بتدمير شبكات المياه والكهرباء والهاتف, وشبكات الطرق والصرف الصحي والمرفأ والمطار, ومباني الشرطة والأمن والدوائر الرسمية, ومباني وزارات السلطة. وقسم كبير من المدارس والورش الصناعية.
وتجريف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية, الي جانب الدمار الواسع في الأحياء السكنية الفلسطينية, التي دمر بعضها علي قاطنيها.
هذا التدمير الوحشي واللاانساني لايمكن ان يسمي حربا, اذ للحرب قواعد وقوانين واعراف واخلاقيات, لكن الحاصل تجاوز ذلك كله. ان شئت فقل انه نوع من الافتراس للبشر والاكتساح للمكان.
وذلك لايمكن ان يكون قد تم بدافع الانتقام وحده أو حتي ضرب البنية التحتية للمقاومة, وهو الذي يمكن ان يتحقق بعشر معشار تلك الاجراءات المجنونة. وتبرير الحاصل بحسبانه نوعا من الدفاع عن النفس هو مزحة سمجة, تنم عن جهل فاحش أو سوء قصد, او الاثنين معا.
هذا الذي يحدث لايمكن ان يفسر الا بحسبانه محاولة لتهديم كل مرتكزات الوجود المادي للشعب الفلسطيني علي أرضه, بحيث يصبح ذلك الوجود أو ماتبقي منه هو الجحيم بعينه, الذي لا تحتمله طاقة البشر. وليست هذه نهاية المطاف, لأنني أري في الأفق محاولة لاستعادة المشهد الذي تم اثر هزيمة67, حيث شهدت الأرض الفلسطينية حركة نزوح واسعة النطاق باتجاه شرق الأردن, بكلام اخر, فان الجحيم الذي يقام الآن في الضفة والقطاع, يراد له ان يمهد الطريق لذلك النزوح الذي يحلم به شارون وجماعته من قوي اليمين, الذين يعتبرون الظروف الراهنة مهيأة تماما لتقليص الوجود الفلسطيني, واجبار اعداد كبيرة من الفلسطينيين علي النزوح وترك البلاد هربا من الجحيم, دون صدور قرار بالطرد أو الترحيل( ترانسفير). انه لن يطردوا احدا حتي لايسئ ذلك الي سمعتهم دوليا, لكنهم سيصلون الي ذات النتيجة عن طريق خلق ظروف طاردة تحقق المراد دون ألم!
(5)
لماذا يريدون طرد الفلسطينيين واستئصالهم؟
عند المتدينين اليهود وسطوتهم في الحكم كما نعرف الموقف محسوم فالتشريع الحربي واضح في سفر التثنية, الذي يتضمن نصا يقول: وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب الهك, فلا تستبق منها نسمة, بل تحرمها تحريما( أي تبيدها بالكامل) وحسب تفسيرات النص, فان الربانيين اليهود يقولون ان تلك الشعوب التي يجب ان تباد, هي القبائل الكنعانية العربية التي وجدت في فلسطين منذ فجر التاريخ.
اضافة الي هذه الخلفية التوراتية فهناك حسابات استراتيجية اخري. خلاصتها ان تعداد سكان اسرائيل حقق قفزة تاريخية خلال السنوات العشر الأخيرة, حيث ارتفع من4 ملايين الي خمسة ملايين ونصف, وتسعي حكومة شارون الي استجلاب مليون يهودي آخر خلال العقد الحالي لتعزيز الوجود السكاني اليهودي, وتمكينه من الصمود امام التزايد السكاني الفلسطيني عموما بعدما بينت الاحصاءات انه في سنة2020 سيمثل العرب55% من سكان فلسطين بينما لن يتجاوز نسبة الاسرائيليين45%.
واليوم يعيش في فلسطين مابين البحر والنهر تسعة ملايين نسمة, الأمر الذي يشكل ضغطا هائلا علي الموارد, خاصة المياه. اذ تبلغ الكثافة السكانية في فلسطين تسعة اضعافها في الأردن, وستة اضعاف مثيلتها في سوريا. وازاء نسبة النمو العالية بين الفلسطينيين(3.4%) فقد أدركت النخبة الاسرائيلية ان أي انسحاب واسع من اراضي الضفة الغربية سوف يشكل كارثة للمشروع الصهيوني, وستتضاعف الكارثة اذا ماعادت الي فلسطين اعداد من اللاجئين( توقعوا ان يعود مابين مليون ومليون ونصف لاجئ) بسبب هذه الحقيقة السكانية المهمة في الحسابات الاسرائيلية كان لابد من التراجع عن اتفاق اوسلو, والغاء فكرة الانسحاب, وهذا ماتم بالفعل. وبعد ان أطلقت الولايات المتحدة يد اسرائيل في الضفة والقطاع خصوصا بعد خطاب الرئيس بوش الأخير فان الظرف اصبح مواتيا للذهاب الي ماهو ابعد, واستئصال الوجود الفلسطيني قدر الامكان من الضفة والقطاع, للتخفف من عبء السكان والاعداد لاستقبال المهاجرين الجدد, وهذا مايجري تنفيذه الآن, انتهت الحكاية!