مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
فضيحــة للإعــــلام الأمريكى
هويدي 25-6-2002

الكذب والافتراء فيما يخص الشأن الفلسطيني لم نعد نستغربه في الإعلام الأمريكي‏,‏ لكن الغش والاحتيال في هذا الموضوع لم نألفهما‏.‏ صحيح ان الذي يكذب لايستكثر عليه ان يغش او يحتال‏,‏ لكننا كنا نظن ان ثمة تقاليد للمهنة بالدول المتقدمة مازالت تحول دون الانزلاق الي ذلك المدي البائس في التحيز‏,‏ وهو ظن لم يعد مقطوعا به بعد الذي جري هناك أخيرا‏,‏ حين انتحل صحفي امريكي اسما عربيا‏,‏ ومضي يكيل السباب والشتائم للمقاومة الفلسطينية من مقره في لندن في حين ادعي كذبا انه يكتب رسائله من فلسطين‏.!‏

‏(1)‏
هذا المنطوق يحتاج الي ضبط‏,‏ حتي لا يتحول الي تعميم يقلل من شأن الإعلام الأمريكي او يبخسه حقه‏.‏ ذلك أننا لا نطلق حكما عاما علي ذلك الإعلام الذي نعرف انه يتمتع بدرجة عالية من القوة والاحترام‏,‏ ولا ينسي له انه الوحيد في العالم الذي اسقط رئيسا للجمهورية‏(‏ الرئيس نيكسون‏)‏ الا ان رصيده من النزاهة والمصداقية يهتز ويتراجع ـ للأسف حينما يتعلق الامر بالشأن الفلسطيني بوجه اخص‏,‏ حيث يتحول الجهاز الإعلامي في هذه الحالة الي وسيلة للتضليل والتشويش وقلب الحقائق علي نحومذهل لايكاد يصدقه عقل‏:‏ إذنجده يقف بالمطلق الي جانب القاتل ضد القتيل‏,‏ مهدرا في ذلك كل ما يتوافر له من رصيد مهني وأخلاقي‏.‏ هناك استثناءات بطبيعة الحال‏,‏ حيث لم يخل الأمر من نماذج وقفت بصلابة وموضوعية الي جانب الحق والعدل‏,‏ إلا ان تلك اصوات ظلت محدودة‏,‏ وتعرضت لدرجات متفاوتة من الحصار والترهيب‏,‏ خارج هذه الدائرة فإن مختلف المنابر الإعلامية لا يقبل منها ولا يسمح لها بأن تتعامل بأي قدر من الانصاف مع الملف الفلسطيني‏.‏ حيث تقف مراكز القوي الصهيونية بالمرصاد لكل من تسول له نفسه ان يكون ناقلا للحقيقة اوحتي معبرا عن وجهتي النظر فيها‏,‏ وقد تعرضت صحيفتا لوس انجيلوس تايمز وواشنطن بوست أخيرا لضغوط رهيبة‏,‏ وصلت الي حد المقاطعة وحجب الاشتراكات ومنع الاعلانات‏,‏ حتي محطة تليفزيون سي إن إن لم تسلم من تلك الضغوط لمجرد انها حاولت ان تنقل بقدر من الامانة ما جري في الضفة الغربية اثناء الاجتياح الاسرائيلي لمدنها وقراها‏.‏ إذ يظل سيف العداء للسامية مشهرا فوق رقاب كل من يرفض الانحيازلاسرائيل والانصياع لمراكز القوي الصهيونية ويحاول التصرف بأي شكل من اشكال الاستقلال او الموضوعية‏.‏
نعم هناك من يغلب المصالح ويستسلم للترهيب‏,‏ وهناك ايضا من ينطلق من موقف الكاره للعرب جميعا والمسلمين‏,‏ ومن اسف ان هؤلاء وهؤلاء يظلون اصحاب الصوت المعلي في اجهزة الاعلام والاقوي تأثيرا علي الرأي العام‏.‏ وهو تأثير يتضاعف في ظل الادارة الامريكية الحالية الخاضعة لنفوذ اليمين الصهيوني الذي يعتبر الانحياز لإسرائيل والعداء للفلسطينيين خيارا وحيدا لا يقبل المناقشة ولا يحتمل التراجع‏.‏

‏(2)‏
النموذج الذي نحن بصدده هذه المرة فاق كل ما عرفناه أوخبرناه وتتلخص وقائعه فيما يلي‏:‏
‏*‏ دأبت صحيفة واشنطن تايمز‏(100‏ الف نسخة‏)‏ علي نشر تقارير حول الاوضاع في فلسطين في الآونة الاخير‏,‏مملوءة بالتحيز والتغليط‏,‏ كان اكثر ما لفت الانظار فيها أنها رسالة من داخل الاراضي المحتلة‏,‏ وان مرسلها شخص عربي اسمه سيد انور‏.‏

‏*‏ تحري الامر الناشطون الفلسطينيون في الولايات المتحدة‏,‏ خاصة اعضاء مركز العودة الذين شكوا في ان يكون هناك وجود حقيقي لمراسل صحفي فلسطيني بذلك الاسم‏.‏ وبعد بحث وتدقيق واتصالات مع مختلف المصادر التي يمكن ان تكون علي صلة بالموضوع‏,‏ ظهرت المفاجأة الكبري‏,‏ التي تمثلت في انه لا وجود لشخص بهذا الاسم‏,‏ وان المدعو سيد انور هو في حقيقة الامر المراسل السابق للصحيفة في الشرق الاوسط‏,‏ اسمه بول مارتن‏,‏ وان هذا المراسل استقر في لندن وبدأ يكتب عن فلسطين من هناك‏!‏
تبين ايضا ان الصحفي بول مارتن الذي كان يرسل تقاريره باسمه الاصلي حينا وبالاسم المنتحل حينا آخر‏,‏ يعمل بالتنسيق مع احد خبراء الدعاية الذين يعملون لحساب المستوطنين‏,‏ اسمه دافيد بدين‏.‏

حين تم اكتشاف هذه الخلفية اجري احد اعضاء مركز العودة اتصالا هاتفيا مباشرا بخصوص الموضوع مع مسئول الشئون الخارجية بصحيفة واشنطن تايمز‏,‏ فلم ينكر ان سيد انور اسم منتحل‏,‏ واعترف بأن الكاتب الحقيقي للتقارير هو بول مارتن من مقره في لندن‏,‏ لكنه ذكر ان مراسلهم كان مضطرا للتخفي وراء ذلك الاسم لأسباب امنية حيث اعتبر انه لوذكر اسمه الحقيقي لتعرض للإيذاء‏.‏
‏*‏ تكتمت واشنطن تايمز الموضوع لكن إزاء اكتشاف الحقيقة فيها فإنها سربت القصة الي احد محرري صحيفة واشنطن بوست اسمه هوارد كورتز‏(‏ اغلب الظن انه يهودي‏)‏ الذي كتب مقالا في‏5/26‏ اشار في سياقه الي الواقعية‏,‏ زاعما ان الصحفيين يضطرون الي اخفاء هوياتهم الحقيقية تحت اسماء اخري‏,‏ واعتبر ان حكاية بول مارتن وانتحاله اسم سيد أنور نموذج لذلك‏,‏ وكان عنوان المقال هو‏:‏ الصحفيون يسمعون اجراس الإنذار في تهديدات الارهابيين‏!‏
بهذه الطريقة فإن واشنطن تايمز حاولت مداراة الموضوع‏,‏ حيث لم تكشف عن الحقيقة ولم تشر اليها علي صفحاتها وانما سربت المعلومة الي صحيفة اخري‏,‏ لكي تروي القصة باعتبارها من نماذج الاحتياطات والضرورات التي يضطر الصحفي للجوء اليها لكي يؤمن نفسه من تهديدات الارهابيين‏!‏

‏(3)‏
بدا العذر مضحكا واقبح من الذنب‏,‏ ذلك انه لن يستغرب احد من صحفي امريكي ان يسب الفلسطينيين وينحاز للإسرائيليين باعتبار ذلك امرا متوقعا‏,‏ إنما سيصبح الأمرغريبا وداعيا الي الاستياء والغضب إذا ما كان الكاتب عربيا او فلسطينيا‏.‏ لذلك فقد يفهم ان يحتاط الصحفي العربي الذي يريد سب الفلسطينيين فينتحل اسما غريبا لكي يخفي هويته الحقيقية‏,‏ أما أن يضطر الامريكي الي انتحال عربي لكي يسب الفلسطينيينعلي راحته فذلك لابد ان يلفت الانظار اليه‏,‏ وهو ما حدث بالفعل‏,‏ وفي هذه الحالة فإن ذلك سيجعله عرضة للتهديد المفترض‏,‏ حيث يتعذر اغتفار فعلته اوخطيئته‏.‏
وهذا التهديد الموهوم لا اصل له‏,‏ وإنما هو امعان مفضوح في الكذب والادعاء لأنه لم يحدث ان تعرض صحفي عربي لأي تهديد أو ابتزاز بسبب انتقاده او تهجمه علي العرب والفلسطينيين‏,‏ وإنما العكس هو ما حدث‏,‏ حيث لم يغفر الاسرائيليون ومن لف لفهم لأي صحفي غربي انصافه للعرب او حتي مجرد امانته في عرض وقائع ما جري ويجري في الارض المحتلة‏,‏ وليس بعيدا عن ذلك السباب وتلك التهديدات بالقتل التي تعرض لها الكاتبان البريطانيان روبرت فيسك وباتريك سيل‏.‏

‏(4)‏
لا يتسع المقام لعرض ما نشره بول مارتن في واشنطن تايمز تحت الاسم العربي المنتحل سيد انور لكني سأشير الي مقتطفات من تقرير واحد فقط نشرته له الصحيفة في‏5/13‏ عنوانه كما يلي‏:‏ الفلسطينيون المبعدون مارسوا الارهاب علي مدي عامين‏..‏ في مقدمة التقريرذكر المراسل الكذوب ان سكان مدينة بيت لحم من المسلمين تنفسوا الصعداءلابعاد الفلسطينيين الثلاثة عشرة الي قبرص‏,‏ بعدما عانوا من ارهابهم الذي استمر سنتين‏,‏ وتخللته عمليات ابتزاز واغتيال واغتصاب‏.(!!).‏
اضاف ما نصه‏:‏ الفلسطينيون الذين يعيشون بالقرب من كنيسة المهد‏(‏ التي احتمي بها المبعدون مع آخرين‏)‏ وصفوا اولئك الذين ابعدوا الي قبرص وزملاءهم الـ‏26‏ الذين ابعدوا الي غزة بأنهم عصابة من المجرمين الذي انقضوا علي الفلسطينيين المسيحيين‏,‏ وفرضوا عليهم الاتاوات خصوصا رجال الاعمال منهم‏,‏ بعدما ادعوا ان تلك الاتاوات في مقابل الحماية التي يسبغونها عليهم‏.‏لم يكف الكاتب عن الاشارة الي عناصر المقاومة بحسبانهم عصابة من المجرمين

وظل يلح علي انهم يمارسون الاضطهاد والابتزاز ضد المسيحيين‏(‏ ذكر انهم يكرهون المسيحيين بأكثرمما يحبون فلسطين‏)‏ ولم يشر الي احتلال ولا الي الاسرائيليين بكلمة‏,‏ وكأن ما جري في بيت لحم كان صراعا بين المسلمين والمسيحيين وليس بين الفلسطينيين والاحتلال الاسرائيلي‏.‏
اتبع الكاتب ذات النهج الذي يتبناه الخطاب الاسرائيلي فنسب العصابة وممارستها الي الرئيس ياسر عرفات‏,‏ حيث ذكر ان عناصرها تتلقي التعليمات والسلاح والتمويل منه شخصيا‏,‏ ولأنهم مدعمون بالرئيس فإن يدهم مطلقة بغير حدود‏,‏فهم يهربون الاموال والمخدرات ويتاجرن في السلاح ويجبرون الشابات علي الانفصال عن ازواجهن لكي يتحولن الي محظيات لهم‏.!‏

بعد ان عبأ التقرير كله بمثل ذلك الكلام المغلوط والمسموم ختم قائلا‏:‏ حينما كان يطرق اولئك الفلسطينييون باب أي بيت‏,‏ فإن سكانه المسيحيين لا يبقي امامهم خيار‏,‏ حيث يضطرون للسماح لهم بالدخول واستخدام منافذ الدارلقنص الاسرائيليين‏,‏ الامر الذي يعرضهم للرد ولتحمل نتائج تداعيات ذلك الموقف‏!‏
علي هذا المنوال تتابعت تقارير الصحفي بول مارتن من لندن‏,‏ التي ظل القراء الأمريكيون يتابعونها باعتبارها رؤية عربي شاهد عيان نقل ما رآه وسمعه في بيت لحم‏!‏ وحين انكشف امر الفضيحة فإن صحيفة واشنطن تايمز لم تملك شجاعة الاعتذار عما بدر عنها‏,‏ هي ومراسلها الذي تواطأت معه‏,‏ وإنما توارت وراء التسريب الذي نشرته واشنطن بوست الذي لم يكن سوي مداراة للفضيحة ومحاولة للتسترعليها‏..‏ ولا تعليق‏!!‏
أضافة تعليق