هويدي 11-6-2002
يبدو أننا داخلون في طور الترويج للبضاعة الفاسدة من العناوين المغشوشة إلي الدعاية السوداء. نعم لم تخل صفحة في ملف التسوية السلمية من مثل هذه المحاولات( التسوية ذاتها ثبت أنها كانت عنوانا مغشوشا), إلا أن حملة السور الواقي التي شنتها القيادة الإسرائيلية مؤخرا استصحبت حملة موازية من الأكاذيب التي يراد بها كسر الإرادة بعد كسر العظام الفلسطينية.
(1)
حول عنوان الهزيمة التقت بعض الأصوات المشبوهة, التي راحت تنعي إلينا حظوظ المقاومة, مشيرة إلي ماجري في الأرض المحتلة, وكيف أن كل الدمار الذي حدث وكل الضحايا الذين سقطوا, كل ذلك ماكان له أن يحدث لولا التوريط الذي أوقعتنا فيه المقاومة.
حتي قرأنا لمن وبخ الذين ايدوا المقاومة, وطالبهم بالاعتذار عن اندفاعهم وراءها دون وعي, حتي أوصلوا الأمور إلي ماوصلت إليه.
هذه أم الأكاذيب بامتياز, من حيث أنها خليط من الغش والدعاية السوداء في آن واحد. إذ ليس صحيحا أن الفلسطينيين هزموا, وانه لم يعد أمامهم سوي التسليم والانبطاح. ذلك أن الهزيمة في معارك التحرير تقاس بمقدار انكسار إرادة المقاومة, واليأس من المضي في طريق النضال. وتلك خبرة التاريخ التي لايستغرب إنكارها من قبل المهزومين أصلا والمنبطحين ابتداء. الذين يشكون ويلطمون الخدود ويشقون الجيوب وهم يشيرون إلي ماحل بالضفة الغربية وما جري في جنين وأخواتها. والسؤال البسيط الذي يطرحه هذا المشهد هو: اذا كان الفلسطينيون أنفسهم لم يشكوا ولم يسلموا بالهزيمة, فلماذا تتطوعون انتم بالشكوي والنواح نيابة عنهم, ولماذا تسارعون إلي نعي انتفاضتهم في الصحف؟!
لا الفلسطينيون هزموا ولاشارون انتصر. وإذا لم تصدق الشق الأول فإليك هاتين القصتين: نشرت الصحف أن أم الطفل محمد الدرة, الذي رأينا بأعيننا كيف قتله الإسرائيليون بينما كان سائرا مع أبيه, هذه السيدة التي فجعت في ابنها الأول, حامل الآن في وليد ثان, وقالت لمن سألوها أنها تهدي هذا الوليد إلي شارون, وتريده أن يلحق بأخيه شهيدا. وقبل أيام قرأنا قصة أم نضال, والدة الشاب محمد فرحات الذي اخترق الحواجز الأمنية الإسرائيلية, ونجح في تنفيذ عملية استشهادية في مستوطنة بجنوب غرب غزة, قتل فيها5 مستوطنين وجرح اكثر من عشرين. حسب البيان الرسمي الإسرائيلي. هذه الأم لها ابن مطارد وثان معتقل, بعد أن فشلت عملية فدائية كان ينوي القيام بها, ابنها الثالث محمد سار علي درب اخوته, وأطلع أمه علي الخطة التي يعتزم تنفيذها, فلم تلطم خديها وتصرح طالبة منه أن يكف عن التهور والاندفاع, لكنها قبلت باختياره وكتمت مشاعرها. وقبل العملية التي كلف بها التقطت معه الصور التي سجلها الفيديو. وفي اليوم المعلوم أوصلته إلي الباب وهي تدعو له بالتوفيق وبأن يرزقه الله الشهادة, ثم جلست في البيت إلي جوار المذياع, تنتظر سماع نجاح العملية واستشهاده( الشرق الأوسط6/5).
بالله عليكم, اذا كانت تلك الروح مازالت باقية بين الأمهات الفلسطينيات, هل يمكن أن يقال أن الفلسطينيين هزموا؟
ليست هذه نماذج استثنائية, ولا أستطيع أن ادعي أن كل أم فلسطينية تفكر علي ذلك النحو, ولكن أم محمد وأم نضال تعبير عن روح سائدة في المجتمع الفلسطيني لاسبيل إلي إنكارها, وهي تكذب وتنسف من الأساس مزاعم الهزيمة والانكسار التي يلح البعض علي إشاعتها بين الناس, لأهداف تفتقر إلي البراءة.
لست في مقام تقييم حصاد الانتفاضة, فلذلك حديث اخر, لكني الفت النظر إلي عنصر واحد في المشهد, أحسبه لم يعد محل خلاف, فلسطينيا أو عربيا, وهو أن الانتفاضة الراهنة أعادت الاعتبار إلي خيار المقاومة المسلحة للاحتلال, ودفعت كل الفصائل الفلسطينية إلي استعادة برنامجها العسكري, الذي كان البعض قد تخلي عنه. ليس ذلك فحسب, وإنما أصبحت العمليات الاستشهادية في مقدمة أساليب النضال الوطني الفلسطيني, ولم تعد مقصورة علي المقاومة الإسلامية دون غيرها.
حدث ذلك بعدما أدرك الجميع أن ذلك هو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يردع الإسرائيليين ويوصل إليهم رسالة الإيلام والوجع.
أتحدث هنا عن الشعب الفلسطيني الذي اختبر في جنين وبدا شامخا وصلبا وعملاقا, وليس عن السلطة التي كانت في رام الله, وتم اجتياح المدينة والاستيلاء عليها دون مقاومة تذكر. ذلك أن الشعب هو الذي يهمنا بالدرجة الأولي, وصواب موقفه وقوة إرادته, واستعداده اللا محدود للبذل والتضحية دفاعا عن الكرامة والحلم, هو مانستحضره ونلفت النظر إليه في اللحظة الراهنة,
(2)
أحد اشهر العناوين المغشوشة التي تسوق هذه الأيام في الدعوة إلي إصلاح السلطة الفلسطينية وهي الدعوة التي خرجت هذه المرة من تل أبيب وواشنطون, ثم أصبحت مطلبا عاما, يجري الاستجابة له فلسطينيا.
وقد كنت أحد الذين توجسوا منذ رددت هذه الدعوة ألسنة المسئولين الإسرائيليين والأمريكيين, وتذكرت علي الفور مقولة الشيخ البشير الإبراهيمي أحد رواد النهضة في الجزائر, الذي كان يكن كراهية عميقة للاحتلال الفرنسي. إذ نقل عنه ذات مرة قوله: والله لو قالوا لا اله إلا الله لنبذناهم أيضا( يقصد الفرنسيين بطبيعة الحال). وكما انه لم يظن بهم أو يتوقع منهم خيرا, كذلك الحال مع الإسرائيليين والأمريكيين, الذين لا يتصور احد انهم حرصوا ذات يوم علي إصلاح السلطة الفلسطينية. وقد فضحهم قبل أيام( في6/2) آلان جريش رئيس تحرير لوموند دبيلوماتيك( الفرنسية) حين كتب قائلا إن التقصير الصارخ في مجال حقوق الإنسان, هو نتيجة السياسة التي اعتمدها المجتمع الدولي وإسرائيل, اللذان طلبا من عرفات محاربة الإرهاب في مقابل إطلاق يده في كافة المجالات الأخري. فقبل توقيع اتفاقات أوسلو( في93/9/13) قال إسحاق رابين انه يفضل أن يتولي الفلسطينيون الحفاظ علي أمنهم في غزة وان يحكموها بـ:وسائلهم الخاصة بعيدا عن القانون وكافله. وفي عامي94 و95 كانت الولايات المتحدة هي من دعا إلي محاكم استثنائية فلسطينية لمحاكمة الإرهابيين.
أضاف آلان جريش قائلا: طيلة سنوات أوسلو لم تكترث الولايات المتحدة أو اسرائيل بسجل حقوق الإنسان في الضفة والقطاع, كما لم تهتما بحسن الإدارة, بينما كان التهريب والفساد يغذيان القنوات الإسرائيلية والفلسطينية علي حد سواء, ثم تساءل: لم إذن هذا الاندفاع المفاجيء تجاه الإصلاح الفلسطيني؟
من المفارقات في هذا الصدد أن بعض عناصر النخبة الفلسطينية رفعت شعار الإصلاح في عام99, وأصدرت في9/27 من العام ذاته ماعرف ببيان العشرين, الذي وقعه عدد من القيادات في الضفة وغزة كان بينهم تسعة من أعضاء المجلس التشريعي,( أيده فيما بعد200 من الشخصيات السياسية والنقابية والأكاديمية الفلسطينية). كان عنوان بيان العشرين هوالوطن ينادينا. أما مضمونه فكان داعيا إلي إصلاح حقيقي يعالج الفساد والإذلال والاستغلال ويجنب الشعب الفلسطيني الاستسلام للمؤامرة التي تكشفت أبعادها في ثنايا عملية السلام.
آنذاك قوبل البيان بحملة قمع شديدة, فتم اعتقال ثلاثة من الموقعين عليه, وحددت إقامة ثالث(بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس السابق) وجرت محاولة اغتيال رابع هو معاوية المصري عضو المجلس التشريعي, كما تعرض الموقعون علي البيان لحملة تشويه وتصفية سياسية, حيث وصفهم احمد عبدالرحمن الأمين العام لمجلس الوزراء الفلسطيني بأنهم فئة ضلت الطريق الوطني إلي حد الانحراف, وأثيرت من حول الموقعين زوبعة في داخل المجلس التشريعي, الذي طالب البعض فيه برفع الحصانة عن الأعضاء التسعة الذين كانوا بين الموقعين, تمهيدا لتقديمهم إلي محكمة أمن الدولة.
آنذاك ولدت الدعوة إلي الإصلاح, لكن العنوان أطل مرة أخري بعد ثلاث سنوات, مبطنا شيئا اخر.
(3)
في البدء جري الحديث عن الدستور والانتخابات واستقلال السلطة القضائية وإعادة هيكلة السلطة, للإيحاء بأن موضوع الإصلاح مأخوذ علي محمل الجد. فصدر قانون استقلال السلطة القضائية وكثر الكلام عن الخطوات الأخري التي تلبي الرغبة في الإصلاح المنشود. ثم انكشف الغطاء فجأة وتبين أن جوهر الموضوع هو تعدد الأجهزة الأمنية, وكيفية ضبط حركتها والسيطرة عليها, لكي تقوم بمهمة أساسية هي: إحكام الحصار حول المقاومة,
صحيح أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعددت وتضخمت, حتي لم يعد يعرف عددها علي سبيل الحصر. فمن قائل أنها عشرة, وقائل أنها14, وذهب الأمريكيون إلي القول بأنها ليست عشرة أو14 وإنما34 جهازا, لكن هذه علي سوئها تظل في النهاية مشكلة فلسطينية وليست إسرائيلية أو أمريكية. وما يهم الأخيرين ليس عدد الأجهزة وإنما وظيفتها التي يراد لها أن تكمل الدور الذي تقوم به الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. بسبب من ذلك فان أهم المشاورات التي جرت تحت اسم الإصلاح كانت تلك التي شارك فيها مسئولو أجهزة المخابرات في الدول المعنية, وعلي رأسها الولايات المتحدة, وذلك وحده كاف في الكشف عن حقيقة ومدي المصلحة الإسرائيلية في العملية.
في هذا الموضوع هناك الكثير من التفاصيل, وهناك لغط أكثر, لكن الجوهر ظل واحدا, ورغم أن مايريده الأمريكيون والإسرائيليون ليس بالضرورة هو مايمكن أن يقبل به الرئيس عرفات, الذي رفض اكثر من مرة فكرة أن يقوم بدور انطوان لحد قائد ماسمي بجيش لبنان الجنوبي في حماية اسرائيل من هجمات حزب الله, إلا أن المدي الذي يمكن أن يقبل به غير معروف حتي الآن. مع ذلك فالقدر المتيقن أن المخابرات المركزية الأمريكية هي صاحبة اليد الطولي في هذا الملف بالذات. ثم إن هناك شكوكا وقلقا مشروعا في أوساط النخبة الفلسطينية مما يمكن أن يسفر عنه الإصلاح في هذا الصدد, خصوصا بعد التنازلات بعيدة المدي وغير المعهودة التي قبل بها الرئيس الفلسطيني في صفقة فك حصاره في رام الله( محاكمة المتهمين بقتل رحبعام زئيفي والقبض علي زعيم الجبهة الشعبية احمد سعدات وتسليمه لسجانين بريطانيين وأمريكيين, ثم إقرار مبدأ إبعاد13 فلسطينيا خارج وطنهم, وإدانة المقاومة رغم استمرار الاجتياح الاسرائيلي, والقبول بالتراجع عن تشكيل لجنة تقصي حقائق ماجري في جنين).
قال لي بعض من اعرف من الفلسطينيين في غزة أن تمرير مثل هذه الأمور, التي يحدث بعضها لأول مرة, يثير العديد من التساؤلات حول مدي قدرة القيادة الفلسطينية علي الصمود في مواجهة الضغوط وعملية الابتزاز التي يتعرض لها, وهو مالايبعث علي التفاؤل بصدد الدور الذي ستقوم به الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشكل عام في المستقبل, اذا ما سارت الأمور علي النحو المخطط له.
لقد شاء ربك أن يفتضح أمر الإصلاحات اكثر واكثر, بعدما صدر قانون استقلال السلطة القضائية, حين قررت المحكمة الفلسطينية الإفراج فورا عن أحمد سعدات زعيم الجبهة الشعبية لاحتجازه بدون وجه حق, ولكن السلطة لم تستجب للقرار الذي أصدره القضاء الذي استقللتوه, واستندت في ذلك إلي ذرائع أمنية.
في هذا النموذج انضم مصطلح الإصلاح إلي قائمة العناوين المغشوشة التي جري صكها لأجل التدليس والغش, والتي من اشهرها مصطلح الاستعمار المشتق من العمران, والمسكون بمعني النماء, حيث يبدو جليا أن المراد الحقيقي بالإصلاح في هذه الحالة هو الإلحاق والاستتباع.
(4)
تفوح الرائحة ذاتها من مصطلح الدولة الفلسطينية التي يتواتر الحديث عنها هذه الأيام. ذلك أن الدولة لم تكن مشكلة في التفكير الإسرائيلي خصوصا بعد توقيع اتفاقيات أوسلو, رغم أن مؤتمر حزب الليكود اعترض علي قيامها مؤخرا, في المزايدة القائمة علي الزعامة بين شاورن ونيتانياهو.فشارون نفسه موافق عليها بشروطه بطبيعة الحال, التي أهمها أن تقام علي42% فقط مما تبقي من الضفة وغزة, وان تكون منزوعة السلاح ومحكومة في مداخلها ومخارجها, وبرها وبحرها وجوها, بالسيطرة الإسرائيلية, وان تظل المستوطنات المقامة
كما هي بغير انتقاص او حراك. إن شئت فقل أن الدولة التي يتحمس لها شارون هي بالدقة المنطقة أ و ب التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية حاليا كليا أو نسبيا. وغاية ما يمكن أن يحدث هو أن تتغير اللافتة, بحيث توضع الدولة مكان السلطة.
هي خدعة من العيار الثقيل, تسوق ماقد يرضي مشاعر البعض ويشبع تعلقهم بالمظاهر والأشكال, في حين يفرغ الدولة من أي مضمون, وينسي الناس أن الصراع لم يكن حول العلم والمطار والعملة والسلام الوطني وغير ذلك, وإنما كان وسيظل حول الأرض, ولاشيء غير الأرض.
(5)
ثالثة الأثافي هي حكاية المؤتمر الدولي للسلام, الذي اقترحه شارون لكي يغسل يديه من دم الذين قتلهم في جنين, ووضع شروطا لأهدافه وللمشاركين فيه, فأجاز أطرافا وحجب آخرين, معتقدا أن التدمير الذي أحدثه في الضفة يمهد له الطريق لكي يملي علي الآخرين مايريد بحيث يفرض التسوية السياسية المرحلية التي يتطلع إليها,وعلي رأسها إقامة الدولة الهشة ومقطعة الأوصال علي42% من أراضي الضفة.
حسب كلام شارون في خطابه الذي وجهه إلي اجتماع منظمة ايباك فهو يريد أن يتبني مؤتمر السلام فكرة إقامة هدنة طويلة الأجل بين اسرائيل والفلسطينيين, تمهد لعقد اتفاق سلام نهائي ترسم فيه الحدود, وتحل بقية المشاكل العالقة. وحين يحل أوان ذلك الاتفاق يكون قد تم ابتلاع ماتبقي من فلسطين, ويكون الفلسطينيون قد حوصروا في معازل قريبة من تلك التي انتهي إليها مصير الهنود الحمر!
انهم يريدون إجهاض هدف إنهاء الاحتلال, لكي يستبدل بإنهاء المقاومة, ثم الإجهاز علي الحلم الفلسطيني بالكامل ـــ كل ذلك تحت بصرنا وسمعنا!
يبدو أننا داخلون في طور الترويج للبضاعة الفاسدة من العناوين المغشوشة إلي الدعاية السوداء. نعم لم تخل صفحة في ملف التسوية السلمية من مثل هذه المحاولات( التسوية ذاتها ثبت أنها كانت عنوانا مغشوشا), إلا أن حملة السور الواقي التي شنتها القيادة الإسرائيلية مؤخرا استصحبت حملة موازية من الأكاذيب التي يراد بها كسر الإرادة بعد كسر العظام الفلسطينية.
(1)
حول عنوان الهزيمة التقت بعض الأصوات المشبوهة, التي راحت تنعي إلينا حظوظ المقاومة, مشيرة إلي ماجري في الأرض المحتلة, وكيف أن كل الدمار الذي حدث وكل الضحايا الذين سقطوا, كل ذلك ماكان له أن يحدث لولا التوريط الذي أوقعتنا فيه المقاومة.
حتي قرأنا لمن وبخ الذين ايدوا المقاومة, وطالبهم بالاعتذار عن اندفاعهم وراءها دون وعي, حتي أوصلوا الأمور إلي ماوصلت إليه.
هذه أم الأكاذيب بامتياز, من حيث أنها خليط من الغش والدعاية السوداء في آن واحد. إذ ليس صحيحا أن الفلسطينيين هزموا, وانه لم يعد أمامهم سوي التسليم والانبطاح. ذلك أن الهزيمة في معارك التحرير تقاس بمقدار انكسار إرادة المقاومة, واليأس من المضي في طريق النضال. وتلك خبرة التاريخ التي لايستغرب إنكارها من قبل المهزومين أصلا والمنبطحين ابتداء. الذين يشكون ويلطمون الخدود ويشقون الجيوب وهم يشيرون إلي ماحل بالضفة الغربية وما جري في جنين وأخواتها. والسؤال البسيط الذي يطرحه هذا المشهد هو: اذا كان الفلسطينيون أنفسهم لم يشكوا ولم يسلموا بالهزيمة, فلماذا تتطوعون انتم بالشكوي والنواح نيابة عنهم, ولماذا تسارعون إلي نعي انتفاضتهم في الصحف؟!
لا الفلسطينيون هزموا ولاشارون انتصر. وإذا لم تصدق الشق الأول فإليك هاتين القصتين: نشرت الصحف أن أم الطفل محمد الدرة, الذي رأينا بأعيننا كيف قتله الإسرائيليون بينما كان سائرا مع أبيه, هذه السيدة التي فجعت في ابنها الأول, حامل الآن في وليد ثان, وقالت لمن سألوها أنها تهدي هذا الوليد إلي شارون, وتريده أن يلحق بأخيه شهيدا. وقبل أيام قرأنا قصة أم نضال, والدة الشاب محمد فرحات الذي اخترق الحواجز الأمنية الإسرائيلية, ونجح في تنفيذ عملية استشهادية في مستوطنة بجنوب غرب غزة, قتل فيها5 مستوطنين وجرح اكثر من عشرين. حسب البيان الرسمي الإسرائيلي. هذه الأم لها ابن مطارد وثان معتقل, بعد أن فشلت عملية فدائية كان ينوي القيام بها, ابنها الثالث محمد سار علي درب اخوته, وأطلع أمه علي الخطة التي يعتزم تنفيذها, فلم تلطم خديها وتصرح طالبة منه أن يكف عن التهور والاندفاع, لكنها قبلت باختياره وكتمت مشاعرها. وقبل العملية التي كلف بها التقطت معه الصور التي سجلها الفيديو. وفي اليوم المعلوم أوصلته إلي الباب وهي تدعو له بالتوفيق وبأن يرزقه الله الشهادة, ثم جلست في البيت إلي جوار المذياع, تنتظر سماع نجاح العملية واستشهاده( الشرق الأوسط6/5).
بالله عليكم, اذا كانت تلك الروح مازالت باقية بين الأمهات الفلسطينيات, هل يمكن أن يقال أن الفلسطينيين هزموا؟
ليست هذه نماذج استثنائية, ولا أستطيع أن ادعي أن كل أم فلسطينية تفكر علي ذلك النحو, ولكن أم محمد وأم نضال تعبير عن روح سائدة في المجتمع الفلسطيني لاسبيل إلي إنكارها, وهي تكذب وتنسف من الأساس مزاعم الهزيمة والانكسار التي يلح البعض علي إشاعتها بين الناس, لأهداف تفتقر إلي البراءة.
لست في مقام تقييم حصاد الانتفاضة, فلذلك حديث اخر, لكني الفت النظر إلي عنصر واحد في المشهد, أحسبه لم يعد محل خلاف, فلسطينيا أو عربيا, وهو أن الانتفاضة الراهنة أعادت الاعتبار إلي خيار المقاومة المسلحة للاحتلال, ودفعت كل الفصائل الفلسطينية إلي استعادة برنامجها العسكري, الذي كان البعض قد تخلي عنه. ليس ذلك فحسب, وإنما أصبحت العمليات الاستشهادية في مقدمة أساليب النضال الوطني الفلسطيني, ولم تعد مقصورة علي المقاومة الإسلامية دون غيرها.
حدث ذلك بعدما أدرك الجميع أن ذلك هو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يردع الإسرائيليين ويوصل إليهم رسالة الإيلام والوجع.
أتحدث هنا عن الشعب الفلسطيني الذي اختبر في جنين وبدا شامخا وصلبا وعملاقا, وليس عن السلطة التي كانت في رام الله, وتم اجتياح المدينة والاستيلاء عليها دون مقاومة تذكر. ذلك أن الشعب هو الذي يهمنا بالدرجة الأولي, وصواب موقفه وقوة إرادته, واستعداده اللا محدود للبذل والتضحية دفاعا عن الكرامة والحلم, هو مانستحضره ونلفت النظر إليه في اللحظة الراهنة,
(2)
أحد اشهر العناوين المغشوشة التي تسوق هذه الأيام في الدعوة إلي إصلاح السلطة الفلسطينية وهي الدعوة التي خرجت هذه المرة من تل أبيب وواشنطون, ثم أصبحت مطلبا عاما, يجري الاستجابة له فلسطينيا.
وقد كنت أحد الذين توجسوا منذ رددت هذه الدعوة ألسنة المسئولين الإسرائيليين والأمريكيين, وتذكرت علي الفور مقولة الشيخ البشير الإبراهيمي أحد رواد النهضة في الجزائر, الذي كان يكن كراهية عميقة للاحتلال الفرنسي. إذ نقل عنه ذات مرة قوله: والله لو قالوا لا اله إلا الله لنبذناهم أيضا( يقصد الفرنسيين بطبيعة الحال). وكما انه لم يظن بهم أو يتوقع منهم خيرا, كذلك الحال مع الإسرائيليين والأمريكيين, الذين لا يتصور احد انهم حرصوا ذات يوم علي إصلاح السلطة الفلسطينية. وقد فضحهم قبل أيام( في6/2) آلان جريش رئيس تحرير لوموند دبيلوماتيك( الفرنسية) حين كتب قائلا إن التقصير الصارخ في مجال حقوق الإنسان, هو نتيجة السياسة التي اعتمدها المجتمع الدولي وإسرائيل, اللذان طلبا من عرفات محاربة الإرهاب في مقابل إطلاق يده في كافة المجالات الأخري. فقبل توقيع اتفاقات أوسلو( في93/9/13) قال إسحاق رابين انه يفضل أن يتولي الفلسطينيون الحفاظ علي أمنهم في غزة وان يحكموها بـ:وسائلهم الخاصة بعيدا عن القانون وكافله. وفي عامي94 و95 كانت الولايات المتحدة هي من دعا إلي محاكم استثنائية فلسطينية لمحاكمة الإرهابيين.
أضاف آلان جريش قائلا: طيلة سنوات أوسلو لم تكترث الولايات المتحدة أو اسرائيل بسجل حقوق الإنسان في الضفة والقطاع, كما لم تهتما بحسن الإدارة, بينما كان التهريب والفساد يغذيان القنوات الإسرائيلية والفلسطينية علي حد سواء, ثم تساءل: لم إذن هذا الاندفاع المفاجيء تجاه الإصلاح الفلسطيني؟
من المفارقات في هذا الصدد أن بعض عناصر النخبة الفلسطينية رفعت شعار الإصلاح في عام99, وأصدرت في9/27 من العام ذاته ماعرف ببيان العشرين, الذي وقعه عدد من القيادات في الضفة وغزة كان بينهم تسعة من أعضاء المجلس التشريعي,( أيده فيما بعد200 من الشخصيات السياسية والنقابية والأكاديمية الفلسطينية). كان عنوان بيان العشرين هوالوطن ينادينا. أما مضمونه فكان داعيا إلي إصلاح حقيقي يعالج الفساد والإذلال والاستغلال ويجنب الشعب الفلسطيني الاستسلام للمؤامرة التي تكشفت أبعادها في ثنايا عملية السلام.
آنذاك قوبل البيان بحملة قمع شديدة, فتم اعتقال ثلاثة من الموقعين عليه, وحددت إقامة ثالث(بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس السابق) وجرت محاولة اغتيال رابع هو معاوية المصري عضو المجلس التشريعي, كما تعرض الموقعون علي البيان لحملة تشويه وتصفية سياسية, حيث وصفهم احمد عبدالرحمن الأمين العام لمجلس الوزراء الفلسطيني بأنهم فئة ضلت الطريق الوطني إلي حد الانحراف, وأثيرت من حول الموقعين زوبعة في داخل المجلس التشريعي, الذي طالب البعض فيه برفع الحصانة عن الأعضاء التسعة الذين كانوا بين الموقعين, تمهيدا لتقديمهم إلي محكمة أمن الدولة.
آنذاك ولدت الدعوة إلي الإصلاح, لكن العنوان أطل مرة أخري بعد ثلاث سنوات, مبطنا شيئا اخر.
(3)
في البدء جري الحديث عن الدستور والانتخابات واستقلال السلطة القضائية وإعادة هيكلة السلطة, للإيحاء بأن موضوع الإصلاح مأخوذ علي محمل الجد. فصدر قانون استقلال السلطة القضائية وكثر الكلام عن الخطوات الأخري التي تلبي الرغبة في الإصلاح المنشود. ثم انكشف الغطاء فجأة وتبين أن جوهر الموضوع هو تعدد الأجهزة الأمنية, وكيفية ضبط حركتها والسيطرة عليها, لكي تقوم بمهمة أساسية هي: إحكام الحصار حول المقاومة,
صحيح أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعددت وتضخمت, حتي لم يعد يعرف عددها علي سبيل الحصر. فمن قائل أنها عشرة, وقائل أنها14, وذهب الأمريكيون إلي القول بأنها ليست عشرة أو14 وإنما34 جهازا, لكن هذه علي سوئها تظل في النهاية مشكلة فلسطينية وليست إسرائيلية أو أمريكية. وما يهم الأخيرين ليس عدد الأجهزة وإنما وظيفتها التي يراد لها أن تكمل الدور الذي تقوم به الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. بسبب من ذلك فان أهم المشاورات التي جرت تحت اسم الإصلاح كانت تلك التي شارك فيها مسئولو أجهزة المخابرات في الدول المعنية, وعلي رأسها الولايات المتحدة, وذلك وحده كاف في الكشف عن حقيقة ومدي المصلحة الإسرائيلية في العملية.
في هذا الموضوع هناك الكثير من التفاصيل, وهناك لغط أكثر, لكن الجوهر ظل واحدا, ورغم أن مايريده الأمريكيون والإسرائيليون ليس بالضرورة هو مايمكن أن يقبل به الرئيس عرفات, الذي رفض اكثر من مرة فكرة أن يقوم بدور انطوان لحد قائد ماسمي بجيش لبنان الجنوبي في حماية اسرائيل من هجمات حزب الله, إلا أن المدي الذي يمكن أن يقبل به غير معروف حتي الآن. مع ذلك فالقدر المتيقن أن المخابرات المركزية الأمريكية هي صاحبة اليد الطولي في هذا الملف بالذات. ثم إن هناك شكوكا وقلقا مشروعا في أوساط النخبة الفلسطينية مما يمكن أن يسفر عنه الإصلاح في هذا الصدد, خصوصا بعد التنازلات بعيدة المدي وغير المعهودة التي قبل بها الرئيس الفلسطيني في صفقة فك حصاره في رام الله( محاكمة المتهمين بقتل رحبعام زئيفي والقبض علي زعيم الجبهة الشعبية احمد سعدات وتسليمه لسجانين بريطانيين وأمريكيين, ثم إقرار مبدأ إبعاد13 فلسطينيا خارج وطنهم, وإدانة المقاومة رغم استمرار الاجتياح الاسرائيلي, والقبول بالتراجع عن تشكيل لجنة تقصي حقائق ماجري في جنين).
قال لي بعض من اعرف من الفلسطينيين في غزة أن تمرير مثل هذه الأمور, التي يحدث بعضها لأول مرة, يثير العديد من التساؤلات حول مدي قدرة القيادة الفلسطينية علي الصمود في مواجهة الضغوط وعملية الابتزاز التي يتعرض لها, وهو مالايبعث علي التفاؤل بصدد الدور الذي ستقوم به الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشكل عام في المستقبل, اذا ما سارت الأمور علي النحو المخطط له.
لقد شاء ربك أن يفتضح أمر الإصلاحات اكثر واكثر, بعدما صدر قانون استقلال السلطة القضائية, حين قررت المحكمة الفلسطينية الإفراج فورا عن أحمد سعدات زعيم الجبهة الشعبية لاحتجازه بدون وجه حق, ولكن السلطة لم تستجب للقرار الذي أصدره القضاء الذي استقللتوه, واستندت في ذلك إلي ذرائع أمنية.
في هذا النموذج انضم مصطلح الإصلاح إلي قائمة العناوين المغشوشة التي جري صكها لأجل التدليس والغش, والتي من اشهرها مصطلح الاستعمار المشتق من العمران, والمسكون بمعني النماء, حيث يبدو جليا أن المراد الحقيقي بالإصلاح في هذه الحالة هو الإلحاق والاستتباع.
(4)
تفوح الرائحة ذاتها من مصطلح الدولة الفلسطينية التي يتواتر الحديث عنها هذه الأيام. ذلك أن الدولة لم تكن مشكلة في التفكير الإسرائيلي خصوصا بعد توقيع اتفاقيات أوسلو, رغم أن مؤتمر حزب الليكود اعترض علي قيامها مؤخرا, في المزايدة القائمة علي الزعامة بين شاورن ونيتانياهو.فشارون نفسه موافق عليها بشروطه بطبيعة الحال, التي أهمها أن تقام علي42% فقط مما تبقي من الضفة وغزة, وان تكون منزوعة السلاح ومحكومة في مداخلها ومخارجها, وبرها وبحرها وجوها, بالسيطرة الإسرائيلية, وان تظل المستوطنات المقامة
كما هي بغير انتقاص او حراك. إن شئت فقل أن الدولة التي يتحمس لها شارون هي بالدقة المنطقة أ و ب التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية حاليا كليا أو نسبيا. وغاية ما يمكن أن يحدث هو أن تتغير اللافتة, بحيث توضع الدولة مكان السلطة.
هي خدعة من العيار الثقيل, تسوق ماقد يرضي مشاعر البعض ويشبع تعلقهم بالمظاهر والأشكال, في حين يفرغ الدولة من أي مضمون, وينسي الناس أن الصراع لم يكن حول العلم والمطار والعملة والسلام الوطني وغير ذلك, وإنما كان وسيظل حول الأرض, ولاشيء غير الأرض.
(5)
ثالثة الأثافي هي حكاية المؤتمر الدولي للسلام, الذي اقترحه شارون لكي يغسل يديه من دم الذين قتلهم في جنين, ووضع شروطا لأهدافه وللمشاركين فيه, فأجاز أطرافا وحجب آخرين, معتقدا أن التدمير الذي أحدثه في الضفة يمهد له الطريق لكي يملي علي الآخرين مايريد بحيث يفرض التسوية السياسية المرحلية التي يتطلع إليها,وعلي رأسها إقامة الدولة الهشة ومقطعة الأوصال علي42% من أراضي الضفة.
حسب كلام شارون في خطابه الذي وجهه إلي اجتماع منظمة ايباك فهو يريد أن يتبني مؤتمر السلام فكرة إقامة هدنة طويلة الأجل بين اسرائيل والفلسطينيين, تمهد لعقد اتفاق سلام نهائي ترسم فيه الحدود, وتحل بقية المشاكل العالقة. وحين يحل أوان ذلك الاتفاق يكون قد تم ابتلاع ماتبقي من فلسطين, ويكون الفلسطينيون قد حوصروا في معازل قريبة من تلك التي انتهي إليها مصير الهنود الحمر!
انهم يريدون إجهاض هدف إنهاء الاحتلال, لكي يستبدل بإنهاء المقاومة, ثم الإجهاز علي الحلم الفلسطيني بالكامل ـــ كل ذلك تحت بصرنا وسمعنا!