مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
نـــداء الأرض المحتــــــــــــــلة
هويدي 12-3-2002

إذا أردنا أن نكون صادقين وأمناء مع أنفسنا‏,‏ فينبغي أن نحني رءوسنا إجلالا للشعب الفلسطيني وخجلا منه‏,‏ الإجلال لما يفعلونه‏,‏ والخجل مما لم نفعله‏.‏ فالبطولة حظهم الذي لهم أن يفخروا به‏,‏ والعجز نصيبنا الذي ينبغي أن نستحي منه‏..‏ وإذ تعلمنا دروس التاريخ أن المقبلين علي الموت وحدهم‏,‏ الذين تكتب لهم الحياة‏,‏ فينبغي الا ينسينا ذلك حقيقة أن المؤثرين للنجاة والمستسلمين للقعود والعجز‏,‏ هم الموتي الحقيقيون‏.‏

‏(1)‏
حين دخلت الفتاة الفلسطينية ساحة العمليات الاستشهادية بتلك الدرجة العالية من الجسارة‏,‏ أضاف لطمة جديدة إلي الغرور والصلف الإسرائيليين‏,‏ وبعث إلي الجميع برسالة مدوية تقول إن المذابح اليومية وعمليات التركيع‏,‏ لن تثني الشعب الفلسطيني عن عزمه في الدفاع عن حريته وكرامته‏,‏ إذ خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة‏,‏ وجهت المقاومة الفلسطينية بشتي فصائلها لطمات عنيفة باغتت الإسرائيليين بضراوتها وبراعتها‏,‏ وأثارت الانتباه بشدة‏,‏ من حيث إنها كانت بمثابة نقلة من موقع رد الفعل إلي الفعل‏,‏ ومن الدفاع إلي الهجوم‏,‏ علي نحو لقن الإسرائيليين دروسا لم يألفوها أربكت قياداتهم وألقت في روع جنودهم خوفا ظل مستبعدا من خيالاتهم‏.‏
أترك الاستطراد في هذه النقطة‏,‏ إلي شهادة أحد الصحفيين العرب في تل أبيب‏,‏ نظير مجلي‏,‏ الذي نشرت له صحيفة الشرق الأوسط في‏3/5‏ تقريرا يلقي ضوءا قويا علي الأصداء الإسرائيلية للجسارة التي أبدتها عناصر المقاومة الفلسطينية‏,‏ وفيه قال‏:‏ إن القادة العسكريين في إسرائيل يشعرون بأن الفلسطينيين يضربون في الصميم هيبة الجيش الإسرائيلي‏,‏ الذي يرددون‏,‏ جيلا بعد جيل‏,‏ أنه الجيش الذي لايقهر‏,‏ وأنه أقوي وأفضل خمسة جيوش في العالم‏,‏ وعند بداية الانتفاضة‏,‏ في زمن حكومة إيهود باراك‏,‏ كانوا يبررون نجاح بعض العمليات الفلسطينية بالإدعاء بأن الحكومة تكبل أيدي الجيش‏,‏ وفي تلك الفترة ارتفع شعارهم دعوا الجيش ينتصر‏,‏ وتبني زعيم المعارضة في حينه‏,‏ أرييل شارون‏,‏ هذا الشعار وراح يستند إليه في حملته الانتخابية ضد باراك‏,‏ ويغدق بالوعود في أن ينجح هو مع الجيش في تحقيق الانتصار علي الفلسطينيين‏.‏

وبعد مرور سنة علي فوز شارون في الانتخابات‏,‏ لم يحقق الجيش ذلك الانتصار الموعود‏,‏ بل علي العكس‏,‏ ارتفعت وتيرة المقاومة الفلسطينية وزاد عدد القتلي الإسرائيليين من جراء العمليات‏,‏ ففي غضون الأسبوعين الأخيرين قتل نحو‏21‏ عسكريا إسرائيليا‏..‏ وفي أقل من‏12‏ ساعة ما بين ليل‏3/2‏ وفجر‏3/3‏ قتل‏21‏ إسرائيليا‏,‏ بينهم ما لا يقل عن‏7‏ جنود‏.‏
وكان شارون قد زاد الطين بلة‏,‏ قبل سبعة أشهر‏,‏ عندما وبخ القيادة العسكرية علي أنها لا تفلح في إعطاء الرد المناسب علي العمليات الفلسطينية‏,‏ وفي مرحلة معينة اجتمع مع القادة العسكريين الميدانيين‏,‏ في قواعدهم العسكرية‏,‏ وراح يشرف بنفسه علي العمليات الميدانية‏,‏ ويضع معهم الخطط الناجعة لاقتلاع الإرهاب‏,‏ وذلك باعتباره صاحب خبرة عسكرية طويلة‏,‏ ولكن كل البطولات العسكرية السابقة وكل تجارب الماضي‏,‏ واختراعات الحاضر‏,‏ لم تمكن الجيش الإسرائيلي من صد العمليات الفلسطينية العسكرية الناجحة‏,‏ بل لوحظ أن هناك تطورا عسكريا في مستوي هذه العمليات وجرأتها ونجاحها‏,‏ خصوصا تدمير الدبابة الأكثر تطورا في العالم ميركافا ـ‏3,‏ وتصفية جميع الجنود المرابطين علي حاجز عسكري محصن قرب رام الله قبل أسبوعين‏,‏ واقتحام عدة مستعمرات محصنة‏,‏ وإطلاق الصاروخ الفلسطيني قسام‏2,‏ لقد أثار نجاح هذه العمليات نقاشا واسعا في إسرائيل عموما‏,‏ ونقاشا حادا داخل الجيش‏,‏ وراحوا يفتشون عن أسباب هذا النجاح في مجالات التفافية علي الحقيقة‏,‏ فتارة يقولون إن الجنود أهملوا‏,‏ وتارة يقولون إن الصدفة أتاحت هذا النجاح‏.‏

‏(2)‏
غير أن ما سبق في كفة‏,‏ والعمليتان العسكريتان المذهلتان اللتان تمتا يوم‏3‏ و‏4‏ مارس الحالي في كفة أخري‏,‏ ذلك أنهما أحدثتا دويا مصحوبا بصدمة كبيرة داخل أوساط الجيش الإسرائيلي ـ كيف؟ إليك التفاصيل‏.‏
العملية الأولي وقعت في الساعة السابعة إلا ثلثا من صباح الأحد‏3/3,‏ علي حاجز الشرطة الإسرائيلية في وادي الحرمية علي طريق رام الله ـ نابلس‏,‏ حيث كمن شاب فلسطيني‏,‏ علي تل يطل علي الحاجز يعتقد بأنه وصل إليه مبكرا جدا‏,‏ وعندما بدأ الجنود يخرجون من استراحتهم أخذ يصفيهم واحدا واحدا‏,‏ وهناك من يقول إنه أطلق رصاصة في الهواء لجعلهم يخرجون‏.‏

الحاجز المذكور محصن جدا ويحرسه باستمرار‏12‏ جنديا‏,‏ وفيه استراحة للجنود مغلقة ومحصنة‏,‏ تضمن للجنود عدم الشعور بالإرهاق خلال الخدمة‏,‏ ومع ذلك‏,‏ فقد انتهت العملية بعد‏25‏ دقيقة فقط‏,‏ بمقتل‏10‏ إسرائيليين‏,‏ سبعة منهم جنود وجرح عدد آخر‏.‏
الشاب الفلسطيني كان مسلحا ببندقية قديمة من طراز كاربين‏(‏ ام ـ‏1),‏ التي كانت أنتجت لأول مرة سنة‏1940‏ في الولايات المتحدة‏,‏ وتتسع باغة هذه البندقية لـ‏30‏ رصاصة‏,‏ عيار‏6‏ ملم‏,‏ وتطلق رصاصاتها واحدة تلو الأخري‏.‏

كان صاحبنا الفلسطيني يكمن علي بعد‏50‏ مترا من الجنود‏,‏ لكنه اتخذ له موقعا مرتفعا عنهم في التلةالمجاورة‏,‏ في البداية أطلق رصاصة باتجاه الجندي الذي يحرس الحاجز‏,‏ ورصاصة أخري باتجاه مواطن يهودي يرتدي ثيابا مدنية كان إلي جانبه‏,‏ قتلهما علي الفور‏,‏ الجنديان اللذان يحرسان الحاجز من الجهة الشمالية‏,‏ اللذان لم يستوعبا بعد ما يجري‏,‏ يطل أحدهما من وراء حاجز من الأسمنت المسلح‏,‏ فيصيبه الفدائي برصاصة‏,‏ فيطل الجندي الثاني‏,‏ فيصاب هو الآخر‏,‏ عندئذ يخرج جندي من الاستراحة‏,‏ كان نائما فأيقظه أزيز الرصاص‏,‏ فاتجه نحو زملائه المصابين راكضا‏,‏ لتصيبه واحدة من رصاصات الفدائي المتلاحقة‏,‏ لم يمت هذا الجندي بالذات‏,‏ وكانت اصابته متوسطة‏,‏ عندها يخرج نائب قائد قوة الحراسة من الغرفة‏,‏ ويزحف من حولها حتي يتعرف إلي مصدر النيران‏,‏ لكنه قبل أن يكتشفه‏,‏ يتلقي رصاصة أخري‏,‏ ويسقط قتيلا علي الفور‏,‏ هنا يتقدم الجندي الممرض محاولا اسعاف الجرحي‏,‏ وهو يشهر السلاح فصوب الفدائي بندقيته نحوه فأرداه‏,‏ وفي هذه الأثناء وصلت سيارة مستوطن‏,‏ فأطلق باتجاهها‏,‏ ثم حضر قائد القوة العسكرية المسيطرة علي هذه المنطقة‏,‏ وهو برتبة مقدم في الجيش‏,‏ وما أن وطأت قدماه الأرض حتي استقرت رصاصة في رأسه‏,‏ فسقط‏,‏ ووصلت بعد لحظات سيارة مدنية أخري فكان يقودها بالصدفة ضابط في سلاح المظليين‏,‏ فأطلق الفدائي باتجاهه‏,‏ فأرداه أيضا‏,‏ وحضرت سيارة ضابط الأمن في مستعمرات المنطقة‏,‏ فأصيب بجروح بليغة‏,‏ ثم حضرت سيارة مستوطن آخر‏,‏ وقتل علي الفور‏,‏ عندها فقط غادر الفدائي المكان مخلفا البندقية وراءه‏,‏ وهرب ـ حسب تقديرات الجيش‏,‏ باتجاه قرية سنجل القريبة‏(‏ ضمن حدود‏1967)‏ أو قرية جلجولية‏(‏ ضمن حدود‏1948).‏

العملية الثانية‏,‏ وقعت بعد الأولي مباشرة‏,‏ في السابعة والثلث صباحا ولكن في الجنوب‏,‏ علي حدود قطاع غزة‏,‏ حسب تقديرات الجيش الإسرائيلي‏,‏ فإن خمسة فدائيين‏(‏ من سرايا القدس الجناح العسكري للجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصي‏)‏ وصلوا إلي المكان‏,‏ وكان أحدهم يحمل سلما من الخشب ذا ساقين‏,‏ حامل السلم الخشبي نصبه فوق السياج الالكتروني‏,‏ ولكونه من الخشب لم تكتمل الدائرة الكهربائية فلم ينطلق جهاز الإنذار والمراقبة‏,‏ فتسلق عليه وانتقل إلي الجانب الإسرائيلي من الحدود حاملا السلم معه‏,‏ في حين كان رفاقه الأربعة يراقبون المنطقة من بعيد ويبلغونه بالتطورات‏.‏
توجه الفدائي الفلسطيني مباشرة إلي النقطة العسكرية غير الثابتة قرب السياج‏,‏ التي يشغلها الجنود الإسرائيليون في النهار‏,‏ بشكل عام‏,‏ ويتركونها في الليل‏,‏ ويبدو أن الفدائيين راقبوا تحركات الجيش في المكان‏,‏ وبنوا عمليتهم علي أساسها‏.‏
كمن الفدائي في الموقع في انتظار جنود الحراسة‏,‏ فما أن وصل الجنود وعددهم خمسة‏,‏ وهم من الوحدة العسكرية الإسرائيلية المشهورة جلعاتي‏,‏ حتي داهمهم الفدائي وراح يطلق الرصاص المكثف باتجاههم‏,‏ فأصابهم جميعا بجروح ما بين خفيفة ومتوسطة‏,‏ وتمكن من قتل أحدهم‏,‏ ونجح في الهرب من المكان بنفس الطريقة‏,‏ أي بواسطة السلم‏,‏ قبل أن تصل قوة الانقاذ‏.‏

‏(3)‏
أدري أن الحكومة الإسرائيلية لم تدر للفلسطينيين خدها الأيسر‏,‏ وإنما حاولت أن ترد الصاع صاعين‏,‏ فشددت من حملاتها الانتقامية‏,‏ الأمر الذي أدي إلي اغراق فلسطين كلها في بركة من الدم‏(‏ في يوم‏3/5‏ وحده قتل‏50‏ شخصا في غزة وبيت لحم‏),‏ وفي تقدير الدكتور زياد أبوعمرو رئيس اللجنة السياسية في المجلس التشريعي الفلسطيني‏,‏ أن عدد الذين استشهدوا منذ بداية الانتفاضة‏(‏ في سبتمبر‏2000)‏ وحتي الآن‏,‏ أي خلال الـ‏18‏ شهرا الماضية‏,‏ يتراوح ما بين‏1500‏ و‏2000‏ شخص‏,‏ بمعدل عشرة شهداء يوميا تقريبا‏,‏ وذلك إذا كان قد عبر عن الوحشية الإسرائيلية‏,‏ إلا أنه أيضا تعبير أقوي عن الإصرار والاستعداد غير المتناهي للفداء لدي الفلسطينيين‏.‏
في‏3/5‏ نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت مقالا تحت عنوان‏:‏ سنرد علي الذبح بالذبح‏,‏ ويجب أن نضربهم حتي يتوسلونا لوقف إطلاق النار‏,‏ وفي مستهل المقال أشارت الصحيفة إلي أن المقولة الواردة في العنوان وردت علي لسان أحد الوزراء المعتدلين بعد يوم صعب سقط فيه‏22‏ قتيلا من الجانب الإسرائيلي‏,‏ وأنه في ذلك الاجتماع‏,‏ تنافس الوزراء في وصف الرد المضاد‏,‏ وما قاله شارون في هذا الصدد علينا أن نضربهم ضربات مؤلمة جدا‏,‏ وبصورة متواصلة إلي أن يستوعبوا حقيقة أنهم لن يحققوا شيئا عن طريق الإرهاب‏,‏ وفي حديثه إلي الصحفيين أضاف‏:‏ في الوقت الراهن‏,‏ إما نحن وإما هم‏.‏

وزير العدل مائير شطريت قال‏:‏ لقد سئمنا‏,‏ وانتهي الاعتدال‏(!)‏ لذلك يجب أن نضربهم حتي يتوسلوا لوقف إطلاق النار‏,‏ وزيرة المعارف ليمور ليفنات قالت‏:‏ الحسم العسكري قبل كل شيء‏,‏ فقط بعد ذلك يمكن أن نتحدث‏,‏ وزير البني التحتية أفيجدور ليبرمان قال‏:‏ يجب تقويض السلطة كلها وطرد عرفات‏,‏ واعتبار كل قادة المنظمات الفلسطينية مخربين‏,‏ واقترح لتدمير الوضع الفلسطيني البدء بإبلاغ الفلسطينيين بأنهم إذا لم يوقفوا الأعمال الإرهابية خلال‏24‏ ساعة‏,‏ فعلي إسرائيل في اليوم التالي أن تقوم بما يلي‏:‏ في الساعة الثامنة صباحا يتم قصف كل المراكز التجارية في الضفة وغزة‏..‏ في الثانية عشرة والنصف تقصف محطات الوقود‏,‏ وفي الثانية من بعد الظهر تقصف كل البنوك‏,‏ وإلي أن يتحقق ذلك دعا ليبرمان إلي قطع الكهرباء والهاتف عن مكتب عرفات‏,‏ ومنع الناس من زيارته ولو بالقوة‏.‏
من الكتابات التي عبرت عن اللوثة التي أصابت النخبة الإسرائيلية‏,‏ من جراء ضربات المقاومة الفلسطينية‏,‏ ما نشرته صحيفة هاآرتس في‏3/5‏ للمعلق العسكري زئيف شيف‏,‏ وقال فيه‏:‏ إن الانتحاريين ومرسليهم وأفراد عائلاتهم قد يكتشفون أن إسرائيل المتعرضة لضربات العنف ستنجرف إلي ردود فعل عديمة الرحمة‏,‏ ومن تلك الردود إلحاق الأذي بعائلة الفدائي‏(‏ الانتحاري‏),‏ وليس فقط بأملاكها‏(‏ في العادة يهدم بيت الأسرة‏),‏ ذلك أنه إذا كان العنف الفلسطيني يقضي علي عائلات إسرائيلية بكاملها‏,‏ فيحتمل أيضا أن تتعاظم الأصوات الداعية إلي المس جسديا‏(‏ قتلا بطبيعة الحال‏)‏ بعائلة الإرهابي الانتحاري‏,‏ بحيث تتغلب علي المعارضين الإسرائيليين للفكرة‏,‏ استنادا إلي المعايير الأخلاقية‏(!).‏

‏(4)‏
يتواري المرء خجلا حين يشاهد علي شاشات التليفزيون‏,‏ مظاهرات الاحتجاج ضد الوحشية الإسرائيلية في لندن وباريس وروما وموسكو‏,‏ ولا يجد لمثل تلك المظاهرات أثرا في أي عاصمة عربية‏,‏ باستثناء مظاهرة اللاجئين الفلسطينيين في عمان‏,‏ وتظاهر بعض طلاب الجامعات في مصر‏.‏ ويتضاعف الخجل حين نلاحظ انفعال الصحفي البريطاني فيل ريفز‏,‏ فيما كتبه بصحيفة الإندبندنت محتجا علي صمت العالم الغربي ووقوفه موقف المتفرج بينما الفلسطينيون يموتون ويسحقون من جانب إسرائيل‏,‏ ويتحول الخجل إلي شعور بالخزي حين يلاحظ المرء أن بعض صحفنا ومحطاتنا الفضائية العربية تعاملت مع المشهد الفلسطيني بحياد مفجع‏.‏
لا غرابة والأمر كذلك أن يدرك الفلسطينيون أنهم في الحرب الشاملة التي تشن ضدهم الآن يقفون وحدهم‏,‏ بغير سند أو ظهير علي وجه الأرض‏,‏ وربما كان ذلك حافزا إضافيا رفع من وتيرة الجسارة والاستبسال‏,‏ حيث لم يعد هناك ما يعولون عليه‏,‏ وإذ خيروا بين الإقدام مع الشهادة‏,‏ وبين الكمون والموت تحت القصف‏,‏ فقد كان طبيعيا أن يؤثروا الشهادة‏,‏ وأن ينتظموا علي دربها المجلل بالدم الزكي والمعبق بريح الجنة‏,‏ في طوابير لا نهاية لها‏,‏ تنسج الحلم الآتي في غد غير منظور‏.‏

لا أحد يعرف الآن كم ولا كيف أو متي سيدفع العرب ثمن موقفهم المفجع‏,‏ لكن القدر المتيقن أن محكمة التاريخ سيكون حكمها قاسيا علي عرب هذا الزمان‏,‏ ذلك أن عجزا بهذا القدر إزاء قضية مصيرية ومحورية في العالم العربي من ذلك القبيل‏,‏ ليس له أن يمر بالمجان‏.‏
نعم هناك أفكار وأوراق عربية متداولة في الساحة‏,‏ لكن كل ما هو مطروح الآن يظل أدني بكثير من الثمن الذي دفعه الفلسطينيون‏,‏ فضلا عن أنه لايرتقي إلي مستوي الدعم الحقيقي لصمود الشعب البطل‏,‏ إذ بعدما تجاوز عدد القتلي أكثر من‏1500‏ شخص خلال‏18‏ شهرا فقط‏,‏ وبعدما تحولت الأرض المحتلة إلي بركة دم‏,‏ ولم يعد يري في شوارعها سوي جنازات الشهداء‏,‏ وبعدما عانت مرابعها من التجويع والترويع‏,‏ بعد هذا كله‏,‏ سيكون مهينا أن يصبح غاية المراد أن يسمح للرئيس عرفات بالسفر لحضور القمة العربية في بيروت‏,‏ أو أن يجلس الفلسطينيون مع نفر من القتلة ومجرمي الحرب الإسرائيليين إلي طاولة المفاوضات في أي مكان‏,‏ ثم إنه ازدراء ما بعده ازدراء أن تعلق الآمال والأبصار في نهاية المطاف بمبعوث أمريكي يأتي لكي يبيع الوهم للعرب‏,‏ بينما يقف بالكامل علي الأرضية الإسرائيلية‏,‏ هو وحكومته التي أوفدته‏.‏

والأمر كذلك‏,‏ فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن نداء ـ أو رجاء ـ الأرض المحتلة في الوقت الراهن‏,‏ كما يلي‏:‏ لا تبخسوا الفلسطينيين حقهم‏,‏ ولا تهينوا نضالهم وشهداءهم‏,‏ فما دفعوه حتي الآن هو بالدقة عربون لحلم الاستقلال الذي انتظروه طويلا‏,‏ ومن أراد أن يكون وفيا حقا لكل ذلك‏,‏ فليقف مطلبه عند شيء واحد لا يحول عنه بصره هو‏:‏ إنهاء الاحتلال‏,‏ أما ما دون ذلك فهو تصويب خارج الهدف‏,‏ وثرثرة بعيدة عن جوهر الموضوع‏,‏ وتشتيت يبدد الجهد ويميع القضية‏,‏ أما الذين يعجزون عن الوقوف في المربع الصحيح أو تبني لغة الخطاب المطلوبة‏,‏ فليخدموا القضية بصمتهم‏,‏ عسي الله أن يستبدل قوما غيرهم‏,‏ لا يكونوا أمثالهم‏.‏
أضافة تعليق