هويدي 12-3-2002
إذا أردنا أن نكون صادقين وأمناء مع أنفسنا, فينبغي أن نحني رءوسنا إجلالا للشعب الفلسطيني وخجلا منه, الإجلال لما يفعلونه, والخجل مما لم نفعله. فالبطولة حظهم الذي لهم أن يفخروا به, والعجز نصيبنا الذي ينبغي أن نستحي منه.. وإذ تعلمنا دروس التاريخ أن المقبلين علي الموت وحدهم, الذين تكتب لهم الحياة, فينبغي الا ينسينا ذلك حقيقة أن المؤثرين للنجاة والمستسلمين للقعود والعجز, هم الموتي الحقيقيون.
(1)
حين دخلت الفتاة الفلسطينية ساحة العمليات الاستشهادية بتلك الدرجة العالية من الجسارة, أضاف لطمة جديدة إلي الغرور والصلف الإسرائيليين, وبعث إلي الجميع برسالة مدوية تقول إن المذابح اليومية وعمليات التركيع, لن تثني الشعب الفلسطيني عن عزمه في الدفاع عن حريته وكرامته, إذ خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة, وجهت المقاومة الفلسطينية بشتي فصائلها لطمات عنيفة باغتت الإسرائيليين بضراوتها وبراعتها, وأثارت الانتباه بشدة, من حيث إنها كانت بمثابة نقلة من موقع رد الفعل إلي الفعل, ومن الدفاع إلي الهجوم, علي نحو لقن الإسرائيليين دروسا لم يألفوها أربكت قياداتهم وألقت في روع جنودهم خوفا ظل مستبعدا من خيالاتهم.
أترك الاستطراد في هذه النقطة, إلي شهادة أحد الصحفيين العرب في تل أبيب, نظير مجلي, الذي نشرت له صحيفة الشرق الأوسط في3/5 تقريرا يلقي ضوءا قويا علي الأصداء الإسرائيلية للجسارة التي أبدتها عناصر المقاومة الفلسطينية, وفيه قال: إن القادة العسكريين في إسرائيل يشعرون بأن الفلسطينيين يضربون في الصميم هيبة الجيش الإسرائيلي, الذي يرددون, جيلا بعد جيل, أنه الجيش الذي لايقهر, وأنه أقوي وأفضل خمسة جيوش في العالم, وعند بداية الانتفاضة, في زمن حكومة إيهود باراك, كانوا يبررون نجاح بعض العمليات الفلسطينية بالإدعاء بأن الحكومة تكبل أيدي الجيش, وفي تلك الفترة ارتفع شعارهم دعوا الجيش ينتصر, وتبني زعيم المعارضة في حينه, أرييل شارون, هذا الشعار وراح يستند إليه في حملته الانتخابية ضد باراك, ويغدق بالوعود في أن ينجح هو مع الجيش في تحقيق الانتصار علي الفلسطينيين.
وبعد مرور سنة علي فوز شارون في الانتخابات, لم يحقق الجيش ذلك الانتصار الموعود, بل علي العكس, ارتفعت وتيرة المقاومة الفلسطينية وزاد عدد القتلي الإسرائيليين من جراء العمليات, ففي غضون الأسبوعين الأخيرين قتل نحو21 عسكريا إسرائيليا.. وفي أقل من12 ساعة ما بين ليل3/2 وفجر3/3 قتل21 إسرائيليا, بينهم ما لا يقل عن7 جنود.
وكان شارون قد زاد الطين بلة, قبل سبعة أشهر, عندما وبخ القيادة العسكرية علي أنها لا تفلح في إعطاء الرد المناسب علي العمليات الفلسطينية, وفي مرحلة معينة اجتمع مع القادة العسكريين الميدانيين, في قواعدهم العسكرية, وراح يشرف بنفسه علي العمليات الميدانية, ويضع معهم الخطط الناجعة لاقتلاع الإرهاب, وذلك باعتباره صاحب خبرة عسكرية طويلة, ولكن كل البطولات العسكرية السابقة وكل تجارب الماضي, واختراعات الحاضر, لم تمكن الجيش الإسرائيلي من صد العمليات الفلسطينية العسكرية الناجحة, بل لوحظ أن هناك تطورا عسكريا في مستوي هذه العمليات وجرأتها ونجاحها, خصوصا تدمير الدبابة الأكثر تطورا في العالم ميركافا ـ3, وتصفية جميع الجنود المرابطين علي حاجز عسكري محصن قرب رام الله قبل أسبوعين, واقتحام عدة مستعمرات محصنة, وإطلاق الصاروخ الفلسطيني قسام2, لقد أثار نجاح هذه العمليات نقاشا واسعا في إسرائيل عموما, ونقاشا حادا داخل الجيش, وراحوا يفتشون عن أسباب هذا النجاح في مجالات التفافية علي الحقيقة, فتارة يقولون إن الجنود أهملوا, وتارة يقولون إن الصدفة أتاحت هذا النجاح.
(2)
غير أن ما سبق في كفة, والعمليتان العسكريتان المذهلتان اللتان تمتا يوم3 و4 مارس الحالي في كفة أخري, ذلك أنهما أحدثتا دويا مصحوبا بصدمة كبيرة داخل أوساط الجيش الإسرائيلي ـ كيف؟ إليك التفاصيل.
العملية الأولي وقعت في الساعة السابعة إلا ثلثا من صباح الأحد3/3, علي حاجز الشرطة الإسرائيلية في وادي الحرمية علي طريق رام الله ـ نابلس, حيث كمن شاب فلسطيني, علي تل يطل علي الحاجز يعتقد بأنه وصل إليه مبكرا جدا, وعندما بدأ الجنود يخرجون من استراحتهم أخذ يصفيهم واحدا واحدا, وهناك من يقول إنه أطلق رصاصة في الهواء لجعلهم يخرجون.
الحاجز المذكور محصن جدا ويحرسه باستمرار12 جنديا, وفيه استراحة للجنود مغلقة ومحصنة, تضمن للجنود عدم الشعور بالإرهاق خلال الخدمة, ومع ذلك, فقد انتهت العملية بعد25 دقيقة فقط, بمقتل10 إسرائيليين, سبعة منهم جنود وجرح عدد آخر.
الشاب الفلسطيني كان مسلحا ببندقية قديمة من طراز كاربين( ام ـ1), التي كانت أنتجت لأول مرة سنة1940 في الولايات المتحدة, وتتسع باغة هذه البندقية لـ30 رصاصة, عيار6 ملم, وتطلق رصاصاتها واحدة تلو الأخري.
كان صاحبنا الفلسطيني يكمن علي بعد50 مترا من الجنود, لكنه اتخذ له موقعا مرتفعا عنهم في التلةالمجاورة, في البداية أطلق رصاصة باتجاه الجندي الذي يحرس الحاجز, ورصاصة أخري باتجاه مواطن يهودي يرتدي ثيابا مدنية كان إلي جانبه, قتلهما علي الفور, الجنديان اللذان يحرسان الحاجز من الجهة الشمالية, اللذان لم يستوعبا بعد ما يجري, يطل أحدهما من وراء حاجز من الأسمنت المسلح, فيصيبه الفدائي برصاصة, فيطل الجندي الثاني, فيصاب هو الآخر, عندئذ يخرج جندي من الاستراحة, كان نائما فأيقظه أزيز الرصاص, فاتجه نحو زملائه المصابين راكضا, لتصيبه واحدة من رصاصات الفدائي المتلاحقة, لم يمت هذا الجندي بالذات, وكانت اصابته متوسطة, عندها يخرج نائب قائد قوة الحراسة من الغرفة, ويزحف من حولها حتي يتعرف إلي مصدر النيران, لكنه قبل أن يكتشفه, يتلقي رصاصة أخري, ويسقط قتيلا علي الفور, هنا يتقدم الجندي الممرض محاولا اسعاف الجرحي, وهو يشهر السلاح فصوب الفدائي بندقيته نحوه فأرداه, وفي هذه الأثناء وصلت سيارة مستوطن, فأطلق باتجاهها, ثم حضر قائد القوة العسكرية المسيطرة علي هذه المنطقة, وهو برتبة مقدم في الجيش, وما أن وطأت قدماه الأرض حتي استقرت رصاصة في رأسه, فسقط, ووصلت بعد لحظات سيارة مدنية أخري فكان يقودها بالصدفة ضابط في سلاح المظليين, فأطلق الفدائي باتجاهه, فأرداه أيضا, وحضرت سيارة ضابط الأمن في مستعمرات المنطقة, فأصيب بجروح بليغة, ثم حضرت سيارة مستوطن آخر, وقتل علي الفور, عندها فقط غادر الفدائي المكان مخلفا البندقية وراءه, وهرب ـ حسب تقديرات الجيش, باتجاه قرية سنجل القريبة( ضمن حدود1967) أو قرية جلجولية( ضمن حدود1948).
العملية الثانية, وقعت بعد الأولي مباشرة, في السابعة والثلث صباحا ولكن في الجنوب, علي حدود قطاع غزة, حسب تقديرات الجيش الإسرائيلي, فإن خمسة فدائيين( من سرايا القدس الجناح العسكري للجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصي) وصلوا إلي المكان, وكان أحدهم يحمل سلما من الخشب ذا ساقين, حامل السلم الخشبي نصبه فوق السياج الالكتروني, ولكونه من الخشب لم تكتمل الدائرة الكهربائية فلم ينطلق جهاز الإنذار والمراقبة, فتسلق عليه وانتقل إلي الجانب الإسرائيلي من الحدود حاملا السلم معه, في حين كان رفاقه الأربعة يراقبون المنطقة من بعيد ويبلغونه بالتطورات.
توجه الفدائي الفلسطيني مباشرة إلي النقطة العسكرية غير الثابتة قرب السياج, التي يشغلها الجنود الإسرائيليون في النهار, بشكل عام, ويتركونها في الليل, ويبدو أن الفدائيين راقبوا تحركات الجيش في المكان, وبنوا عمليتهم علي أساسها.
كمن الفدائي في الموقع في انتظار جنود الحراسة, فما أن وصل الجنود وعددهم خمسة, وهم من الوحدة العسكرية الإسرائيلية المشهورة جلعاتي, حتي داهمهم الفدائي وراح يطلق الرصاص المكثف باتجاههم, فأصابهم جميعا بجروح ما بين خفيفة ومتوسطة, وتمكن من قتل أحدهم, ونجح في الهرب من المكان بنفس الطريقة, أي بواسطة السلم, قبل أن تصل قوة الانقاذ.
(3)
أدري أن الحكومة الإسرائيلية لم تدر للفلسطينيين خدها الأيسر, وإنما حاولت أن ترد الصاع صاعين, فشددت من حملاتها الانتقامية, الأمر الذي أدي إلي اغراق فلسطين كلها في بركة من الدم( في يوم3/5 وحده قتل50 شخصا في غزة وبيت لحم), وفي تقدير الدكتور زياد أبوعمرو رئيس اللجنة السياسية في المجلس التشريعي الفلسطيني, أن عدد الذين استشهدوا منذ بداية الانتفاضة( في سبتمبر2000) وحتي الآن, أي خلال الـ18 شهرا الماضية, يتراوح ما بين1500 و2000 شخص, بمعدل عشرة شهداء يوميا تقريبا, وذلك إذا كان قد عبر عن الوحشية الإسرائيلية, إلا أنه أيضا تعبير أقوي عن الإصرار والاستعداد غير المتناهي للفداء لدي الفلسطينيين.
في3/5 نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت مقالا تحت عنوان: سنرد علي الذبح بالذبح, ويجب أن نضربهم حتي يتوسلونا لوقف إطلاق النار, وفي مستهل المقال أشارت الصحيفة إلي أن المقولة الواردة في العنوان وردت علي لسان أحد الوزراء المعتدلين بعد يوم صعب سقط فيه22 قتيلا من الجانب الإسرائيلي, وأنه في ذلك الاجتماع, تنافس الوزراء في وصف الرد المضاد, وما قاله شارون في هذا الصدد علينا أن نضربهم ضربات مؤلمة جدا, وبصورة متواصلة إلي أن يستوعبوا حقيقة أنهم لن يحققوا شيئا عن طريق الإرهاب, وفي حديثه إلي الصحفيين أضاف: في الوقت الراهن, إما نحن وإما هم.
وزير العدل مائير شطريت قال: لقد سئمنا, وانتهي الاعتدال(!) لذلك يجب أن نضربهم حتي يتوسلوا لوقف إطلاق النار, وزيرة المعارف ليمور ليفنات قالت: الحسم العسكري قبل كل شيء, فقط بعد ذلك يمكن أن نتحدث, وزير البني التحتية أفيجدور ليبرمان قال: يجب تقويض السلطة كلها وطرد عرفات, واعتبار كل قادة المنظمات الفلسطينية مخربين, واقترح لتدمير الوضع الفلسطيني البدء بإبلاغ الفلسطينيين بأنهم إذا لم يوقفوا الأعمال الإرهابية خلال24 ساعة, فعلي إسرائيل في اليوم التالي أن تقوم بما يلي: في الساعة الثامنة صباحا يتم قصف كل المراكز التجارية في الضفة وغزة.. في الثانية عشرة والنصف تقصف محطات الوقود, وفي الثانية من بعد الظهر تقصف كل البنوك, وإلي أن يتحقق ذلك دعا ليبرمان إلي قطع الكهرباء والهاتف عن مكتب عرفات, ومنع الناس من زيارته ولو بالقوة.
من الكتابات التي عبرت عن اللوثة التي أصابت النخبة الإسرائيلية, من جراء ضربات المقاومة الفلسطينية, ما نشرته صحيفة هاآرتس في3/5 للمعلق العسكري زئيف شيف, وقال فيه: إن الانتحاريين ومرسليهم وأفراد عائلاتهم قد يكتشفون أن إسرائيل المتعرضة لضربات العنف ستنجرف إلي ردود فعل عديمة الرحمة, ومن تلك الردود إلحاق الأذي بعائلة الفدائي( الانتحاري), وليس فقط بأملاكها( في العادة يهدم بيت الأسرة), ذلك أنه إذا كان العنف الفلسطيني يقضي علي عائلات إسرائيلية بكاملها, فيحتمل أيضا أن تتعاظم الأصوات الداعية إلي المس جسديا( قتلا بطبيعة الحال) بعائلة الإرهابي الانتحاري, بحيث تتغلب علي المعارضين الإسرائيليين للفكرة, استنادا إلي المعايير الأخلاقية(!).
(4)
يتواري المرء خجلا حين يشاهد علي شاشات التليفزيون, مظاهرات الاحتجاج ضد الوحشية الإسرائيلية في لندن وباريس وروما وموسكو, ولا يجد لمثل تلك المظاهرات أثرا في أي عاصمة عربية, باستثناء مظاهرة اللاجئين الفلسطينيين في عمان, وتظاهر بعض طلاب الجامعات في مصر. ويتضاعف الخجل حين نلاحظ انفعال الصحفي البريطاني فيل ريفز, فيما كتبه بصحيفة الإندبندنت محتجا علي صمت العالم الغربي ووقوفه موقف المتفرج بينما الفلسطينيون يموتون ويسحقون من جانب إسرائيل, ويتحول الخجل إلي شعور بالخزي حين يلاحظ المرء أن بعض صحفنا ومحطاتنا الفضائية العربية تعاملت مع المشهد الفلسطيني بحياد مفجع.
لا غرابة والأمر كذلك أن يدرك الفلسطينيون أنهم في الحرب الشاملة التي تشن ضدهم الآن يقفون وحدهم, بغير سند أو ظهير علي وجه الأرض, وربما كان ذلك حافزا إضافيا رفع من وتيرة الجسارة والاستبسال, حيث لم يعد هناك ما يعولون عليه, وإذ خيروا بين الإقدام مع الشهادة, وبين الكمون والموت تحت القصف, فقد كان طبيعيا أن يؤثروا الشهادة, وأن ينتظموا علي دربها المجلل بالدم الزكي والمعبق بريح الجنة, في طوابير لا نهاية لها, تنسج الحلم الآتي في غد غير منظور.
لا أحد يعرف الآن كم ولا كيف أو متي سيدفع العرب ثمن موقفهم المفجع, لكن القدر المتيقن أن محكمة التاريخ سيكون حكمها قاسيا علي عرب هذا الزمان, ذلك أن عجزا بهذا القدر إزاء قضية مصيرية ومحورية في العالم العربي من ذلك القبيل, ليس له أن يمر بالمجان.
نعم هناك أفكار وأوراق عربية متداولة في الساحة, لكن كل ما هو مطروح الآن يظل أدني بكثير من الثمن الذي دفعه الفلسطينيون, فضلا عن أنه لايرتقي إلي مستوي الدعم الحقيقي لصمود الشعب البطل, إذ بعدما تجاوز عدد القتلي أكثر من1500 شخص خلال18 شهرا فقط, وبعدما تحولت الأرض المحتلة إلي بركة دم, ولم يعد يري في شوارعها سوي جنازات الشهداء, وبعدما عانت مرابعها من التجويع والترويع, بعد هذا كله, سيكون مهينا أن يصبح غاية المراد أن يسمح للرئيس عرفات بالسفر لحضور القمة العربية في بيروت, أو أن يجلس الفلسطينيون مع نفر من القتلة ومجرمي الحرب الإسرائيليين إلي طاولة المفاوضات في أي مكان, ثم إنه ازدراء ما بعده ازدراء أن تعلق الآمال والأبصار في نهاية المطاف بمبعوث أمريكي يأتي لكي يبيع الوهم للعرب, بينما يقف بالكامل علي الأرضية الإسرائيلية, هو وحكومته التي أوفدته.
والأمر كذلك, فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن نداء ـ أو رجاء ـ الأرض المحتلة في الوقت الراهن, كما يلي: لا تبخسوا الفلسطينيين حقهم, ولا تهينوا نضالهم وشهداءهم, فما دفعوه حتي الآن هو بالدقة عربون لحلم الاستقلال الذي انتظروه طويلا, ومن أراد أن يكون وفيا حقا لكل ذلك, فليقف مطلبه عند شيء واحد لا يحول عنه بصره هو: إنهاء الاحتلال, أما ما دون ذلك فهو تصويب خارج الهدف, وثرثرة بعيدة عن جوهر الموضوع, وتشتيت يبدد الجهد ويميع القضية, أما الذين يعجزون عن الوقوف في المربع الصحيح أو تبني لغة الخطاب المطلوبة, فليخدموا القضية بصمتهم, عسي الله أن يستبدل قوما غيرهم, لا يكونوا أمثالهم.
إذا أردنا أن نكون صادقين وأمناء مع أنفسنا, فينبغي أن نحني رءوسنا إجلالا للشعب الفلسطيني وخجلا منه, الإجلال لما يفعلونه, والخجل مما لم نفعله. فالبطولة حظهم الذي لهم أن يفخروا به, والعجز نصيبنا الذي ينبغي أن نستحي منه.. وإذ تعلمنا دروس التاريخ أن المقبلين علي الموت وحدهم, الذين تكتب لهم الحياة, فينبغي الا ينسينا ذلك حقيقة أن المؤثرين للنجاة والمستسلمين للقعود والعجز, هم الموتي الحقيقيون.
(1)
حين دخلت الفتاة الفلسطينية ساحة العمليات الاستشهادية بتلك الدرجة العالية من الجسارة, أضاف لطمة جديدة إلي الغرور والصلف الإسرائيليين, وبعث إلي الجميع برسالة مدوية تقول إن المذابح اليومية وعمليات التركيع, لن تثني الشعب الفلسطيني عن عزمه في الدفاع عن حريته وكرامته, إذ خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة, وجهت المقاومة الفلسطينية بشتي فصائلها لطمات عنيفة باغتت الإسرائيليين بضراوتها وبراعتها, وأثارت الانتباه بشدة, من حيث إنها كانت بمثابة نقلة من موقع رد الفعل إلي الفعل, ومن الدفاع إلي الهجوم, علي نحو لقن الإسرائيليين دروسا لم يألفوها أربكت قياداتهم وألقت في روع جنودهم خوفا ظل مستبعدا من خيالاتهم.
أترك الاستطراد في هذه النقطة, إلي شهادة أحد الصحفيين العرب في تل أبيب, نظير مجلي, الذي نشرت له صحيفة الشرق الأوسط في3/5 تقريرا يلقي ضوءا قويا علي الأصداء الإسرائيلية للجسارة التي أبدتها عناصر المقاومة الفلسطينية, وفيه قال: إن القادة العسكريين في إسرائيل يشعرون بأن الفلسطينيين يضربون في الصميم هيبة الجيش الإسرائيلي, الذي يرددون, جيلا بعد جيل, أنه الجيش الذي لايقهر, وأنه أقوي وأفضل خمسة جيوش في العالم, وعند بداية الانتفاضة, في زمن حكومة إيهود باراك, كانوا يبررون نجاح بعض العمليات الفلسطينية بالإدعاء بأن الحكومة تكبل أيدي الجيش, وفي تلك الفترة ارتفع شعارهم دعوا الجيش ينتصر, وتبني زعيم المعارضة في حينه, أرييل شارون, هذا الشعار وراح يستند إليه في حملته الانتخابية ضد باراك, ويغدق بالوعود في أن ينجح هو مع الجيش في تحقيق الانتصار علي الفلسطينيين.
وبعد مرور سنة علي فوز شارون في الانتخابات, لم يحقق الجيش ذلك الانتصار الموعود, بل علي العكس, ارتفعت وتيرة المقاومة الفلسطينية وزاد عدد القتلي الإسرائيليين من جراء العمليات, ففي غضون الأسبوعين الأخيرين قتل نحو21 عسكريا إسرائيليا.. وفي أقل من12 ساعة ما بين ليل3/2 وفجر3/3 قتل21 إسرائيليا, بينهم ما لا يقل عن7 جنود.
وكان شارون قد زاد الطين بلة, قبل سبعة أشهر, عندما وبخ القيادة العسكرية علي أنها لا تفلح في إعطاء الرد المناسب علي العمليات الفلسطينية, وفي مرحلة معينة اجتمع مع القادة العسكريين الميدانيين, في قواعدهم العسكرية, وراح يشرف بنفسه علي العمليات الميدانية, ويضع معهم الخطط الناجعة لاقتلاع الإرهاب, وذلك باعتباره صاحب خبرة عسكرية طويلة, ولكن كل البطولات العسكرية السابقة وكل تجارب الماضي, واختراعات الحاضر, لم تمكن الجيش الإسرائيلي من صد العمليات الفلسطينية العسكرية الناجحة, بل لوحظ أن هناك تطورا عسكريا في مستوي هذه العمليات وجرأتها ونجاحها, خصوصا تدمير الدبابة الأكثر تطورا في العالم ميركافا ـ3, وتصفية جميع الجنود المرابطين علي حاجز عسكري محصن قرب رام الله قبل أسبوعين, واقتحام عدة مستعمرات محصنة, وإطلاق الصاروخ الفلسطيني قسام2, لقد أثار نجاح هذه العمليات نقاشا واسعا في إسرائيل عموما, ونقاشا حادا داخل الجيش, وراحوا يفتشون عن أسباب هذا النجاح في مجالات التفافية علي الحقيقة, فتارة يقولون إن الجنود أهملوا, وتارة يقولون إن الصدفة أتاحت هذا النجاح.
(2)
غير أن ما سبق في كفة, والعمليتان العسكريتان المذهلتان اللتان تمتا يوم3 و4 مارس الحالي في كفة أخري, ذلك أنهما أحدثتا دويا مصحوبا بصدمة كبيرة داخل أوساط الجيش الإسرائيلي ـ كيف؟ إليك التفاصيل.
العملية الأولي وقعت في الساعة السابعة إلا ثلثا من صباح الأحد3/3, علي حاجز الشرطة الإسرائيلية في وادي الحرمية علي طريق رام الله ـ نابلس, حيث كمن شاب فلسطيني, علي تل يطل علي الحاجز يعتقد بأنه وصل إليه مبكرا جدا, وعندما بدأ الجنود يخرجون من استراحتهم أخذ يصفيهم واحدا واحدا, وهناك من يقول إنه أطلق رصاصة في الهواء لجعلهم يخرجون.
الحاجز المذكور محصن جدا ويحرسه باستمرار12 جنديا, وفيه استراحة للجنود مغلقة ومحصنة, تضمن للجنود عدم الشعور بالإرهاق خلال الخدمة, ومع ذلك, فقد انتهت العملية بعد25 دقيقة فقط, بمقتل10 إسرائيليين, سبعة منهم جنود وجرح عدد آخر.
الشاب الفلسطيني كان مسلحا ببندقية قديمة من طراز كاربين( ام ـ1), التي كانت أنتجت لأول مرة سنة1940 في الولايات المتحدة, وتتسع باغة هذه البندقية لـ30 رصاصة, عيار6 ملم, وتطلق رصاصاتها واحدة تلو الأخري.
كان صاحبنا الفلسطيني يكمن علي بعد50 مترا من الجنود, لكنه اتخذ له موقعا مرتفعا عنهم في التلةالمجاورة, في البداية أطلق رصاصة باتجاه الجندي الذي يحرس الحاجز, ورصاصة أخري باتجاه مواطن يهودي يرتدي ثيابا مدنية كان إلي جانبه, قتلهما علي الفور, الجنديان اللذان يحرسان الحاجز من الجهة الشمالية, اللذان لم يستوعبا بعد ما يجري, يطل أحدهما من وراء حاجز من الأسمنت المسلح, فيصيبه الفدائي برصاصة, فيطل الجندي الثاني, فيصاب هو الآخر, عندئذ يخرج جندي من الاستراحة, كان نائما فأيقظه أزيز الرصاص, فاتجه نحو زملائه المصابين راكضا, لتصيبه واحدة من رصاصات الفدائي المتلاحقة, لم يمت هذا الجندي بالذات, وكانت اصابته متوسطة, عندها يخرج نائب قائد قوة الحراسة من الغرفة, ويزحف من حولها حتي يتعرف إلي مصدر النيران, لكنه قبل أن يكتشفه, يتلقي رصاصة أخري, ويسقط قتيلا علي الفور, هنا يتقدم الجندي الممرض محاولا اسعاف الجرحي, وهو يشهر السلاح فصوب الفدائي بندقيته نحوه فأرداه, وفي هذه الأثناء وصلت سيارة مستوطن, فأطلق باتجاهها, ثم حضر قائد القوة العسكرية المسيطرة علي هذه المنطقة, وهو برتبة مقدم في الجيش, وما أن وطأت قدماه الأرض حتي استقرت رصاصة في رأسه, فسقط, ووصلت بعد لحظات سيارة مدنية أخري فكان يقودها بالصدفة ضابط في سلاح المظليين, فأطلق الفدائي باتجاهه, فأرداه أيضا, وحضرت سيارة ضابط الأمن في مستعمرات المنطقة, فأصيب بجروح بليغة, ثم حضرت سيارة مستوطن آخر, وقتل علي الفور, عندها فقط غادر الفدائي المكان مخلفا البندقية وراءه, وهرب ـ حسب تقديرات الجيش, باتجاه قرية سنجل القريبة( ضمن حدود1967) أو قرية جلجولية( ضمن حدود1948).
العملية الثانية, وقعت بعد الأولي مباشرة, في السابعة والثلث صباحا ولكن في الجنوب, علي حدود قطاع غزة, حسب تقديرات الجيش الإسرائيلي, فإن خمسة فدائيين( من سرايا القدس الجناح العسكري للجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصي) وصلوا إلي المكان, وكان أحدهم يحمل سلما من الخشب ذا ساقين, حامل السلم الخشبي نصبه فوق السياج الالكتروني, ولكونه من الخشب لم تكتمل الدائرة الكهربائية فلم ينطلق جهاز الإنذار والمراقبة, فتسلق عليه وانتقل إلي الجانب الإسرائيلي من الحدود حاملا السلم معه, في حين كان رفاقه الأربعة يراقبون المنطقة من بعيد ويبلغونه بالتطورات.
توجه الفدائي الفلسطيني مباشرة إلي النقطة العسكرية غير الثابتة قرب السياج, التي يشغلها الجنود الإسرائيليون في النهار, بشكل عام, ويتركونها في الليل, ويبدو أن الفدائيين راقبوا تحركات الجيش في المكان, وبنوا عمليتهم علي أساسها.
كمن الفدائي في الموقع في انتظار جنود الحراسة, فما أن وصل الجنود وعددهم خمسة, وهم من الوحدة العسكرية الإسرائيلية المشهورة جلعاتي, حتي داهمهم الفدائي وراح يطلق الرصاص المكثف باتجاههم, فأصابهم جميعا بجروح ما بين خفيفة ومتوسطة, وتمكن من قتل أحدهم, ونجح في الهرب من المكان بنفس الطريقة, أي بواسطة السلم, قبل أن تصل قوة الانقاذ.
(3)
أدري أن الحكومة الإسرائيلية لم تدر للفلسطينيين خدها الأيسر, وإنما حاولت أن ترد الصاع صاعين, فشددت من حملاتها الانتقامية, الأمر الذي أدي إلي اغراق فلسطين كلها في بركة من الدم( في يوم3/5 وحده قتل50 شخصا في غزة وبيت لحم), وفي تقدير الدكتور زياد أبوعمرو رئيس اللجنة السياسية في المجلس التشريعي الفلسطيني, أن عدد الذين استشهدوا منذ بداية الانتفاضة( في سبتمبر2000) وحتي الآن, أي خلال الـ18 شهرا الماضية, يتراوح ما بين1500 و2000 شخص, بمعدل عشرة شهداء يوميا تقريبا, وذلك إذا كان قد عبر عن الوحشية الإسرائيلية, إلا أنه أيضا تعبير أقوي عن الإصرار والاستعداد غير المتناهي للفداء لدي الفلسطينيين.
في3/5 نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت مقالا تحت عنوان: سنرد علي الذبح بالذبح, ويجب أن نضربهم حتي يتوسلونا لوقف إطلاق النار, وفي مستهل المقال أشارت الصحيفة إلي أن المقولة الواردة في العنوان وردت علي لسان أحد الوزراء المعتدلين بعد يوم صعب سقط فيه22 قتيلا من الجانب الإسرائيلي, وأنه في ذلك الاجتماع, تنافس الوزراء في وصف الرد المضاد, وما قاله شارون في هذا الصدد علينا أن نضربهم ضربات مؤلمة جدا, وبصورة متواصلة إلي أن يستوعبوا حقيقة أنهم لن يحققوا شيئا عن طريق الإرهاب, وفي حديثه إلي الصحفيين أضاف: في الوقت الراهن, إما نحن وإما هم.
وزير العدل مائير شطريت قال: لقد سئمنا, وانتهي الاعتدال(!) لذلك يجب أن نضربهم حتي يتوسلوا لوقف إطلاق النار, وزيرة المعارف ليمور ليفنات قالت: الحسم العسكري قبل كل شيء, فقط بعد ذلك يمكن أن نتحدث, وزير البني التحتية أفيجدور ليبرمان قال: يجب تقويض السلطة كلها وطرد عرفات, واعتبار كل قادة المنظمات الفلسطينية مخربين, واقترح لتدمير الوضع الفلسطيني البدء بإبلاغ الفلسطينيين بأنهم إذا لم يوقفوا الأعمال الإرهابية خلال24 ساعة, فعلي إسرائيل في اليوم التالي أن تقوم بما يلي: في الساعة الثامنة صباحا يتم قصف كل المراكز التجارية في الضفة وغزة.. في الثانية عشرة والنصف تقصف محطات الوقود, وفي الثانية من بعد الظهر تقصف كل البنوك, وإلي أن يتحقق ذلك دعا ليبرمان إلي قطع الكهرباء والهاتف عن مكتب عرفات, ومنع الناس من زيارته ولو بالقوة.
من الكتابات التي عبرت عن اللوثة التي أصابت النخبة الإسرائيلية, من جراء ضربات المقاومة الفلسطينية, ما نشرته صحيفة هاآرتس في3/5 للمعلق العسكري زئيف شيف, وقال فيه: إن الانتحاريين ومرسليهم وأفراد عائلاتهم قد يكتشفون أن إسرائيل المتعرضة لضربات العنف ستنجرف إلي ردود فعل عديمة الرحمة, ومن تلك الردود إلحاق الأذي بعائلة الفدائي( الانتحاري), وليس فقط بأملاكها( في العادة يهدم بيت الأسرة), ذلك أنه إذا كان العنف الفلسطيني يقضي علي عائلات إسرائيلية بكاملها, فيحتمل أيضا أن تتعاظم الأصوات الداعية إلي المس جسديا( قتلا بطبيعة الحال) بعائلة الإرهابي الانتحاري, بحيث تتغلب علي المعارضين الإسرائيليين للفكرة, استنادا إلي المعايير الأخلاقية(!).
(4)
يتواري المرء خجلا حين يشاهد علي شاشات التليفزيون, مظاهرات الاحتجاج ضد الوحشية الإسرائيلية في لندن وباريس وروما وموسكو, ولا يجد لمثل تلك المظاهرات أثرا في أي عاصمة عربية, باستثناء مظاهرة اللاجئين الفلسطينيين في عمان, وتظاهر بعض طلاب الجامعات في مصر. ويتضاعف الخجل حين نلاحظ انفعال الصحفي البريطاني فيل ريفز, فيما كتبه بصحيفة الإندبندنت محتجا علي صمت العالم الغربي ووقوفه موقف المتفرج بينما الفلسطينيون يموتون ويسحقون من جانب إسرائيل, ويتحول الخجل إلي شعور بالخزي حين يلاحظ المرء أن بعض صحفنا ومحطاتنا الفضائية العربية تعاملت مع المشهد الفلسطيني بحياد مفجع.
لا غرابة والأمر كذلك أن يدرك الفلسطينيون أنهم في الحرب الشاملة التي تشن ضدهم الآن يقفون وحدهم, بغير سند أو ظهير علي وجه الأرض, وربما كان ذلك حافزا إضافيا رفع من وتيرة الجسارة والاستبسال, حيث لم يعد هناك ما يعولون عليه, وإذ خيروا بين الإقدام مع الشهادة, وبين الكمون والموت تحت القصف, فقد كان طبيعيا أن يؤثروا الشهادة, وأن ينتظموا علي دربها المجلل بالدم الزكي والمعبق بريح الجنة, في طوابير لا نهاية لها, تنسج الحلم الآتي في غد غير منظور.
لا أحد يعرف الآن كم ولا كيف أو متي سيدفع العرب ثمن موقفهم المفجع, لكن القدر المتيقن أن محكمة التاريخ سيكون حكمها قاسيا علي عرب هذا الزمان, ذلك أن عجزا بهذا القدر إزاء قضية مصيرية ومحورية في العالم العربي من ذلك القبيل, ليس له أن يمر بالمجان.
نعم هناك أفكار وأوراق عربية متداولة في الساحة, لكن كل ما هو مطروح الآن يظل أدني بكثير من الثمن الذي دفعه الفلسطينيون, فضلا عن أنه لايرتقي إلي مستوي الدعم الحقيقي لصمود الشعب البطل, إذ بعدما تجاوز عدد القتلي أكثر من1500 شخص خلال18 شهرا فقط, وبعدما تحولت الأرض المحتلة إلي بركة دم, ولم يعد يري في شوارعها سوي جنازات الشهداء, وبعدما عانت مرابعها من التجويع والترويع, بعد هذا كله, سيكون مهينا أن يصبح غاية المراد أن يسمح للرئيس عرفات بالسفر لحضور القمة العربية في بيروت, أو أن يجلس الفلسطينيون مع نفر من القتلة ومجرمي الحرب الإسرائيليين إلي طاولة المفاوضات في أي مكان, ثم إنه ازدراء ما بعده ازدراء أن تعلق الآمال والأبصار في نهاية المطاف بمبعوث أمريكي يأتي لكي يبيع الوهم للعرب, بينما يقف بالكامل علي الأرضية الإسرائيلية, هو وحكومته التي أوفدته.
والأمر كذلك, فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن نداء ـ أو رجاء ـ الأرض المحتلة في الوقت الراهن, كما يلي: لا تبخسوا الفلسطينيين حقهم, ولا تهينوا نضالهم وشهداءهم, فما دفعوه حتي الآن هو بالدقة عربون لحلم الاستقلال الذي انتظروه طويلا, ومن أراد أن يكون وفيا حقا لكل ذلك, فليقف مطلبه عند شيء واحد لا يحول عنه بصره هو: إنهاء الاحتلال, أما ما دون ذلك فهو تصويب خارج الهدف, وثرثرة بعيدة عن جوهر الموضوع, وتشتيت يبدد الجهد ويميع القضية, أما الذين يعجزون عن الوقوف في المربع الصحيح أو تبني لغة الخطاب المطلوبة, فليخدموا القضية بصمتهم, عسي الله أن يستبدل قوما غيرهم, لا يكونوا أمثالهم.