هويدي 13-11-2001
بينما الأبصار والأفئدة مشدودة نحو المشهد الأفغاني الملتهب. حدثت فرقعة مثيرة في الساحة الفلسطينية لم يسمع كثيرون صوتها, وسط أزيز الطائرات النفاثة المحلقة في سماء قندهار وكابول, وهدير الصواريخ التي ما انفكت تشيع الموت والخراب في الأفق الأفغاني. أما الذين سمعوا الفرقعة فإنهم لم يصدقوا آذانهم من وقع المفاجأة وشدة الصدمة. إذ ما كان يخطر علي بال أحد ـ لا في أول الزمان ولا في آخره ـ أن يقول مسئول فلسطيني علي ملأ من الناس إن السلام لن يعم ولن تقوم للدولة الفلسطينية قيامة, إلا إذا تخلي الفلسطينيون عن حقهم في العودة ـ هكذا بصريح العبارة ومرة واحدة ـ لكن يبدو أنه بعدما اهتزت مسلمات كثيرة, وبعدما صار اللامعقول معقولا, قيل هذا الكلام, وممن؟ ـ من المسئول الجديد عن ملف القدس ـ وأين؟ ـ علي مسمع من الإسرائيليين في داخل الجامعة العبرية! ـ أما كيف ولماذا وما العمل, فإليك الحكاية وما فيها.
(1)
في البدء كان الأمر بمثابة طلقة خرجت من مسدس كاتم للصوت. أصابت الحلم في السر دون أن يسمع أحد, لأن الكلام الطلقة قيل أمام الإسرائيليين وداخل حرم الجامعة العبرية, ولا أعرف ما الذي كان يمكن أن يحدث لو أنه قيل أمام تجمع فلسطيني أو عربي, لكن الذي أثق فيه أن قائله في هذه الحالة الأخيرة لن يخرج بمثل ما دخل, هذا إذا قدر له أن يخرج أصلا!
ما قيل وراء جدران الجامعة العبرية في10/15 أفشته وعممته صحيفة نيويورك تايمز, التي نقلت الكلام في عددها الصادر يوم2001/10/17, منسوبا إلي الدكتور سري نسيبه خريج جامعة هارفارد, واستاذ العلوم السياسية السابق بجامعة بيرزيت, الذي كان قد سافر في مهمة علمية إلي الولايات المتحدة, وعاد منها مديرا لجامعة القدس في ايوديس, وبعد وفاة السيد فيصل الحسيني تم تعيينه مكانه, في10/12 مسئولا عن ملف القدس في السلطة الفلسطينية.
نعم الرجل معروف بمواقفه وآرائه المثيرة للغط والمستفزة للشارع الفلسطيني. والمتابعون للمسيرة الفلسطينية يذكرون أنه في عام86 كان قد تسبب في مشكلة بالقدس, حينما صدم الناس بدعوته إلي مشاركة الفلسطينيين في انتخاب رئيس بلدية المدينة, التي تعد من الناحية القانونية واقعة تحت الاحتلال منذ عام67. وفهمت دعوته تلك بحسبانها حثا للفلسطينيين علي الاعتراف بشرعية الاحتلال, والتسليم بعملية تهويدها وتثبيتا لوضع رئيس بلديتها الإسرائيلي.
تعددت مظاهر الغضب التي عبر بها الفلسطينيون عن مشاعر استيائهم تجاهه, وكان من بينها قيام بعض عناصر منظمة فتح التي يرأسها السيد ياسر عرفات.. باحراق سيارته, والاعتداء عليه بالضرب, الأمر الذي أصابه آنذاك بكسر في ذراعه!
منذ ذلك اليوم سكت الدكتور سري نسيبه, وانشغل نسبيا بالعمل الاكاديمي, وأصدر في عام91 كتابا مشتركا مع أحد أساتذة مركز جافي التابع لجامعة تل ابيب ـ اسرائيلي يميني اسمه مارك ديللو.. كان عنوانه لا مزامير ولا طبول: اقامة الدولتين حل للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ـ ألمح الكتاب إلي الفكرة التي طرحها الدكتور نسيبه أخيرا, والتي تلقي بطبيعة الحال ترحيبا واسعا من الإسرائيليين, لأنها تزيح عن صدورهم حما ثقيلا, وتريحهم من عقدة ملف اللاجئين الذي تجاوز عددهم أربعة ملايين, وقد مر الكلام آنذاك, لأنه صدر كوجهة نظر في كتاب لم يكن له تأثيره علي الرأي العام, فضلا عن أن نسيبه كان يعبر فيه عن رأيه الخاص كأكاديمي يمثل نفسه في أحسن فروضه وأبعدها.
(2)
طوال العقود التي تلت النكبة ظل التمسك بحق العودة أحد ثوابت القضية الفلسطينية, التي لم يجرؤ أحد علي العبث بها أو المساومة عليها, ومن أسف أن السيد نسيبه حين تحدث في الموضوع وصفه بأنه مطلب وليس حقا, والأول أضعف من الثاني بكثير, وبينما الحق مقدس وثابت بمقتضي ميثاق حقوق الانسان والشرعية الدولية والشرعية التاريخية, كما نري بعد قليل, فإن المطلب مجرد رغبة, مشروعة أو غير مشروعة, وهي لاتعكس حقا بالضرورة, ثم إنه يمكن المساومة عليها والتنازل عنها. فاستمرار المستعمرات في الأراضي الفلسطينية التي تعد اقامتها مخالفة للقانون الدولي, هو مطلب اسرائيلي له اهدافه الشريرة, ولايمكن أن يوضع علي قدم المساواة ولا في ذات المربع مع رغبة في عمق وأصالة حق العودة.
لكي أكون دقيقا فإن موضوع حق العودة جري المساس به علي نحو آخر, في شهر يوليو من العام الماضي, حين كان الوفد الفلسطيني في طريقه إلي محادثات كامب ديفيد, التي قيل أنها ستتناول قضايا الحل النهائي, إذ صرح أحد مستشاري الرئيس عرفات ـ خالد سلام مستشاره الاقتصادي ـ بأن موضوع حق العودة يمكن حله عن طريق صرف تعويضات للاجئين قدرها آنذاك بمبلغ30 مليار دولار, وقد انتقد هذا التصريح في حينه, ولم يؤخذ علي محمل الجد, ثم جري تجاوزه بعد الفشل الذي منيت به المحادثات, ومع ذلك ظل التصريح دالا علي أن فكرة التعويض مطروحة في الكواليس وأن هناك من يؤيدها داخل دوائر السلطة الفلسطينية.
سكت الدكتور سري نسيبه دهرا, ثم نطق علي النحو الذي رأيت! ـ وجاء كلامه مفاجئا وصادما من نواح عدة, مرة لأنه قاله في محفل اسرائيلي( الجامعة العبرية), ومرة لأنه هون من شأن العودة, ووصفها بأنها مجرد مطلب, ودعا إلي التنازل عنه. ومرة ثالثة لأنه زاد الطين بله وقال في حديثه الذي نقلته عنه نيويورك تايمز إن الانتفاضة الفلسطينية ليست سوي حالة من التشنج ملطخة بالدماء وليست ثورة شعبية, وتلك كبيرة أخري, ومرة رابعة لأن هذا الكلام صدر عنه بعد ثلاثة أيام فقط من انضمامه رسميا إلي السلطة الفلسطينية, بقرار من الرئيس عرفات, ومرة خامسة لأنه افتي في مسألة اللاجئين, بينما مسئوليته منحصرة في ملف القدس. ومرة سادسة لأنه قال كلامه هذا في توقيت بالغ السوء, بينما السياسة الشارونية تمارس بحق الشعب الفلسطيني أقسي أنواع القمع والوحشية. ومرة سابعة لأن98% من اللاجئين الفلسطينيين اعلنوا تمسكهم بحقهم في العودة إلي ديارهم, وهناك أكثر من مائتي جمعية فلسطينية تتبني الدفاع عن هذا الحق في تجمعات الفلسطينيين بمختلف أنحاء العالم. ومرة ثامنة لأن ثمة مناقشات جادة دائرة الآن حول كيفية العودة, وامكانية تحقيقها دون أن يتمثل ذلك التهديد المزعوم للإسرائيليين, وإذا به يقطع الطريق علي تلك المناقشات, ويدعو إلي التنازل جملة, هدية مجانية لإسرائيل!
(3)
هو مشهد عبثي مسكون بالمفارقة, عبثي لأن كل لاجئ في الكرة الأرضية يحق له العودة إلي وطنه, باستثناء اللاجئين الفلسطينيين الذين ينكر عليهم هذا الحق, وتتواطأ الدول الكبري لتوطينهم في أي مكان باستثناء وطنهم الأصلي, ويفرض عليهم فرضا التنازل عن ذلك الوطن أو بيعه, والمفارقة هنا تكمن في أن الإسرائيليين يتحرون استحقاقاتهم حيثما وجدت, ولا يملون في تفتيش الأوراق والوثائق القديمة لاستعادة قيمة مدخرات ومنقولات يهود أوروبا الشرقية التي اختفت منذ نصف قرن, وفي الوقت نفسه يطالبون الفلسطينيين بأن يتخلوا عن كل ما نهب منهم, بدءا بممتلكاتهم وعقاراتهم وانتهاء بوطنهم وحقهم في العودة إليه, وتبلغ المفارقة ذروتها حين نجد في اسرائيل قانونا للعودة, يسمح لكل يهودي في الكرة الأرضية بأن يصبح مواطنا في اسرائيل يتجنس ويتملك ويتمدد كيفما شاء علي أرض فلسطين, بينما تصادر حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة, وكل منهم له قريب وأسرة وعنوان في فلسطين, وبعضهم لايزال يحتفظ بمفاتيح بيوتهم هناك, سواء تلك التي هدمت ومحيت, أم بقيت واغتصبت وسكنها المستجلبون من شذاذ الآفاق!
إن المثياق العام لحقوق الانسان ينص علي حق كل مواطن في العيش في بلاده, أو تركها أو العودة إليها ومنذ النكبة ـ في عام48 ـ هناك قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ينص علي أن اللاجئين الراغبين في العودة إلي أوطانهم, والعيش بسلام مع جيرانهم, يجب أن يسمح لهم بذلك, في أول فرصة عملية ممكنة. ويجب دفع تعويض لممتلكات الذين لايرغبون في العودة, ودفع تعويض للخسائر والضرر الذي أصاب الممتلكات لإصلاحها, وارجاعها إلي أصلها, من قبل الحكومات والسلطات المسئولة, بناء علي قواعد القانون الدولي والعدالة.
وإذا تمعن المرء في القرار يلاحظ فيه ما يلي: أن خيار العودة متروك للاجئين أنفسهم, وليس لغيرهم, ـ أن العودة كانت واجبة في أول فرصة ممكنة, وقد لاحت تلك الفرصة بعد توقيع الهدنة في سنة49 ـ إن التعويض واجب في كل الأحوال, فالذين يعودون لهم الحق في التعويض عن الضرر الذي أصاب ممتلكاتهم, والذين يختارون البقاء في الخارج لهم الحق في التعويض عما تركوه ومن ثم فليس صحيحا أن اللاجئين مخيرون بين العودة أو التعويض, كما يشيع البعض, وإنما لهم الحق في الاثنين, العودة والتعويض, طبقا لنص القرار ـ ثم إن المسئول عن التعويض هو الحكومات والسلطات المسئولة, وذلك يشمل حكومة اسرائيل المؤقتة عام1948, وتلك التي أعقبتها, ومنظمات الهاجاناه والارعون والشتيرن, والصندوق القومي اليهودي وغيرها.
ظلت الأمم المتحدة علي موقفها من قضية العودة, لم تغيره, وكان آخر ما أصدرته في هذا الصدد قرار في74/11/22 ؟ أعاد تأكيد الحق غير القابل للتصرف لعودة الفلسطينيين إلي ديارهم التي اقتلعوا منها.
ثبوت الحق محسوم إذن, الأمر الذي يعد خطوة مهمة لاريب عززت اثبات المبدأ والتأكيد عليه, وهو ما استوجب نقل المناقشة إلي مستوي آخر هو: كيف؟ ـ غير أن كلام السيد نسيبه ارتد بنا إلي نقطة الصفر للأسف, وأعادنا مرة إلي السؤال: هل؟
(4)
في السادس والعشرين من شهر سبتمبر الماضي تم بقاعة وستمنستر في لندن لقاء مهم شهده جمع غفير من أعضاء مجلس العموم البريطاني والسياسيين ورجال الإعلام واعضاء المنظمات غير الحكومية المعنية بقضايا الشرق الأوسط. كان المتحدث الرئيسي في ذلك اللقاء هو الدكتور سلمان ابوسته الخبير الفلسطيني البارز, والمعروف عالميا بتخصصه في قضية اللاجئين, وصاحب الدراسات المتعددة التي ظلت العودة محورا لها, واحدثها كتاب صدر له بالانجيليزية بعنوان: من لاجئين إلي مواطنين في بلدهم. أما الذين رتبوا اللقاء مع النخبة البريطانية فقد كانوا جهات ثلاثا: مكتب الجامعة العربية في لندن, ومجلس تعزيز التفاهم العربي ـ البريطاني, ومركز العودة الفلسطيني هناك. وفيما علمت فإنه يجري الآن ترتيب لعقد لقاء آخر بين الدكتور ابوسته وبين اعضاء البرلمان الأوروبي, لكي يشرح مشروعه المتعلق بالتطبيق العملي لخطة عودة اللاجئين إلي ديارهم.
الفكرة الأساسية التي يقوم عليها مشروع الدكتور ابوسته أن عودة اللاجئين الفلسطينيين بملايينهم التي تجاوزت الأربعة, ليست حقا مقدسا فحسب, ولا هي تستند إلي القانون والشرعية فحسب, ولكنها ممكنة أيضا من الناحية العملية, دون أن ينال ذلك من وجود الإسرائيليين ودولتهم.
في الوقت نفسه فإنه يدحض بالخرائط الجوية والمعلومات الموثقة أن القري الفلسطينية التي كان يسكنها هؤلا قد اختفت ولم يعد لها أثر.
يعتمد الدكتور ابوسته في مشروعه علي كم هائل من الصور والوثائق التي سجلت كل معالم فلسطين منذ عام1871 حين امضت بعثة اكتشاف فلسطين8 سنوات لاتمام مسح شامل لكل شبر في البلاد, وإلي عامي45 و46 حين أجرت بريطانيا ـ دولة الانتداب ـ مسحا جويا شاملا أرضا لكل فلسطين, مرورا بالخرائط التي أعدتها مصلحة المساحة في عهد الانتداب(1920 ـ1998) سجلت فيها كل التغيرات التي طرأت علي فلسطين خلال تلك الفترة.
في لقاء وستمنستر عرض الخبير الفلسطيني علي الحاضرين البرلمانيين والسياسيين الانجليز24 خريطة بينت حقائق الوضع السكاني في اسرائيل, التي تشير كلها إلي الأرض التي يمكن تجهيزها خلال فترة تتراوح بين8 و10 سنوات, بحيث يمكن تعمير90% من القري المهجورة في فلسطين, كي يعود إليها سكانها الأصليون( العرب) دون أي تأثير يمس اليهود الإسرائيليين. ومن العشرة في المائة الباقية هناك7% يمكن أن يعود إليها سكانها مع بعض التعديلات, وهناك3% فقط ستواجه صعوبة في ذلك.
من النتائج المهمة التي بينتها دراسة التركيبة السكانية لإسرائيل المقسمة إلي36 اقليما طبيعيا, أن80% من اليهود يعيشون في عشرة اقاليم, مساحتها2.458 كيلومتر مربع أو12.1% من مساحة اسرائيل( الباقون يعيشون في المدن) ـ وهذه المساحة التي يعيش عليها اليهود الآن تزيد بمقدار841 كيلومترا مربعا فقط عن مساحة الأراضي التي كانت مملوكة لليهود إبان الاحتلال البريطاني. أي أن نمط اليهود في معيشة الجيتو, والالتصاق والتجمع لم تتغير, برغم توافر مساحة كبيرة من الاراضي المحتلة. ليس هذا فحسب, وإنما لايزال معظمهم يشتغل في المهن التقليدية, مثل المال والتجارة والصناعة الدقيقة, وقلة منهم التي غيرت نمط حياتها وعملت بالزراعة بالمقابل فإن الفلسطينيين يعيشون في26 من الـ36 اقليما طبيعيا في البلاد, وقد ساعد علي ذلك طبيعتهم الزراعية من ناحية, ثم ظروف الحكم العسكري التي عاشوا في ظلها, ومنعتهم من الانتقال إلي المناطق المكتظة باليهود.
(5)
أدري أن موضوع العودة تحيط به ملابسات شديدة التعقيد والحساسية, وأن المسألة لايمسها فقط كون الـ530 مدينة وقرية التي طرد منها سكانها منذ عام48, يمكن إعادة الحياة فيها أم لا. لكن ذلك لاينفي أن هناك حوارا علميا جادا يحاول اثبات امكانية تحقيق ذلك الأمل, وأن الدعوة إلي اسقاط ذلك الحق بمثابة سعي لاجهاض المحاولة, وهي تكتسب خطورتها من كونها تصدر عن طرف فلسطيني, وأخطر من ذلك أن يكون الفلسطيني مسئولا في السلطة الوطنية.
لا أحد يستطيع أن يتكهن بصدي الاستجابة لهذه الدعوة في أوساط اللاجئين الفلسطينيين, وما الذي سيفعله اولئك اللاجئون الذين يعيشون في المخيمات والمنافي منذ أكثر من نصف قرن, حين يكتشفون أنه تمت التضحية بهم وأن أملهم الذي انتظروه طويلا قد تبدد. غير أننا نستطيع أن نقول ـ بغير مبالغة إن خطوة من هذا القبيل من شأنها أن تفتح الأبواب لشرور لاحصر لها لايعرف إلا الله وحده طبيعتها ومداها.
إن السؤال الذي يحير المرء ويثير في نفسه الشكوك والهواجس هو: حين اطلق الدكتور سري نسيبه قذائفه تلك, هل كان يتحدث باسمه أم بصفته؟ وإذا كان يتحدث باسمه فقط فلماذا تم السكوت علي كلامه ولم يؤاخذ عليه, وإذا كان يتحدث بصفته مسئولا في السلطة, فلماذا لم يصحح الكلام, ولم تعلن السلطة موقفها من مسألة التنازل؟
وإذا ذهبنا إلي اسوأ الفروض وأتعسها, وكان لهذا الكلام أصل في الأجندة الرسمية الفلسطينية للتفاوض, فهل من الحكمة وحسن التدبير أن يشهر هذا التنازل علي الملأ ويتم التبرع به قبل أن تلوح في الأفق احتمالات التفاوض, في حين أن ألف باء ذلك الفن تقضي بأن ترفع الأطراف المعنية سقف استحقاقاتها إلي أبعد مدي قبل الجلوس علي الطاولة, أما إلغاء السقف بالكامل والتسليم بمطالب الآخر قبل بدء الكلام, فذلك نهج جديد لم نسمع به في عالم المفاوضات, حتي فيما بين المنتصر والمهزوم.
اللهم احم القضية الفلسطينية من بعض ابنائها, أما اعداؤها فنحن كفيلون بهم!
بينما الأبصار والأفئدة مشدودة نحو المشهد الأفغاني الملتهب. حدثت فرقعة مثيرة في الساحة الفلسطينية لم يسمع كثيرون صوتها, وسط أزيز الطائرات النفاثة المحلقة في سماء قندهار وكابول, وهدير الصواريخ التي ما انفكت تشيع الموت والخراب في الأفق الأفغاني. أما الذين سمعوا الفرقعة فإنهم لم يصدقوا آذانهم من وقع المفاجأة وشدة الصدمة. إذ ما كان يخطر علي بال أحد ـ لا في أول الزمان ولا في آخره ـ أن يقول مسئول فلسطيني علي ملأ من الناس إن السلام لن يعم ولن تقوم للدولة الفلسطينية قيامة, إلا إذا تخلي الفلسطينيون عن حقهم في العودة ـ هكذا بصريح العبارة ومرة واحدة ـ لكن يبدو أنه بعدما اهتزت مسلمات كثيرة, وبعدما صار اللامعقول معقولا, قيل هذا الكلام, وممن؟ ـ من المسئول الجديد عن ملف القدس ـ وأين؟ ـ علي مسمع من الإسرائيليين في داخل الجامعة العبرية! ـ أما كيف ولماذا وما العمل, فإليك الحكاية وما فيها.
(1)
في البدء كان الأمر بمثابة طلقة خرجت من مسدس كاتم للصوت. أصابت الحلم في السر دون أن يسمع أحد, لأن الكلام الطلقة قيل أمام الإسرائيليين وداخل حرم الجامعة العبرية, ولا أعرف ما الذي كان يمكن أن يحدث لو أنه قيل أمام تجمع فلسطيني أو عربي, لكن الذي أثق فيه أن قائله في هذه الحالة الأخيرة لن يخرج بمثل ما دخل, هذا إذا قدر له أن يخرج أصلا!
ما قيل وراء جدران الجامعة العبرية في10/15 أفشته وعممته صحيفة نيويورك تايمز, التي نقلت الكلام في عددها الصادر يوم2001/10/17, منسوبا إلي الدكتور سري نسيبه خريج جامعة هارفارد, واستاذ العلوم السياسية السابق بجامعة بيرزيت, الذي كان قد سافر في مهمة علمية إلي الولايات المتحدة, وعاد منها مديرا لجامعة القدس في ايوديس, وبعد وفاة السيد فيصل الحسيني تم تعيينه مكانه, في10/12 مسئولا عن ملف القدس في السلطة الفلسطينية.
نعم الرجل معروف بمواقفه وآرائه المثيرة للغط والمستفزة للشارع الفلسطيني. والمتابعون للمسيرة الفلسطينية يذكرون أنه في عام86 كان قد تسبب في مشكلة بالقدس, حينما صدم الناس بدعوته إلي مشاركة الفلسطينيين في انتخاب رئيس بلدية المدينة, التي تعد من الناحية القانونية واقعة تحت الاحتلال منذ عام67. وفهمت دعوته تلك بحسبانها حثا للفلسطينيين علي الاعتراف بشرعية الاحتلال, والتسليم بعملية تهويدها وتثبيتا لوضع رئيس بلديتها الإسرائيلي.
تعددت مظاهر الغضب التي عبر بها الفلسطينيون عن مشاعر استيائهم تجاهه, وكان من بينها قيام بعض عناصر منظمة فتح التي يرأسها السيد ياسر عرفات.. باحراق سيارته, والاعتداء عليه بالضرب, الأمر الذي أصابه آنذاك بكسر في ذراعه!
منذ ذلك اليوم سكت الدكتور سري نسيبه, وانشغل نسبيا بالعمل الاكاديمي, وأصدر في عام91 كتابا مشتركا مع أحد أساتذة مركز جافي التابع لجامعة تل ابيب ـ اسرائيلي يميني اسمه مارك ديللو.. كان عنوانه لا مزامير ولا طبول: اقامة الدولتين حل للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ـ ألمح الكتاب إلي الفكرة التي طرحها الدكتور نسيبه أخيرا, والتي تلقي بطبيعة الحال ترحيبا واسعا من الإسرائيليين, لأنها تزيح عن صدورهم حما ثقيلا, وتريحهم من عقدة ملف اللاجئين الذي تجاوز عددهم أربعة ملايين, وقد مر الكلام آنذاك, لأنه صدر كوجهة نظر في كتاب لم يكن له تأثيره علي الرأي العام, فضلا عن أن نسيبه كان يعبر فيه عن رأيه الخاص كأكاديمي يمثل نفسه في أحسن فروضه وأبعدها.
(2)
طوال العقود التي تلت النكبة ظل التمسك بحق العودة أحد ثوابت القضية الفلسطينية, التي لم يجرؤ أحد علي العبث بها أو المساومة عليها, ومن أسف أن السيد نسيبه حين تحدث في الموضوع وصفه بأنه مطلب وليس حقا, والأول أضعف من الثاني بكثير, وبينما الحق مقدس وثابت بمقتضي ميثاق حقوق الانسان والشرعية الدولية والشرعية التاريخية, كما نري بعد قليل, فإن المطلب مجرد رغبة, مشروعة أو غير مشروعة, وهي لاتعكس حقا بالضرورة, ثم إنه يمكن المساومة عليها والتنازل عنها. فاستمرار المستعمرات في الأراضي الفلسطينية التي تعد اقامتها مخالفة للقانون الدولي, هو مطلب اسرائيلي له اهدافه الشريرة, ولايمكن أن يوضع علي قدم المساواة ولا في ذات المربع مع رغبة في عمق وأصالة حق العودة.
لكي أكون دقيقا فإن موضوع حق العودة جري المساس به علي نحو آخر, في شهر يوليو من العام الماضي, حين كان الوفد الفلسطيني في طريقه إلي محادثات كامب ديفيد, التي قيل أنها ستتناول قضايا الحل النهائي, إذ صرح أحد مستشاري الرئيس عرفات ـ خالد سلام مستشاره الاقتصادي ـ بأن موضوع حق العودة يمكن حله عن طريق صرف تعويضات للاجئين قدرها آنذاك بمبلغ30 مليار دولار, وقد انتقد هذا التصريح في حينه, ولم يؤخذ علي محمل الجد, ثم جري تجاوزه بعد الفشل الذي منيت به المحادثات, ومع ذلك ظل التصريح دالا علي أن فكرة التعويض مطروحة في الكواليس وأن هناك من يؤيدها داخل دوائر السلطة الفلسطينية.
سكت الدكتور سري نسيبه دهرا, ثم نطق علي النحو الذي رأيت! ـ وجاء كلامه مفاجئا وصادما من نواح عدة, مرة لأنه قاله في محفل اسرائيلي( الجامعة العبرية), ومرة لأنه هون من شأن العودة, ووصفها بأنها مجرد مطلب, ودعا إلي التنازل عنه. ومرة ثالثة لأنه زاد الطين بله وقال في حديثه الذي نقلته عنه نيويورك تايمز إن الانتفاضة الفلسطينية ليست سوي حالة من التشنج ملطخة بالدماء وليست ثورة شعبية, وتلك كبيرة أخري, ومرة رابعة لأن هذا الكلام صدر عنه بعد ثلاثة أيام فقط من انضمامه رسميا إلي السلطة الفلسطينية, بقرار من الرئيس عرفات, ومرة خامسة لأنه افتي في مسألة اللاجئين, بينما مسئوليته منحصرة في ملف القدس. ومرة سادسة لأنه قال كلامه هذا في توقيت بالغ السوء, بينما السياسة الشارونية تمارس بحق الشعب الفلسطيني أقسي أنواع القمع والوحشية. ومرة سابعة لأن98% من اللاجئين الفلسطينيين اعلنوا تمسكهم بحقهم في العودة إلي ديارهم, وهناك أكثر من مائتي جمعية فلسطينية تتبني الدفاع عن هذا الحق في تجمعات الفلسطينيين بمختلف أنحاء العالم. ومرة ثامنة لأن ثمة مناقشات جادة دائرة الآن حول كيفية العودة, وامكانية تحقيقها دون أن يتمثل ذلك التهديد المزعوم للإسرائيليين, وإذا به يقطع الطريق علي تلك المناقشات, ويدعو إلي التنازل جملة, هدية مجانية لإسرائيل!
(3)
هو مشهد عبثي مسكون بالمفارقة, عبثي لأن كل لاجئ في الكرة الأرضية يحق له العودة إلي وطنه, باستثناء اللاجئين الفلسطينيين الذين ينكر عليهم هذا الحق, وتتواطأ الدول الكبري لتوطينهم في أي مكان باستثناء وطنهم الأصلي, ويفرض عليهم فرضا التنازل عن ذلك الوطن أو بيعه, والمفارقة هنا تكمن في أن الإسرائيليين يتحرون استحقاقاتهم حيثما وجدت, ولا يملون في تفتيش الأوراق والوثائق القديمة لاستعادة قيمة مدخرات ومنقولات يهود أوروبا الشرقية التي اختفت منذ نصف قرن, وفي الوقت نفسه يطالبون الفلسطينيين بأن يتخلوا عن كل ما نهب منهم, بدءا بممتلكاتهم وعقاراتهم وانتهاء بوطنهم وحقهم في العودة إليه, وتبلغ المفارقة ذروتها حين نجد في اسرائيل قانونا للعودة, يسمح لكل يهودي في الكرة الأرضية بأن يصبح مواطنا في اسرائيل يتجنس ويتملك ويتمدد كيفما شاء علي أرض فلسطين, بينما تصادر حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة, وكل منهم له قريب وأسرة وعنوان في فلسطين, وبعضهم لايزال يحتفظ بمفاتيح بيوتهم هناك, سواء تلك التي هدمت ومحيت, أم بقيت واغتصبت وسكنها المستجلبون من شذاذ الآفاق!
إن المثياق العام لحقوق الانسان ينص علي حق كل مواطن في العيش في بلاده, أو تركها أو العودة إليها ومنذ النكبة ـ في عام48 ـ هناك قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ينص علي أن اللاجئين الراغبين في العودة إلي أوطانهم, والعيش بسلام مع جيرانهم, يجب أن يسمح لهم بذلك, في أول فرصة عملية ممكنة. ويجب دفع تعويض لممتلكات الذين لايرغبون في العودة, ودفع تعويض للخسائر والضرر الذي أصاب الممتلكات لإصلاحها, وارجاعها إلي أصلها, من قبل الحكومات والسلطات المسئولة, بناء علي قواعد القانون الدولي والعدالة.
وإذا تمعن المرء في القرار يلاحظ فيه ما يلي: أن خيار العودة متروك للاجئين أنفسهم, وليس لغيرهم, ـ أن العودة كانت واجبة في أول فرصة ممكنة, وقد لاحت تلك الفرصة بعد توقيع الهدنة في سنة49 ـ إن التعويض واجب في كل الأحوال, فالذين يعودون لهم الحق في التعويض عن الضرر الذي أصاب ممتلكاتهم, والذين يختارون البقاء في الخارج لهم الحق في التعويض عما تركوه ومن ثم فليس صحيحا أن اللاجئين مخيرون بين العودة أو التعويض, كما يشيع البعض, وإنما لهم الحق في الاثنين, العودة والتعويض, طبقا لنص القرار ـ ثم إن المسئول عن التعويض هو الحكومات والسلطات المسئولة, وذلك يشمل حكومة اسرائيل المؤقتة عام1948, وتلك التي أعقبتها, ومنظمات الهاجاناه والارعون والشتيرن, والصندوق القومي اليهودي وغيرها.
ظلت الأمم المتحدة علي موقفها من قضية العودة, لم تغيره, وكان آخر ما أصدرته في هذا الصدد قرار في74/11/22 ؟ أعاد تأكيد الحق غير القابل للتصرف لعودة الفلسطينيين إلي ديارهم التي اقتلعوا منها.
ثبوت الحق محسوم إذن, الأمر الذي يعد خطوة مهمة لاريب عززت اثبات المبدأ والتأكيد عليه, وهو ما استوجب نقل المناقشة إلي مستوي آخر هو: كيف؟ ـ غير أن كلام السيد نسيبه ارتد بنا إلي نقطة الصفر للأسف, وأعادنا مرة إلي السؤال: هل؟
(4)
في السادس والعشرين من شهر سبتمبر الماضي تم بقاعة وستمنستر في لندن لقاء مهم شهده جمع غفير من أعضاء مجلس العموم البريطاني والسياسيين ورجال الإعلام واعضاء المنظمات غير الحكومية المعنية بقضايا الشرق الأوسط. كان المتحدث الرئيسي في ذلك اللقاء هو الدكتور سلمان ابوسته الخبير الفلسطيني البارز, والمعروف عالميا بتخصصه في قضية اللاجئين, وصاحب الدراسات المتعددة التي ظلت العودة محورا لها, واحدثها كتاب صدر له بالانجيليزية بعنوان: من لاجئين إلي مواطنين في بلدهم. أما الذين رتبوا اللقاء مع النخبة البريطانية فقد كانوا جهات ثلاثا: مكتب الجامعة العربية في لندن, ومجلس تعزيز التفاهم العربي ـ البريطاني, ومركز العودة الفلسطيني هناك. وفيما علمت فإنه يجري الآن ترتيب لعقد لقاء آخر بين الدكتور ابوسته وبين اعضاء البرلمان الأوروبي, لكي يشرح مشروعه المتعلق بالتطبيق العملي لخطة عودة اللاجئين إلي ديارهم.
الفكرة الأساسية التي يقوم عليها مشروع الدكتور ابوسته أن عودة اللاجئين الفلسطينيين بملايينهم التي تجاوزت الأربعة, ليست حقا مقدسا فحسب, ولا هي تستند إلي القانون والشرعية فحسب, ولكنها ممكنة أيضا من الناحية العملية, دون أن ينال ذلك من وجود الإسرائيليين ودولتهم.
في الوقت نفسه فإنه يدحض بالخرائط الجوية والمعلومات الموثقة أن القري الفلسطينية التي كان يسكنها هؤلا قد اختفت ولم يعد لها أثر.
يعتمد الدكتور ابوسته في مشروعه علي كم هائل من الصور والوثائق التي سجلت كل معالم فلسطين منذ عام1871 حين امضت بعثة اكتشاف فلسطين8 سنوات لاتمام مسح شامل لكل شبر في البلاد, وإلي عامي45 و46 حين أجرت بريطانيا ـ دولة الانتداب ـ مسحا جويا شاملا أرضا لكل فلسطين, مرورا بالخرائط التي أعدتها مصلحة المساحة في عهد الانتداب(1920 ـ1998) سجلت فيها كل التغيرات التي طرأت علي فلسطين خلال تلك الفترة.
في لقاء وستمنستر عرض الخبير الفلسطيني علي الحاضرين البرلمانيين والسياسيين الانجليز24 خريطة بينت حقائق الوضع السكاني في اسرائيل, التي تشير كلها إلي الأرض التي يمكن تجهيزها خلال فترة تتراوح بين8 و10 سنوات, بحيث يمكن تعمير90% من القري المهجورة في فلسطين, كي يعود إليها سكانها الأصليون( العرب) دون أي تأثير يمس اليهود الإسرائيليين. ومن العشرة في المائة الباقية هناك7% يمكن أن يعود إليها سكانها مع بعض التعديلات, وهناك3% فقط ستواجه صعوبة في ذلك.
من النتائج المهمة التي بينتها دراسة التركيبة السكانية لإسرائيل المقسمة إلي36 اقليما طبيعيا, أن80% من اليهود يعيشون في عشرة اقاليم, مساحتها2.458 كيلومتر مربع أو12.1% من مساحة اسرائيل( الباقون يعيشون في المدن) ـ وهذه المساحة التي يعيش عليها اليهود الآن تزيد بمقدار841 كيلومترا مربعا فقط عن مساحة الأراضي التي كانت مملوكة لليهود إبان الاحتلال البريطاني. أي أن نمط اليهود في معيشة الجيتو, والالتصاق والتجمع لم تتغير, برغم توافر مساحة كبيرة من الاراضي المحتلة. ليس هذا فحسب, وإنما لايزال معظمهم يشتغل في المهن التقليدية, مثل المال والتجارة والصناعة الدقيقة, وقلة منهم التي غيرت نمط حياتها وعملت بالزراعة بالمقابل فإن الفلسطينيين يعيشون في26 من الـ36 اقليما طبيعيا في البلاد, وقد ساعد علي ذلك طبيعتهم الزراعية من ناحية, ثم ظروف الحكم العسكري التي عاشوا في ظلها, ومنعتهم من الانتقال إلي المناطق المكتظة باليهود.
(5)
أدري أن موضوع العودة تحيط به ملابسات شديدة التعقيد والحساسية, وأن المسألة لايمسها فقط كون الـ530 مدينة وقرية التي طرد منها سكانها منذ عام48, يمكن إعادة الحياة فيها أم لا. لكن ذلك لاينفي أن هناك حوارا علميا جادا يحاول اثبات امكانية تحقيق ذلك الأمل, وأن الدعوة إلي اسقاط ذلك الحق بمثابة سعي لاجهاض المحاولة, وهي تكتسب خطورتها من كونها تصدر عن طرف فلسطيني, وأخطر من ذلك أن يكون الفلسطيني مسئولا في السلطة الوطنية.
لا أحد يستطيع أن يتكهن بصدي الاستجابة لهذه الدعوة في أوساط اللاجئين الفلسطينيين, وما الذي سيفعله اولئك اللاجئون الذين يعيشون في المخيمات والمنافي منذ أكثر من نصف قرن, حين يكتشفون أنه تمت التضحية بهم وأن أملهم الذي انتظروه طويلا قد تبدد. غير أننا نستطيع أن نقول ـ بغير مبالغة إن خطوة من هذا القبيل من شأنها أن تفتح الأبواب لشرور لاحصر لها لايعرف إلا الله وحده طبيعتها ومداها.
إن السؤال الذي يحير المرء ويثير في نفسه الشكوك والهواجس هو: حين اطلق الدكتور سري نسيبه قذائفه تلك, هل كان يتحدث باسمه أم بصفته؟ وإذا كان يتحدث باسمه فقط فلماذا تم السكوت علي كلامه ولم يؤاخذ عليه, وإذا كان يتحدث بصفته مسئولا في السلطة, فلماذا لم يصحح الكلام, ولم تعلن السلطة موقفها من مسألة التنازل؟
وإذا ذهبنا إلي اسوأ الفروض وأتعسها, وكان لهذا الكلام أصل في الأجندة الرسمية الفلسطينية للتفاوض, فهل من الحكمة وحسن التدبير أن يشهر هذا التنازل علي الملأ ويتم التبرع به قبل أن تلوح في الأفق احتمالات التفاوض, في حين أن ألف باء ذلك الفن تقضي بأن ترفع الأطراف المعنية سقف استحقاقاتها إلي أبعد مدي قبل الجلوس علي الطاولة, أما إلغاء السقف بالكامل والتسليم بمطالب الآخر قبل بدء الكلام, فذلك نهج جديد لم نسمع به في عالم المفاوضات, حتي فيما بين المنتصر والمهزوم.
اللهم احم القضية الفلسطينية من بعض ابنائها, أما اعداؤها فنحن كفيلون بهم!