هويدي 23-10-2001
نحن بحاجة لأن نفتح عيوننا جيدا لما يجري حولنا, فالحملة العسكرية الانتقامية الموجهة ضد أفغانستان باسم مكافحة الإرهاب, ليست كل ما في الجعبة, وإنما هناك حربان أخريان تلوحان في الأفق, واحدة تدفع الولايات المتحدة لشنها لحساب إسرائيل في العالم العربي, والثانية أعلنت بالفعل علي الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا, إن شئت فقل إننا بصدد موسم للاغتيالات, اغتيال نظام طالبان, واغتيال الحلم الفلسطيني, واغتيال الوجود الإسلامي في الغرب.
(1)
انتشرت في الولايات المتحدة هذه الأيام, ألعاب تمارس من خلال الكمبيوتر, محورها القضاء علي نظام طالبان, واغتيال أسامة بن لادن, في اللعبة الأولي يظهر طالبان علي هيئة كائنات بدائية متوحشة, تعيش في غابة علي قهر الآخرين واستعبادهم, ويتحصنون في أبراج مسكونة بالشياطين الشريرة, التي تبدو وكأنها متحالفة معهم, ويكون هدف اللعب هو كيفية اقتحام تلك الأبراج, والقضاء علي الشياطين, ثم هدمها علي من فيها, وتطهيرها من الأرواح الشريرة.
اللعبة الثانية تظهر بن لادن باعتباره زعيم الأشرار, الذي يعيش في أماكن قذرة, ويأكل ويشرب في المراحيض, ثم ينطلق في الجبال متخفيا في كهوفها, ولكن الطفل يلاحقه بالسلاح الذي يختاره, حتي يقتله ويمزقه إربا.
الحاصل مع الصغار, حاصل بدرجة أكبر مع الكبار, إذ كما تمت تعبئة الأطفال وشحنهم بالنفور والبغض والرغبة في الانتقام من طالبان وبن لادن, فإن المجتمع الأمريكي كله جرت تعبئته علي ذلك النحو, بحيث لم يعد مسموحا للإدراك العام أن ينشغل بشيء غير هذا الموضوع, ليس ذلك فحسب, وإنما لم يعد مسموحا له أن يتعامل مع الحدث إلا من وجهة نظر واحدة, تتمثل في ضرورة الانقضاض والانتقام.
قال لي الدكتور عبدالوهاب المسيري صاحب موسوعة اليهود واليهودية, إنه كان في الولايات المتحدة أثناء وقوع الهجوم الإرهابي, وطوال أسابيع ثلاثة أمضاها هناك بعد الهجوم, ظل يتابع الصحف وقنوات التليفزيون, لكنه وجد نفسه في نهاية المطاف عاجزا عن أن يفهم حقيقة ماجري ويجري, لأن الجميع كانوا يتكلمون لغة واحدة, ويرددون معزوفة لا تتيح لأحد أن يري إلا ما يرون هم, ولم يتسن له أن يستوعب أبعاد المشهد وحقيقته, إلا بعد أن غادر الولايات المتحدة.
في تلك التجربة, أدرك أن المجتمع الأمريكي يعيش مفارقة مدهشة, إذ أنه يتمتع بدرجة عالية من الحرية والديمقراطية, إلا أن الرأي العام فيه محاصر تماما من الناحية الفكرية والسياسية, ومفروض عليه أن يتشكل علي نحو معين, وأن يتعامل مع الأحداث برؤية أحادية لا تقبل التعدد أو الاختلاف.
(2)
لقد توافقت النخبة المهيمنة علي القرار السياسي في الولايات المتحدة وانجلترا أيضا, علي ضرورة حصار العقل الجمعي, ومصادرته لحساب مساندة الحملة العسكرية, حتي إن وسائل الإعلام تلقت توجيها بالكف عن إذاعة أي تصريحات أو أخبار تتعارض مع الخط العام الذي تسير فيه السياسة الأمريكية( تم الاتصال مع رؤساء تحرير الصحف ومسئولي محطات الاذاعة والتليفزيون في واشنطون ولندن لهذا الغرض), وحينما خرجت في لندن مظاهرة حاشدة معادية للحرب, ورافعة لافتات يقول بعضها: إن الشعب الأفغاني يحتاج للطعام وليس للقنابل.. وهذه ليست حربنا, هذه المظاهرة التي شارك فيها نحو50 ألف شخص, جري التهوين من شأنها في الصحف, ورغم أن أعدادا كبيرة من الانجليز شاركوا فيها, إلا أن كاميرات التليفزيون ركزت علي البريطانيين ذوي الأصول العرقية المختلفة, الآسيويين والأفارقة, حتي تبدو وكأنها تعبير عن رأي الأقلية بين الشعب البريطاني, وحين انتقد أحد أعضاء مجلس العموم شرعية الحرب, التي اتخذ قرارها خارج نطاق الأمم المتحدة, كما أن مشاركة الحكومة البريطانية فيها لم تتم بتفويض من البرلمان, فإن هذا الكلام جري تجاهله ولم تبرزه وسائل الإعلام, التي ركزت أكثر علي تقارير الانشقاق داخل طالبان, وادعت ضعف المظاهرات التي خرجت في باكستان معارضة لموقف رئيسها برويز مشرف, وهو الذي كانت تصفه وسائل الإعلام الي عهد قريب بأنه حاكم عسكري وديكتاتور استولي علي السلطة من الحكومة المنتخبة ديمقراطيا, وبعد انضمامه الي التحالف العسكري, تراجعت كل تلك الصفات, وأصبح الجنرال مشرف رئيسا يمكن الاعتماد عليه!( هل نتذكر ما جري مع الرئيس عرفات, الذي ظل يوصف بأنه إرهابي, وحين وقع اتفاق أوسلو تحول في الإعلام بقدرة قادر إلي رجل سلام؟).
أخيرا قرأنا أن الحكومة الأمريكية اشترت جميع صور الأقمار الصناعية الخاصة بالحرب الأفغانية, التي تلتقطها سبيس إيما جيننج من قمرها إيكونوس, وهي أبرز شركة مدنية متخصصة في هذا المجال, ومن شأن هذه الخطوة أن تحجب عن كل وسائل الإعلام تلك الصور الوثائقية بالغة الأهمية, التي تسجل بشفافية لا مثيل لها حقيقة مايجري علي الأرض, لم تأبه الإدارة الأمريكية بالانتقادات التي وجهت إلي تلك الخطوة, التي تعد انتهاكا لحق الناس في المعرفة والإعلام, وهو ما يذكرنا بما جري علي نحو آخر في حرب الفوكلاند, التي شنتها بريطانيا علي الجزيرة الأرجنتينية في عام1982, حين منعت الحكومة تصوير النعوش التي تصل إلي لندن من هناك, حتي لا يصدم الناس بعدد الضحايا الذين سقطوا في المعارك, الأمر الذي خشي من تأثيره علي تأييد الرأي العام البريطاني للحملة العسكرية.
الخلاصة أننا لا نعرف بالضبط كيف تسير المعارك علي أرض أفغانستان, وليس مسموحا لنا بذلك في الوقت الراهن علي الأقل, فكل ما يصلنا هو معلومات خاضعة للمراقبة والتدقيق وللتوجيه أيضا, وبينما خرجت قناة الجزيرة علي الخطوط الحمراء المرسومة, ببثها بيانات بن لادن ورفاقه, قامت الدنيا ولم تقعد, ومارست الإدارة الأمريكية أقصي ضغوطها لوقف مثل ذلك البث, وكان الرئيس بوش بنفسه أحد الذين تحدثوا في الموضوع.
كل ما هو مطلوب منا الآن, أن نثق في أن القصف هو الحل, وأن نطمئن إلي سلامة ونجاحات الحملة العسكرية, بصواريخها الذكية وعملياتها الخاصة والجهنمية, وأن نطالع الوجه الإنساني لتلك الحملة, المتمثل في إلقاء طرود الغذاء من الجو, ثم في جهود الإغاثة والإيواء المقدمة للاجئين الأفغان.
مطلوب منا أن نتعامل مع الحدث باعتباره صراعا بين الأمريكان الأخيار والأفغان الأشرار, وأن نفهم ما يجري بأنه انتفاضة للعالم الحر( إنس مسألة حصار العقل العام ومصادرة المعلومات والصور), لاجتثاث جذور الإرهاب ومظانه الكامنة في البراري الأفغانية, وفي سفوح جبال البامير وهندوكوش ولسان واخان, ولابد أن يلفت نظرك في هذا الصدد العودة المفاجئة الي مصطلح العالم الحر, كراية ولافتة للاصطفاف, وهو الذي كان يعبر عن الاحتشاد الأمريكي في مواجهة مملكة الشر السوفيتية إبان الحرب الباردة, وقد استخرج من مستودعات عتاد التعبئة الثقافية, وصار من مفردات خطاب المواجهة الإعلامي.
(3)
التعتيم الإعلامي في العالم الحر علي ما يجري علي الأرض الأفغانية, مع الحصار المفروض علي العقل الأمريكي والغربي, لا يشكل مفارقة وحيدة في المشهد, فإطلاق الصواريخ من الطائرات تارة, وإلقاء أكياس الدقيق والطعام من طائرات أخري في طلعات موازية أو تالية, يشكل مفارقة ثانية تليفزيونية أو سينمائية بامتياز.
ثمة مفارقة ثالثة تتمثل في أنه بينما القصف مستمر, تجري الأطراف الغربية اتصالات مكثفة لترتيب إقامة نظام جديد في أفغانستان, وتستمر المشاورات حول أطراف ذلك النظام ومكوناته, كأنما صار مقبولا في القرن الحادي والعشرين ذلك النهج الذي عرفه التاريخ الإنساني في القرن التاسع عشر, فيما عرف بسياسة السفن المسلحة, يله نهج يفتح الأبواب لانقلاب في منظومة العلاقات الدولية, من شأنه أن يخول الأقوياء لأنفسهم حق اقتلاع حكومات في أقطار أخري, وفرض نظام آخر عليها متضمنا نظاما للقيم السياسية والاجتماعية يتوافق مع رغبة الأقوياء ويلقي رضاهم.
المفارقة الرابعة, أننا اعتدنا أن نري الولايات المتحدة في موقف المستكفي والمستغني عن العالم, بل في موقف الذي يسعي الآخرون الي خطب وده واستجلاب رضاه, لكننا في المشهد الراهن نجد الولايات المتحدة, وهي تخطب ود الآخرين لكي يحتشدوا تحت رايتها( لاحظ مثلا الغزل في الإسلام لجبر خواطر المسلمين والتلويح بحكاية الدولة الفلسطينية لكسب تعاطف العرب).
المفارقة الخامسة, تكمن في أن التاريخ عرف قوي عظمي اعتبرت أن قيادتها للعالم قدر مكتوب أو هبة من الله, فالرومان اعتبروا أنفسهم في موقف المسئول عن رعاية الكون وفرض القانون الروماني علي الشعوب البدائية, فيما عرف آنذاك ـ في القرن الأول قبل الميلاد ـ بالسلام الروماني, الامبراطورية البريطانية سارت علي ذات الدرب, فزعمت لنفسها أنها رسولة الرجل الأبيض الذي بعث به القدر لتحضير المتخلفين والارتقاء بهم, وهو ما أطلق عليه البعض في أوائل القرن العشرين طور السلام البريطاني.
السلامان الروماني والبريطاني, كانا في الجوهر سلسلة من الترتيبات التي استهدفت حماية المصالح الرومانية والبريطانية, من خلال إقامة أوضاع عسكرية ومدنية تخدم ذلك الهدف, غير أنه مع حلول القرن الأمريكي اختلف مفهوم السلام الأمريكي, من حيث إنه افترض مسبقا حالة من التطابق والتوافق التامين بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح الإنسانية جمعاء, الأمر الذي استدعي تصنيف كل من اعترض علي ذلك التطابق المفترض بحسبانه مضمرا العداء للولايات المتحدة, وهو ما عبر عنه شعار إذا لم تكن مع الولايات المتحدة, فأنت مع الإرهاب وواقف في مربع الأعداء, لست معاديا لواشنطن بذاتها, ولكنك معاد للحضارة وللحرية ولكل القيم الإنسانية النبيلة.
(4)
الحرب الثانية جارية علي المستوي السياسي في البيت الأبيض, وهي إسرائيلية بالدرجة الأولي, ويراد لها أن تتم بأيد أمريكية, بزعم ملاحقة بؤر الإرهاب, العربي بطبيعة الحال وليس الإسرائيلي.
فلم يعد سرا أن ثمة انقساما في الإدارة الأمريكية حول حدود الحملة علي الإرهاب, التي أصبحت تحتل أولوية قصوي ومطلقة في برنامج الرئيس بوش, بل صار مستقبله السياسي ـ تمديد رئاسته بالدرجة الأولي ـ مرهونا بالإنجاز الذي يمكن أن يحققه علي ذلك الصعيد, فهناك تيار يعبر عنه وزير الخارجية كولن باول, يدعو إلي حرب محدودة في نطاق أفغانستان, تجعل هدفها المعلن القبض علي بن لادن وقادة عناصر تنظيم القاعدة, وتستصحب في الوقت ذاته إطاحة نظام طالبان وإحلال حكومة أفغانية جديدة تحل محله, وهذا التيار لايزال مؤيدا حتي الآن بالرئيس جورج بوش.
هناك تيار آخر يقوده العدو الرئيسي لباول في الإدارة الأمريكية, وهو نائب وزير الدفاع بول وولفووتز, وهو يهودي لا يخفي تعصبه وانحيازه لإسرائيل, يدعمه في ذلك عدد كبير من مسئولي الوزارة ومجلس مستشاريها, وإلي جانب هؤلاء, هناك عدد كبير من المحافظين الجدد غير الموظفين الرسميين, وأغلب أعضاء ذلك المعسكر من اليهود الأمريكيين, الذين يقفون حراسا علي المصالح الإسرائيلية, أما غير اليهود منهم, فهم من أكبر مناصري إسرائيل في الساحة الأمريكية.
يدعو المعسكر الثاني الي حرب واسعة النطاق, تستهدف كل القوي الإسلامية والعربية المسلحة, التي تقاوم الاحتلال الإسرائيلي وترفض الانصياع للمخططات الصهيونية, وفي المقدمة من تلك القوي حزب الله في لبنان, وحركتا حماس والجهاد الإسلامي بفلسطين, كما تستهدف الحرب الدول الحاضنة والراعية لها, مثل سوريا, وتستهدف النظام العراقي بوجه أخص, داعيا إلي اسقاطه والتخلص منه.
وإذا لاحظنا أن تلك القوي لا تمارس العمل المسلح خارج نطاق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي, وأنها ليست مشتبكة بشكل مباشر مع الولايات المتحدة, كما أنها لم تعبر عن عداء حقيقي لها, فإن ذلك يكشف حقيقة تلك الحرب, التي هي إسرائيلية بحتة, تحاول مراكز القوي الصهيونية داخل الولايات المتحدة شنها تحت لافتة مكافحة الإرهاب, من باب استثمار الحملة العسكرية الراهنة, والأجواء النفسية المواتية والمؤيدة, لتصفية حسابات إسرائيل, التي ليس للولايات المتحدة فيها ناقة ولا جمل.
أول من أشار الي الانقسام في إدارة الرئيس بوش, كان بات بيوكانن, المرشح السابق للرئاسة الأمريكية, وأحد أبرز المناهضين للمحافظين الجدد, الرافضين لمحاولات الزج بالسياسة الأمريكية في خانة الاستراتيجية الإسرائيلية, وقد كتب مقالا بهذا المعني وزعه أنصاره عبر الانترنت, كما نشرت صحيفة لوس انجيلوس تايمز ملخصا له, وفيه لم يتردد الرجل في أن يصف السيناريوهين المعروضين والمتناقضين بالحرب الأمريكية والحرب الإسرائيلية, وقال صراحة: إن الحرب التي يسعي وولفووتز وأنصاره إلي شنها, هي حرب لا تخدم المصالح الأمريكية من أي باب, وإنما هي حرب إسرائيلية بحتة, تصب في المصلحة الإسرائيلية الخالصة.
(5)
سيناريو الحرب الإسرائيلية بيد أمريكية, يستهدف فتح جبهة واسعة للصراع, كونية في الأغلب, بين الولايات المتحدة والقوي الغربية المتحالفة معها والمصطفة إلي جانبها من ناحية, والعالم الإسلامي من جانب آخر.
ويعرف دعاة هذا المشروع أن حربا أمريكية ضد القوي العربية والفلسطينية والإسلامية ستشعل نار حريق لا يمكن التنبؤ بمداه, كما ستؤجج مشاعر الرفض والكراهية في المنطقة, وعلي نطاق غير مسبوق, وقد تزعزع أوضاعا مستقرة, ربما يمتد لهيبها لكي يهدد المصالح الغربية والأمريكية, وهذا بدوره سيوفر للمشروع الصهيوني فرصته التاريخية لكي يقف في موقف الحليف المباشر, والمحارب إلي جانب الولايات المتحدة والمعسكر الغربي ضد كل شعوب المنطقة.
غير أن مصير هذا السيناريو لن يحسم في واشنطون وحدها, وإنما سيتحدد ذلك المصير في ضوء الإنجاز الذي يمكن أن يتحقق في أفغانستان علي الصعيد العسكري, والأجل الزمني الذي سوف تستغرقه الحملة الراهنة, وسيؤثر علي ذلك المصير, لاريب, رد الفعل العالمي والإسلامي والعربي إزاء استمرار قصف أفغانستان, وهي كلها عناصر إما أن تكون مشجعة علي المضي في السيناريو بتوسيعه لتكرار الإنجاز في مواقع أخري, وإما أن تكون مثبطة وداعية إلي الاكتفاء بما حدث والتركيز علي الخروج من ورطة أفغانستان بأي ثمن.
هذا السيناريو البائس ليس كله خيالا, لأن الحرب علي تلك الجبهة الواسعة بدأت بالفعل, علي الصعيد الإعلامي, وهذه هي الحرب الثالثة التي سنتحدث عنها في الأسبوع المقبل بإذن الله.
نحن بحاجة لأن نفتح عيوننا جيدا لما يجري حولنا, فالحملة العسكرية الانتقامية الموجهة ضد أفغانستان باسم مكافحة الإرهاب, ليست كل ما في الجعبة, وإنما هناك حربان أخريان تلوحان في الأفق, واحدة تدفع الولايات المتحدة لشنها لحساب إسرائيل في العالم العربي, والثانية أعلنت بالفعل علي الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا, إن شئت فقل إننا بصدد موسم للاغتيالات, اغتيال نظام طالبان, واغتيال الحلم الفلسطيني, واغتيال الوجود الإسلامي في الغرب.
(1)
انتشرت في الولايات المتحدة هذه الأيام, ألعاب تمارس من خلال الكمبيوتر, محورها القضاء علي نظام طالبان, واغتيال أسامة بن لادن, في اللعبة الأولي يظهر طالبان علي هيئة كائنات بدائية متوحشة, تعيش في غابة علي قهر الآخرين واستعبادهم, ويتحصنون في أبراج مسكونة بالشياطين الشريرة, التي تبدو وكأنها متحالفة معهم, ويكون هدف اللعب هو كيفية اقتحام تلك الأبراج, والقضاء علي الشياطين, ثم هدمها علي من فيها, وتطهيرها من الأرواح الشريرة.
اللعبة الثانية تظهر بن لادن باعتباره زعيم الأشرار, الذي يعيش في أماكن قذرة, ويأكل ويشرب في المراحيض, ثم ينطلق في الجبال متخفيا في كهوفها, ولكن الطفل يلاحقه بالسلاح الذي يختاره, حتي يقتله ويمزقه إربا.
الحاصل مع الصغار, حاصل بدرجة أكبر مع الكبار, إذ كما تمت تعبئة الأطفال وشحنهم بالنفور والبغض والرغبة في الانتقام من طالبان وبن لادن, فإن المجتمع الأمريكي كله جرت تعبئته علي ذلك النحو, بحيث لم يعد مسموحا للإدراك العام أن ينشغل بشيء غير هذا الموضوع, ليس ذلك فحسب, وإنما لم يعد مسموحا له أن يتعامل مع الحدث إلا من وجهة نظر واحدة, تتمثل في ضرورة الانقضاض والانتقام.
قال لي الدكتور عبدالوهاب المسيري صاحب موسوعة اليهود واليهودية, إنه كان في الولايات المتحدة أثناء وقوع الهجوم الإرهابي, وطوال أسابيع ثلاثة أمضاها هناك بعد الهجوم, ظل يتابع الصحف وقنوات التليفزيون, لكنه وجد نفسه في نهاية المطاف عاجزا عن أن يفهم حقيقة ماجري ويجري, لأن الجميع كانوا يتكلمون لغة واحدة, ويرددون معزوفة لا تتيح لأحد أن يري إلا ما يرون هم, ولم يتسن له أن يستوعب أبعاد المشهد وحقيقته, إلا بعد أن غادر الولايات المتحدة.
في تلك التجربة, أدرك أن المجتمع الأمريكي يعيش مفارقة مدهشة, إذ أنه يتمتع بدرجة عالية من الحرية والديمقراطية, إلا أن الرأي العام فيه محاصر تماما من الناحية الفكرية والسياسية, ومفروض عليه أن يتشكل علي نحو معين, وأن يتعامل مع الأحداث برؤية أحادية لا تقبل التعدد أو الاختلاف.
(2)
لقد توافقت النخبة المهيمنة علي القرار السياسي في الولايات المتحدة وانجلترا أيضا, علي ضرورة حصار العقل الجمعي, ومصادرته لحساب مساندة الحملة العسكرية, حتي إن وسائل الإعلام تلقت توجيها بالكف عن إذاعة أي تصريحات أو أخبار تتعارض مع الخط العام الذي تسير فيه السياسة الأمريكية( تم الاتصال مع رؤساء تحرير الصحف ومسئولي محطات الاذاعة والتليفزيون في واشنطون ولندن لهذا الغرض), وحينما خرجت في لندن مظاهرة حاشدة معادية للحرب, ورافعة لافتات يقول بعضها: إن الشعب الأفغاني يحتاج للطعام وليس للقنابل.. وهذه ليست حربنا, هذه المظاهرة التي شارك فيها نحو50 ألف شخص, جري التهوين من شأنها في الصحف, ورغم أن أعدادا كبيرة من الانجليز شاركوا فيها, إلا أن كاميرات التليفزيون ركزت علي البريطانيين ذوي الأصول العرقية المختلفة, الآسيويين والأفارقة, حتي تبدو وكأنها تعبير عن رأي الأقلية بين الشعب البريطاني, وحين انتقد أحد أعضاء مجلس العموم شرعية الحرب, التي اتخذ قرارها خارج نطاق الأمم المتحدة, كما أن مشاركة الحكومة البريطانية فيها لم تتم بتفويض من البرلمان, فإن هذا الكلام جري تجاهله ولم تبرزه وسائل الإعلام, التي ركزت أكثر علي تقارير الانشقاق داخل طالبان, وادعت ضعف المظاهرات التي خرجت في باكستان معارضة لموقف رئيسها برويز مشرف, وهو الذي كانت تصفه وسائل الإعلام الي عهد قريب بأنه حاكم عسكري وديكتاتور استولي علي السلطة من الحكومة المنتخبة ديمقراطيا, وبعد انضمامه الي التحالف العسكري, تراجعت كل تلك الصفات, وأصبح الجنرال مشرف رئيسا يمكن الاعتماد عليه!( هل نتذكر ما جري مع الرئيس عرفات, الذي ظل يوصف بأنه إرهابي, وحين وقع اتفاق أوسلو تحول في الإعلام بقدرة قادر إلي رجل سلام؟).
أخيرا قرأنا أن الحكومة الأمريكية اشترت جميع صور الأقمار الصناعية الخاصة بالحرب الأفغانية, التي تلتقطها سبيس إيما جيننج من قمرها إيكونوس, وهي أبرز شركة مدنية متخصصة في هذا المجال, ومن شأن هذه الخطوة أن تحجب عن كل وسائل الإعلام تلك الصور الوثائقية بالغة الأهمية, التي تسجل بشفافية لا مثيل لها حقيقة مايجري علي الأرض, لم تأبه الإدارة الأمريكية بالانتقادات التي وجهت إلي تلك الخطوة, التي تعد انتهاكا لحق الناس في المعرفة والإعلام, وهو ما يذكرنا بما جري علي نحو آخر في حرب الفوكلاند, التي شنتها بريطانيا علي الجزيرة الأرجنتينية في عام1982, حين منعت الحكومة تصوير النعوش التي تصل إلي لندن من هناك, حتي لا يصدم الناس بعدد الضحايا الذين سقطوا في المعارك, الأمر الذي خشي من تأثيره علي تأييد الرأي العام البريطاني للحملة العسكرية.
الخلاصة أننا لا نعرف بالضبط كيف تسير المعارك علي أرض أفغانستان, وليس مسموحا لنا بذلك في الوقت الراهن علي الأقل, فكل ما يصلنا هو معلومات خاضعة للمراقبة والتدقيق وللتوجيه أيضا, وبينما خرجت قناة الجزيرة علي الخطوط الحمراء المرسومة, ببثها بيانات بن لادن ورفاقه, قامت الدنيا ولم تقعد, ومارست الإدارة الأمريكية أقصي ضغوطها لوقف مثل ذلك البث, وكان الرئيس بوش بنفسه أحد الذين تحدثوا في الموضوع.
كل ما هو مطلوب منا الآن, أن نثق في أن القصف هو الحل, وأن نطمئن إلي سلامة ونجاحات الحملة العسكرية, بصواريخها الذكية وعملياتها الخاصة والجهنمية, وأن نطالع الوجه الإنساني لتلك الحملة, المتمثل في إلقاء طرود الغذاء من الجو, ثم في جهود الإغاثة والإيواء المقدمة للاجئين الأفغان.
مطلوب منا أن نتعامل مع الحدث باعتباره صراعا بين الأمريكان الأخيار والأفغان الأشرار, وأن نفهم ما يجري بأنه انتفاضة للعالم الحر( إنس مسألة حصار العقل العام ومصادرة المعلومات والصور), لاجتثاث جذور الإرهاب ومظانه الكامنة في البراري الأفغانية, وفي سفوح جبال البامير وهندوكوش ولسان واخان, ولابد أن يلفت نظرك في هذا الصدد العودة المفاجئة الي مصطلح العالم الحر, كراية ولافتة للاصطفاف, وهو الذي كان يعبر عن الاحتشاد الأمريكي في مواجهة مملكة الشر السوفيتية إبان الحرب الباردة, وقد استخرج من مستودعات عتاد التعبئة الثقافية, وصار من مفردات خطاب المواجهة الإعلامي.
(3)
التعتيم الإعلامي في العالم الحر علي ما يجري علي الأرض الأفغانية, مع الحصار المفروض علي العقل الأمريكي والغربي, لا يشكل مفارقة وحيدة في المشهد, فإطلاق الصواريخ من الطائرات تارة, وإلقاء أكياس الدقيق والطعام من طائرات أخري في طلعات موازية أو تالية, يشكل مفارقة ثانية تليفزيونية أو سينمائية بامتياز.
ثمة مفارقة ثالثة تتمثل في أنه بينما القصف مستمر, تجري الأطراف الغربية اتصالات مكثفة لترتيب إقامة نظام جديد في أفغانستان, وتستمر المشاورات حول أطراف ذلك النظام ومكوناته, كأنما صار مقبولا في القرن الحادي والعشرين ذلك النهج الذي عرفه التاريخ الإنساني في القرن التاسع عشر, فيما عرف بسياسة السفن المسلحة, يله نهج يفتح الأبواب لانقلاب في منظومة العلاقات الدولية, من شأنه أن يخول الأقوياء لأنفسهم حق اقتلاع حكومات في أقطار أخري, وفرض نظام آخر عليها متضمنا نظاما للقيم السياسية والاجتماعية يتوافق مع رغبة الأقوياء ويلقي رضاهم.
المفارقة الرابعة, أننا اعتدنا أن نري الولايات المتحدة في موقف المستكفي والمستغني عن العالم, بل في موقف الذي يسعي الآخرون الي خطب وده واستجلاب رضاه, لكننا في المشهد الراهن نجد الولايات المتحدة, وهي تخطب ود الآخرين لكي يحتشدوا تحت رايتها( لاحظ مثلا الغزل في الإسلام لجبر خواطر المسلمين والتلويح بحكاية الدولة الفلسطينية لكسب تعاطف العرب).
المفارقة الخامسة, تكمن في أن التاريخ عرف قوي عظمي اعتبرت أن قيادتها للعالم قدر مكتوب أو هبة من الله, فالرومان اعتبروا أنفسهم في موقف المسئول عن رعاية الكون وفرض القانون الروماني علي الشعوب البدائية, فيما عرف آنذاك ـ في القرن الأول قبل الميلاد ـ بالسلام الروماني, الامبراطورية البريطانية سارت علي ذات الدرب, فزعمت لنفسها أنها رسولة الرجل الأبيض الذي بعث به القدر لتحضير المتخلفين والارتقاء بهم, وهو ما أطلق عليه البعض في أوائل القرن العشرين طور السلام البريطاني.
السلامان الروماني والبريطاني, كانا في الجوهر سلسلة من الترتيبات التي استهدفت حماية المصالح الرومانية والبريطانية, من خلال إقامة أوضاع عسكرية ومدنية تخدم ذلك الهدف, غير أنه مع حلول القرن الأمريكي اختلف مفهوم السلام الأمريكي, من حيث إنه افترض مسبقا حالة من التطابق والتوافق التامين بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح الإنسانية جمعاء, الأمر الذي استدعي تصنيف كل من اعترض علي ذلك التطابق المفترض بحسبانه مضمرا العداء للولايات المتحدة, وهو ما عبر عنه شعار إذا لم تكن مع الولايات المتحدة, فأنت مع الإرهاب وواقف في مربع الأعداء, لست معاديا لواشنطن بذاتها, ولكنك معاد للحضارة وللحرية ولكل القيم الإنسانية النبيلة.
(4)
الحرب الثانية جارية علي المستوي السياسي في البيت الأبيض, وهي إسرائيلية بالدرجة الأولي, ويراد لها أن تتم بأيد أمريكية, بزعم ملاحقة بؤر الإرهاب, العربي بطبيعة الحال وليس الإسرائيلي.
فلم يعد سرا أن ثمة انقساما في الإدارة الأمريكية حول حدود الحملة علي الإرهاب, التي أصبحت تحتل أولوية قصوي ومطلقة في برنامج الرئيس بوش, بل صار مستقبله السياسي ـ تمديد رئاسته بالدرجة الأولي ـ مرهونا بالإنجاز الذي يمكن أن يحققه علي ذلك الصعيد, فهناك تيار يعبر عنه وزير الخارجية كولن باول, يدعو إلي حرب محدودة في نطاق أفغانستان, تجعل هدفها المعلن القبض علي بن لادن وقادة عناصر تنظيم القاعدة, وتستصحب في الوقت ذاته إطاحة نظام طالبان وإحلال حكومة أفغانية جديدة تحل محله, وهذا التيار لايزال مؤيدا حتي الآن بالرئيس جورج بوش.
هناك تيار آخر يقوده العدو الرئيسي لباول في الإدارة الأمريكية, وهو نائب وزير الدفاع بول وولفووتز, وهو يهودي لا يخفي تعصبه وانحيازه لإسرائيل, يدعمه في ذلك عدد كبير من مسئولي الوزارة ومجلس مستشاريها, وإلي جانب هؤلاء, هناك عدد كبير من المحافظين الجدد غير الموظفين الرسميين, وأغلب أعضاء ذلك المعسكر من اليهود الأمريكيين, الذين يقفون حراسا علي المصالح الإسرائيلية, أما غير اليهود منهم, فهم من أكبر مناصري إسرائيل في الساحة الأمريكية.
يدعو المعسكر الثاني الي حرب واسعة النطاق, تستهدف كل القوي الإسلامية والعربية المسلحة, التي تقاوم الاحتلال الإسرائيلي وترفض الانصياع للمخططات الصهيونية, وفي المقدمة من تلك القوي حزب الله في لبنان, وحركتا حماس والجهاد الإسلامي بفلسطين, كما تستهدف الحرب الدول الحاضنة والراعية لها, مثل سوريا, وتستهدف النظام العراقي بوجه أخص, داعيا إلي اسقاطه والتخلص منه.
وإذا لاحظنا أن تلك القوي لا تمارس العمل المسلح خارج نطاق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي, وأنها ليست مشتبكة بشكل مباشر مع الولايات المتحدة, كما أنها لم تعبر عن عداء حقيقي لها, فإن ذلك يكشف حقيقة تلك الحرب, التي هي إسرائيلية بحتة, تحاول مراكز القوي الصهيونية داخل الولايات المتحدة شنها تحت لافتة مكافحة الإرهاب, من باب استثمار الحملة العسكرية الراهنة, والأجواء النفسية المواتية والمؤيدة, لتصفية حسابات إسرائيل, التي ليس للولايات المتحدة فيها ناقة ولا جمل.
أول من أشار الي الانقسام في إدارة الرئيس بوش, كان بات بيوكانن, المرشح السابق للرئاسة الأمريكية, وأحد أبرز المناهضين للمحافظين الجدد, الرافضين لمحاولات الزج بالسياسة الأمريكية في خانة الاستراتيجية الإسرائيلية, وقد كتب مقالا بهذا المعني وزعه أنصاره عبر الانترنت, كما نشرت صحيفة لوس انجيلوس تايمز ملخصا له, وفيه لم يتردد الرجل في أن يصف السيناريوهين المعروضين والمتناقضين بالحرب الأمريكية والحرب الإسرائيلية, وقال صراحة: إن الحرب التي يسعي وولفووتز وأنصاره إلي شنها, هي حرب لا تخدم المصالح الأمريكية من أي باب, وإنما هي حرب إسرائيلية بحتة, تصب في المصلحة الإسرائيلية الخالصة.
(5)
سيناريو الحرب الإسرائيلية بيد أمريكية, يستهدف فتح جبهة واسعة للصراع, كونية في الأغلب, بين الولايات المتحدة والقوي الغربية المتحالفة معها والمصطفة إلي جانبها من ناحية, والعالم الإسلامي من جانب آخر.
ويعرف دعاة هذا المشروع أن حربا أمريكية ضد القوي العربية والفلسطينية والإسلامية ستشعل نار حريق لا يمكن التنبؤ بمداه, كما ستؤجج مشاعر الرفض والكراهية في المنطقة, وعلي نطاق غير مسبوق, وقد تزعزع أوضاعا مستقرة, ربما يمتد لهيبها لكي يهدد المصالح الغربية والأمريكية, وهذا بدوره سيوفر للمشروع الصهيوني فرصته التاريخية لكي يقف في موقف الحليف المباشر, والمحارب إلي جانب الولايات المتحدة والمعسكر الغربي ضد كل شعوب المنطقة.
غير أن مصير هذا السيناريو لن يحسم في واشنطون وحدها, وإنما سيتحدد ذلك المصير في ضوء الإنجاز الذي يمكن أن يتحقق في أفغانستان علي الصعيد العسكري, والأجل الزمني الذي سوف تستغرقه الحملة الراهنة, وسيؤثر علي ذلك المصير, لاريب, رد الفعل العالمي والإسلامي والعربي إزاء استمرار قصف أفغانستان, وهي كلها عناصر إما أن تكون مشجعة علي المضي في السيناريو بتوسيعه لتكرار الإنجاز في مواقع أخري, وإما أن تكون مثبطة وداعية إلي الاكتفاء بما حدث والتركيز علي الخروج من ورطة أفغانستان بأي ثمن.
هذا السيناريو البائس ليس كله خيالا, لأن الحرب علي تلك الجبهة الواسعة بدأت بالفعل, علي الصعيد الإعلامي, وهذه هي الحرب الثالثة التي سنتحدث عنها في الأسبوع المقبل بإذن الله.