هويدي 31-7-2001
وضع حجر الأساس لبناء ما سمي بالهيكل الثالث أمام إحدي بوابات الحرم القدسي هو الخطوة الأولي في محاولة تلبيس الأسطورة ثياب الحقيقة, وهو أمر ينبغي ألا يستهان به, فأرض الميعاد ذاتها أسطورة, كما أن الكثير من أوهام وخيالات الأمس تحولت اليوم إلي حقائق شاخصة, والعبرة ليست في كون الذي يراودك حلما أم حقيقة, لكنها في مدي ما تتمتع به من إرادة وإصرار علي بلوغ ما تريد, لأنك بتلك الإرادة تستطيع أن تصنع المعجزة التي تحيل الحلم حقيقة. وقضية الساعة ليست فقط ما يفعله الإسرائيليون, ولكنها أيضا ـ وبالدرجة الأولي ـ فيما سيفعله العرب والمسلمون دفاعا عن حرمة مقدساتهم.
(1)
في الأسطورة أن هيكل سليمان الذي دمره الرومان في سنة70 بعد الميلاد لن يبني علي الأرض, وإنما سيهبط من الجنة, أي سيأتي من السماء كامل الأوصاف ومجللا بالمجد, ومهيأ بكل التجهيزات اللازمة الثابتة في سفر الخروج من أثاث وديكورات وأقمشة وزينة وثياب للكهنة. وأدواته ومذبحته والذبائح المقدسة علي أعتابه, ومغسلته وأبخرته... إلخ.
غير أنه بعد سقوط الفرس في أيدي الإسرائيليين عام67 ـ الذي اعتبره المتدينون معجزة إلهية ـ ارتفعت الأصوات بين غلاة الأصوليين اليهود, داعية إلي إعادة بناء الهيكل الثالث, دونما انتظار لهبوطه من السماء, فيما أطلقوا عليه نظرية إعمال يد الله, أي تنفيذ المشيئة الإلهية باستباق الوعد. وفحوي هذه النظرية هو السعي إلي توريط الرب بالدفاع عن شعبه المختار, إذا احتاج الأمر إلي تدخله( لاحظ أنهم يتحدثون عن الرب بغير توقير او احتشام). وحسب ما أشاعه الحاخامات بينهم فإنهم إذا ما شرعوا في نسف المسجد الكريه الذي يزعمون أنه مشيد فوق الهيكل المقدس( المقصود هو المسجد الأقصي) وثارت ثائرة المسلمين من جراء ذلك, فقاموا بهجوم قد يعرض إسرائيل للخطر. ففي هذه الحالة لن يبقي أمام الرب خيار إذ لن يكون أمامه سوي التدخل لإنقاذ شعبه ومدينته المقدسة وبذلك يحقق التوريط المراد منه( طبقا لكلام الحاخام) ارئييل ـ أحد الغلاة وصاحب كتاب أوديسا المعبد الثالث الذي صدر بالإنجليزية وشرح فيه مكونات المعبد وأهميته لليهود ـ فإن( فريضة البناء مازالت حية بين اليهود وهي واجب علي كل جيل, وتنتظر من يطبقها.
باستقرار هذا المفهوم في الادراك اليهودي, تحول هدم المسجد وبناء المعبد الي امر وتكليف إلهيين, يتعين علي المتدينين النهوض بهما ـ وهناك حوالي15 منظمة يهودية متطرفة تعمل في إسرائيل والولايات المتحدة, إعدادا لهذه المهمة.
الي عهد قريب كان عدد أحباء الهيكل لا يتجاوز عشرات من النشطاء المتوزعين علي حركات ليس لها نفوذ يذكر, إلا أن السنوات الخمس الأخيرة التي تصاعد فيها بشكل ملحوظ نفوذ الجماعات اليهودية الأصولية, وتنامي بشكل مواز دورها في الحياة العامة والسياسية شهدت تزايدا كبيرا في اعداد نشطاء تلك الجماعات ومؤيديها, كما تنامي التعاطف الجماهيري مع فكرة تدمير المسجد الأقصي وقبة الصخرة.
(2)
في مقابلة مع صحفية جيروساليم بوست الأسبوعية(1 نوفمبر1996) صرح نوام ليفنات من زعماء واحدة من تلك الحركات( اسمها حاي في قايم( أي حي وقائم) بأنه يتطلع الي وضع يمكن فيه نسف القبة الذهبية علي جبل الهيكل والإطاحة بها الي عنان السماء, واستطرد موضحا فكرته بقوله إذا توجه ثلاثة أشخاص لنسف القبة الذهبية فسوف يكونون مجرد مجانين. واذا فعلها ثلاثون شخصا فسوف يكون هذا تنظيما سريا وان كانوا ثلاثمائة فهم يشكلون حركة, اما اذا كانوا ثلاثة آلاف فهذا يعد ثورة.. إن الأمر كله يعتمد علي عدد من يشتركون في هذا العمل والأمل الذي أصبو إليه هو حشد قوة جماهيرية لتنفيذه.
هذا ما حدث علي أرض الواقع, فأول مؤتمر علني لمنظمات جبل الهيكل( يسمونه العيد الأول للهيكل) عقد في شهر أبريل عام1990, ولم يزد عدد المشاركين فيه علي60 شخصا في عام97( المؤتمر السابع) أصبح عدد المشاركين ألفا, أصبحوا ألفين في عام98 ثم أربعة آلاف في سنة99. وفي شهر أغسطس عام2000 نظمت مظاهرة من أجل جبل الهيكل امام بوابة الأسود, اشترك فيها خمسة آلاف يهودي.
أهم خطوة عملية اتخذت لتنفيذ المشروع كانت إنشاء معهد بناء الهيكل في عام86, الذي يعتمد في تمويله علي عدة جهات حكومية( وهو ما يدل علي ان المسألة ليست وقفا علي المتطرفين, وانما هي سياسة حكومية جند لها أولئك المتطرفون) من هذه الجهات وزارات الشئون الدينية والسياحة والتربية وبلدية القدس.
أقيم المعهد في القدس القديمة بمبادرة من الحاخام المتطرف إسرائيل ارئييل الذي اشرنا الي اسمه توا, وللعلم فإن هذا الحاخام كان من مؤيدي باروخ جولدشتاين سفاح الحرم الإبراهيمي, وقد وصفه بأنه شهيد حرب من أجل أرض إسرائيل.
يضم معهد الهيكل أكثر من20 باحثا وعالما في مختلف فروع المعرفة وهم يستخدمون الحاسب الآلي والتكنولوجيا المتطورة لرصد جميع المعلومات المتعلقة بالهيكل ومستلزمات شعائر وغير ذلك من الصفات التوراتية القديمة.
ولاستكمال اخراج المشهد, فإن حاخامات اليهود أعلنوا في العام الماضي عن ميلاد بقرة حمراء في كيبوتز بالقرب من مدينة حيفا تتطابق اوصافها مع مواصفات البقرة الحمراء المقدسة المذكورة في التوراة, وهي التي يفترض ان يتم ذبحها وإحراقها قبل الشروع في بناء الهيكل, وفي الوقت ذاته فإن الحاخامات الأطهار الذين سيتولون شئون الهيكل قد تم توفيرهم, وهم الذين يشترط في الواحد منهم الا يكون قد ارتكب خطيئة واحدة طيلة حياته!.
(3)
بعد هزيمة67 وتمام احتلال مدينة القدس بدت محاولات غلاة اليهود اقتحام المسجد الأقصي وتخريبه, وفي احد فصول كتاب حاخامات وجنرالات الدين والدولة في إسرائيل للأستاذ احمد بهاء الدين شعبان بيان تاريخي بتلك الاعتداءات التي كان من أهمها ما يلي:
* في21 أغسطس عام69 اشعل مجموعة من المتطرفين اليهود النار في المسجد الأقصي, مما اسفر عن إحراق1500 متر مربع من اجمالي مساحة المسجد التي تبلغ4400 متر, وأدي الي تدمير الجناح الشرقي بالكامل والسقف الجنوبي للمسجد ومنبر السلطان نور الدين ومنبر ومحراب صلاح الدين, وقد نفذ عملية الحريق يهودي من اصل استرالي اسمه مايكل دوهان, مستعينا بإحدي العصابات الإرهابية, وقد أحدث الحريق صدمة قوية في العالم الإسلامي, ادت الي عقد مؤتمر القمة الإسلامي بالرباط لأول مرة في العام ذاته, وهو المؤتمر الذي ولدت فيه منظمة المؤتمر الإسلامي الحالية.
* في يناير1977 هاجمت مجموعة يهودية مسلحة بكميات هائلة من المتفجرات التي يستخدمها الجيش الاسرائيلي المسجد الأقصي وقالت صحيفة هارتس يومها ان مصادر اسرائيلية اعترفت باشتراك عناصر من الجيش في تنفيذ هذه العملية التي كان هدفها تفجير المسجد الأقصي, وسبق الهجوم بيان من منظمة معروفة باسم تي ان تي اعلن فيها زعيمها الحاخام مردخاي الياهو ان علي الحكومة الإسرائيلية بناء هيكل سليمان علي أنقاض المسجد الأقصي دون إبطاء.
* في شهر مايو عام1980 وضع الإرهابي الشهير الحاخام مائير كاهانا اكثر من طن من المتفجرات داخل المسجد الأقصي وقد حوكم كاهانا مع مساعده باروخ جرين وعوقبا بالحبس ستة أشهر فقط.
* وفي5 مارس عام1983 اكتشف الحراس عبوة ناسفة ضخمة بجوار المسجد الأقصي استهدف واضعوها تدميره.
* في يوم10 مارس عام1983 قامت مجموعة من45 يهوديا من أتباع ثلاث منظمات إرهابية هي جوش ايمونيم وكاخ وامناء جبل البيت, باقتحام المسجد الأقصي من خلال ثغرة أحدثتها الحفريات التي تجريها سلطات الاحتلال الصهيوني تحت اساساته, وقد تزعم الهجوم الارهابيان مائير كاهانا واسرائيل ارائيل رئيس مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة.
* في العام نفسه يوم7 يونيو اقتحم30 يهوديا من اعضاء منظمة جوش ايمونيم الارهابية المسجد الأقصي واقاموا احتفالا دينيا بجوار حائط المبكي إحياء لما سمي بـ توحيد القدس.
* في15 يناير1988 اقتحمت عناصر مسلحة من قوات جيش الدفاع الإسرائيلي المسجد الأقصي, وقتلت28 مواطنا فلسطينيا وأصابت115 آخرين بجروح.
* في يوم28 أبريل عام1989 نظمت منظمة جوش ايمونيم الارهابية مسيرة لاقتحام المسجد الأقصي شارك فيها بضعة آلاف ويومها اطلق مفتي القدس الراحل سعد الدين العلمي نداء من فوق المنابر والمآذن يدعو المسلمين الي الدفاع عن الحرم, فاندفع آلاف من ابناء القدس الي المسجد وافترشوا ساحاته ونشبت بينهم وبين الصهاينة معارك شوارع عنيفة.
* في يوم8 أكتوبر عام1990 تزعم الارهابي جروشون سلمون جماعة امناء جبل الهيكل في محاولة لاقتحام الحرم القدسي فتصدي لهم المصلون وتدخلت قوات الاحتلال واطلقت النار حيث استشهد22 من المصلين واصيب المئات منهم سقطوا مضرجين بدمائهم في ساحة المسجد الأقصي في مذبحة بشعة.
وفي ذات الفترة اقدمت جماعة جوش ايمونيم علي حفر نفق يمتد من حائط البراق حتي ساحة القدس الشريف, وقد أبطل حراس المسجد من المسلمين هذه المحاولة.
(4)
لم يتوقف العدوان علي المقدسات بعد توقيع اتفاقيات السلام.
* ففي أغسطس عام1995 سمحت المحكمة العليا الاسرائيلية لجماعة من امناء جبل الهيكل بزيارة المسجد الأقصي والقيام بطقوسها الدينية في حرمة وهو ما رفضه الشعب الفلسصطيني ورأوا فيه استفزازا كبيرا. وادان مجلس وزراء السلطة الفلسطينية قرار المحكمة مؤكدا ان القدس بمقدساتها الاسلامية والمسيحية هي اراض محتلة ليس لأي محكمة اية سلطة عليها ولا يجوز لها تقرير وضعها اوالبت في شأنها, وفي الوقت ذاته دعت وزارة الاعلام والثقافة الفلسطينية المواطنين والمسلمين في القدس الي التوجه الي المسجد الاقصي والصلاة فيه في مواجهة قرار المحكمة الاسرائيلية.
* وشهدت الايام الاخيرة من شهر نوفمبر عام1995 محاكمة متطرف اصولي اسرائيلي هو إيال كيني25 عاما بتهمة الاعداد لاطلاق صاروخ علي مسجد الصخرة قرب المسجد الأقصي بعد ان تدرب علي هذا الامر مرارا في ارض خلاء وقد اعلن ايال الذي عثر في منزله علي اسلحة وصور لفدائيين فلسطينيين مطلوبين للأمن الاسرائيلي, بأن قانون التوراة يجب ان يسود علي القانون المدني في اسرائيل, وقد صاح مواجها المحكمة انه هراء تماما انا لا اقبل حكمكم ولا التزم الا بأحكام الشريعة.. فما علاقة القانون البريطاني بي.
* وفي اواخر عام1995 اعلنت اسرائيل الاستمرار في اجراء حفريات اثرية تحت المسجد الأقصي, الغرض منها البحث عن بقايا الهيكل المزعوم وهي الحفريات التي تضعف من اساسات المسجد وتهدد بانهياره.
في العام الماضي قام شارون بزيارته للحرم القدسي التي اسهمت في تفجير الانتفاضة الفلسطينية المستمرة الي الآن, وهو الأمر الذي شجع الحاخامات علي اصدار فتوي قبل عشرة ايام سمحت لمجموعة امناء الهيكل التي يرأسها الضابط السابق في الجيش الاسرائيلي جيرشون سالومون, بالصلاة داخل باحة الحرم فحملها قائد المجموعة وتوجهوا بها الي الشرطة, طالبين السماح لهم بوضع حجر الأساس للهيكل كخطوة اولي في مسيرة اعادة بنائه. ولكن الشرطة رفضت الأخذ بالفتوي لاعتبارات تتعلق بالأمن العام. فاتجهوا الي المحكمة العليا, التي رفضت السماح لهم بدخول باحة الحرم, باعتبار ان من شأن ذلك استفزاز مشاعر المسلمين, لكنها في الوقت ذاته سمحت لهم بأن يضعوا حجر الأساس في مكان قريب علي بعد30 مترا من باب المغاربة للحرم القدسي, وبمحاذاة حائط البراق. وفضلا عن أن المنطقة التي حددتها المحكمة هي في الاساس وقف اسلامي فإن وضع حجر الاساس فيها يعد خطوة للانقضاض علي الحرم ذاته. علما بأن صحيفة هآرتس ذكرت ان المتطرفين اليهود سيحاولون الدخول الي الحرم متنكرين في ثياب عربية, وان بعضهم يخطط لسكب مواد كيماوية علي مفاصل الحجارة والبلاط داخل الحرم, بهدف تفكيك الأسمنت وجعله ينهار بمضي الوقت.
(5)
ماذا سيفعل العرب والمسلمون؟
ان احدا لا يستطيع ان يطالب الفلسطينيين بأكثر مما يفعلون, ذلك انني لا اعرف في تاريخنا العربي كله تجسيدا لمعني الفداء كذلك الذي يقدمه الشعب الفلسطيني بأسره, الذي وصلت مقاومته الي مستوي العطاء الكلي, بما في ذلك الدم والروح, ناهيك عن كل ما عدا ذلك.
عندما احترق جانب من المسجد الأقصي عام69 هبت الأمة الإسلامية واجتمع قادتها في الرباط ومن اسف ان القيادة الفلسطينية فشلت في عام2001 في الدعوة الي قمة عربية طارئة للنظر فيما يجري في فلسطين الآن.
اغلب الظن ان الاسرائيليين سينتظرون رد الفعل العربي والإسلامي, وانهم ارادوا بهذه الخطوة الأخيرة اختبار ذلك الرد, فإذا جاء ضعيفا ومتهافتا, مضوا قدما في بناء الهيكل وكسبوا بذلك الكثير, ولابد ان يعزز ذلك من شعبية وجماهيرية رئيس الوزراء أرييل شارون, فضلا عن ان ذلك سيقوي مركزه في انتخابات الليكود القادمة في مواجهة منافسه نيتانياهو لأنه سيخوض معركته علي رئاسة الحزب وهو ضامن لأصوات اليمين بمختلف شرائحه وطبقاته, اما اذا جاء رد الفعل شديدا ومورست ضغوط دولية قوية علي الحكومة الإسرائيلية نتيجة للاتصالات العربية مع الأصدقاء المفترضين, فإن شارون في هذه الحالة يمكن ان يوقف البناء او يؤجله, وربما تباهي في ذلك بأنه يوقف المتطرفين عند حدهم, ويطالب عرفات والفلسطينيين بسلوك مماثل لوقف المتطرفين الفلسطينيين, وهو بذلك يحسن صورته ويقدم نفسه باعتباره السياسي الحكيم الذي يمارس ضبط النفس في مواجهة العنف الفلسطيني.
ويظل السؤال عالقا, ماذا سيفعل العرب والمسلمون؟
وضع حجر الأساس لبناء ما سمي بالهيكل الثالث أمام إحدي بوابات الحرم القدسي هو الخطوة الأولي في محاولة تلبيس الأسطورة ثياب الحقيقة, وهو أمر ينبغي ألا يستهان به, فأرض الميعاد ذاتها أسطورة, كما أن الكثير من أوهام وخيالات الأمس تحولت اليوم إلي حقائق شاخصة, والعبرة ليست في كون الذي يراودك حلما أم حقيقة, لكنها في مدي ما تتمتع به من إرادة وإصرار علي بلوغ ما تريد, لأنك بتلك الإرادة تستطيع أن تصنع المعجزة التي تحيل الحلم حقيقة. وقضية الساعة ليست فقط ما يفعله الإسرائيليون, ولكنها أيضا ـ وبالدرجة الأولي ـ فيما سيفعله العرب والمسلمون دفاعا عن حرمة مقدساتهم.
(1)
في الأسطورة أن هيكل سليمان الذي دمره الرومان في سنة70 بعد الميلاد لن يبني علي الأرض, وإنما سيهبط من الجنة, أي سيأتي من السماء كامل الأوصاف ومجللا بالمجد, ومهيأ بكل التجهيزات اللازمة الثابتة في سفر الخروج من أثاث وديكورات وأقمشة وزينة وثياب للكهنة. وأدواته ومذبحته والذبائح المقدسة علي أعتابه, ومغسلته وأبخرته... إلخ.
غير أنه بعد سقوط الفرس في أيدي الإسرائيليين عام67 ـ الذي اعتبره المتدينون معجزة إلهية ـ ارتفعت الأصوات بين غلاة الأصوليين اليهود, داعية إلي إعادة بناء الهيكل الثالث, دونما انتظار لهبوطه من السماء, فيما أطلقوا عليه نظرية إعمال يد الله, أي تنفيذ المشيئة الإلهية باستباق الوعد. وفحوي هذه النظرية هو السعي إلي توريط الرب بالدفاع عن شعبه المختار, إذا احتاج الأمر إلي تدخله( لاحظ أنهم يتحدثون عن الرب بغير توقير او احتشام). وحسب ما أشاعه الحاخامات بينهم فإنهم إذا ما شرعوا في نسف المسجد الكريه الذي يزعمون أنه مشيد فوق الهيكل المقدس( المقصود هو المسجد الأقصي) وثارت ثائرة المسلمين من جراء ذلك, فقاموا بهجوم قد يعرض إسرائيل للخطر. ففي هذه الحالة لن يبقي أمام الرب خيار إذ لن يكون أمامه سوي التدخل لإنقاذ شعبه ومدينته المقدسة وبذلك يحقق التوريط المراد منه( طبقا لكلام الحاخام) ارئييل ـ أحد الغلاة وصاحب كتاب أوديسا المعبد الثالث الذي صدر بالإنجليزية وشرح فيه مكونات المعبد وأهميته لليهود ـ فإن( فريضة البناء مازالت حية بين اليهود وهي واجب علي كل جيل, وتنتظر من يطبقها.
باستقرار هذا المفهوم في الادراك اليهودي, تحول هدم المسجد وبناء المعبد الي امر وتكليف إلهيين, يتعين علي المتدينين النهوض بهما ـ وهناك حوالي15 منظمة يهودية متطرفة تعمل في إسرائيل والولايات المتحدة, إعدادا لهذه المهمة.
الي عهد قريب كان عدد أحباء الهيكل لا يتجاوز عشرات من النشطاء المتوزعين علي حركات ليس لها نفوذ يذكر, إلا أن السنوات الخمس الأخيرة التي تصاعد فيها بشكل ملحوظ نفوذ الجماعات اليهودية الأصولية, وتنامي بشكل مواز دورها في الحياة العامة والسياسية شهدت تزايدا كبيرا في اعداد نشطاء تلك الجماعات ومؤيديها, كما تنامي التعاطف الجماهيري مع فكرة تدمير المسجد الأقصي وقبة الصخرة.
(2)
في مقابلة مع صحفية جيروساليم بوست الأسبوعية(1 نوفمبر1996) صرح نوام ليفنات من زعماء واحدة من تلك الحركات( اسمها حاي في قايم( أي حي وقائم) بأنه يتطلع الي وضع يمكن فيه نسف القبة الذهبية علي جبل الهيكل والإطاحة بها الي عنان السماء, واستطرد موضحا فكرته بقوله إذا توجه ثلاثة أشخاص لنسف القبة الذهبية فسوف يكونون مجرد مجانين. واذا فعلها ثلاثون شخصا فسوف يكون هذا تنظيما سريا وان كانوا ثلاثمائة فهم يشكلون حركة, اما اذا كانوا ثلاثة آلاف فهذا يعد ثورة.. إن الأمر كله يعتمد علي عدد من يشتركون في هذا العمل والأمل الذي أصبو إليه هو حشد قوة جماهيرية لتنفيذه.
هذا ما حدث علي أرض الواقع, فأول مؤتمر علني لمنظمات جبل الهيكل( يسمونه العيد الأول للهيكل) عقد في شهر أبريل عام1990, ولم يزد عدد المشاركين فيه علي60 شخصا في عام97( المؤتمر السابع) أصبح عدد المشاركين ألفا, أصبحوا ألفين في عام98 ثم أربعة آلاف في سنة99. وفي شهر أغسطس عام2000 نظمت مظاهرة من أجل جبل الهيكل امام بوابة الأسود, اشترك فيها خمسة آلاف يهودي.
أهم خطوة عملية اتخذت لتنفيذ المشروع كانت إنشاء معهد بناء الهيكل في عام86, الذي يعتمد في تمويله علي عدة جهات حكومية( وهو ما يدل علي ان المسألة ليست وقفا علي المتطرفين, وانما هي سياسة حكومية جند لها أولئك المتطرفون) من هذه الجهات وزارات الشئون الدينية والسياحة والتربية وبلدية القدس.
أقيم المعهد في القدس القديمة بمبادرة من الحاخام المتطرف إسرائيل ارئييل الذي اشرنا الي اسمه توا, وللعلم فإن هذا الحاخام كان من مؤيدي باروخ جولدشتاين سفاح الحرم الإبراهيمي, وقد وصفه بأنه شهيد حرب من أجل أرض إسرائيل.
يضم معهد الهيكل أكثر من20 باحثا وعالما في مختلف فروع المعرفة وهم يستخدمون الحاسب الآلي والتكنولوجيا المتطورة لرصد جميع المعلومات المتعلقة بالهيكل ومستلزمات شعائر وغير ذلك من الصفات التوراتية القديمة.
ولاستكمال اخراج المشهد, فإن حاخامات اليهود أعلنوا في العام الماضي عن ميلاد بقرة حمراء في كيبوتز بالقرب من مدينة حيفا تتطابق اوصافها مع مواصفات البقرة الحمراء المقدسة المذكورة في التوراة, وهي التي يفترض ان يتم ذبحها وإحراقها قبل الشروع في بناء الهيكل, وفي الوقت ذاته فإن الحاخامات الأطهار الذين سيتولون شئون الهيكل قد تم توفيرهم, وهم الذين يشترط في الواحد منهم الا يكون قد ارتكب خطيئة واحدة طيلة حياته!.
(3)
بعد هزيمة67 وتمام احتلال مدينة القدس بدت محاولات غلاة اليهود اقتحام المسجد الأقصي وتخريبه, وفي احد فصول كتاب حاخامات وجنرالات الدين والدولة في إسرائيل للأستاذ احمد بهاء الدين شعبان بيان تاريخي بتلك الاعتداءات التي كان من أهمها ما يلي:
* في21 أغسطس عام69 اشعل مجموعة من المتطرفين اليهود النار في المسجد الأقصي, مما اسفر عن إحراق1500 متر مربع من اجمالي مساحة المسجد التي تبلغ4400 متر, وأدي الي تدمير الجناح الشرقي بالكامل والسقف الجنوبي للمسجد ومنبر السلطان نور الدين ومنبر ومحراب صلاح الدين, وقد نفذ عملية الحريق يهودي من اصل استرالي اسمه مايكل دوهان, مستعينا بإحدي العصابات الإرهابية, وقد أحدث الحريق صدمة قوية في العالم الإسلامي, ادت الي عقد مؤتمر القمة الإسلامي بالرباط لأول مرة في العام ذاته, وهو المؤتمر الذي ولدت فيه منظمة المؤتمر الإسلامي الحالية.
* في يناير1977 هاجمت مجموعة يهودية مسلحة بكميات هائلة من المتفجرات التي يستخدمها الجيش الاسرائيلي المسجد الأقصي وقالت صحيفة هارتس يومها ان مصادر اسرائيلية اعترفت باشتراك عناصر من الجيش في تنفيذ هذه العملية التي كان هدفها تفجير المسجد الأقصي, وسبق الهجوم بيان من منظمة معروفة باسم تي ان تي اعلن فيها زعيمها الحاخام مردخاي الياهو ان علي الحكومة الإسرائيلية بناء هيكل سليمان علي أنقاض المسجد الأقصي دون إبطاء.
* في شهر مايو عام1980 وضع الإرهابي الشهير الحاخام مائير كاهانا اكثر من طن من المتفجرات داخل المسجد الأقصي وقد حوكم كاهانا مع مساعده باروخ جرين وعوقبا بالحبس ستة أشهر فقط.
* وفي5 مارس عام1983 اكتشف الحراس عبوة ناسفة ضخمة بجوار المسجد الأقصي استهدف واضعوها تدميره.
* في يوم10 مارس عام1983 قامت مجموعة من45 يهوديا من أتباع ثلاث منظمات إرهابية هي جوش ايمونيم وكاخ وامناء جبل البيت, باقتحام المسجد الأقصي من خلال ثغرة أحدثتها الحفريات التي تجريها سلطات الاحتلال الصهيوني تحت اساساته, وقد تزعم الهجوم الارهابيان مائير كاهانا واسرائيل ارائيل رئيس مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة.
* في العام نفسه يوم7 يونيو اقتحم30 يهوديا من اعضاء منظمة جوش ايمونيم الارهابية المسجد الأقصي واقاموا احتفالا دينيا بجوار حائط المبكي إحياء لما سمي بـ توحيد القدس.
* في15 يناير1988 اقتحمت عناصر مسلحة من قوات جيش الدفاع الإسرائيلي المسجد الأقصي, وقتلت28 مواطنا فلسطينيا وأصابت115 آخرين بجروح.
* في يوم28 أبريل عام1989 نظمت منظمة جوش ايمونيم الارهابية مسيرة لاقتحام المسجد الأقصي شارك فيها بضعة آلاف ويومها اطلق مفتي القدس الراحل سعد الدين العلمي نداء من فوق المنابر والمآذن يدعو المسلمين الي الدفاع عن الحرم, فاندفع آلاف من ابناء القدس الي المسجد وافترشوا ساحاته ونشبت بينهم وبين الصهاينة معارك شوارع عنيفة.
* في يوم8 أكتوبر عام1990 تزعم الارهابي جروشون سلمون جماعة امناء جبل الهيكل في محاولة لاقتحام الحرم القدسي فتصدي لهم المصلون وتدخلت قوات الاحتلال واطلقت النار حيث استشهد22 من المصلين واصيب المئات منهم سقطوا مضرجين بدمائهم في ساحة المسجد الأقصي في مذبحة بشعة.
وفي ذات الفترة اقدمت جماعة جوش ايمونيم علي حفر نفق يمتد من حائط البراق حتي ساحة القدس الشريف, وقد أبطل حراس المسجد من المسلمين هذه المحاولة.
(4)
لم يتوقف العدوان علي المقدسات بعد توقيع اتفاقيات السلام.
* ففي أغسطس عام1995 سمحت المحكمة العليا الاسرائيلية لجماعة من امناء جبل الهيكل بزيارة المسجد الأقصي والقيام بطقوسها الدينية في حرمة وهو ما رفضه الشعب الفلسصطيني ورأوا فيه استفزازا كبيرا. وادان مجلس وزراء السلطة الفلسطينية قرار المحكمة مؤكدا ان القدس بمقدساتها الاسلامية والمسيحية هي اراض محتلة ليس لأي محكمة اية سلطة عليها ولا يجوز لها تقرير وضعها اوالبت في شأنها, وفي الوقت ذاته دعت وزارة الاعلام والثقافة الفلسطينية المواطنين والمسلمين في القدس الي التوجه الي المسجد الاقصي والصلاة فيه في مواجهة قرار المحكمة الاسرائيلية.
* وشهدت الايام الاخيرة من شهر نوفمبر عام1995 محاكمة متطرف اصولي اسرائيلي هو إيال كيني25 عاما بتهمة الاعداد لاطلاق صاروخ علي مسجد الصخرة قرب المسجد الأقصي بعد ان تدرب علي هذا الامر مرارا في ارض خلاء وقد اعلن ايال الذي عثر في منزله علي اسلحة وصور لفدائيين فلسطينيين مطلوبين للأمن الاسرائيلي, بأن قانون التوراة يجب ان يسود علي القانون المدني في اسرائيل, وقد صاح مواجها المحكمة انه هراء تماما انا لا اقبل حكمكم ولا التزم الا بأحكام الشريعة.. فما علاقة القانون البريطاني بي.
* وفي اواخر عام1995 اعلنت اسرائيل الاستمرار في اجراء حفريات اثرية تحت المسجد الأقصي, الغرض منها البحث عن بقايا الهيكل المزعوم وهي الحفريات التي تضعف من اساسات المسجد وتهدد بانهياره.
في العام الماضي قام شارون بزيارته للحرم القدسي التي اسهمت في تفجير الانتفاضة الفلسطينية المستمرة الي الآن, وهو الأمر الذي شجع الحاخامات علي اصدار فتوي قبل عشرة ايام سمحت لمجموعة امناء الهيكل التي يرأسها الضابط السابق في الجيش الاسرائيلي جيرشون سالومون, بالصلاة داخل باحة الحرم فحملها قائد المجموعة وتوجهوا بها الي الشرطة, طالبين السماح لهم بوضع حجر الأساس للهيكل كخطوة اولي في مسيرة اعادة بنائه. ولكن الشرطة رفضت الأخذ بالفتوي لاعتبارات تتعلق بالأمن العام. فاتجهوا الي المحكمة العليا, التي رفضت السماح لهم بدخول باحة الحرم, باعتبار ان من شأن ذلك استفزاز مشاعر المسلمين, لكنها في الوقت ذاته سمحت لهم بأن يضعوا حجر الأساس في مكان قريب علي بعد30 مترا من باب المغاربة للحرم القدسي, وبمحاذاة حائط البراق. وفضلا عن أن المنطقة التي حددتها المحكمة هي في الاساس وقف اسلامي فإن وضع حجر الاساس فيها يعد خطوة للانقضاض علي الحرم ذاته. علما بأن صحيفة هآرتس ذكرت ان المتطرفين اليهود سيحاولون الدخول الي الحرم متنكرين في ثياب عربية, وان بعضهم يخطط لسكب مواد كيماوية علي مفاصل الحجارة والبلاط داخل الحرم, بهدف تفكيك الأسمنت وجعله ينهار بمضي الوقت.
(5)
ماذا سيفعل العرب والمسلمون؟
ان احدا لا يستطيع ان يطالب الفلسطينيين بأكثر مما يفعلون, ذلك انني لا اعرف في تاريخنا العربي كله تجسيدا لمعني الفداء كذلك الذي يقدمه الشعب الفلسطيني بأسره, الذي وصلت مقاومته الي مستوي العطاء الكلي, بما في ذلك الدم والروح, ناهيك عن كل ما عدا ذلك.
عندما احترق جانب من المسجد الأقصي عام69 هبت الأمة الإسلامية واجتمع قادتها في الرباط ومن اسف ان القيادة الفلسطينية فشلت في عام2001 في الدعوة الي قمة عربية طارئة للنظر فيما يجري في فلسطين الآن.
اغلب الظن ان الاسرائيليين سينتظرون رد الفعل العربي والإسلامي, وانهم ارادوا بهذه الخطوة الأخيرة اختبار ذلك الرد, فإذا جاء ضعيفا ومتهافتا, مضوا قدما في بناء الهيكل وكسبوا بذلك الكثير, ولابد ان يعزز ذلك من شعبية وجماهيرية رئيس الوزراء أرييل شارون, فضلا عن ان ذلك سيقوي مركزه في انتخابات الليكود القادمة في مواجهة منافسه نيتانياهو لأنه سيخوض معركته علي رئاسة الحزب وهو ضامن لأصوات اليمين بمختلف شرائحه وطبقاته, اما اذا جاء رد الفعل شديدا ومورست ضغوط دولية قوية علي الحكومة الإسرائيلية نتيجة للاتصالات العربية مع الأصدقاء المفترضين, فإن شارون في هذه الحالة يمكن ان يوقف البناء او يؤجله, وربما تباهي في ذلك بأنه يوقف المتطرفين عند حدهم, ويطالب عرفات والفلسطينيين بسلوك مماثل لوقف المتطرفين الفلسطينيين, وهو بذلك يحسن صورته ويقدم نفسه باعتباره السياسي الحكيم الذي يمارس ضبط النفس في مواجهة العنف الفلسطيني.
ويظل السؤال عالقا, ماذا سيفعل العرب والمسلمون؟