بقلم: محمد عبده
العمل الجماعي له أدبياته التي يجب أن تُحترم، ونظمه التي يجب أن يُلتزم بها، ولوائحه التي لا بد من التقيد بها، وخُلق التجرد من الضروريات اللازمة لأعضاء فريق أي عمل، وفريق العمل الدعوي أولى بهذا من غيره.
ولأن مشاريع الدعوة كثيرة، وأعمالها متعددة، وأنشطتها متجددة، والإبداع فيها مطلوب، والابتكار في وسائلها مهم، والتنوع في أساليبها ضروري، ولأن هذا يعني تعدد الرؤى، وكثرة وجهات نظر، ومن ثم الاختلاف ومحاولة كل فريق إقناع الآخر، فإن خلق التجرد هو الخلق الذي يجعل قلوب فريق العمل على قلب رجل واحد، والمودة والمحبة هي التي تجمع بين نفوسهم، لأنه حين يعرض رأيه وهو متجرد لا يعنيه أأخذوا به أم لا، قبلوه أم رفضوه.
فالتجرد صفة من الصفات الأساسية وخلق من أخلاقيات العمل الجماعي الذي لا يستقيم في غيابه عمل، ولا يستقر بدونه نشاط، ولا يتقدم بفقدانه مشروع، ولا ترتقي بدونه مؤسسه، فالمتجرد داخل فريق العمل يعمل الخير ويقول الحق لأنه يحب الخير لذاته، ويحترم الحق لذاته، فهو يدور مع الخير حيث دار، وينزل على الحق متى بدت معالمه، ويبتعد عن المماراة والمجادلة متى اتضح الهدف جليًا.
رحم الله الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد أثر عنه أنه في معركة وقتال مع الأعداء، علا بسيفه على رجل من أهل الشرك، فسبه وبصق في وجهه، فأمسك علي سيفه وتركه، فقيل لم؟ قال: خشيت أن أنتصر لنفسي فلا أكون قتلته ابتغاء مرضات الله عز وجل.
تلك النفوس التي ترتفع عن الانتصار لذاتها، والتشفي لمتطلبات أهواء نفوسها، وذلك ما ينبغي أن يكون.
والتجرد خلق يجب أن يتخلق به من يعمل داخل أي فريق جماعي، فهو لا يسعى للانتصار لرأيه، أو يستأثر بوجهة نظره، أو يسيطر بفكره على مجريات الأحداث، أو يوجه العمل من خلال سياسته التي يرى فيها الصواب.
وليس في هذا عيب وإنما العيب في أن يرى في آرائه الصواب المطلق وفي آراء غيره الخطأ المطلق، وفي وجهة نظره الحق وما دونها الباطل، وهذا بلا شك سيجعله يغضب لنفسه لا لله، وينتصر لرأيه لا لرأي الشورى، ومن ثم يقسم رفقاء الدرب قربًا وبعدًا حسب تعاطفهم مع رأيه، وتأييدهم لفكرته، ودفاعهم عن وجهة نظره.
أما صاحب الدعوة الحق، فهو يزن الأشخاص والهيئات بتجرد وصدق وفق أسس الدعوة وقواعدها، وبميزان نظمها ولوائحها، لا بميزان الأهواء والمنافع، فالتجرد يعني التجرد لله من كل ما سواه، وأن تنشد الحق ولو كان عند غيرك، وأن تبتغي الصلاح ولو وجدته عند مخالفك، وأن تنزل على الحق متى بانت علاماته في منطق خصيمك، وأن لا يمازج نفسك هوى أو دنيا أو جاه أو سلطان في أي مسألة اختلفت فيها مع غيرك.
والمتجرد يرى أن الإخلاص والتجرد صنوان لا يفترقان، بل يرى في الإخلاص دعامة التجرد الأساسية، لأن الشخص المتجرد يرجو ما عند الله، ويبتغي بنقاشاته ومحاوراته مرضاته، ويرجو بعرض أفكاره مثوبته، وربما يرتقي بشعوره المرهف وحسه الصادق فيرى أن كل ما سوى الله باطل، وكل ما عداه زائل، فهو لهذا لا يعنيه إن أخذ الآخرون برأيه أم لا، ولا يهتم إن هم خالفوا مشورته، فهو قدمها لله، وقالها لله، وعرضها لله، ونطق بها حين نطق مبتغيًا وجه الله .
والمتجرد يرى الدنيا فانية زائلة، وأن كل ما فيها من عرض حقير من ورائه حساب عسير، من هذا المنطلق فالمتجرد لا يرى رأيه واجب الإتباع، أو ينظر لفكرته على أنها أفضل الأفكار، ولا سياسته أنجح السياسات، بل يرى في قوله صوابًا ربما هناك رأيًا أصوب منه غاب عن إدراكه ووعيه.
والمتجرد ليس من النوع الذي يتلون مع هذا بعضًا من والوقت، ومع نقيضه الوقت الآخر، يتقاسم العلاقات والمصالح، لا يريد أن يُغضب أحدًا، وهذا من شأنه أن يفسد فريق العمل ويفسد العمل نفسه، خاصة إذا تجاذبا الفرد الدنيا والآخرة وأراد أن يجمع بينهما، يأخذ من هذه وتلك، وهذا قلما أن يستقيم له الأمر، لأنهما ضرتان إن أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى، وكفتا ميزان إن رجحت واحده خفت الثانية، وإن كان المقطوع به أن من أراد الدنيا وحدها خسر الآخرة، ومن أراد الآخرة حازهما معًا (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)) (الإسراء).
ومن هنا آثر الصالحون المخلصون في كل زمان ومكان أن يتجردوا للغايات العليا، ويصرفوا نياتهم ومقاصدهم وأعمالهم وأقوالهم إلى الله عزَّ وجلَّ، متجردين لذلك من كل غاية، متخلصين من كل شهوة (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة: من الآية 5).
نموذج مبهر:
ولقد قرأت يومًا في تاريخنا قصة ذلك الذي عثر على حق من الجوهر الغالي الثمين في القادسية، فقدمه إلى الأمير طائعًا، فعجب من أمانته وقال: (إن رجلا يتقدم بمثل هذا لأمين ، ما اسمك؟ حتى أكتب به إلى أمير المؤمنين فيجزل عطاءك، وينبه اسمك)
فقال الرجل: (لو أردت وجه أمير المؤمنين ما جئت بهذا، وما وصل علمه إليك ولا إليه، ولكن أردت وجه الله الذي يعلم السر وأخفى، وحسبي علمه ومثوبته).
وانصرف ولم يذكر اسمه، وآثر ما عند الله على ما عند الناس.
وأريد بالتجرد:
أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص، لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) (البقرة: من الآية 138)، (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: من الآية 4).
والمتجرد يرى الدعوة فوق الأشخاص أيًا كانت مسئولياتهم وأيًّا كانت أوضاعهم التنظيمية، وأيًا كانت إمكاناتهم ومواهبهم وعطاءاتهم، لأنه لما انتمى للدعوة انتمى للفكرة والمنهج الذي يحمله الأشخاص، لا الأشخاص أنفسهم، لأن الأشخاص يفنون وتبقى الدعوة يتوارثها الأجيال.
وعلاقة المتجرد صاحب الدعوة بالأشخاص تقوى وتضعف حسب التطبيق الفعلي لهذا المنهج، فإن التزموا بالمنهج، وحافظوا على الفكرة، والتزموا بمبادئ وأصول الدعوة كان الولاء لهم والوقوف من خلفهم ندعمهم ونساندهم ، أما إذا خالفوا النظم، واتبعوا الأهواء، وابتعدوا بالدعوة عن مسارها الذي على أساسه تبعهم، فحينئذٍ لا اتباع لهم ولا مساندة واجبة عليه تجاههم.
ومن علامات عدم التجرد أن الشخص المتعصب لفرد لا لمنهج، والمتحيز لمحبوب لا لدعوة يرهق من حوله بإثارة الشبهات، وترديد الاتهامات التي ربما يعرف إجابات بعضها ليعجز من أمامه فيتخذ من عجزه عن الرد عذرًا للقعود، وسببًا للانصراف عن المجموع.
فإذا ما أبنت له وأفصحت، وأخذت ببصره وسمعه وعقله إلى الطريق المستقيم، مارى في حديثه، وجادل بالباطل لأنه لم يتجرد للحق، ولم يبحث عنه بنية صادقة.
المتجرد أوسع الناس صدرًا مع المخالفين له في الرأي، لأنه يعلم أن مع كل قوم علم، وفي كل دعوة حقًا وباطلاً، لذا فهو يتحرى الحق ويأخذ به متى لاح له بالأفق، ويحاول في هوادة ورفق إقناع المخالفين له في الرأي فإن اقتنعوا فذاك، وإن لم يقتنعوا فإخوان له في الدين يسأل الله لهم الهداية، وعمومًا فهو يجيز الخلاف ويكره التعصب للرأي ويحاول الوصول للحق، ويحمل الناس على ذلك بألطف الوسائل، وألين الأساليب.
بينما غير المتجرد هو أضيق الناس صدرًا، وأكثرهم تعصبًا، وأقدرهم على الجدال، وأحرصهم على المماراة، لا يرى الحق إلا معه، ولا يجدد الصواب إلا في قوله، ولا الدقة إلا في خططه ولا الحصافة في برامجه.
المتجرد داخل فريق العمل الدعوي لا يربط انتظامه في الدعوة واجتهاده في العمل فيها بالتقدم الذي يناله والمنصب الذي يحظى به أو الموقع القيادي الذي يحرزه، بل إن تجرده لدعوته يمنعه من طلب ذلك أو التنافس على شيء منه ولا يتوقف عطاؤه إذا نقل من موقع لآخر.
والمتجرد لا يجعل الخلافات في المواقف الشخصية سببًا في شق الصف، أو الخروج منه أو الخروج عليه، أو التشهير به وإذاعة المفتريات وترديد الأباطيل وإلصاق التهم بالدعوة ورجالاتها، بل إن تجرده ليمنعه من كل هذا ويبقيه على حاله من الإخلاص لدعوته مجتهدًا في أنشطتها محتسبًا ما يتعرض له عند الله، وملتمسًا العذر لمن خالفوه أو اختلفوا معه محسنًا الظن بهم، بل إن تجرده لدعوته يجعله يذب عن الدعوة الاتهامات، ويرد عنها الافتراءات.
المتجرد يرضى بالاحتكام للنظم واللوائح حال الاختلاف في الاجتهادات وتنوع الرؤى، لأن في ذلك حفاظًا للصف من التنازع والانشقاق والتشرذم، كما أن المتجرد يقبل النصيحة ويحتمل النقد لشخصه أو لأفكاره أو لتصرفاته .
بينما غير المتجرد غالبًا ما يكون معجبًا برأيه، متبعًا لهواه، منتصرًا لنفسه ’’ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِى رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ..’’ رواه أبو داود والترمذي.
ونختم بهذا التفسير لصاحب الظلال في قوله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: من الآية 145).
لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها، فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته . . كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضي الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون . . هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها . . فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها ...هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين.
اللهم اجعلنا مخلصين لك، متجردين لخدمة دعوتك، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وإذا أردت بالقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
---------------
* [email protected]
العمل الجماعي له أدبياته التي يجب أن تُحترم، ونظمه التي يجب أن يُلتزم بها، ولوائحه التي لا بد من التقيد بها، وخُلق التجرد من الضروريات اللازمة لأعضاء فريق أي عمل، وفريق العمل الدعوي أولى بهذا من غيره.
ولأن مشاريع الدعوة كثيرة، وأعمالها متعددة، وأنشطتها متجددة، والإبداع فيها مطلوب، والابتكار في وسائلها مهم، والتنوع في أساليبها ضروري، ولأن هذا يعني تعدد الرؤى، وكثرة وجهات نظر، ومن ثم الاختلاف ومحاولة كل فريق إقناع الآخر، فإن خلق التجرد هو الخلق الذي يجعل قلوب فريق العمل على قلب رجل واحد، والمودة والمحبة هي التي تجمع بين نفوسهم، لأنه حين يعرض رأيه وهو متجرد لا يعنيه أأخذوا به أم لا، قبلوه أم رفضوه.
فالتجرد صفة من الصفات الأساسية وخلق من أخلاقيات العمل الجماعي الذي لا يستقيم في غيابه عمل، ولا يستقر بدونه نشاط، ولا يتقدم بفقدانه مشروع، ولا ترتقي بدونه مؤسسه، فالمتجرد داخل فريق العمل يعمل الخير ويقول الحق لأنه يحب الخير لذاته، ويحترم الحق لذاته، فهو يدور مع الخير حيث دار، وينزل على الحق متى بدت معالمه، ويبتعد عن المماراة والمجادلة متى اتضح الهدف جليًا.
رحم الله الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد أثر عنه أنه في معركة وقتال مع الأعداء، علا بسيفه على رجل من أهل الشرك، فسبه وبصق في وجهه، فأمسك علي سيفه وتركه، فقيل لم؟ قال: خشيت أن أنتصر لنفسي فلا أكون قتلته ابتغاء مرضات الله عز وجل.
تلك النفوس التي ترتفع عن الانتصار لذاتها، والتشفي لمتطلبات أهواء نفوسها، وذلك ما ينبغي أن يكون.
والتجرد خلق يجب أن يتخلق به من يعمل داخل أي فريق جماعي، فهو لا يسعى للانتصار لرأيه، أو يستأثر بوجهة نظره، أو يسيطر بفكره على مجريات الأحداث، أو يوجه العمل من خلال سياسته التي يرى فيها الصواب.
وليس في هذا عيب وإنما العيب في أن يرى في آرائه الصواب المطلق وفي آراء غيره الخطأ المطلق، وفي وجهة نظره الحق وما دونها الباطل، وهذا بلا شك سيجعله يغضب لنفسه لا لله، وينتصر لرأيه لا لرأي الشورى، ومن ثم يقسم رفقاء الدرب قربًا وبعدًا حسب تعاطفهم مع رأيه، وتأييدهم لفكرته، ودفاعهم عن وجهة نظره.
أما صاحب الدعوة الحق، فهو يزن الأشخاص والهيئات بتجرد وصدق وفق أسس الدعوة وقواعدها، وبميزان نظمها ولوائحها، لا بميزان الأهواء والمنافع، فالتجرد يعني التجرد لله من كل ما سواه، وأن تنشد الحق ولو كان عند غيرك، وأن تبتغي الصلاح ولو وجدته عند مخالفك، وأن تنزل على الحق متى بانت علاماته في منطق خصيمك، وأن لا يمازج نفسك هوى أو دنيا أو جاه أو سلطان في أي مسألة اختلفت فيها مع غيرك.
والمتجرد يرى أن الإخلاص والتجرد صنوان لا يفترقان، بل يرى في الإخلاص دعامة التجرد الأساسية، لأن الشخص المتجرد يرجو ما عند الله، ويبتغي بنقاشاته ومحاوراته مرضاته، ويرجو بعرض أفكاره مثوبته، وربما يرتقي بشعوره المرهف وحسه الصادق فيرى أن كل ما سوى الله باطل، وكل ما عداه زائل، فهو لهذا لا يعنيه إن أخذ الآخرون برأيه أم لا، ولا يهتم إن هم خالفوا مشورته، فهو قدمها لله، وقالها لله، وعرضها لله، ونطق بها حين نطق مبتغيًا وجه الله .
والمتجرد يرى الدنيا فانية زائلة، وأن كل ما فيها من عرض حقير من ورائه حساب عسير، من هذا المنطلق فالمتجرد لا يرى رأيه واجب الإتباع، أو ينظر لفكرته على أنها أفضل الأفكار، ولا سياسته أنجح السياسات، بل يرى في قوله صوابًا ربما هناك رأيًا أصوب منه غاب عن إدراكه ووعيه.
والمتجرد ليس من النوع الذي يتلون مع هذا بعضًا من والوقت، ومع نقيضه الوقت الآخر، يتقاسم العلاقات والمصالح، لا يريد أن يُغضب أحدًا، وهذا من شأنه أن يفسد فريق العمل ويفسد العمل نفسه، خاصة إذا تجاذبا الفرد الدنيا والآخرة وأراد أن يجمع بينهما، يأخذ من هذه وتلك، وهذا قلما أن يستقيم له الأمر، لأنهما ضرتان إن أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى، وكفتا ميزان إن رجحت واحده خفت الثانية، وإن كان المقطوع به أن من أراد الدنيا وحدها خسر الآخرة، ومن أراد الآخرة حازهما معًا (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)) (الإسراء).
ومن هنا آثر الصالحون المخلصون في كل زمان ومكان أن يتجردوا للغايات العليا، ويصرفوا نياتهم ومقاصدهم وأعمالهم وأقوالهم إلى الله عزَّ وجلَّ، متجردين لذلك من كل غاية، متخلصين من كل شهوة (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة: من الآية 5).
نموذج مبهر:
ولقد قرأت يومًا في تاريخنا قصة ذلك الذي عثر على حق من الجوهر الغالي الثمين في القادسية، فقدمه إلى الأمير طائعًا، فعجب من أمانته وقال: (إن رجلا يتقدم بمثل هذا لأمين ، ما اسمك؟ حتى أكتب به إلى أمير المؤمنين فيجزل عطاءك، وينبه اسمك)
فقال الرجل: (لو أردت وجه أمير المؤمنين ما جئت بهذا، وما وصل علمه إليك ولا إليه، ولكن أردت وجه الله الذي يعلم السر وأخفى، وحسبي علمه ومثوبته).
وانصرف ولم يذكر اسمه، وآثر ما عند الله على ما عند الناس.
وأريد بالتجرد:
أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص، لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) (البقرة: من الآية 138)، (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: من الآية 4).
والمتجرد يرى الدعوة فوق الأشخاص أيًا كانت مسئولياتهم وأيًّا كانت أوضاعهم التنظيمية، وأيًا كانت إمكاناتهم ومواهبهم وعطاءاتهم، لأنه لما انتمى للدعوة انتمى للفكرة والمنهج الذي يحمله الأشخاص، لا الأشخاص أنفسهم، لأن الأشخاص يفنون وتبقى الدعوة يتوارثها الأجيال.
وعلاقة المتجرد صاحب الدعوة بالأشخاص تقوى وتضعف حسب التطبيق الفعلي لهذا المنهج، فإن التزموا بالمنهج، وحافظوا على الفكرة، والتزموا بمبادئ وأصول الدعوة كان الولاء لهم والوقوف من خلفهم ندعمهم ونساندهم ، أما إذا خالفوا النظم، واتبعوا الأهواء، وابتعدوا بالدعوة عن مسارها الذي على أساسه تبعهم، فحينئذٍ لا اتباع لهم ولا مساندة واجبة عليه تجاههم.
ومن علامات عدم التجرد أن الشخص المتعصب لفرد لا لمنهج، والمتحيز لمحبوب لا لدعوة يرهق من حوله بإثارة الشبهات، وترديد الاتهامات التي ربما يعرف إجابات بعضها ليعجز من أمامه فيتخذ من عجزه عن الرد عذرًا للقعود، وسببًا للانصراف عن المجموع.
فإذا ما أبنت له وأفصحت، وأخذت ببصره وسمعه وعقله إلى الطريق المستقيم، مارى في حديثه، وجادل بالباطل لأنه لم يتجرد للحق، ولم يبحث عنه بنية صادقة.
المتجرد أوسع الناس صدرًا مع المخالفين له في الرأي، لأنه يعلم أن مع كل قوم علم، وفي كل دعوة حقًا وباطلاً، لذا فهو يتحرى الحق ويأخذ به متى لاح له بالأفق، ويحاول في هوادة ورفق إقناع المخالفين له في الرأي فإن اقتنعوا فذاك، وإن لم يقتنعوا فإخوان له في الدين يسأل الله لهم الهداية، وعمومًا فهو يجيز الخلاف ويكره التعصب للرأي ويحاول الوصول للحق، ويحمل الناس على ذلك بألطف الوسائل، وألين الأساليب.
بينما غير المتجرد هو أضيق الناس صدرًا، وأكثرهم تعصبًا، وأقدرهم على الجدال، وأحرصهم على المماراة، لا يرى الحق إلا معه، ولا يجدد الصواب إلا في قوله، ولا الدقة إلا في خططه ولا الحصافة في برامجه.
المتجرد داخل فريق العمل الدعوي لا يربط انتظامه في الدعوة واجتهاده في العمل فيها بالتقدم الذي يناله والمنصب الذي يحظى به أو الموقع القيادي الذي يحرزه، بل إن تجرده لدعوته يمنعه من طلب ذلك أو التنافس على شيء منه ولا يتوقف عطاؤه إذا نقل من موقع لآخر.
والمتجرد لا يجعل الخلافات في المواقف الشخصية سببًا في شق الصف، أو الخروج منه أو الخروج عليه، أو التشهير به وإذاعة المفتريات وترديد الأباطيل وإلصاق التهم بالدعوة ورجالاتها، بل إن تجرده ليمنعه من كل هذا ويبقيه على حاله من الإخلاص لدعوته مجتهدًا في أنشطتها محتسبًا ما يتعرض له عند الله، وملتمسًا العذر لمن خالفوه أو اختلفوا معه محسنًا الظن بهم، بل إن تجرده لدعوته يجعله يذب عن الدعوة الاتهامات، ويرد عنها الافتراءات.
المتجرد يرضى بالاحتكام للنظم واللوائح حال الاختلاف في الاجتهادات وتنوع الرؤى، لأن في ذلك حفاظًا للصف من التنازع والانشقاق والتشرذم، كما أن المتجرد يقبل النصيحة ويحتمل النقد لشخصه أو لأفكاره أو لتصرفاته .
بينما غير المتجرد غالبًا ما يكون معجبًا برأيه، متبعًا لهواه، منتصرًا لنفسه ’’ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِى رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ..’’ رواه أبو داود والترمذي.
ونختم بهذا التفسير لصاحب الظلال في قوله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: من الآية 145).
لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها، فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته . . كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضي الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون . . هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها . . فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها ...هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين.
اللهم اجعلنا مخلصين لك، متجردين لخدمة دعوتك، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وإذا أردت بالقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
---------------
* [email protected]