ياسر محجوب الحسين
تزعم النخب الإسلامية بالسودان أن النظام الحاكم في البلاد محصن ضد ما يعرف بثورات الربيع العربي، بحسبان أن ذلك الربيع ينهل من نفس المعين الذي نهلت منه ما سميت بثورة الإنقاذ الوطني التي جاءت بالرئيس الحالي عمر البشير في انقلاب عسكري في يونيو/ حزيران 1989. لكن المعروف أن هناك خلافا بيّناً بين ثورات الربيع العربي وما يسمى بثورة الإنقاذ الوطني؛ فالأولى جاءت عبر الشارع بينما جاءت الأخيرة عبر الانقلاب العسكري حتى ولو سميت تجاوزا ثورة. بيد أن هناك ما يجمع بين النموذجين، وهو صعود الحركات الإسلامية واعتلاؤها صهوة التغيير في كليهما.
عموما فإن أهداف الحركات الإسلامية بالعالم نشر الإسلام وسيادة الفكر الإسلامي واعتماده أسلوب حياة وبديلا للفكر الغربي القائم على العلمانية والرأسمالية. لقد كانت الدولة العثمانية إحدى آخر التجارب الإسلامية ما قبل الحربين العالميتين اللتين كانت من نتائجهما سيادة الفكر الغربي القائم على العلمانية وامتداد تأثيره على العالم الإسلامي، وقد ظهر ذلك بشكل صارخ في تركيا، وكان كمال أتاتورك رأس الرمح في ترسيخ بديل علماني صارم مدفوع ومدعوم من قبل المنظومة الغربية التي شكلتها الحرب الكونية الثانية بشكل خاص.
لقد كانت الدولة العثمانية هي النقطة التي انتهى عندها صعود الإسلام وتفوقه في كافة المجالات بعد أن سادت تلك الدولة أكثر من ستة قرون (1299– 1924). لقد جاء الانهيار لأسباب داخلية وخارجية؛ فالتوسع الكبير أفقد المركز (إسطنبول) السيطرة على أرجاء الدولة الممتدة. وتبع ذلك أو تزامن معه تدهور اقتصادي كبير. أما خارجيا فقد كانت دعوات العلمانية والقومية القادمة من الغرب تأكل في الأساس الفكري للدولة العثمانية.
ويبدو أن الثورة المهدية في السودان (1881 – 1898) كانت ثورة ضد فساد حكم محمد علي باشا وأسرته، والذي خرج على الدولة العثمانية بسبب الضعف الذي اعتراها، واعتبرت المهدية محاولة جادة لقيادة ثورة إسلامية إصلاحية، ولكن الغرب كان لها بالمرصاد لكونها ثورة تسعى لبعث دولة الإسلام من جديد وتجديد الدماء في الدولة العثمانية. وقد عمل الاستعمار البريطاني الذي أطاح بالمهدية على محو الآثار الإسلامية والجهادية وتمكين العلمانية عبر التعليم الغربي ومحاربة التعليم التقليدي.
يقول البروفيسور أحمد علي الإمام مستشار رئيس الجمهورية السابق لشؤون التأصيل بكتابه ’’الخلوة والعودة الحلوة’’: لقد سعى ’’الاستخراب’’ الذي سمى نفسه بالاستعمار هو ومن والى نظامه، في استصغار أهل القرآن والحط من قدرهم والاستهانة بهم وإغلاق باب الوظائف دونهم، وقد أثّر على بعضهم فحنقوا أو أصابتهم المسكنة. والخلوة مدرسة قرآنية تركز على تحفيظ التلاميذ القرآن الكريم وتجويده.
وحتى ما قبل المهدية أصبح الإسلام من أهم العوامل المؤثرة على التكوين الثقافي السوداني منذ القرن السادس عشر الميلادي. وقد تحولت مجموعات رئيسية في وسط السودان وشماله من أديانها السابقة إلى الإسلام بعد تفاعلات طويلة وديناميكيات معقدة، اختلط فيها الفكري بالاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
’’
اهتمت الحركة الإسلامية بعد ثورة الإنقاذ بمزج خطابها الفكري والسياسي بالخطاب الموجه من قبل الدولة التي استمرت قومية الطابع أكثر من كونها دولة عقائدية
’’
وهناك ثلاث مراحل مرّ بها الفكر الديني السياسي: مرحلة التكوين الأول من أربعينيات إلى ستينيات القرن الماضي. ومرحلة التفاعل السياسي والاجتماعي النشط في فترة سبعينيات القرن الماضي وحتى نهاية الثمانينيات حيث قامت ما عرفت بثورة الإنقاذ الوطني بقيادة الرئيس عمر البشير. ومرحلة الهيمنة على الدولة وقد بدأت باستيلاء البشير على الحكم عام 1989.
وقد اهتمت الحركة الإسلامية في هذه المرحلة بمزج خطابها الفكري والسياسي بالخطاب الموجه من قبل الدولة التي استمرت قومية الطابع أكثر من كونها دولة عقائدية. وكان نهج الحركة دائما البحث عن أرضية مشتركة مع كل السودانيين على اختلافهم ومحاولة المواءمة بين ذلك وبين مبادئها الإسلامية.
الإطار الفكري السياسي
يقوم الاطار الفكري السياسي للحركات الإسلامية حول العالم على أدبيات وتجارب تراكمية أهم ما فيها أن الإسلام دين الوسطية وليس مجرد مجموعة شعائر وحركات ظاهرة مجوّدة بلا أي بعد معنوي. وكان اعتقال السياسة ضمن إطار الفقه يؤدي إلى تأخر تطورها إلى كونها علما وفكرا منفصلا أي تعطيل انتقالها من الخاص الضيق إلى الواسع العام.
وكان الفقه السياسي يحاسب بموازين الحلال القطعي والحرام القطعي بدون أي مساحة اجتهادية في مفارقة بينة لمفهوم الشورى، فالشورى آراء جمعية، الأمر الذي أسقط إمكانية التكليف مع مستجدات الواقع وضرورات تعدد الخيارات. والشورى كذلك ممارسة جماهيرية من عامة الناس وخاصتهم لحق أصيل في اختيار الحاكم وفي إبداء الرأي لأنها -اصطلاحا- تعني التداول الحر في الشأن الخاص العام وبالتالي فهي المشاركة في اتخاذ القرار الملزم للحاكم والجمهور.
لكن ما الفرق ما بين مفهومي الشورى والديمقراطية؟ ليس الفرق أمرا جدليا، لأن الأمر بكل بساطة بيّنٌ وواضحٌ. والمفاضلة بين الشورى والديمقراطية مقارنة عبثية ربما لا تقوم على نهج قياسي صحيح، وهي تشبه المقارنة بين الهدف والطريق التي تؤدي إلى ذلك الهدف. فالشورى مبدأ، والديمقراطية أحد تطبيقاتها المختلفة. والشورى ثقافة وقيم ومبادئ، والديمقراطية مشروع وخطة.
لقد كفل الإسلام الحرية للناس جميعا، مسلمين ومشركين، موحدين وملحدين، فلم يقيد حرية الإنسان في أهم علاقة تمس الخالق بالمخلوق. والحرية في هذا الاطار ليست غاية وليست قيمة معنوية، بل هي وسيلة لعبادة الله تعالى.
يرى الدكتور حسن عبد الله الترابي أن الحرية الكاملة لا يمكن أن تتحقق في نظام ديمقراطي وضعي لأنه يقوم على مبدأ التنافس والصراع، ويحسم بالأغلبية على حساب أقلية مستضعفة.
والحديث عن عالمية الإسلام لا يعني وحدته السياسية بل يعني وحدته الشعورية ولا يعني القضاء على الثقافات الشعوبية أو فرض نظام سياسي، بل يعني سيادة الإسلام روحا وفكرا وليس سلطة، لأن الإسلام جاء لإعمار النفوس وإعادة بناء هياكلها الروحية وليس بناء هياكل الدولة فقط. وعالمية الإسلام تعني القدرة على مخاطبة الآخر ومحاورته بالحسنى.
مهددات الحركة الإسلامية بالسودان
تزايد عدد المغاضبين بالحركة الإسلامية السودانية دون أن تستوعبهم الشورى حتى أن الأمر قد يرقى إلى مستوى الظاهرة، فإن ذلك مؤشر خطير يستدعي الانتباه والحذر. وتصاعد حالات الضجر والحرد تحتاج لعمل خلاق لاحتوائه، وليس العمل الخلاق بمعنى الاستحالة وإنما فقط تفعيل أطر وآليات الشورى. وليست المشكلة في وجود الاختلاف ولكن المشكلة في انقطاع أدوات التواصل. أدوات ومعينات التواصل ليست الاجتماعات واللقاءات، وهذه سهلة ومقدور عليها، لكن الأمر قيام حواجز معنوية ونفسية تحول دون التواصل حتى في ظل توافر أدوات التواصل التقليدية.
’’
المذكرة التي قدمها عدد من منسوبي الحركة الإسلامية بالسودان أفقدت قيادات الحركة بعض التوازن، لأن أدب المذكرات في السياسة السودانية، يعني الاحتجاج بل هي نوع من أنواع التظاهر ضد الراهن السياسي
’’
عاصفة من الجدل أثارتها تلك المذكرة التي قدمها عدد من منسوبي الحركة الإسلامية بالسودان مؤخرا. المذكرة أفقدت قيادات الحركة بعض التوازن، لأن أدب المذكرات في السياسة السودانية، يعني الاحتجاج بل هي نوع من أنواع التظاهر ضد الراهن السياسي. وأهمية المذكرة أنها جاءت في توقيت حرج وتناولت انتقادات (مؤلمة) لمآلات الوضع السياسي بالسودان، أهمها ما أسمته المذكرة (انحراف عن جادة الطريق) والمقصود هنا التعبير عن إحباطات أصحاب المذكرة جراء ما يرونه من تخل عن الأهداف (السامية) التي من أجلها صعدت الحركة الإسلامية وجناحها السياسي (المؤتمر الوطني) لسدة الحكم بالسودان. المذكرة مسألة جادة لابد أن يأخذها الحزب بجدية ويدرس أسبابها ويتدارك أي (ربيع داخلي) يطيح بالقيادات الحالية التي يرى فيها كثير من شباب الحزب أنها (تكلّست) وأصبحت غير فاعلية ولا تواكب التطورات السياسية الراهنة وأصبحت تتمسك بكراسيها التنظيمية والتنفيذية.
الحركات الإسلامية ونموذج تركيا
مع ميل ميزان القوة بعد الحرب العالمية لصالح العلمانية في تركيا، اقتضى الحال أن تقدم الحركة الإسلامية أفكارها وأطروحاتها بطريقة جديدة، وظهر ذلك من خلال صعود نجم حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، وقفز اقتصاد تركيا خلال فترة وجيزة إلى المرتبة (17) عالميا بفضل سياسة الحزب الحاكم وبلغ النمو 9% وهي نسبة نمو الاقتصاد الصيني العملاق القادم بقوة.
في عام 2001 كانت تركيا على وشك الإفلاس وأحبط الأتراك بسبب تزايد معدل البطالة وانخفاض مستوى دخل الفرد الذى بلغ حينئذ ثلاثة آلاف دولار سنويا، وفى عام 2012 ارتفع متوسط دخل الفرد إلى حوالي 22 ألف دولار سنويا (فى مصر أقل من ألفي دولار سنويا) وصنفت تركيا كثالث أكبر دولة صناعية في أوروبا، واعتبرت شركات المقاولات والإنشاءات التركية ثاني أقوى الشركات أداء على مستوى العالم في أعمال البناء.. خارجيا استطاع أردوغان إحداث اختراق في علاقاتاته مع الشعوب العربية -وليس الحكام- عبر مواقفه القوية تأييداً للقضية الفلسطينية وكسر الحصار على قطاع غزة.
الجماهير الحاشدة التي خرجت للترحيب والهتاف باسم أردوغان في مصر وليبيا، عقب نجاح الثورتين، أصابت البعض بفوبيا ما يسمونه بالوجود التركي أيام الدولة العثمانية. والصورة الأكثر دلالة التي أثارت ثائرة البعض صورة أردوغان وهو يشبك يديه بأيدي قادة ’’المجلس الوطني الانتقالي’’ أثناء صلاة الجمعة في طرابلس. فهناك خوف من نجاح أردوغان في تسويق تركيا كنموذج إسلامي ديمقراطي ناجح في المنطقة. فالرجل زعيم منتخب يحكم دولة مسلمة، وديمقراطية مزدهرة. وأردوغان يصور نفسه على أنه في موقع فريد يسمح له بتشجيع الانتقال المنظم والسلس من الأوتوقراطية إلى الديمقراطية.
التحديات ومجالات الوحدة والتكامل
في ظل العديد من التحديات الماثلة أمام الحركات الإسلامية هناك كذلك العديد من مجالات الوحدة والتكامل. فعلى هذه الحركات الدفاع عن الإسلام بطريقة متجددة، وبناء شبكة قوية من التنسيق بينها وبين ثورات الربيع العربي.
’’
على الحركات الإسلامية العمل على نشر المفاهيم الوسطية وتحجيم ظاهرة التطرف والغلو، وتوحيد الخطاب الدعوي بين الحركات الإسلامية، وإنعاش الاقتصادات الإسلامية
’’
وعلى هذه الحركات العمل على نشر المفاهيم الوسطية وتحجيم ظاهرة التطرف والغلو. كما أن هناك تضاربا كبيرا في الخطاب الدعوي بين الحركات الإسلامية يجب القضاء عليه. ويعتبر إنعاش الاقتصادات الإسلامية مدخلا للاستقرار وتبادل المنافع، وهو أمر لا يقل أهمية عن الشحن الروحي والقيمي.
إن آليات الوحدة والتكامل تتمثل في وحدة العقيدة والهدف، وصدق التوجه والالتزام بالعهود، والإرادة السياسية القوية لدعم الإسلام، فضلا عن القدوة والقيادة الرشيدة.
وبالنسبة للحركة الإسلامية بالسودان فإن أمامها -وهي تستعد لعقد مؤتمرها العام- فرصة لإحداث ربيع داخلها وتجديد دمائها وابتكار حلول ذكية على طريقة النموذج التركي. صحيح أن هناك مهددات خارجية جدية للنظام في السودان، لكن أكبر مهدد اليوم هو التقويض من الداخل.
كانت المذكرة الأخيرة واحدا من مظاهر التململ الداخلي التي تسري في أوصال حزب الحركة القابض على مقاليد الحكم منذ أكثر من (22) عاما. وستبقى الولايات المتحدة الأميركية دولة صاحبة جبروت في المستقبل المنظور على الأقل، وهي تجاهر برغبتها في إسقاط النظام في الخرطوم ولم يجد انفصال الجنوب فتيلا، فرغم تحقيق تلك الرغبة الجامحة لواشنطن فإن ذلك لم يكن إلا هدفا مرحليا.
المصدر:الجزيرة
تزعم النخب الإسلامية بالسودان أن النظام الحاكم في البلاد محصن ضد ما يعرف بثورات الربيع العربي، بحسبان أن ذلك الربيع ينهل من نفس المعين الذي نهلت منه ما سميت بثورة الإنقاذ الوطني التي جاءت بالرئيس الحالي عمر البشير في انقلاب عسكري في يونيو/ حزيران 1989. لكن المعروف أن هناك خلافا بيّناً بين ثورات الربيع العربي وما يسمى بثورة الإنقاذ الوطني؛ فالأولى جاءت عبر الشارع بينما جاءت الأخيرة عبر الانقلاب العسكري حتى ولو سميت تجاوزا ثورة. بيد أن هناك ما يجمع بين النموذجين، وهو صعود الحركات الإسلامية واعتلاؤها صهوة التغيير في كليهما.
عموما فإن أهداف الحركات الإسلامية بالعالم نشر الإسلام وسيادة الفكر الإسلامي واعتماده أسلوب حياة وبديلا للفكر الغربي القائم على العلمانية والرأسمالية. لقد كانت الدولة العثمانية إحدى آخر التجارب الإسلامية ما قبل الحربين العالميتين اللتين كانت من نتائجهما سيادة الفكر الغربي القائم على العلمانية وامتداد تأثيره على العالم الإسلامي، وقد ظهر ذلك بشكل صارخ في تركيا، وكان كمال أتاتورك رأس الرمح في ترسيخ بديل علماني صارم مدفوع ومدعوم من قبل المنظومة الغربية التي شكلتها الحرب الكونية الثانية بشكل خاص.
لقد كانت الدولة العثمانية هي النقطة التي انتهى عندها صعود الإسلام وتفوقه في كافة المجالات بعد أن سادت تلك الدولة أكثر من ستة قرون (1299– 1924). لقد جاء الانهيار لأسباب داخلية وخارجية؛ فالتوسع الكبير أفقد المركز (إسطنبول) السيطرة على أرجاء الدولة الممتدة. وتبع ذلك أو تزامن معه تدهور اقتصادي كبير. أما خارجيا فقد كانت دعوات العلمانية والقومية القادمة من الغرب تأكل في الأساس الفكري للدولة العثمانية.
ويبدو أن الثورة المهدية في السودان (1881 – 1898) كانت ثورة ضد فساد حكم محمد علي باشا وأسرته، والذي خرج على الدولة العثمانية بسبب الضعف الذي اعتراها، واعتبرت المهدية محاولة جادة لقيادة ثورة إسلامية إصلاحية، ولكن الغرب كان لها بالمرصاد لكونها ثورة تسعى لبعث دولة الإسلام من جديد وتجديد الدماء في الدولة العثمانية. وقد عمل الاستعمار البريطاني الذي أطاح بالمهدية على محو الآثار الإسلامية والجهادية وتمكين العلمانية عبر التعليم الغربي ومحاربة التعليم التقليدي.
يقول البروفيسور أحمد علي الإمام مستشار رئيس الجمهورية السابق لشؤون التأصيل بكتابه ’’الخلوة والعودة الحلوة’’: لقد سعى ’’الاستخراب’’ الذي سمى نفسه بالاستعمار هو ومن والى نظامه، في استصغار أهل القرآن والحط من قدرهم والاستهانة بهم وإغلاق باب الوظائف دونهم، وقد أثّر على بعضهم فحنقوا أو أصابتهم المسكنة. والخلوة مدرسة قرآنية تركز على تحفيظ التلاميذ القرآن الكريم وتجويده.
وحتى ما قبل المهدية أصبح الإسلام من أهم العوامل المؤثرة على التكوين الثقافي السوداني منذ القرن السادس عشر الميلادي. وقد تحولت مجموعات رئيسية في وسط السودان وشماله من أديانها السابقة إلى الإسلام بعد تفاعلات طويلة وديناميكيات معقدة، اختلط فيها الفكري بالاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
’’
اهتمت الحركة الإسلامية بعد ثورة الإنقاذ بمزج خطابها الفكري والسياسي بالخطاب الموجه من قبل الدولة التي استمرت قومية الطابع أكثر من كونها دولة عقائدية
’’
وهناك ثلاث مراحل مرّ بها الفكر الديني السياسي: مرحلة التكوين الأول من أربعينيات إلى ستينيات القرن الماضي. ومرحلة التفاعل السياسي والاجتماعي النشط في فترة سبعينيات القرن الماضي وحتى نهاية الثمانينيات حيث قامت ما عرفت بثورة الإنقاذ الوطني بقيادة الرئيس عمر البشير. ومرحلة الهيمنة على الدولة وقد بدأت باستيلاء البشير على الحكم عام 1989.
وقد اهتمت الحركة الإسلامية في هذه المرحلة بمزج خطابها الفكري والسياسي بالخطاب الموجه من قبل الدولة التي استمرت قومية الطابع أكثر من كونها دولة عقائدية. وكان نهج الحركة دائما البحث عن أرضية مشتركة مع كل السودانيين على اختلافهم ومحاولة المواءمة بين ذلك وبين مبادئها الإسلامية.
الإطار الفكري السياسي
يقوم الاطار الفكري السياسي للحركات الإسلامية حول العالم على أدبيات وتجارب تراكمية أهم ما فيها أن الإسلام دين الوسطية وليس مجرد مجموعة شعائر وحركات ظاهرة مجوّدة بلا أي بعد معنوي. وكان اعتقال السياسة ضمن إطار الفقه يؤدي إلى تأخر تطورها إلى كونها علما وفكرا منفصلا أي تعطيل انتقالها من الخاص الضيق إلى الواسع العام.
وكان الفقه السياسي يحاسب بموازين الحلال القطعي والحرام القطعي بدون أي مساحة اجتهادية في مفارقة بينة لمفهوم الشورى، فالشورى آراء جمعية، الأمر الذي أسقط إمكانية التكليف مع مستجدات الواقع وضرورات تعدد الخيارات. والشورى كذلك ممارسة جماهيرية من عامة الناس وخاصتهم لحق أصيل في اختيار الحاكم وفي إبداء الرأي لأنها -اصطلاحا- تعني التداول الحر في الشأن الخاص العام وبالتالي فهي المشاركة في اتخاذ القرار الملزم للحاكم والجمهور.
لكن ما الفرق ما بين مفهومي الشورى والديمقراطية؟ ليس الفرق أمرا جدليا، لأن الأمر بكل بساطة بيّنٌ وواضحٌ. والمفاضلة بين الشورى والديمقراطية مقارنة عبثية ربما لا تقوم على نهج قياسي صحيح، وهي تشبه المقارنة بين الهدف والطريق التي تؤدي إلى ذلك الهدف. فالشورى مبدأ، والديمقراطية أحد تطبيقاتها المختلفة. والشورى ثقافة وقيم ومبادئ، والديمقراطية مشروع وخطة.
لقد كفل الإسلام الحرية للناس جميعا، مسلمين ومشركين، موحدين وملحدين، فلم يقيد حرية الإنسان في أهم علاقة تمس الخالق بالمخلوق. والحرية في هذا الاطار ليست غاية وليست قيمة معنوية، بل هي وسيلة لعبادة الله تعالى.
يرى الدكتور حسن عبد الله الترابي أن الحرية الكاملة لا يمكن أن تتحقق في نظام ديمقراطي وضعي لأنه يقوم على مبدأ التنافس والصراع، ويحسم بالأغلبية على حساب أقلية مستضعفة.
والحديث عن عالمية الإسلام لا يعني وحدته السياسية بل يعني وحدته الشعورية ولا يعني القضاء على الثقافات الشعوبية أو فرض نظام سياسي، بل يعني سيادة الإسلام روحا وفكرا وليس سلطة، لأن الإسلام جاء لإعمار النفوس وإعادة بناء هياكلها الروحية وليس بناء هياكل الدولة فقط. وعالمية الإسلام تعني القدرة على مخاطبة الآخر ومحاورته بالحسنى.
مهددات الحركة الإسلامية بالسودان
تزايد عدد المغاضبين بالحركة الإسلامية السودانية دون أن تستوعبهم الشورى حتى أن الأمر قد يرقى إلى مستوى الظاهرة، فإن ذلك مؤشر خطير يستدعي الانتباه والحذر. وتصاعد حالات الضجر والحرد تحتاج لعمل خلاق لاحتوائه، وليس العمل الخلاق بمعنى الاستحالة وإنما فقط تفعيل أطر وآليات الشورى. وليست المشكلة في وجود الاختلاف ولكن المشكلة في انقطاع أدوات التواصل. أدوات ومعينات التواصل ليست الاجتماعات واللقاءات، وهذه سهلة ومقدور عليها، لكن الأمر قيام حواجز معنوية ونفسية تحول دون التواصل حتى في ظل توافر أدوات التواصل التقليدية.
’’
المذكرة التي قدمها عدد من منسوبي الحركة الإسلامية بالسودان أفقدت قيادات الحركة بعض التوازن، لأن أدب المذكرات في السياسة السودانية، يعني الاحتجاج بل هي نوع من أنواع التظاهر ضد الراهن السياسي
’’
عاصفة من الجدل أثارتها تلك المذكرة التي قدمها عدد من منسوبي الحركة الإسلامية بالسودان مؤخرا. المذكرة أفقدت قيادات الحركة بعض التوازن، لأن أدب المذكرات في السياسة السودانية، يعني الاحتجاج بل هي نوع من أنواع التظاهر ضد الراهن السياسي. وأهمية المذكرة أنها جاءت في توقيت حرج وتناولت انتقادات (مؤلمة) لمآلات الوضع السياسي بالسودان، أهمها ما أسمته المذكرة (انحراف عن جادة الطريق) والمقصود هنا التعبير عن إحباطات أصحاب المذكرة جراء ما يرونه من تخل عن الأهداف (السامية) التي من أجلها صعدت الحركة الإسلامية وجناحها السياسي (المؤتمر الوطني) لسدة الحكم بالسودان. المذكرة مسألة جادة لابد أن يأخذها الحزب بجدية ويدرس أسبابها ويتدارك أي (ربيع داخلي) يطيح بالقيادات الحالية التي يرى فيها كثير من شباب الحزب أنها (تكلّست) وأصبحت غير فاعلية ولا تواكب التطورات السياسية الراهنة وأصبحت تتمسك بكراسيها التنظيمية والتنفيذية.
الحركات الإسلامية ونموذج تركيا
مع ميل ميزان القوة بعد الحرب العالمية لصالح العلمانية في تركيا، اقتضى الحال أن تقدم الحركة الإسلامية أفكارها وأطروحاتها بطريقة جديدة، وظهر ذلك من خلال صعود نجم حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، وقفز اقتصاد تركيا خلال فترة وجيزة إلى المرتبة (17) عالميا بفضل سياسة الحزب الحاكم وبلغ النمو 9% وهي نسبة نمو الاقتصاد الصيني العملاق القادم بقوة.
في عام 2001 كانت تركيا على وشك الإفلاس وأحبط الأتراك بسبب تزايد معدل البطالة وانخفاض مستوى دخل الفرد الذى بلغ حينئذ ثلاثة آلاف دولار سنويا، وفى عام 2012 ارتفع متوسط دخل الفرد إلى حوالي 22 ألف دولار سنويا (فى مصر أقل من ألفي دولار سنويا) وصنفت تركيا كثالث أكبر دولة صناعية في أوروبا، واعتبرت شركات المقاولات والإنشاءات التركية ثاني أقوى الشركات أداء على مستوى العالم في أعمال البناء.. خارجيا استطاع أردوغان إحداث اختراق في علاقاتاته مع الشعوب العربية -وليس الحكام- عبر مواقفه القوية تأييداً للقضية الفلسطينية وكسر الحصار على قطاع غزة.
الجماهير الحاشدة التي خرجت للترحيب والهتاف باسم أردوغان في مصر وليبيا، عقب نجاح الثورتين، أصابت البعض بفوبيا ما يسمونه بالوجود التركي أيام الدولة العثمانية. والصورة الأكثر دلالة التي أثارت ثائرة البعض صورة أردوغان وهو يشبك يديه بأيدي قادة ’’المجلس الوطني الانتقالي’’ أثناء صلاة الجمعة في طرابلس. فهناك خوف من نجاح أردوغان في تسويق تركيا كنموذج إسلامي ديمقراطي ناجح في المنطقة. فالرجل زعيم منتخب يحكم دولة مسلمة، وديمقراطية مزدهرة. وأردوغان يصور نفسه على أنه في موقع فريد يسمح له بتشجيع الانتقال المنظم والسلس من الأوتوقراطية إلى الديمقراطية.
التحديات ومجالات الوحدة والتكامل
في ظل العديد من التحديات الماثلة أمام الحركات الإسلامية هناك كذلك العديد من مجالات الوحدة والتكامل. فعلى هذه الحركات الدفاع عن الإسلام بطريقة متجددة، وبناء شبكة قوية من التنسيق بينها وبين ثورات الربيع العربي.
’’
على الحركات الإسلامية العمل على نشر المفاهيم الوسطية وتحجيم ظاهرة التطرف والغلو، وتوحيد الخطاب الدعوي بين الحركات الإسلامية، وإنعاش الاقتصادات الإسلامية
’’
وعلى هذه الحركات العمل على نشر المفاهيم الوسطية وتحجيم ظاهرة التطرف والغلو. كما أن هناك تضاربا كبيرا في الخطاب الدعوي بين الحركات الإسلامية يجب القضاء عليه. ويعتبر إنعاش الاقتصادات الإسلامية مدخلا للاستقرار وتبادل المنافع، وهو أمر لا يقل أهمية عن الشحن الروحي والقيمي.
إن آليات الوحدة والتكامل تتمثل في وحدة العقيدة والهدف، وصدق التوجه والالتزام بالعهود، والإرادة السياسية القوية لدعم الإسلام، فضلا عن القدوة والقيادة الرشيدة.
وبالنسبة للحركة الإسلامية بالسودان فإن أمامها -وهي تستعد لعقد مؤتمرها العام- فرصة لإحداث ربيع داخلها وتجديد دمائها وابتكار حلول ذكية على طريقة النموذج التركي. صحيح أن هناك مهددات خارجية جدية للنظام في السودان، لكن أكبر مهدد اليوم هو التقويض من الداخل.
كانت المذكرة الأخيرة واحدا من مظاهر التململ الداخلي التي تسري في أوصال حزب الحركة القابض على مقاليد الحكم منذ أكثر من (22) عاما. وستبقى الولايات المتحدة الأميركية دولة صاحبة جبروت في المستقبل المنظور على الأقل، وهي تجاهر برغبتها في إسقاط النظام في الخرطوم ولم يجد انفصال الجنوب فتيلا، فرغم تحقيق تلك الرغبة الجامحة لواشنطن فإن ذلك لم يكن إلا هدفا مرحليا.
المصدر:الجزيرة