موريتس برجر*
ترجمة/ علاء البشبيشي
**نرى، فيما نسميه (الربيع العربي)، أن كل دولة عربية كان لديها أسباب مختلفة تقف وراء غضبها، وفي ذات الوقت، نرى تشابهات بارزة. أولاً: التقليد؛ ذلك أن كل ثورة تقلد أختها. ثانيًا: الدور البارز الذي لعبته وسائل الإعلام الاجتماعية (رغم تضخيم هذا الدور في الغرب كما لو كانت هي مشعلة الثورة). ثالثًا: وهو أمر في غاية الأهمية، أن نزعة الشباب لدى الدول والشعوب التي خرجت الآن إلى الشوارع تميل إلى الانتقاد.
لكن الأهمية القصوى تكمن في دور (1) الإسلام (2) والديمقراطية؛ حيث أظهرت استطلاعات الرأي التي أُجرِيَت خلال العقد الفائت أن هذين هما المطلبان الرئيسيان اللذان يمثلان أولوية لدى الشعب العربي. بالنسبة لكثيرين، لا سيما الغربيين، يعتبر هذا تناقضًا اصطلاحيًا. لكن الواقع يُظهِر أن هذه ليست القضية. فالإسلام يعتبر (ثورة هادئة)، أما الديمقراطية فثورة مفاجِئة اشتعلت فقط هذا العام. وكلا الطريقتين يحتاج منا إلى مزيد من الإيضاح.
الثورة الهادئة للإسلام (والتي أسميها ’’أسلمة’’) بدأت منذ سبعينات القرن الفائت في مساحات عديدة من المجتمع. أولاً، بالطبع، على هيئة التزام فردي. لكن أيضًا في النطاق العام، اجتماعيًا (منظمات الرعاية الاجتماعية الإسلامية)، وقانونيًا. حتى الصراع المسلح تمت أسلمته؛ النزاعات الإقليمية (فلسطين نموذجًا) أصبحت دينية. الأهم، في رأيي، هو أسلمة المناخ والخطاب العام: أصبح للإسلام بصمته الملحوظة على اللباس واللغة والفصل بين الجنسين والفن والأخلاقيات. أُصدرت الفتاوى، ورُفِعَت في المحاكم دعاوى ضد المفكرين والسياسيين والفنانين لمخالفتهم الإسلام تصرفًا أو فكرًا أو سياسة. أصبح الإسلام مصدرًا للقوة، ورافدًا للموثوقية، ودافعًا للتغيير. إذا ما أراد شخص أن يكسب حوارًا، أو يصنع تغييرًا مجتمعيًا، فإنه بحاجة إلى الاستدلال بالقرآن والأحاديث النبوية حتى ينجح. السياسيون، والمدافعون عن حقوق المرأة، والمصرفيون يدركون هذه الحقيقة جيدًا.
هذا يشرح لماذا نرى ونسمع القليل حول الإسلام في الانتفاضات الأخيرة: لم تكن الشعوب تريد الإسلام؛ لأنهم يمتلكونه أصلاً. كانوا يريدون الديمقراطية والحرية.
لعقودٍ طويلة، احتلّ العرب مرتبة متقدمة في القائمة العالمية لأكثر الدول التَوَّاقَة للديمقراطية، بيدَ أن العالم العربي لا يزال أقل المناطق ديمقراطية في العالم. وقد أُثِيرت نقاشات لشرح هذا التناقض، الذي يتأرجح بين الحكم التسلطي العربي وعوائد النفط من جانب، ومساندة القوى الغربية للأنظمة الدكتاتورية للإبقاء على الاستقرار في المنطقة، من جانب آخر. وأيًّا كان التفسير، يكفي هنا القول إنّه منذ تسعينيات القرن الفائت اكتسبت الـ(دمقرطة) أهمية، أولاً من أسفل لأعلى بوسائل (المجتمع المدني)، وبعد 11 سبتمبر من أعلى لأسفل عبر الجهود الغربية لتشجيع الأنظمة العربية على أن تصبح أكثر ديمقراطية (بما يخدم مصالح الغرب الشخصية؛ لأنّهم يأملون أن يقتلع الحكم الأكثر ديمقراطية جذور الإرهاب ضد الغرب من أصولها). لكن منذ العام 2011، قامت الشعوب العربية بهذه المهمة بأنفسها.
إذًا، ما المستقبل الذي ينتظر الإسلام والديمقراطية، لا سيما الآن ونحن نرى الأحزاب الإسلامية في مصر والمغرب وتونس تحرز انتصارات مدوية؟
تلوح في الأفق خيارات أربعة: الأول، هو أعمق مخاوف البعض، ويتمثل في انتزاع الأحزاب الإسلامية للسلطة عبر وسائل ديمقراطية (رجل ما، صوت ما، وقت ما). هكذا كان الحال منذ 20 عامًا، لكنه الآن يبدو مختلفًا: الأحزاب الإسلامية تطورت بشكل ملحوظ. الخيار الثاني، هو فرض الشريعة عبر تصويت الأغلبية. والسؤال، هو ما الذي تعنيه الشريعة؟ .. في الحالة المصرية، على سبيل المثال، كانت الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع منذ العام 1982، إذًا ما هو المزيد من الشريعة المراد تطبيقه؟
الخيار الثالث، هو أن تتحول الأحزاب الإسلامية إلى نموذج حزب العدالة والتنمية في تركيا أو الديمقراطيين المسيحيين في أوروبا. وهذا لا يُنتظر حدوثه على المدى القريب؛ لأنه يتطلب طبيعة سياسية مختلفة، وسيادة للقانون هي غائبة الآن في العالم العربي.
الخيار الرابع، والذي أتوقعه شخصيًا، وأشعر بالقلق حياله، هو أن يحفز انتصار الإسلاميين الأسلمة ويقويها. ومن ثم، بينما قد تظل البنية السياسية والتشريعية زيادة أو نقصانًا قائمة، فإنّ النطاق العام سيصطبغ بالسياق الإسلامي. ويمكن للسياسات أن تتخذ من الإسلام ملهمًا. شيء مختلف نوعًا حينما يصبح الإسلام هو اللغة السياسية: يصبح وصم المعارضين السياسيين ’’بالغباء’’ بريئًا للغاية مقارنة بـ’’تكفيرهم’’. وحينما يصبح الإسلام هو اللغة السياسية السائدة، سيحدث انقسام تلقائيّ بين أبناء الوطن الواحد من غير المسلمين. والحريات التي يتوق الجميع سيُضَيَّق عليها بما يتوافق مع المعايير الإسلامية، ما يفرز رقابة (ذاتية) على حرية الرأي والتعبير.
* بروفيسور موريتس برجر، أستاذ الإسلام في الغرب المعاصر بجامعة ليدن، وأحد كبار الباحثين المشاركين في المعهد الهولندي للعلاقات الدولية.
باحث في مجالات: الشريعة الإسلامية والإسلام السياسي وحرية الدين.
يعمل حاليًا على دور الدين والشريعة في البلدان الغربية.
يقوم بتدريس دورات: تاريخ الإسلام في الغرب، وقانون الأقليات ودينهم، والإسلام السياسي، وفلسفة تشريع الأقليات الإسلامية في أوروبا.
** ملخص محاضرة أُلقِيَت في بيروت 19 ديسمبر 2011.
*الإسلام اليوم
ترجمة/ علاء البشبيشي
**نرى، فيما نسميه (الربيع العربي)، أن كل دولة عربية كان لديها أسباب مختلفة تقف وراء غضبها، وفي ذات الوقت، نرى تشابهات بارزة. أولاً: التقليد؛ ذلك أن كل ثورة تقلد أختها. ثانيًا: الدور البارز الذي لعبته وسائل الإعلام الاجتماعية (رغم تضخيم هذا الدور في الغرب كما لو كانت هي مشعلة الثورة). ثالثًا: وهو أمر في غاية الأهمية، أن نزعة الشباب لدى الدول والشعوب التي خرجت الآن إلى الشوارع تميل إلى الانتقاد.
لكن الأهمية القصوى تكمن في دور (1) الإسلام (2) والديمقراطية؛ حيث أظهرت استطلاعات الرأي التي أُجرِيَت خلال العقد الفائت أن هذين هما المطلبان الرئيسيان اللذان يمثلان أولوية لدى الشعب العربي. بالنسبة لكثيرين، لا سيما الغربيين، يعتبر هذا تناقضًا اصطلاحيًا. لكن الواقع يُظهِر أن هذه ليست القضية. فالإسلام يعتبر (ثورة هادئة)، أما الديمقراطية فثورة مفاجِئة اشتعلت فقط هذا العام. وكلا الطريقتين يحتاج منا إلى مزيد من الإيضاح.
الثورة الهادئة للإسلام (والتي أسميها ’’أسلمة’’) بدأت منذ سبعينات القرن الفائت في مساحات عديدة من المجتمع. أولاً، بالطبع، على هيئة التزام فردي. لكن أيضًا في النطاق العام، اجتماعيًا (منظمات الرعاية الاجتماعية الإسلامية)، وقانونيًا. حتى الصراع المسلح تمت أسلمته؛ النزاعات الإقليمية (فلسطين نموذجًا) أصبحت دينية. الأهم، في رأيي، هو أسلمة المناخ والخطاب العام: أصبح للإسلام بصمته الملحوظة على اللباس واللغة والفصل بين الجنسين والفن والأخلاقيات. أُصدرت الفتاوى، ورُفِعَت في المحاكم دعاوى ضد المفكرين والسياسيين والفنانين لمخالفتهم الإسلام تصرفًا أو فكرًا أو سياسة. أصبح الإسلام مصدرًا للقوة، ورافدًا للموثوقية، ودافعًا للتغيير. إذا ما أراد شخص أن يكسب حوارًا، أو يصنع تغييرًا مجتمعيًا، فإنه بحاجة إلى الاستدلال بالقرآن والأحاديث النبوية حتى ينجح. السياسيون، والمدافعون عن حقوق المرأة، والمصرفيون يدركون هذه الحقيقة جيدًا.
هذا يشرح لماذا نرى ونسمع القليل حول الإسلام في الانتفاضات الأخيرة: لم تكن الشعوب تريد الإسلام؛ لأنهم يمتلكونه أصلاً. كانوا يريدون الديمقراطية والحرية.
لعقودٍ طويلة، احتلّ العرب مرتبة متقدمة في القائمة العالمية لأكثر الدول التَوَّاقَة للديمقراطية، بيدَ أن العالم العربي لا يزال أقل المناطق ديمقراطية في العالم. وقد أُثِيرت نقاشات لشرح هذا التناقض، الذي يتأرجح بين الحكم التسلطي العربي وعوائد النفط من جانب، ومساندة القوى الغربية للأنظمة الدكتاتورية للإبقاء على الاستقرار في المنطقة، من جانب آخر. وأيًّا كان التفسير، يكفي هنا القول إنّه منذ تسعينيات القرن الفائت اكتسبت الـ(دمقرطة) أهمية، أولاً من أسفل لأعلى بوسائل (المجتمع المدني)، وبعد 11 سبتمبر من أعلى لأسفل عبر الجهود الغربية لتشجيع الأنظمة العربية على أن تصبح أكثر ديمقراطية (بما يخدم مصالح الغرب الشخصية؛ لأنّهم يأملون أن يقتلع الحكم الأكثر ديمقراطية جذور الإرهاب ضد الغرب من أصولها). لكن منذ العام 2011، قامت الشعوب العربية بهذه المهمة بأنفسها.
إذًا، ما المستقبل الذي ينتظر الإسلام والديمقراطية، لا سيما الآن ونحن نرى الأحزاب الإسلامية في مصر والمغرب وتونس تحرز انتصارات مدوية؟
تلوح في الأفق خيارات أربعة: الأول، هو أعمق مخاوف البعض، ويتمثل في انتزاع الأحزاب الإسلامية للسلطة عبر وسائل ديمقراطية (رجل ما، صوت ما، وقت ما). هكذا كان الحال منذ 20 عامًا، لكنه الآن يبدو مختلفًا: الأحزاب الإسلامية تطورت بشكل ملحوظ. الخيار الثاني، هو فرض الشريعة عبر تصويت الأغلبية. والسؤال، هو ما الذي تعنيه الشريعة؟ .. في الحالة المصرية، على سبيل المثال، كانت الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع منذ العام 1982، إذًا ما هو المزيد من الشريعة المراد تطبيقه؟
الخيار الثالث، هو أن تتحول الأحزاب الإسلامية إلى نموذج حزب العدالة والتنمية في تركيا أو الديمقراطيين المسيحيين في أوروبا. وهذا لا يُنتظر حدوثه على المدى القريب؛ لأنه يتطلب طبيعة سياسية مختلفة، وسيادة للقانون هي غائبة الآن في العالم العربي.
الخيار الرابع، والذي أتوقعه شخصيًا، وأشعر بالقلق حياله، هو أن يحفز انتصار الإسلاميين الأسلمة ويقويها. ومن ثم، بينما قد تظل البنية السياسية والتشريعية زيادة أو نقصانًا قائمة، فإنّ النطاق العام سيصطبغ بالسياق الإسلامي. ويمكن للسياسات أن تتخذ من الإسلام ملهمًا. شيء مختلف نوعًا حينما يصبح الإسلام هو اللغة السياسية: يصبح وصم المعارضين السياسيين ’’بالغباء’’ بريئًا للغاية مقارنة بـ’’تكفيرهم’’. وحينما يصبح الإسلام هو اللغة السياسية السائدة، سيحدث انقسام تلقائيّ بين أبناء الوطن الواحد من غير المسلمين. والحريات التي يتوق الجميع سيُضَيَّق عليها بما يتوافق مع المعايير الإسلامية، ما يفرز رقابة (ذاتية) على حرية الرأي والتعبير.
* بروفيسور موريتس برجر، أستاذ الإسلام في الغرب المعاصر بجامعة ليدن، وأحد كبار الباحثين المشاركين في المعهد الهولندي للعلاقات الدولية.
باحث في مجالات: الشريعة الإسلامية والإسلام السياسي وحرية الدين.
يعمل حاليًا على دور الدين والشريعة في البلدان الغربية.
يقوم بتدريس دورات: تاريخ الإسلام في الغرب، وقانون الأقليات ودينهم، والإسلام السياسي، وفلسفة تشريع الأقليات الإسلامية في أوروبا.
** ملخص محاضرة أُلقِيَت في بيروت 19 ديسمبر 2011.
*الإسلام اليوم