معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية
*محمد توفيق زين العابدين
الحمد لله الذي رفع لنا في كل ثغر عَلَمًا، وأجرى لنا في جوار كل بحر ما يضاهيه كرمًا، وجعل في هذه الأمة من المسلمين إلى اليوم من يزيد الناس عِلمًا ويمحو من الظلمات ظلمًا، أما بعد:
فلا يمكن الكلام عن قضية تطبيق الشريعة الإسلامية دون التعرض لموضوع هام يرتبط بها ارتباطًا وثيقًا مؤثرًا، وهو: (معوقات تطبيق الشريعة) إذ لا سبيل للوصول للحق من دون تذليل العقبات التي تعترضه، وفي ضوء ما سيتم إزالته من عقبات، ومن خلال ما سيتم تقديمه من تهيئة، ستُحسَم قضية تطبيق الشريعة بسرعة وستؤتي ثمارها بين الناس.
وليس معنى ما تقدم تعليقَ تحكيم الشريعة لحين تذليل هذه العقبات؛ فتذليل هذه العقبات ربما يستغرق شهورًا أو سنوات، بل معناه أن كلا الأمرين (تطبيق الشريعة، وإزالة معوقات تطبيقها) لابد أن يسير في الاتجاه ذاته في الوقت ذاته، كما حدث ذلك بشأن تحكيم القوانين الوضعية حين عمد المستعمرون والعَلمانيون إلى وضع هذه القوانين في نهاية عهد الدولة العثمانية وبعدها، بالرغم من أن الشعوب الإسلامية لم تكن لتتقبل ذلك في هذا التوقيت طواعيةً واختيارًا، لكنَّ المستعمرين لم يدخلوا القوانين الوضعيةَ البلادَ الإسلامية فحسب، بل أخذوا ينفِّذون خطة منهجية لمسخ المناهج الدراسية وتصفيتها من الجوانب الدينية شيئًا فشيئًا، ولم يكن هذا في المدارس النظامية فقط، بل كذلك في المدارس والمعاهد الدينية، وكذلك شرعوا في تأسيس مدارس الحقوق وكلياتها وَفْق مناهجهم لبثِّ سمومهم وتكوين جيل من المسلمين يحمل على عاتقه مهمة الانحراف بالأمة عن شرع الله بدلاً عنهم إما عمداً أو جهلاً. وليس ذلك فحسب بل أخذوا ينعِمون بالمنح الدراسية في جامعاتهم على أفذاذ شباب هذه الأمة وأوائل الطلبة في مدارس وكليات البلاد الإسلامية - كما حدث مع الأستاذين الشهيرين عبد الرزاق السنهوري وطه حسين وغيرهما - ليعودوا بعد استكمال دراستهم أشد عداءً للشريعة؛ ففرنسا وإنكلترا وأمريكا وغيرها تحصد الآن ما زرعته وما بذلته من مجهود في سبيل تغيير التوجه العام للشعوب الإسلامية، وتهيئة المناخ نحو رفض تطبيق الشريعة إذا ما أُذن لها أن تعود، وكل ما علينا إذن هو إعادة تهيئة هذا المناخ نحو تقبُّل الشريعة قانونًا يتحاكم إليه وبه المسلمون بإزالة المعوقات والعقبات التي وضعها الغربيون للحيلولة دون تطبيق الشريعة.
ويمكننا تقسيم معوقات تطبيق الشريعة إلى قسمين:
الأول: معوقات نفسية وفكرية تتعلق بالإيمان والعقيدة والعوامل النفسية وطرق التفكير.
الثاني: معوقات مادية وواقعية فرضتها حوادث تاريخية أو ظروف حالية.
القسم الأول: المعوقات النفسية والفكرية:
أولاً: الجهل بحقيقة الشريعة وقدرتها على مواكبة متطلبات العصر الحديث:
من أهم معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية جهل الناس بحقيقة الشريعة وقدرتها على مواكبة متطلبات العصر الحديث؛ إذ يظنون أنها عاجزة عن الوفاء بهذه المتطلبات والنوازل، وأن مصادر التشريع قد خلت من معالجة المسائل العصرية المستحدثة.
وهذه الظنون مبناها على الجهل بحقيقة الشريعة وبمصادر التشريع الإسلامي، وقد تولدت نتيجة تقصير الدعاة عن بيان محاسن التشريع ووجوه إعجازه وأصوله وأحكامه ومصادره، وإذا كنا نريد تطبيق الشريعة فلزامًا أن نُبيِِّن للناس محاسنها وإيجابياتها وفضائلها وما فيها من خير في الدنيا قبل الآخرة، ونبرز لهم وجوه إعجازها وعلو كعبها على غيرها من الشرائع والتقنينات، ونقدم لهم صورة واضحة عن الإسلام وأحكامه وقدرته على التعامل مع غير المسلمين بإنصاف وعدل، وفي الجملة بيان أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان؛ لكثرة علومها، وتعدُّد مصادرها، وتنوُّع قواعدها ما بين كلية وجزئية يمكن تنزيل المسائل والفروع عليها - مهما كانت عصرية أو مستحدثة - على نحو يضبط حياة الناس ومعاملاتهم.
ثانيًا: ضعف الإيمان عند كثير من المسلمين، وشعورهم بالهزيمة النفسية:
من معوقات تطبيق الشريعة ضعف الإيمان عند كثير من المسلمين، وهذا الضعف يتمثل في جانبين:
الأول: عدم الثقـة في موعود اللـه تعالى بنصره للمسلمين إذا ما تمسـكوا بدينهـم وعادوا لشـريعتهم مصـداقًا لقول الله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور: 55].
الثاني: عدم الثقة في أحكام الشريعة وقدرتها على مواكبة التطور وتنظيم أحوال المجتمعات وما طرأ عليها والوفاء بحاجات الناس وحل مشاكلهم ومنازعاتهم.
ولضعف الإيمان المتقدم أسباب متعددة، بعضها نفسي عقائدي يتعلق ببُعد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم الصحيحة، وتأثرهم بالفكر العَلماني وفكرة فصل الدين عن الدولة، واعتقاد أن الدين مصدر التخلف. وبعضها يتعلق بأسباب تاريخية وواقعية جراء الهزائم المتوالية التي تعرَّض لها المسلمون في الفترة الأخيرة من تاريخهم، وانقسامهم وتشتتهم، وتخلفهم اقتصاديًّا وعسكريًّا مع تقدم أعدائهم، وتزايد نفوذ العَلمانيين في أجهزة الإعلام ومؤسسات الدولة.
كل هذه الأسباب أدت إلى ضعف إيمان كثير من المسلمين وتغلغل الهزيمة النفسية في أعماقهم حتى ظنوا أنه لا سبيل لهم للخروج من هذه الكبوة، والنهوض من هذه الغفلة لمسايرة ركب التقدم والحضارة، إلا بتتبع الغرب وفصل الدين عن الدولة.
ويمكن التغلب على هذا المعوق بالتربية والتوجيه والإرشاد، وتوضيح إيجابيات أحكام الشريعة ووجوه إعجازها وقدرتها على مسايرة التطور والوفاء بحاجات الناس وحل مشاكلهم الاجتماعية ومنازعاتهم القضائية.
ثالثًا: انعدام الثقة في النخبة الإسلامية:
إن انعدام الثقة في الإسلاميين من مفكرين وسياسيين وقانونيين منوطٌ بهم وضعُ الشريعة الإسلامية في موضعها الصحيح في النظام السياسي والقانوني للدولة، أدى إلى فَقْد الناس الثقة في التشريع الإسلامي؛ لاسيما الجوانب التي تتعلق بعلاقة المسلمين مع غيرهم، وقد حدث هذا نتيجة أمرين:
الأول: تعليق كثير من الناس الحكم على التشريع الإسلامي بحكمهم على الدعاة ونخبة المفكرين والسياسيين والقانونيين الإسلاميين.
الثاني: الممارسات الخاطئة لبعض هؤلاء السياسيين والقانونيين، وهو ما ينعكس بالضرورة على دعوتهم وسياساتهم ومناهجهم.
ولئن كانت هناك بعض الممارسات الخاطئة لبعض الدعاة والمفكرين والداعمين لقضية تطبيق الشريعة من السياسيين والقانونيين فهذا لا يَضير الشريعة ولا يعيبها؛ وإنما العيب في الأشخاص وممارساتهم الخاطئة، وعليه فيجب التفرقة في الحكم بين المنهج والداعي للمنهج.
رابعًا: التأثر بفكر دعاة حقوق الإنسان:
من معوقات تطبيق الشريعة تأثُّر كثير من الناس بفكر بعض دعاة حقوق الإنسان الذين يتهمون نظام العقوبات الإسلامي وتشريعات الحدود بالقسوة وانتهاكها لحقوق الإنسان. وهذا نابع من عدم الفهم الصحيح لحقيقة نظام العقوبات في التشريع الإسلامي، والجهل بحكمتها وتعدد أغراضها وتنوعها لتحقيق الزجر والردع والتأديب للشريرين والمفسدين بحسب نوع الجُرم المرتكَب؛ فما كانت مفسدته عظيمة كانت عقوبته عظيمة، وما كانت مفسدته يسيرة فعقوبته يسيرة، وما كانت مفسدته مختَلَف فيها بحسب اختلاف الزمان والمكان فتقدير عقوبته متروك لولي الأمر، وقد تولى الله عز وجل بحكمته وعلمه ورحمته تقدير عقوبات بعض هذه الجرائم نوعًا وقَدْرًا لما فيها من المفسدة الثابتة التـي لا تتبـدل مهمـا اختلـف الـزمان والمكـان رفعًا منه عز وجل للحرج وإزالةً للاختلاف، فله الحمد والمنة.
خامسًا: التعصب المذهبي والفكري بين المسلمين:
فالتعصب المذهبي والفكري لدى بعض المسلمين جعلهم يتشددون في المسائل الخلافية، ويثرِّبون على مخالفيهم، ويوصدوا باب الاجتهاد، فنجم عن هذا إساءة الظن بالشرع، والرضا بالقوانين الوضعية بديلاً عن الشريعة.
يقول الأستاذ عبد القادر عودة - رحمه الله -: (ومن الثابت تاريخيًّا أن القوانين الأوروبية نُقلت إلى مصر في عهد الخديوي إسماعيل، وأنه كان يود أن يضع لمصر مجموعات تشريعية مأخوذة من الشريعة ومذاهب الفقه الإسلامي المختلفة وقد طلب من علماء الأزهر أن يضعوا هذه المجاميع، ولكنهم رفضوا إجابة طلبه؛ لأن التعصب المذهبي منعهم من أن يتعاونوا على إظهار الشريعة في أجمل صورها، فضحُّوا بالشريعة جميعها، واحتفظ كلٌّ بمذهبه، والتعصب له وأضاعوا على العالم الإسلامي فرصة طالما بكوا على ضياعها، وحق لهم أن يبكوا عليها حتى تعود).
ويقول الدكتور عمر سليمان الأشقر: (والذي زاد الطين بِلَّة: جمود المتفقهة المفتين والمعلمين والواعظين على نصوص كتب متبوعيهم المتأخرين، بدون تبصُّر وإعمال روية، ورجوع إلى أصول الشريعة وأقوال السلف، وجهلهم بمقتضى الزمان والعمران، ونفورهم من كل جديد بدون أن يزِنوه بميزان الشريعة، ومناوأتهم المجددين بدون إصغاء إلى براهينهم، ومكافحتهم العلوم العقلية والكونية، وتحذير الناس من دراستها، وتحجيرهم على غيرهم الاستهداء من الكتاب والسنة لزعمهم أن ذلك كله مخالف للدين، لجهلهم بحقيقة الدين؛ لأن هذه الشريعة الغراء السمحة تسير مع العلم جنبًا إلى جنب، واسعة تسع قواعدُها العامة كلَّ جديد من مقتضيات الزمان والعمران؛ لأنها محض رحمة وسعادة.
وأغرب من هذا أن هؤلاء الجامدين من أُسَرَاء التقليد لا يتأثمون من مداهنة الحكام والتجسس لهم، وغشيان ولائمهم التي يتخللها من المنكرات ما تقطع الشريعة بتحريمه، وتوقيعه المقررات المستمدة من القوانين الوضعية، أو الأوضاع الإدارية، أو الاستحسان الكيفي حرصًا على رواتبهم التي يتقاضونها من خزينة الحكومة، أو تعزيزًا لجاههم ومكانتهم، ويتورعون عن الاجتهاد في نازلةٍ نزلت بالمسلمين لأنها غير منصوص عليها بصريح العبارة في كتب المتأخرين من متبوعيهم، فنجم عن تورعهم هذا هجرُ الشريعة والاستعاضة عنها بالقوانين وتشتُّت شمل المسلمين؛ إذ ضربت الفوضى أطنابها، وألقى كلُّ واحد حبله على غاربه، وخُيِِّل إلى الجاهلين بالشريعة أنها عقبة كؤود في سبيل الرقي والتجدد والسعادة، كما رسخ في أذهان كثيرٍ من أبنائها أنها غير وافية بمقتضيات هذا الزمان، لعدم وقوفهم على قواعدها العامة الواسعة الشاملة؛ لأن هؤلاء الجامدين حالوا بتكاثف جمودهم، وتبلُّد غبواتهم بينها وبين من يريد اقتباس أنوارها والاستضاءة بأشعتها، واقتطاف ثمرها واستنشاق أريج نورها).
القسم الثاني: المعوقات المادية والواقعية:
أولاً: الاستعمار السياسي والاقتصادي:
المقصود بالاستعمار السياسي هو: تحكُّم الدول الغربية العظمى في النظم السياسية للبلاد الإسلامية بُغيَة السيطرة على القرارات السيادية والسياسية فيها في مجالات الأمن الداخلي والنظام القانوني والتشريعي والسياسة الخارجية.
أما الاستعمار الاقتصادي فيقصد به: تحكُّم الدول العظمى في مصادر ثروات البلاد الإسلامية ومواردها الطبيعية، واحتكار المواد الخام، والسيطرة على أسواق المال والذهب بها، على نحو يحرم هذه البلاد من استغلال مواردها الطبيعية والمواد الخام بها ويجعلها في عداد الدول الاستهلاكية التي تعتمد في اقتصادها على غيرها من الدول: إما لما تصدِّره لها من سلع ومنتجات، أو لما تمنحه لها من قروض وما تقدِّمه من مساعدات مالية أو عينية.
وهذا الاستعمار هو في حقيقته احتلالٌ غير مباشر للبلاد، لجأت إليه الدول الغربية بعد أن تكبدت خسائر فادحة في الأموال والأرواح في حروبها وأثناء استعمارها للبلاد الإسلامية والإفريقية؛ بحيث تُحكِم سيطرتها السياسية والاقتصادية على هذه البلاد وتحول بينها وبين تقرير مصيرها بإرادتها الحرة بطريقة لا تثير ثورات الشعوب أو استنكار الرأي العام العالمي.
وللدول الغربية عدة وسائل في تحقيق هذا الاستعمار، منها: دعم النظم السياسية التسلطية المتجبرة، وعقد الاتفاقيات غير المتكافئة، ومنح القروض والمساعدات المالية المشروطة، وتقديم المنح العينية كالآلات والمصنوعات والمركبات والمعدات الحربية دون قطع غيارها، وتقديم التسهيلات اللازمة لتصدير منتجاتها لغيرها من البلاد، ووضع العراقيل والعقبات لاستيراد منتجات هذه البلاد، وإعارة الخبراء والمتخصصين وتقديم المساعدات الفنية المشروطة، والمساهمة في تنفيذ المشروعات الاقتصادية طويلة المدى، والحصول على القواعد العسكرية البرية والبحرية والجوية، وإنشاء البنوك الربوية، والسيطرة على أسواق المال (البورصات) وأسواق الذهب، وإثارة الاضطرابات الداخلية والانقسامات الطائفية والحزبية، وغير ذلك.
ثانيًا: توجهات الحُكام وتسلطهم:
فأكثر الحُكام في البلاد الإسلامية يرفضون فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية: إما لأنهم ينتهجون سياسة فصل الدين عن الدول، وإما لأنهم يخافون من أن يؤدي تطبيق الشريعة إلى تأخُّرهم وتخلُّفهم، أو يجُرَّ عليهم النزاعات الداخلية وغضب الدول الغربية، أو يثير الفتن الطائفية والرأي العام الغربي قِبَلهم؛ فهم بين علمانية محضة أو تخوفات متوهمة.
ثالثًا: أُمية المناهج الدراسية الدينية:
لا شك أن المناهج التعليمية النظامية في كثير من البلاد الإسلامية أدت إلى مسخ هوية الطلبة والدارسين الإسلامية والعربية، بل وتعطيل مُكنَاتهم، وقتل مواهبهم، وإعلاء شأن اللاعبين والفاسدين منهم، واعتبار كلِّ متمسك بدينه متخلفًا رجعيًّا، فسُميت الأشياء بغير أسمائها، ووصفت بعكس أوصافها، حتى أنكر الصالحون أنفسَهم، وانكسرتْ قلوبهم، وماتتْ هممهم نحو الإصلاح.
وإذا كان تطبيق الشريعة قد بات أمرًا ملحًّا، فتطوير المناهج التعليمية وتحديث الجوانب الدينية فيها - لاسيما بإبراز محاسن الشريعة وأوجه الإعجاز فيها في جميع المجالات - هو أمرٌ لازمٌ لتهيئة المناخ نحو تطبيق الشريعة، وذلك لسببين:
أولاً: إعادة تهيئة المجتمع وتوجيهه نحو تقبُّل الشريعة قانونًا يُتحاكم إليه وبه، بل نحو مطالبته بتطبيقها، وتمسكه باستمرارها إذا ما أُذن لها أن تُطبَّق.
ثانيًا: إعداد جيل يستطيع النهوض بمهمة تطبيق الشريعة إذا ما تم تعليمه وتثقيفه وإعـداده على نحو يملك معه مقومات الاجتهاد ليعود بهذه الأمة إلى عصر الاجتهاد الفقهي الذي نحن في أشد الحاجة إليه في العصر الحاضر لمواجهة النوازل والمستحدثات.
وهذا التطوير والتحديث يجب أن يكون شاملاً لجميع المراحل التعليمية وَفْق ما تتطلبه كل مرحلة وتستلزمه، ويجب أن تُولِي الكليات الحقوقية ومراكز الدراسات القضائية تدريس الشريعة الإسلامية اهتمامًا فائقًا وعناية كبيرة بالقدر الذي يتناسب مع كونها المصدر الرئيس للتشريع.
رابعًا: تخلُّف المسلمين في العلوم التطبيقية:
إن أميَّة المسلمين المتفشية في الحقيقة لا تتعلق بالجوانب الدينية فحسب؛ بل إنها في مجالات العلوم التطبيقية والصناعية والتقنيات الحديثة أعظم وأكبر، وهو ما جعل الأمة الإسلامية في شأن هذه العلوم في ذيل أمم الأرض حتى نُعتت البلاد الإسلامية بـالمتخلفة والنامية والمتأخرة ودول العالم الثالث إلى غير ذلك.
وقد دفع تخلُّف هذه البلاد عن الدول الشرقية والغربية غير الإسلامية كثيرًا من الناس إلى عزو ذلك إلى جمود تفكيرهم والشريعة التي يعتنقونها، وهو عزو خاطئ بلا ريب وإن كان واقعًا؛ فإن تخلُّف المسـلمين وإن كان قد بات حقيقةً لا جدال فيها، لكنَّ سببه الحقيقي هو بُعْد المسلمين عن دينهم وعدم تمسكهم بشريعتهم، ومحاولتُهم تقليد الغربيين، بالرغم من اختلاف مقومات الفريقين ومبادئهما وقيمهما، وهو ما ينعكس بالضرورة على أساليب الحياة والمعيشة ويجعلها متباينة بالضرورة؛ فلا هم لحقوا بحضارة المسلمين الضائعة ولا هم لحقوا بركب تقدم الغرب.
خامسًا: سيطرة العَلمانيين على الوسائل الإعلامية:
العَلمانية هي أشد الأخطار الداخلية التي تواجه المسلمين في الوقت الحالي، وخطورة العَلمانيين لا تتعلق بشبههم التـي يبثونها بقدر ما تتعلق بسيطرتهم على الأجهزة الإعلامية، وارتدائهم ثوب العلم والثقافة من خلال ما يتمتعون به من وظائف مرموقة مؤثِّرة في المجتمع، فمن خلال هاتين الوسيلتين استطاعوا محاربة الشريعة وبثَّ شُبههم التي هي من الضعف بمكان يمكن معه دحضها بسهولة وبلا تكلُّف، لكن الذي حال دون ذلك هو سيطرة العَلمانيين على الوسائل الإعلامية؛ بحيث لا يمكن لغيرهم الرد عليهم ودحض شبههم إلا بصعوبة بالغة، فلا سبيل إذًا للوصول لتطبيق الشريعة الإسلامية وتهيئة المناخ العام لتقبُّلها إلا بتطهير وسائل الإعلام - سـواء المرئية أو المسـموعة أو المقروءة - ممن لا يريدون للشريعة أن تسود وتحكم، أو إيجاد وسائل بديلة مضادة لدفع ضغطهم ودحض شُبههم.
سادسًا: تعدد الأحزاب السياسية وتشعُّب توجهاتها:
الحزب السياسي: هو وسيلة يتخذها القائمون عليه ذريعةً لانتزاع السلطة بُغيَة تنفيذ السياسات التي أنشؤوه من أجلها، وخطورة قضية (الأحزاب السياسية) تظهر في حال تعدُّدها وضعفها؛ فتعدُّد الأحزاب الضعيفة يعني بالضرورة تعدُّدَ السياسات والبرامج وتشعُّب توجهاتها، وهو ما يستتبع - في الغالب - الأعم الاختلاف والتناحر والتمزُّق؛ فإنه لا تكاد توجد قضية واحدة تتفق عليها عدة أحزاب، وإذا وُجدَت هذه القضية فمن المؤكد أن هذه الأحزاب لن تتفق على تفصيلاتها والجوانب المتعلقة بمعالجتها في الواقع العملي، وقد انعكس هذا على قضية تطبيق الشريعة؛ إذ عملت كثير من الأحزاب السياسية على اتخاذ هذه القضية مطيةً لجمع المؤيدين وتحقيق أهدافها السياسية بالوصول إلى سُدَّة الحكم، تارةً برفضها وتارةً بوضع خطط منهجية لقبولها تؤدي في النهاية - حتمًا - لعدم تطبيق الشريعة.
سابعًا: الدعوة الخاطئة إلى تطبيق أحكام الشريعة:
إن الطريقة الخاطئة التي يمارسها بعض الدعاة في دعوتهم للناس إلى تطبيق أحكام الشرع من أهم معوقات تطبيق الشريعة؛ حيث يختزل بعض الدعاة قضية تطبيق الشريعة عند عرضها في جانب العقوبات وإقامة الحدود، دون التعرض لغير ذلك من المسائل المدنية ومسائل الأحوال الشخصية والأمور التكافلية الاجتماعية والنظم السياسية والقضائية، فإن الشريعة تمثل منهجًا شاملاً متكاملاً لحياة الأفراد ونظم الدولة في كل جوانبها وفي كل صورها وأشكالها.
هذا فضلاً عن أن البعض حين يعرض لقضية العقوبات الشرعية وإقامة الحدود يقتصر على الدعوة لتطبيقها بأسلوب سطحي دون بيان حكمتها ومحامدها، والخوض في دواعيها وأسبابها وأغراضها وأهميتها في حياة الأفراد، وغير ذلك من جوانب تفصيلية تتعلق بها مما ينبغي إبرازه وبيانه مع أصل القضية.
إننا اليوم في حاجة ماسة لعقد المقارنات بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية في أتقن صورها وأحدث أشكالها - ولا وجه للمقارنة أصلاً - كي نبين للناس مدى جلالة الشريعة وإعجازها وتفرُّدها. يقول الأستاذ عبد القادر عودة - رحمه الله -: (وحين أقارن بين الشريعة والقوانين الوضعية لن أتتبع القانون في أطواره الأُولَى بالمقارنة والموازنة، ولن أقارن بين القانون في القرن السابع الميلادي وبين الشريعة التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم في أول هذا القرن، فإن القانون في هذه العهود لم يكن في مستوى يسمح له أن يقارن بالشريعة الإسلامية، ولكني أقارن حين أقارن بين القانون في عصرنا الحاضر وبين الشريعة، وحين أفعل هذا إنما أقارن بين قانون متغيِّر متطور يسير حثيثًا نحو الكمال حتى يكاد يبلغه كما يقال، وبين شريعة نزلت من ثلاثة عشر قرنًا لم تتغير ولم تتبدل فيما مضى، ولن تتغير أو تتبدل في المستقبل، شريعةٍ تأبى طبيعتها التغيير والتبديل؛ لأنها من عند الله، ولا تبديل لكلمات الله ولا لأيٍّ من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه، فليس ما يخلقه في حاجة إلى إتقان من بعد خلقه، فنحن إذن حين نقارن إنما نقارن بين أحدث الآراء والنظريات في القانون وبين أقدمها في الشريعة، أو نحن نقارن بين الحديث القابل للتغيير والتبديل وبين القديم المستعصي على التغيير والتبديل، وسنرى ونلمس من هذه المقارنة أن القديم الثابت خير من الحديث المتغير، وأن الشريعة على قِدَمها أجلُّ من أن تقارن بالقوانين الوضعية الحديثة، وأن القوانين الوضعية بالرغم مما انطوت عليه من الآراء واستُحدث لها من المبادئ والنظريات لا تزال في مستوى أدنى من مستوى الشريعة، وَلْيَعجَب من شاء كما يشاء من هذا القول؛ فإن الحق في هذه الأيام أصبح غير مألوف بحيث يَعجَب منه أكثر الناس، ولكن العجب لن يستبد بمن كان له عقل يُفكر ويُقدر ويُقارن ويُوازن ويُميز الخبيث من الطيب).
فهذه هي العقبات الحقيقية أمام تطبيق الشريعة الإسلامية، التي يجب العمل على إزالتها وتذليلها حتى يمكن للناس تقبُّل تطبيق الشريعة والاستجابة لأحكامها.
وهناك معوقات أخرى متوهَّمة لا أصل لها في الواقع، يحاول بعض المسوِّفين الترويج لها لتعطيل تطبيق الشريعة، وأهم هذه المعوقات المتوهمة:
العجز عن تفعيل أحكام الشريعة:
حيث يزعم بعضهم أن أحكام الشريعة منثورة في بطون أمهات الكتب، وأنها كثيرة متشعبة تستعصي على الجمع والتقنين، ولا سبيل لتطبيق الشريعة من دون تشكيل اللجان وعقد المؤتمرات والندوات ووضع الأبحاث والدراسات والمشروعات لتقنين أحكام الفقه في المجالات القانونية المختلفة، وهو ما يستغرق وقتاً طويلاً ربما يصل لعدة سنوات.
وهذه الدعوى لا يُراد بها إلا تضييع الوقت وتمييع قضية تطبيق الشريعة، فمشروعات تقنين الشريعة مُعدَّة بالفعل في عدة مجالات ووَفْق مختلف المذاهب؛ سواء التي أعدها (مجمع البحوث الإسلامي)، أو لجان (مجلس الشعب المصري)، أو لجان (محكمة النقض المصرية)، أو حتى لجان (جامعة الدول العربية)، وإذا كان من نقص في مجال ما من المجالات القانونية، فليس هناك ما يمنع من تفعيل المشروعات المعدة بالفعل لحين الانتهاء من مشروعات أخرى وتنقيح القوانين الوضعية المعمول بها، كما يتم الآن الأخذ بأحكام الشريعة في كثير من مسائل الأحوال الشخصية دون غيرها من المجالات القانونية.
إن الرجوع إلى التشريع الإسلامي قد بات ضرورةً قصوى حتى لا تكون ثمة فجوة بين طبيعة واقع الأفراد الاجتماعي وبين القوانين التي تحكمهم، فلا ريب أن القانون ينبغي أن يعكس بصدق أحوال المجتمع المادية والفكرية، وأن يحقق متطلباته وآماله. وإذا كانت التقنينات الوضعية قد أصلت لمناهجها وَفْقًا للقواعد والنظريات التي درج شُرَّاح القوانين على إدراجها في القسم العام منها، فإن الفقه الإسلامي أيضًا قد سبق إلى كثيرٍ من هذه النظريات والقواعد على أساس أحكام القرآن الكريم أو السنة المطهرة أو الاجتهاد الفقهي؛ سواء من حيث نطاق التشريع وتطبيقه أو من حيث الزمان والمكان، وكذلك أركان الجرائم وإثباتها وشروط المسؤولية الجنائية والاشتراك في الجريمة وأسباب الإباحة وتنفيذ العقوبات وأسباب وَقْفها، بما يُعَد في الحقيقة سبقًا علميًّا لعلماء المسلمين منذ قرون في مجال التشريعين (الجنائي والعقابي)، والحقُّ أنه لا مجال للمقارنة بحال من الأحوال بين ما شرَّعَ الله العليم الحكيم، وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة فهومهم، المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، لا مجال للمقارنةِ بين شرع سماوي رباني محكمٍ ثابتٍ لا يتبدل ولا يتغير، وبين قانونٍ وضعي بشري دائم التبديل والتعديل، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
*المختصر
*محمد توفيق زين العابدين
الحمد لله الذي رفع لنا في كل ثغر عَلَمًا، وأجرى لنا في جوار كل بحر ما يضاهيه كرمًا، وجعل في هذه الأمة من المسلمين إلى اليوم من يزيد الناس عِلمًا ويمحو من الظلمات ظلمًا، أما بعد:
فلا يمكن الكلام عن قضية تطبيق الشريعة الإسلامية دون التعرض لموضوع هام يرتبط بها ارتباطًا وثيقًا مؤثرًا، وهو: (معوقات تطبيق الشريعة) إذ لا سبيل للوصول للحق من دون تذليل العقبات التي تعترضه، وفي ضوء ما سيتم إزالته من عقبات، ومن خلال ما سيتم تقديمه من تهيئة، ستُحسَم قضية تطبيق الشريعة بسرعة وستؤتي ثمارها بين الناس.
وليس معنى ما تقدم تعليقَ تحكيم الشريعة لحين تذليل هذه العقبات؛ فتذليل هذه العقبات ربما يستغرق شهورًا أو سنوات، بل معناه أن كلا الأمرين (تطبيق الشريعة، وإزالة معوقات تطبيقها) لابد أن يسير في الاتجاه ذاته في الوقت ذاته، كما حدث ذلك بشأن تحكيم القوانين الوضعية حين عمد المستعمرون والعَلمانيون إلى وضع هذه القوانين في نهاية عهد الدولة العثمانية وبعدها، بالرغم من أن الشعوب الإسلامية لم تكن لتتقبل ذلك في هذا التوقيت طواعيةً واختيارًا، لكنَّ المستعمرين لم يدخلوا القوانين الوضعيةَ البلادَ الإسلامية فحسب، بل أخذوا ينفِّذون خطة منهجية لمسخ المناهج الدراسية وتصفيتها من الجوانب الدينية شيئًا فشيئًا، ولم يكن هذا في المدارس النظامية فقط، بل كذلك في المدارس والمعاهد الدينية، وكذلك شرعوا في تأسيس مدارس الحقوق وكلياتها وَفْق مناهجهم لبثِّ سمومهم وتكوين جيل من المسلمين يحمل على عاتقه مهمة الانحراف بالأمة عن شرع الله بدلاً عنهم إما عمداً أو جهلاً. وليس ذلك فحسب بل أخذوا ينعِمون بالمنح الدراسية في جامعاتهم على أفذاذ شباب هذه الأمة وأوائل الطلبة في مدارس وكليات البلاد الإسلامية - كما حدث مع الأستاذين الشهيرين عبد الرزاق السنهوري وطه حسين وغيرهما - ليعودوا بعد استكمال دراستهم أشد عداءً للشريعة؛ ففرنسا وإنكلترا وأمريكا وغيرها تحصد الآن ما زرعته وما بذلته من مجهود في سبيل تغيير التوجه العام للشعوب الإسلامية، وتهيئة المناخ نحو رفض تطبيق الشريعة إذا ما أُذن لها أن تعود، وكل ما علينا إذن هو إعادة تهيئة هذا المناخ نحو تقبُّل الشريعة قانونًا يتحاكم إليه وبه المسلمون بإزالة المعوقات والعقبات التي وضعها الغربيون للحيلولة دون تطبيق الشريعة.
ويمكننا تقسيم معوقات تطبيق الشريعة إلى قسمين:
الأول: معوقات نفسية وفكرية تتعلق بالإيمان والعقيدة والعوامل النفسية وطرق التفكير.
الثاني: معوقات مادية وواقعية فرضتها حوادث تاريخية أو ظروف حالية.
القسم الأول: المعوقات النفسية والفكرية:
أولاً: الجهل بحقيقة الشريعة وقدرتها على مواكبة متطلبات العصر الحديث:
من أهم معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية جهل الناس بحقيقة الشريعة وقدرتها على مواكبة متطلبات العصر الحديث؛ إذ يظنون أنها عاجزة عن الوفاء بهذه المتطلبات والنوازل، وأن مصادر التشريع قد خلت من معالجة المسائل العصرية المستحدثة.
وهذه الظنون مبناها على الجهل بحقيقة الشريعة وبمصادر التشريع الإسلامي، وقد تولدت نتيجة تقصير الدعاة عن بيان محاسن التشريع ووجوه إعجازه وأصوله وأحكامه ومصادره، وإذا كنا نريد تطبيق الشريعة فلزامًا أن نُبيِِّن للناس محاسنها وإيجابياتها وفضائلها وما فيها من خير في الدنيا قبل الآخرة، ونبرز لهم وجوه إعجازها وعلو كعبها على غيرها من الشرائع والتقنينات، ونقدم لهم صورة واضحة عن الإسلام وأحكامه وقدرته على التعامل مع غير المسلمين بإنصاف وعدل، وفي الجملة بيان أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان؛ لكثرة علومها، وتعدُّد مصادرها، وتنوُّع قواعدها ما بين كلية وجزئية يمكن تنزيل المسائل والفروع عليها - مهما كانت عصرية أو مستحدثة - على نحو يضبط حياة الناس ومعاملاتهم.
ثانيًا: ضعف الإيمان عند كثير من المسلمين، وشعورهم بالهزيمة النفسية:
من معوقات تطبيق الشريعة ضعف الإيمان عند كثير من المسلمين، وهذا الضعف يتمثل في جانبين:
الأول: عدم الثقـة في موعود اللـه تعالى بنصره للمسلمين إذا ما تمسـكوا بدينهـم وعادوا لشـريعتهم مصـداقًا لقول الله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور: 55].
الثاني: عدم الثقة في أحكام الشريعة وقدرتها على مواكبة التطور وتنظيم أحوال المجتمعات وما طرأ عليها والوفاء بحاجات الناس وحل مشاكلهم ومنازعاتهم.
ولضعف الإيمان المتقدم أسباب متعددة، بعضها نفسي عقائدي يتعلق ببُعد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم الصحيحة، وتأثرهم بالفكر العَلماني وفكرة فصل الدين عن الدولة، واعتقاد أن الدين مصدر التخلف. وبعضها يتعلق بأسباب تاريخية وواقعية جراء الهزائم المتوالية التي تعرَّض لها المسلمون في الفترة الأخيرة من تاريخهم، وانقسامهم وتشتتهم، وتخلفهم اقتصاديًّا وعسكريًّا مع تقدم أعدائهم، وتزايد نفوذ العَلمانيين في أجهزة الإعلام ومؤسسات الدولة.
كل هذه الأسباب أدت إلى ضعف إيمان كثير من المسلمين وتغلغل الهزيمة النفسية في أعماقهم حتى ظنوا أنه لا سبيل لهم للخروج من هذه الكبوة، والنهوض من هذه الغفلة لمسايرة ركب التقدم والحضارة، إلا بتتبع الغرب وفصل الدين عن الدولة.
ويمكن التغلب على هذا المعوق بالتربية والتوجيه والإرشاد، وتوضيح إيجابيات أحكام الشريعة ووجوه إعجازها وقدرتها على مسايرة التطور والوفاء بحاجات الناس وحل مشاكلهم الاجتماعية ومنازعاتهم القضائية.
ثالثًا: انعدام الثقة في النخبة الإسلامية:
إن انعدام الثقة في الإسلاميين من مفكرين وسياسيين وقانونيين منوطٌ بهم وضعُ الشريعة الإسلامية في موضعها الصحيح في النظام السياسي والقانوني للدولة، أدى إلى فَقْد الناس الثقة في التشريع الإسلامي؛ لاسيما الجوانب التي تتعلق بعلاقة المسلمين مع غيرهم، وقد حدث هذا نتيجة أمرين:
الأول: تعليق كثير من الناس الحكم على التشريع الإسلامي بحكمهم على الدعاة ونخبة المفكرين والسياسيين والقانونيين الإسلاميين.
الثاني: الممارسات الخاطئة لبعض هؤلاء السياسيين والقانونيين، وهو ما ينعكس بالضرورة على دعوتهم وسياساتهم ومناهجهم.
ولئن كانت هناك بعض الممارسات الخاطئة لبعض الدعاة والمفكرين والداعمين لقضية تطبيق الشريعة من السياسيين والقانونيين فهذا لا يَضير الشريعة ولا يعيبها؛ وإنما العيب في الأشخاص وممارساتهم الخاطئة، وعليه فيجب التفرقة في الحكم بين المنهج والداعي للمنهج.
رابعًا: التأثر بفكر دعاة حقوق الإنسان:
من معوقات تطبيق الشريعة تأثُّر كثير من الناس بفكر بعض دعاة حقوق الإنسان الذين يتهمون نظام العقوبات الإسلامي وتشريعات الحدود بالقسوة وانتهاكها لحقوق الإنسان. وهذا نابع من عدم الفهم الصحيح لحقيقة نظام العقوبات في التشريع الإسلامي، والجهل بحكمتها وتعدد أغراضها وتنوعها لتحقيق الزجر والردع والتأديب للشريرين والمفسدين بحسب نوع الجُرم المرتكَب؛ فما كانت مفسدته عظيمة كانت عقوبته عظيمة، وما كانت مفسدته يسيرة فعقوبته يسيرة، وما كانت مفسدته مختَلَف فيها بحسب اختلاف الزمان والمكان فتقدير عقوبته متروك لولي الأمر، وقد تولى الله عز وجل بحكمته وعلمه ورحمته تقدير عقوبات بعض هذه الجرائم نوعًا وقَدْرًا لما فيها من المفسدة الثابتة التـي لا تتبـدل مهمـا اختلـف الـزمان والمكـان رفعًا منه عز وجل للحرج وإزالةً للاختلاف، فله الحمد والمنة.
خامسًا: التعصب المذهبي والفكري بين المسلمين:
فالتعصب المذهبي والفكري لدى بعض المسلمين جعلهم يتشددون في المسائل الخلافية، ويثرِّبون على مخالفيهم، ويوصدوا باب الاجتهاد، فنجم عن هذا إساءة الظن بالشرع، والرضا بالقوانين الوضعية بديلاً عن الشريعة.
يقول الأستاذ عبد القادر عودة - رحمه الله -: (ومن الثابت تاريخيًّا أن القوانين الأوروبية نُقلت إلى مصر في عهد الخديوي إسماعيل، وأنه كان يود أن يضع لمصر مجموعات تشريعية مأخوذة من الشريعة ومذاهب الفقه الإسلامي المختلفة وقد طلب من علماء الأزهر أن يضعوا هذه المجاميع، ولكنهم رفضوا إجابة طلبه؛ لأن التعصب المذهبي منعهم من أن يتعاونوا على إظهار الشريعة في أجمل صورها، فضحُّوا بالشريعة جميعها، واحتفظ كلٌّ بمذهبه، والتعصب له وأضاعوا على العالم الإسلامي فرصة طالما بكوا على ضياعها، وحق لهم أن يبكوا عليها حتى تعود).
ويقول الدكتور عمر سليمان الأشقر: (والذي زاد الطين بِلَّة: جمود المتفقهة المفتين والمعلمين والواعظين على نصوص كتب متبوعيهم المتأخرين، بدون تبصُّر وإعمال روية، ورجوع إلى أصول الشريعة وأقوال السلف، وجهلهم بمقتضى الزمان والعمران، ونفورهم من كل جديد بدون أن يزِنوه بميزان الشريعة، ومناوأتهم المجددين بدون إصغاء إلى براهينهم، ومكافحتهم العلوم العقلية والكونية، وتحذير الناس من دراستها، وتحجيرهم على غيرهم الاستهداء من الكتاب والسنة لزعمهم أن ذلك كله مخالف للدين، لجهلهم بحقيقة الدين؛ لأن هذه الشريعة الغراء السمحة تسير مع العلم جنبًا إلى جنب، واسعة تسع قواعدُها العامة كلَّ جديد من مقتضيات الزمان والعمران؛ لأنها محض رحمة وسعادة.
وأغرب من هذا أن هؤلاء الجامدين من أُسَرَاء التقليد لا يتأثمون من مداهنة الحكام والتجسس لهم، وغشيان ولائمهم التي يتخللها من المنكرات ما تقطع الشريعة بتحريمه، وتوقيعه المقررات المستمدة من القوانين الوضعية، أو الأوضاع الإدارية، أو الاستحسان الكيفي حرصًا على رواتبهم التي يتقاضونها من خزينة الحكومة، أو تعزيزًا لجاههم ومكانتهم، ويتورعون عن الاجتهاد في نازلةٍ نزلت بالمسلمين لأنها غير منصوص عليها بصريح العبارة في كتب المتأخرين من متبوعيهم، فنجم عن تورعهم هذا هجرُ الشريعة والاستعاضة عنها بالقوانين وتشتُّت شمل المسلمين؛ إذ ضربت الفوضى أطنابها، وألقى كلُّ واحد حبله على غاربه، وخُيِِّل إلى الجاهلين بالشريعة أنها عقبة كؤود في سبيل الرقي والتجدد والسعادة، كما رسخ في أذهان كثيرٍ من أبنائها أنها غير وافية بمقتضيات هذا الزمان، لعدم وقوفهم على قواعدها العامة الواسعة الشاملة؛ لأن هؤلاء الجامدين حالوا بتكاثف جمودهم، وتبلُّد غبواتهم بينها وبين من يريد اقتباس أنوارها والاستضاءة بأشعتها، واقتطاف ثمرها واستنشاق أريج نورها).
القسم الثاني: المعوقات المادية والواقعية:
أولاً: الاستعمار السياسي والاقتصادي:
المقصود بالاستعمار السياسي هو: تحكُّم الدول الغربية العظمى في النظم السياسية للبلاد الإسلامية بُغيَة السيطرة على القرارات السيادية والسياسية فيها في مجالات الأمن الداخلي والنظام القانوني والتشريعي والسياسة الخارجية.
أما الاستعمار الاقتصادي فيقصد به: تحكُّم الدول العظمى في مصادر ثروات البلاد الإسلامية ومواردها الطبيعية، واحتكار المواد الخام، والسيطرة على أسواق المال والذهب بها، على نحو يحرم هذه البلاد من استغلال مواردها الطبيعية والمواد الخام بها ويجعلها في عداد الدول الاستهلاكية التي تعتمد في اقتصادها على غيرها من الدول: إما لما تصدِّره لها من سلع ومنتجات، أو لما تمنحه لها من قروض وما تقدِّمه من مساعدات مالية أو عينية.
وهذا الاستعمار هو في حقيقته احتلالٌ غير مباشر للبلاد، لجأت إليه الدول الغربية بعد أن تكبدت خسائر فادحة في الأموال والأرواح في حروبها وأثناء استعمارها للبلاد الإسلامية والإفريقية؛ بحيث تُحكِم سيطرتها السياسية والاقتصادية على هذه البلاد وتحول بينها وبين تقرير مصيرها بإرادتها الحرة بطريقة لا تثير ثورات الشعوب أو استنكار الرأي العام العالمي.
وللدول الغربية عدة وسائل في تحقيق هذا الاستعمار، منها: دعم النظم السياسية التسلطية المتجبرة، وعقد الاتفاقيات غير المتكافئة، ومنح القروض والمساعدات المالية المشروطة، وتقديم المنح العينية كالآلات والمصنوعات والمركبات والمعدات الحربية دون قطع غيارها، وتقديم التسهيلات اللازمة لتصدير منتجاتها لغيرها من البلاد، ووضع العراقيل والعقبات لاستيراد منتجات هذه البلاد، وإعارة الخبراء والمتخصصين وتقديم المساعدات الفنية المشروطة، والمساهمة في تنفيذ المشروعات الاقتصادية طويلة المدى، والحصول على القواعد العسكرية البرية والبحرية والجوية، وإنشاء البنوك الربوية، والسيطرة على أسواق المال (البورصات) وأسواق الذهب، وإثارة الاضطرابات الداخلية والانقسامات الطائفية والحزبية، وغير ذلك.
ثانيًا: توجهات الحُكام وتسلطهم:
فأكثر الحُكام في البلاد الإسلامية يرفضون فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية: إما لأنهم ينتهجون سياسة فصل الدين عن الدول، وإما لأنهم يخافون من أن يؤدي تطبيق الشريعة إلى تأخُّرهم وتخلُّفهم، أو يجُرَّ عليهم النزاعات الداخلية وغضب الدول الغربية، أو يثير الفتن الطائفية والرأي العام الغربي قِبَلهم؛ فهم بين علمانية محضة أو تخوفات متوهمة.
ثالثًا: أُمية المناهج الدراسية الدينية:
لا شك أن المناهج التعليمية النظامية في كثير من البلاد الإسلامية أدت إلى مسخ هوية الطلبة والدارسين الإسلامية والعربية، بل وتعطيل مُكنَاتهم، وقتل مواهبهم، وإعلاء شأن اللاعبين والفاسدين منهم، واعتبار كلِّ متمسك بدينه متخلفًا رجعيًّا، فسُميت الأشياء بغير أسمائها، ووصفت بعكس أوصافها، حتى أنكر الصالحون أنفسَهم، وانكسرتْ قلوبهم، وماتتْ هممهم نحو الإصلاح.
وإذا كان تطبيق الشريعة قد بات أمرًا ملحًّا، فتطوير المناهج التعليمية وتحديث الجوانب الدينية فيها - لاسيما بإبراز محاسن الشريعة وأوجه الإعجاز فيها في جميع المجالات - هو أمرٌ لازمٌ لتهيئة المناخ نحو تطبيق الشريعة، وذلك لسببين:
أولاً: إعادة تهيئة المجتمع وتوجيهه نحو تقبُّل الشريعة قانونًا يُتحاكم إليه وبه، بل نحو مطالبته بتطبيقها، وتمسكه باستمرارها إذا ما أُذن لها أن تُطبَّق.
ثانيًا: إعداد جيل يستطيع النهوض بمهمة تطبيق الشريعة إذا ما تم تعليمه وتثقيفه وإعـداده على نحو يملك معه مقومات الاجتهاد ليعود بهذه الأمة إلى عصر الاجتهاد الفقهي الذي نحن في أشد الحاجة إليه في العصر الحاضر لمواجهة النوازل والمستحدثات.
وهذا التطوير والتحديث يجب أن يكون شاملاً لجميع المراحل التعليمية وَفْق ما تتطلبه كل مرحلة وتستلزمه، ويجب أن تُولِي الكليات الحقوقية ومراكز الدراسات القضائية تدريس الشريعة الإسلامية اهتمامًا فائقًا وعناية كبيرة بالقدر الذي يتناسب مع كونها المصدر الرئيس للتشريع.
رابعًا: تخلُّف المسلمين في العلوم التطبيقية:
إن أميَّة المسلمين المتفشية في الحقيقة لا تتعلق بالجوانب الدينية فحسب؛ بل إنها في مجالات العلوم التطبيقية والصناعية والتقنيات الحديثة أعظم وأكبر، وهو ما جعل الأمة الإسلامية في شأن هذه العلوم في ذيل أمم الأرض حتى نُعتت البلاد الإسلامية بـالمتخلفة والنامية والمتأخرة ودول العالم الثالث إلى غير ذلك.
وقد دفع تخلُّف هذه البلاد عن الدول الشرقية والغربية غير الإسلامية كثيرًا من الناس إلى عزو ذلك إلى جمود تفكيرهم والشريعة التي يعتنقونها، وهو عزو خاطئ بلا ريب وإن كان واقعًا؛ فإن تخلُّف المسـلمين وإن كان قد بات حقيقةً لا جدال فيها، لكنَّ سببه الحقيقي هو بُعْد المسلمين عن دينهم وعدم تمسكهم بشريعتهم، ومحاولتُهم تقليد الغربيين، بالرغم من اختلاف مقومات الفريقين ومبادئهما وقيمهما، وهو ما ينعكس بالضرورة على أساليب الحياة والمعيشة ويجعلها متباينة بالضرورة؛ فلا هم لحقوا بحضارة المسلمين الضائعة ولا هم لحقوا بركب تقدم الغرب.
خامسًا: سيطرة العَلمانيين على الوسائل الإعلامية:
العَلمانية هي أشد الأخطار الداخلية التي تواجه المسلمين في الوقت الحالي، وخطورة العَلمانيين لا تتعلق بشبههم التـي يبثونها بقدر ما تتعلق بسيطرتهم على الأجهزة الإعلامية، وارتدائهم ثوب العلم والثقافة من خلال ما يتمتعون به من وظائف مرموقة مؤثِّرة في المجتمع، فمن خلال هاتين الوسيلتين استطاعوا محاربة الشريعة وبثَّ شُبههم التي هي من الضعف بمكان يمكن معه دحضها بسهولة وبلا تكلُّف، لكن الذي حال دون ذلك هو سيطرة العَلمانيين على الوسائل الإعلامية؛ بحيث لا يمكن لغيرهم الرد عليهم ودحض شبههم إلا بصعوبة بالغة، فلا سبيل إذًا للوصول لتطبيق الشريعة الإسلامية وتهيئة المناخ العام لتقبُّلها إلا بتطهير وسائل الإعلام - سـواء المرئية أو المسـموعة أو المقروءة - ممن لا يريدون للشريعة أن تسود وتحكم، أو إيجاد وسائل بديلة مضادة لدفع ضغطهم ودحض شُبههم.
سادسًا: تعدد الأحزاب السياسية وتشعُّب توجهاتها:
الحزب السياسي: هو وسيلة يتخذها القائمون عليه ذريعةً لانتزاع السلطة بُغيَة تنفيذ السياسات التي أنشؤوه من أجلها، وخطورة قضية (الأحزاب السياسية) تظهر في حال تعدُّدها وضعفها؛ فتعدُّد الأحزاب الضعيفة يعني بالضرورة تعدُّدَ السياسات والبرامج وتشعُّب توجهاتها، وهو ما يستتبع - في الغالب - الأعم الاختلاف والتناحر والتمزُّق؛ فإنه لا تكاد توجد قضية واحدة تتفق عليها عدة أحزاب، وإذا وُجدَت هذه القضية فمن المؤكد أن هذه الأحزاب لن تتفق على تفصيلاتها والجوانب المتعلقة بمعالجتها في الواقع العملي، وقد انعكس هذا على قضية تطبيق الشريعة؛ إذ عملت كثير من الأحزاب السياسية على اتخاذ هذه القضية مطيةً لجمع المؤيدين وتحقيق أهدافها السياسية بالوصول إلى سُدَّة الحكم، تارةً برفضها وتارةً بوضع خطط منهجية لقبولها تؤدي في النهاية - حتمًا - لعدم تطبيق الشريعة.
سابعًا: الدعوة الخاطئة إلى تطبيق أحكام الشريعة:
إن الطريقة الخاطئة التي يمارسها بعض الدعاة في دعوتهم للناس إلى تطبيق أحكام الشرع من أهم معوقات تطبيق الشريعة؛ حيث يختزل بعض الدعاة قضية تطبيق الشريعة عند عرضها في جانب العقوبات وإقامة الحدود، دون التعرض لغير ذلك من المسائل المدنية ومسائل الأحوال الشخصية والأمور التكافلية الاجتماعية والنظم السياسية والقضائية، فإن الشريعة تمثل منهجًا شاملاً متكاملاً لحياة الأفراد ونظم الدولة في كل جوانبها وفي كل صورها وأشكالها.
هذا فضلاً عن أن البعض حين يعرض لقضية العقوبات الشرعية وإقامة الحدود يقتصر على الدعوة لتطبيقها بأسلوب سطحي دون بيان حكمتها ومحامدها، والخوض في دواعيها وأسبابها وأغراضها وأهميتها في حياة الأفراد، وغير ذلك من جوانب تفصيلية تتعلق بها مما ينبغي إبرازه وبيانه مع أصل القضية.
إننا اليوم في حاجة ماسة لعقد المقارنات بين الشريعة الإلهية والقوانين الوضعية في أتقن صورها وأحدث أشكالها - ولا وجه للمقارنة أصلاً - كي نبين للناس مدى جلالة الشريعة وإعجازها وتفرُّدها. يقول الأستاذ عبد القادر عودة - رحمه الله -: (وحين أقارن بين الشريعة والقوانين الوضعية لن أتتبع القانون في أطواره الأُولَى بالمقارنة والموازنة، ولن أقارن بين القانون في القرن السابع الميلادي وبين الشريعة التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم في أول هذا القرن، فإن القانون في هذه العهود لم يكن في مستوى يسمح له أن يقارن بالشريعة الإسلامية، ولكني أقارن حين أقارن بين القانون في عصرنا الحاضر وبين الشريعة، وحين أفعل هذا إنما أقارن بين قانون متغيِّر متطور يسير حثيثًا نحو الكمال حتى يكاد يبلغه كما يقال، وبين شريعة نزلت من ثلاثة عشر قرنًا لم تتغير ولم تتبدل فيما مضى، ولن تتغير أو تتبدل في المستقبل، شريعةٍ تأبى طبيعتها التغيير والتبديل؛ لأنها من عند الله، ولا تبديل لكلمات الله ولا لأيٍّ من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه، فليس ما يخلقه في حاجة إلى إتقان من بعد خلقه، فنحن إذن حين نقارن إنما نقارن بين أحدث الآراء والنظريات في القانون وبين أقدمها في الشريعة، أو نحن نقارن بين الحديث القابل للتغيير والتبديل وبين القديم المستعصي على التغيير والتبديل، وسنرى ونلمس من هذه المقارنة أن القديم الثابت خير من الحديث المتغير، وأن الشريعة على قِدَمها أجلُّ من أن تقارن بالقوانين الوضعية الحديثة، وأن القوانين الوضعية بالرغم مما انطوت عليه من الآراء واستُحدث لها من المبادئ والنظريات لا تزال في مستوى أدنى من مستوى الشريعة، وَلْيَعجَب من شاء كما يشاء من هذا القول؛ فإن الحق في هذه الأيام أصبح غير مألوف بحيث يَعجَب منه أكثر الناس، ولكن العجب لن يستبد بمن كان له عقل يُفكر ويُقدر ويُقارن ويُوازن ويُميز الخبيث من الطيب).
فهذه هي العقبات الحقيقية أمام تطبيق الشريعة الإسلامية، التي يجب العمل على إزالتها وتذليلها حتى يمكن للناس تقبُّل تطبيق الشريعة والاستجابة لأحكامها.
وهناك معوقات أخرى متوهَّمة لا أصل لها في الواقع، يحاول بعض المسوِّفين الترويج لها لتعطيل تطبيق الشريعة، وأهم هذه المعوقات المتوهمة:
العجز عن تفعيل أحكام الشريعة:
حيث يزعم بعضهم أن أحكام الشريعة منثورة في بطون أمهات الكتب، وأنها كثيرة متشعبة تستعصي على الجمع والتقنين، ولا سبيل لتطبيق الشريعة من دون تشكيل اللجان وعقد المؤتمرات والندوات ووضع الأبحاث والدراسات والمشروعات لتقنين أحكام الفقه في المجالات القانونية المختلفة، وهو ما يستغرق وقتاً طويلاً ربما يصل لعدة سنوات.
وهذه الدعوى لا يُراد بها إلا تضييع الوقت وتمييع قضية تطبيق الشريعة، فمشروعات تقنين الشريعة مُعدَّة بالفعل في عدة مجالات ووَفْق مختلف المذاهب؛ سواء التي أعدها (مجمع البحوث الإسلامي)، أو لجان (مجلس الشعب المصري)، أو لجان (محكمة النقض المصرية)، أو حتى لجان (جامعة الدول العربية)، وإذا كان من نقص في مجال ما من المجالات القانونية، فليس هناك ما يمنع من تفعيل المشروعات المعدة بالفعل لحين الانتهاء من مشروعات أخرى وتنقيح القوانين الوضعية المعمول بها، كما يتم الآن الأخذ بأحكام الشريعة في كثير من مسائل الأحوال الشخصية دون غيرها من المجالات القانونية.
إن الرجوع إلى التشريع الإسلامي قد بات ضرورةً قصوى حتى لا تكون ثمة فجوة بين طبيعة واقع الأفراد الاجتماعي وبين القوانين التي تحكمهم، فلا ريب أن القانون ينبغي أن يعكس بصدق أحوال المجتمع المادية والفكرية، وأن يحقق متطلباته وآماله. وإذا كانت التقنينات الوضعية قد أصلت لمناهجها وَفْقًا للقواعد والنظريات التي درج شُرَّاح القوانين على إدراجها في القسم العام منها، فإن الفقه الإسلامي أيضًا قد سبق إلى كثيرٍ من هذه النظريات والقواعد على أساس أحكام القرآن الكريم أو السنة المطهرة أو الاجتهاد الفقهي؛ سواء من حيث نطاق التشريع وتطبيقه أو من حيث الزمان والمكان، وكذلك أركان الجرائم وإثباتها وشروط المسؤولية الجنائية والاشتراك في الجريمة وأسباب الإباحة وتنفيذ العقوبات وأسباب وَقْفها، بما يُعَد في الحقيقة سبقًا علميًّا لعلماء المسلمين منذ قرون في مجال التشريعين (الجنائي والعقابي)، والحقُّ أنه لا مجال للمقارنة بحال من الأحوال بين ما شرَّعَ الله العليم الحكيم، وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة فهومهم، المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، لا مجال للمقارنةِ بين شرع سماوي رباني محكمٍ ثابتٍ لا يتبدل ولا يتغير، وبين قانونٍ وضعي بشري دائم التبديل والتعديل، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
*المختصر