بقلم: د . سلمان بن فهد العودة
تعبير شائع يحكي قصة الخوف الدائم من رفاق الثورة، وعادة ما يكون الفريق المتهم بالسرقة واحداً من أطرافها، أو الملتحقين بها. الثوَّار يتفقون على رفض الواقع القائم لحكومة مستبدة تهدر الحقوق، ولهذا تحدث الثورة، والبدايات - غالباً - تحمل شعارات عامة؛ بسقوط النظام، وزوال الدكتاتورية، ومطالب عامة بالحكم الرشيد، والعدالة، والحرية، والشفافية، وفصل السلطات، واستقلال القضاء.. وهذه مجملات متفق عليها، وحسناً تفعل الثورات حين تفعل ذلك؛ حفاظاً على وحدتها، واقتصاراً على القدْر المتفق عليه بين أطيافها. ثم يختلف الناس بَعْدُ على الصورة البديلة؛ لاختلاف مدارسهم، وتوجهاتهم، وأيديولوجياتهم، وربما ظلّ خلافاً إعلامياً، أو تطوَّر إلى تراشقٍ، وقد يصل إلى حد الاحتراب، والتصفيات الجسدية! ليس غريباً أن تحلّ دكتاتورية شخص أو دكتاتورية أيديولوجيا مكان الدكتاتورية البائدة، وقديماً كان «أرسطو» يقول: «الحكم الاستبدادي قد يتحوّل أيضاً إلى حكم استبدادي». إن من المؤكد أن زوال دكتاتور لا يعني ظهور المدينة الفاضلة، ولكنه يُفسح الطريق أمام تنافس شريف، وحراك صحيّ يمكن أن يُفضي إلى مجتمع أفضل؛ متى تواضع المشتركون فيه على عقلانية رشيدة، واعتراف بحق الآخر، وفهم جيد للملابسات والظروف المحيطة المحليّة والعالميّة. وفي هذه المنطقة بالذات يكثر الحديث عن السَّرقة، وربما تمّ تبادل التهمة بين عدة أطراف؛ فصيل منظَّم لديه إستراتيجية، وعلاقات واسعة، وقراءة جيدة للواقع، يعرف كيف يُقدِّم نفسه، وكيف يصوغ رؤيته؛ ليكسب شعبه أو يكسب المحيط. ومجموعات قد تكون هي الأكثر عدداً وتضحية، ولكنها ليست خليطاً متمازجاً، ولا جماعة متجانسة، فتضعف عن فرض رؤيتها، والشعوب تثور، ولكنها لا تحكم، ولو خُلِّيَ بينها وبين ما تريد لم يكن لديها الوعي التام بالخيارات الأفضل. وقد يتحوَّل الأمر إلى صراعٍ يَعُدُّ كل طرف عدته، ويتذرَّع بأسلحته المكشوفة والخفية، وهنا تكتمل فصول ما يسميه الآخر بـ«المؤامرة»! وفي بداية نجاح الثورة تقع ارتباكات، وفراغات، وأحوال انتقالية تتخللها أخطاء؛ يرمي بها كل طرف على خصمه، أو يتهمه بالتعويق، وصناعة العقبات. من المستحيل أن تتطابق رؤى المجموعات المكوِّنة للثوار، ولكن يمكن الاتفاق على المراحل؛ بحيث تكون المرحلة التالية لنجاح الثورة هي مرحلة بناء الدولة، وإقامة مؤسساتها، ووضع دستورها، واستقرار أمنها. والمرحلة الثالثة هي مرحلة التنافس المبرمج على الحكم، بما في ذلك إعلان الأحزاب التي تُعبِّر عن اتجاهات مختلفة، وتستوعب مجموع الناس، بما يضمنه الدستور المتفق عليه. وهنا يصبح الاختلاف مقنناً، والمرجعية واضحة؛ العودة إلى صناديق الاقتراع، وإلى المحكمة المتخصصة، وليس إلى السلاح ولا المكايدات بالتقارير السرية أو تشويه الصورة! والتداول الإعلامي جزء من اللعبة، على أنه يجب أن يكون محكوماً بوثيقة شرف، وأصول ضابطة لا تسمح بالانحدار إلى حضيض التراشق والاتهام. وثمَّ قِطَاعٌ عريض ممن شاركوا في الثورة وصنعوها؛ هم أفراد عاديون، ليس لهم انتماء، ولا رؤية خاصة، ويحاول طرف أن يُضخِّم دورهم ويعدهم وقوداً أساسياً، بينما يحاول آخر أن يُحيِّدهم ويُقلل من شأنهم أو يضعهم في حقيبته! عربياً هناك الوطنيون، والإسلاميون، والعلمانيون، وأطياف أخرى، وكلهم كانوا مسحوقين تحت نير الطاغية، ولكن بدرجات متفاوتة، ولعل من الإنصاف القول بأن الإسلاميين؛ سواء كانوا إخواناً، أو سلفاً، أو مستقلين؛ هم الأكثر تعرضاً للحرمان من المشاركة، وتسلط القبضة الأمنية، واستخدامهم «فزّاعة» يخوَّف بها الغرب، أو تخوَّف بها الشعوب، مما يُفسح الطريق أمام تظالم عريض تقوده السلطة، ولكن تشارك فيه دوائر عديدة؛ يسهل عليها وصمهم بالإرهاب والعنف، والارتباط بالقوى الخارجية، وتوظيف الآلة الإعلامية ضدهم، وهذا كان جَلِياً في الحالة المصرية، والتونسية، والليبية! ولذا لست أجد غرابة أن يتعاظم لديهم الشعور بالخوف؛ من تكرار المشهد، وحرمانهم من حقهم الطبيعي في المشاركة، ولذا فإن من الحكمة والسداد أن يحصلوا على تطمين حقيقي، يتجاوز الكلام والوعود؛ ليكون لهم حضور وتمثيل كافٍ في أيِّ تشكيل مؤقت خلال الفترة الانتقالية. وفي ذات الوقت، فإن من حق الأطياف والأطراف الأخرى أن تطمئن إلى مستقبلها، وأنه لن يكون ثمَّ استئثار أو استفراد بالسلطة تحت أي ذريعة، ولا انقلاب على المبادئ الدستورية المتفق عليها. إن الوطن للجميع، ولن يكون من مصلحته ولا مصلحة أيّ فصيل إقصاء الآخرين أو تهميشهم، والثورة ليست تصفية حسابات إلا مع القيم الفاسدة والمُصِرِّين عليها! فالثورة هي على الفساد في الأرض، ومن ذاق مرارة الظلم والإقصاء جدير به أن يتعالى على حظوظ النفس ورغبات الاستئثار. «سورة يوسف» فيها الابتلاء، والصبر، والتمكين، وظهور المظلوم على ظالمه، وفيها دروس التخطيط، ومعالجة الأزمات السياسية، والاقتصادية، وحتى العائلية.
*المجتمع
تعبير شائع يحكي قصة الخوف الدائم من رفاق الثورة، وعادة ما يكون الفريق المتهم بالسرقة واحداً من أطرافها، أو الملتحقين بها. الثوَّار يتفقون على رفض الواقع القائم لحكومة مستبدة تهدر الحقوق، ولهذا تحدث الثورة، والبدايات - غالباً - تحمل شعارات عامة؛ بسقوط النظام، وزوال الدكتاتورية، ومطالب عامة بالحكم الرشيد، والعدالة، والحرية، والشفافية، وفصل السلطات، واستقلال القضاء.. وهذه مجملات متفق عليها، وحسناً تفعل الثورات حين تفعل ذلك؛ حفاظاً على وحدتها، واقتصاراً على القدْر المتفق عليه بين أطيافها. ثم يختلف الناس بَعْدُ على الصورة البديلة؛ لاختلاف مدارسهم، وتوجهاتهم، وأيديولوجياتهم، وربما ظلّ خلافاً إعلامياً، أو تطوَّر إلى تراشقٍ، وقد يصل إلى حد الاحتراب، والتصفيات الجسدية! ليس غريباً أن تحلّ دكتاتورية شخص أو دكتاتورية أيديولوجيا مكان الدكتاتورية البائدة، وقديماً كان «أرسطو» يقول: «الحكم الاستبدادي قد يتحوّل أيضاً إلى حكم استبدادي». إن من المؤكد أن زوال دكتاتور لا يعني ظهور المدينة الفاضلة، ولكنه يُفسح الطريق أمام تنافس شريف، وحراك صحيّ يمكن أن يُفضي إلى مجتمع أفضل؛ متى تواضع المشتركون فيه على عقلانية رشيدة، واعتراف بحق الآخر، وفهم جيد للملابسات والظروف المحيطة المحليّة والعالميّة. وفي هذه المنطقة بالذات يكثر الحديث عن السَّرقة، وربما تمّ تبادل التهمة بين عدة أطراف؛ فصيل منظَّم لديه إستراتيجية، وعلاقات واسعة، وقراءة جيدة للواقع، يعرف كيف يُقدِّم نفسه، وكيف يصوغ رؤيته؛ ليكسب شعبه أو يكسب المحيط. ومجموعات قد تكون هي الأكثر عدداً وتضحية، ولكنها ليست خليطاً متمازجاً، ولا جماعة متجانسة، فتضعف عن فرض رؤيتها، والشعوب تثور، ولكنها لا تحكم، ولو خُلِّيَ بينها وبين ما تريد لم يكن لديها الوعي التام بالخيارات الأفضل. وقد يتحوَّل الأمر إلى صراعٍ يَعُدُّ كل طرف عدته، ويتذرَّع بأسلحته المكشوفة والخفية، وهنا تكتمل فصول ما يسميه الآخر بـ«المؤامرة»! وفي بداية نجاح الثورة تقع ارتباكات، وفراغات، وأحوال انتقالية تتخللها أخطاء؛ يرمي بها كل طرف على خصمه، أو يتهمه بالتعويق، وصناعة العقبات. من المستحيل أن تتطابق رؤى المجموعات المكوِّنة للثوار، ولكن يمكن الاتفاق على المراحل؛ بحيث تكون المرحلة التالية لنجاح الثورة هي مرحلة بناء الدولة، وإقامة مؤسساتها، ووضع دستورها، واستقرار أمنها. والمرحلة الثالثة هي مرحلة التنافس المبرمج على الحكم، بما في ذلك إعلان الأحزاب التي تُعبِّر عن اتجاهات مختلفة، وتستوعب مجموع الناس، بما يضمنه الدستور المتفق عليه. وهنا يصبح الاختلاف مقنناً، والمرجعية واضحة؛ العودة إلى صناديق الاقتراع، وإلى المحكمة المتخصصة، وليس إلى السلاح ولا المكايدات بالتقارير السرية أو تشويه الصورة! والتداول الإعلامي جزء من اللعبة، على أنه يجب أن يكون محكوماً بوثيقة شرف، وأصول ضابطة لا تسمح بالانحدار إلى حضيض التراشق والاتهام. وثمَّ قِطَاعٌ عريض ممن شاركوا في الثورة وصنعوها؛ هم أفراد عاديون، ليس لهم انتماء، ولا رؤية خاصة، ويحاول طرف أن يُضخِّم دورهم ويعدهم وقوداً أساسياً، بينما يحاول آخر أن يُحيِّدهم ويُقلل من شأنهم أو يضعهم في حقيبته! عربياً هناك الوطنيون، والإسلاميون، والعلمانيون، وأطياف أخرى، وكلهم كانوا مسحوقين تحت نير الطاغية، ولكن بدرجات متفاوتة، ولعل من الإنصاف القول بأن الإسلاميين؛ سواء كانوا إخواناً، أو سلفاً، أو مستقلين؛ هم الأكثر تعرضاً للحرمان من المشاركة، وتسلط القبضة الأمنية، واستخدامهم «فزّاعة» يخوَّف بها الغرب، أو تخوَّف بها الشعوب، مما يُفسح الطريق أمام تظالم عريض تقوده السلطة، ولكن تشارك فيه دوائر عديدة؛ يسهل عليها وصمهم بالإرهاب والعنف، والارتباط بالقوى الخارجية، وتوظيف الآلة الإعلامية ضدهم، وهذا كان جَلِياً في الحالة المصرية، والتونسية، والليبية! ولذا لست أجد غرابة أن يتعاظم لديهم الشعور بالخوف؛ من تكرار المشهد، وحرمانهم من حقهم الطبيعي في المشاركة، ولذا فإن من الحكمة والسداد أن يحصلوا على تطمين حقيقي، يتجاوز الكلام والوعود؛ ليكون لهم حضور وتمثيل كافٍ في أيِّ تشكيل مؤقت خلال الفترة الانتقالية. وفي ذات الوقت، فإن من حق الأطياف والأطراف الأخرى أن تطمئن إلى مستقبلها، وأنه لن يكون ثمَّ استئثار أو استفراد بالسلطة تحت أي ذريعة، ولا انقلاب على المبادئ الدستورية المتفق عليها. إن الوطن للجميع، ولن يكون من مصلحته ولا مصلحة أيّ فصيل إقصاء الآخرين أو تهميشهم، والثورة ليست تصفية حسابات إلا مع القيم الفاسدة والمُصِرِّين عليها! فالثورة هي على الفساد في الأرض، ومن ذاق مرارة الظلم والإقصاء جدير به أن يتعالى على حظوظ النفس ورغبات الاستئثار. «سورة يوسف» فيها الابتلاء، والصبر، والتمكين، وظهور المظلوم على ظالمه، وفيها دروس التخطيط، ومعالجة الأزمات السياسية، والاقتصادية، وحتى العائلية.
*المجتمع