أ. د. يوسف خليفة اليوسف
أضيف بتاريخ : الثلاثاء 20 رجب 1432 هـ الموافق 21 يونيو 2011 م
قد يستغرب القاريء الكريم عنوان حديث هذا الشهر في الوقت الذي تسيل فيه دماء شباب الثورة في اكثر من قطر عربي وهم يتطلعون الى التخلص من أنظمتها المستبدة ، وفي الوقت الذي تتطلع فيه شعوب دول أخرى كالدول الخليجية الى حكوماتها لتبادر باصلاحات سياسية جذرية تجنبها المستقبل المجهول وتحميها من القلاقل وتمشي مع شعوبها في ركب النهضة التي بزغ فجرها على العرب منذ بداية هذه السنة ، ولكننا نؤكد لهؤلا القراء اننا لازلنا وسنظل نعيش احداث عالمنا العربي ولكن من زوايا مختلفة . فنحن امة لها رسالة ولا يمكن ان تعمينا الشجرة القريبة عن الغابة البعيدة ولايمكن أن نطالب بالتغيير من اجل التغيير وحده ، وانما نطالب بالتغيير من اجل توفير الظروف الملائمة التي تمكننا من تأدية رسالتنا التي كلفنا الله بها وجعل ثوابنا وعقابنا في الآخرة مرهون بتأديتها وهي رسالة تتمثل في قوله تعالى : ’’ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ’’ (سورة أل عمران : 110 ) ، وانزال هذه الآية على أرض الواقع يتطلب تعمير الأرض طبقا لأوامر الله ونواهيه مصداقا لقوله تعالى : ’’ هو انشاكم من الأرض واستعمركم فيها ’’ ( هود :61) ، نعم المطلوب منا عمارة الأرض ولكن هذه العمارة لاتتم في فراغ ولايمكن ان تترك للأهواء وحدها ، وانما تتجلى في سياق رؤية كونية كرمنا الله بها وأمرنا ان نعيشها كنموذج حي ومشاهد ، ومن ثم طلب منا تقديمها للعالم لتعيش البشرية في ظلال هذا الدين وتغمرها رحمة خالقها لأن الله سبحانه وتعالى خاطب سيد البشر بالقول : ’’ وما ارسلناك الا رحمة للعالمين ’’ (ألأنبياء : 107) . فالثورات التي تهب على عالمنا العربي منذ أشهر هي فجر جديد طلع على هذه الأمة ولكن ماذا عن ما بعد الثورات ؟ هل نحن بصدد تبني النموذج الغربي بحذافيره أم نأخذه بضوابط ؟ فاذا كنا سنأخذه بحذافيره فاي النماذج سنأخذ ؟ هل هو النموذج الأمريكي أم الأوروبي ؟ وهل تمعنا في هذه النماذج واقتنعنا بان هذا ما نريده بخيره وشره ؟ أم اننا نسعى الى ايجابيات هذا النموذج الغربي ، وهذا يتطلب منا ان نأخذه بضوابط ؟ فاذا كان هذا الخيار الأخير هو ما نصبوا اليه فما هي هذه الضوابط ؟ أم ان لدينا نموذج خاص بنا يمكن ان يستوعب ما لدى ألاخرين من ايجابيات من غير الذوبان في تلك النماذج ؟ وكيف يمكن ان نجنب الأجيال الشابة مأساة الأنتقال من عبودية أنظمة ألأستبداد الى عبودية الأهواء والشهوات ؟ هذه التساؤلات خطرت على بالي وانا اتأمل هذه الثورات مقارنا بين ما صدر من هذه الأنظمة الأستبدادية من قتل وتدمير واغتصاب وتشهير بشعوبها ، وبين الطموحات الجامحة والتضحيات الكبيرة لأبناء هذه الثورات نحو التحرر من هذه الأنظمة ، ولكن من غير وضوح رؤية حول ماهية النموذج الذي سيحل محل هذه النظم البائدة ، فعلى الرغم من أن المجتمع الديمقراطي المنشود قد يكون افضل بكثير من هذه الأنظمة ألأستبدادية على المدى القصير على الأقل ، الا انه قد لايكون الأفضل على المدى الطويل الا اذا كان مقدمة لبناء مجتمع يقوم على رؤية كونية صحيحة كما تؤكد المثالب الكبيرة التي تعيشها المجتمعات الغربية اليوم . فمظاهر العنف والتدمير والظلم والأستبداد والتفكك ألأسري والأدمان وألأزمات المالية والأنحرافات الجنسية بأشكالها والفساد المالي والأداري التي نشاهدها في عالم اليوم تكشف لنا عن حجم الأزمة العقائدية والأخلاقية التي تعيشها امتنا ويعيشها العالم بأكمله ، وهي في اعتقادي ثمرة خبيثة لخلل كبير في الرؤية الكونية لدى هذا ألأنسان . فكل مجتمع لديه رؤية كونية تقترب أو تبتعد من الرؤية الكونية الصحيحة التي رسمها خالق هذا الكون ، وهذه الفجوة بين رؤية المجتمع الكونية والرؤية الكونية الصحيحة هي التي تزيد أو تنقص من رقيه الحضاري ، فكلما تشوهت هذه الرؤية الكونية وكانت بعيدة عن الرؤية الصحيحة ، كلما كان لدى الأنسان الأستعداد الى الأنحدار في سلوكياته الى ما دون مستوى البهائم وأسوا مصداقا لقوله تعالى : ’’ ان هم الا كالأنعام بل هم اضل سبيلا ’’ (الفرقان :44) ، وكل ما كان همه متركزا على الدنيا وحدها وهذا النوع من البشر يجعل نفسه في خطر كبير نبهنا الخالق سبحانه وتعالى الى عاقبته الوخيمه بقوله : ’’ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف اليهم اعمالهم فيها وهم فيها لايبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة الا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون’’ (هود : 15-16) .
وهذا الأنحراف في السلوك ليس مرتبطا بحجم ما عند الأنسان من انجازات مادية ، اي ليس مرتبطا بدرجة تمدنه ، وانما هو مرتبط بدرجة تحضره ، والذي يعني في اعتقادنا درجة الصقل والتنقية التي احدثتها الرؤية الكونية على قلبه ليكون محركا قويا للفضائل لديه بدل الرذائل مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما روى الشيخان ’’ ...ألا وان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد الجسد الا وهي القلب ’’ . لذلك وانطلاقا مما نشاهده في عالمنا العربي هذه الأيام من تشوه في الرؤية الكونية نتجت عنه ممارسات لايقبلها عقل ولا خلق رأينا ان ان يكون حديثنا هذا الشهر حول هذا الموضوع وهدفنا هو توضيح معنى الرؤية الكونية الصحيحة ، وكيف تؤثر هذه الرؤية على قلب الأنسان ومن خلاله على قيامه بادواره المختلفة في المجتمع البشري بأكمله حتى يكون حقا خليفة لله في الأرض وبذلك نكون قد لفتنا انتباه أجيال اليوم المتطلعة الى مجتمع الحرية ، الى ان الحرية الحقيقية هي تلك الحرية التي تسترشد بالرؤية الكونية الصحيحة حتى تصبح هذه الأمة امة تعميرلا امة تدمير ، وأمة عدل لا أمة ظلم ، وامة تعاون لا امة تنافر ، وامة أخلاق لا امة انحراف ، وهكذا يصلح حال الأمة اليوم بما صلح به أولها كما اخبرنا قدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما مشى اجدادنا في مناكب هذه الأرض طبقا لرؤية خالق هذا الكون ، وهي رؤية تتسع للجميع حتى من يختلف معها ونحن نطرحها لأثراء الحوار بين الأجيال الصاعدة فاذا اصبنا في طرحها فهو توفيق من الله والا فهو القصور البشري الذي نسال الله ان يغفره لنا وهو على ذلك قديروحسبنا اننا اجتهدنا بتقديم جهد المقل .
ماهي رؤيتنا الكونية ؟
ان المسافر الذي يعرف وجهته والطريق المؤدية اليها تكون رحلته اقل كلفة من حيث المشقة التي يتعرض لها والموارد التي يستخدمها والوقت الذي يقضيه في هذه الرحلة والعكس هو صحيح بالنسبة للتائه الذي تكون له كل يوم قبلة ووجهة . وهذا ماحصل للمسلمين في فترات مختلفة من تاريخهم الذي استمر اكثر من 14 قرن من الزمان قبل ان تختلط عليهم التصورات وتتعدد وجهاتهم كما نشاهد اليوم . فعندما اسأل طلبتي في الجامعة أو شباب اليوم عن غاية وجودهم في هذا الكون لااسمع اجابة شافية وان كنت لااحملهم وحدهم مسؤولية هذا التيه لأنهم افرازلمجتمعات لم تعد لها غاية واضحة وانما هي كالأمعة تقلد الشرق تارة وتقلد الغرب تارة اخرى واذا عادت الى اسلامها صارت تختار جانب وتترك آخر اي انها ترقع وما ادراك ماهو حال امة ساد فيها الترقيع ؟ هذا التيه عاشته الحضارات الأخرى على مستوى الفكر والممارسة معا ولكن حتى لانتيه نحن في بحثنا عن الغاية نقول ان الغاية التي تحدثنا عنها في حالة المسافرهي ما نقصد به الرؤيه الكونية بالنسبة للأفراد والمجتمعات والحضارات ، وكل مجتمع له رؤية كونية تعتبر محركا لتقدمه وقد تتفاوت المجتمعات في رؤاها الكونية ولكن ليس هناك مجتمع الا وله هذه الرؤية . ولنكون اكثر دقة ونقول بان الرؤية الكونية المكتمله أو الصحيحة هي التي تقدم اجابة واضحة ومقنعة لثلاث تساؤلات رئيسية الا وهي : من أين جئنا نحن معشر المخلوقات ؟ وما هي غاية وجودنا في هذه المعمورة ؟ وماهو مصيرنا بعد الموت ؟ هذه التساؤلات تنوعت الأجابات عليها عبر التاريخ البشري بتنوع مصادر المعرفه . فالديانات السماوية لها اجابات متقاربة مع بعض الفوارق التفصيلية هنا وهناك ، اما المدارس العلمانية التي لاتعتبر الدين مرجعية فقد تنوعت اجاباتها على هذه التساؤلات لأنها اعتمدت على العقل وحده دون الشرع ، وقد دخلت في جدل حول هذه الأجابات لم ينتهي حتى يومنا هذا . وللأسف ادى تراجع الدين واهله عبر القرون الماضية الى سيادة هذه المدارس اللادينية ورؤاها الكونية في كثير من اقطار العالم ، وحتى الدول التي لم تتأصل فيها هذه النظريات اللادينية كالدول الأسلامية ادت هذه الرؤى الى تشويش وتشتيت الرؤى الأصلية لدى هذه المجتمعات ، وهذا ما قصدته عندما تحدثت عن طبيعة الأجابات التي سمعتها من طلبتي حول غايتهم في هذا الكون . هذا يعني ان فترة ما بعد ميادين التحرير في مصر وتونس وليبيا ومطالبات الأصلاح والتغيير في جزيرة العرب ، لابد أن تتبعها عملية تحديد بوصلة لهذه الأمة تكون واضحة الأتجاه والغاية ، والا فاننا سنظل ندورفي حلقة مفرغة من الفوضى والحروب وغياب الأمن والتنمية ، وهذه البوصلة أو الرؤية الكونية لابد ان تستمد من ثوابتنا الحضارية متمثلة في كتاب الله وسنة نبيه عليه افضل الصلاة والتسليم ، وتكون بمثابة المرجعية لكل ما نقوم به في مجتمعاتنا الأسلامية ، وفي حالة نجاحنا في ذلك قد نساهم مرة اخرى في تصحيح مسار البشرية جمعاء مرة اخرى ونحررها من التيه وحياة الضنك التي تعاني منهما اليوم . فما هي اذن هذه الرؤية الكونية التي ينبغي لكل مسلم الأرتكاز عليها في سلوكه في حياته اليومية ؟ ان الحق سبحانه وتعالى كفانا البحث العقيم في اصلنا ومصيرنا بعد الموت في قوله تعالى :
’’ ياايها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء الى اجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا اشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى ارذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتب من كل زوج بهيج . ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير . وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (الحج :5-7) .
هذه الآيات التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم قبل اكثر من الف واربعمائة عام قد حيرت علماء الأجنة المعاصرين الذين تساءل احدهم في احد الندوات العلمية عن ما اذا كانت لدى محمد في فترة نزول هذه الايات اجهزة علمية ساعدته على هذا التوصيف الدقيق لتكون الجنين في رحم أمه وهو توصيف ، كما قال العالم المذكور، لم نتوصل الى دقته نحن في القرن العشرين وبما لدينا من اجهزة متطوره . بل والأكثر من ذلك جاءت هذه النظريات العلمية لتؤكد ان الأنسان جاء من التراب والى التراب يعود ، وهوما تؤكده ألايات السابقة التي نزلت والعلم لايزال في بداياته . ومما يروى ان العالم المذكور سابقا قد قرران يستخدم هذه المصطلحات القرآنية الواردة في الآيات السابقة في توصيف تكون الجنين في احد كتب المقررات الدراسية التي يؤلفها ، وتبارك الله أحسن الخالقين .وقد أخبرني احد الخطباء في مسجد في الولايات المتحدة أن شخصا اسلم عندما قرأوا عليه الآيات السابقة وحدها . وهذا ليس مستغربا حيث ان المفكرالأسلامي محمد اسد صاحب كتاب ’’ الطريق الى مكة’’ يذكر، رحمة الله عليه ، في احد مقابلاته ان سورة ’’ التكاثر’’ كانت هي سببا لأعتناقة لدين الله الحنيف .
هذا عن الأصل والمصير ولكن ما بين الحياة والموت عمر يطول ويقصر، فمنا من يتوفى في يوم ولادته ومنا من يعمر الى أرذل العمر ، فما هي يا ترى الغاية من وجودنا في هذا الحياة طالت ام قصرت ؟ ان من اعجب ما يراه الأنسان اليوم ان هذه الأمة اصبحت كبقية الأمم تنتج لتستهلك وتستهلك لتنتج وكانها تعيش حياة الدواب والعياذ بالله ، في الوقت الذي يستفتح الفرد فينا صلاته صباح ..مساء قائلا ’’ قل ان ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك امرت وانا اول المسلمين ’’ (الأنعام : 162-163) ، فكم من ابناء هذه الأمة وبناتها يستحضرون معنى هذا الدعاء او البوصلة في بقية سعيهم في الحياة ؟ وهل ياترى لو اننا كنا نستحضر هذه الغاية من وجودنا في هذا الكون سنرى امة محمد صلى الله عليه وسلم تتاجر بالخمورالتي سماها الخالق بأم الخبائث ؟ وهل تقبل امة تشبعت بحب الله ورسوله ان تتهافت على الربا الذي فيه محاربة لله ورسوله ؟ وهل تفلح امة تحاصر شعبا مسلما كالشعب الفلسطيني في الوقت الذي يعلمها رسولها كما هو مروي في صحيح مسلم قائلا :’’ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ’’ ؟ وهل يزدهر اقتصاد امة تقامر وهي تعلم ان خالقها ينبهها الى ان القمار رجس من عمل الشيطان وأن ضره أكثر من نفعه ؟ وهل يتحقق في هذه الأمة عدلا اجتماعيا واكبر شريحة من اغنيائها لاتزكي اموالها ، وقد حارب خليفة رسولها ابوبكر، رضي الله عنه من رفض دفع فريضة الزكاة ؟ وهل تربي امة اجيالا طاهرة وعفيفية وهي تنفق المبالغ الطائلة على ترويج الفاحشة التي حرمها الخالق في اعلامها المسموع والمرئي والمكتوب ؟ وهل وهل وهل ، ان استشعار العبادة في كل حركة وخاطرة في حياتنا لابد وان تكون له ثمرة تحول الركود الذي تعاني منه الأمة اليوم الى حركة اعمار وعطاء على كل صعيد . ان التوجه بكل اعمالنا لخالقنا سبحانه وتعالى فيه تهذيب لغرائزنا ، وتصحيح لسلوكياتنا ، وضبط لأهوائنا ، وتطلعا الى السعادة في الدنيا والآخره . نعم ان الرؤية الكونية المستمدة من خالقنا هي اصلح لنفوسنا واقدر على تحريك طاقاتنا وتهذيب نزواتنا : ’’الا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير’’(الملك :14) . ذلك لأن هذه الرؤية الكونية تجمع بين المادة والروح ويمتد افقها من ضيق الدنيا الى سعة الآخرة مصداقا لقوله تعالى ’’ بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وابقى ’’(الأعلى ، 16 ). وبالتالي فان رغبة الأنسان في كسب الثواب الدائم في آخرته يجعله اكثر قدرة على منازعة اهوائه وضبطها وتوجيهها الى الخير في هذه الدنيا ، وبالتالي فان الرؤية الصحيحه المنسجمة مع فطرة الأنسان تكون ثمرتها سلوكيات ايجابة وسامية بعكس الرؤية الناقصة او الدنيوية فقط . فكيف يتقاعس المسلم عن العمل وهو يسمع قول الحق وهو يأمر بتعمير الأرض ’’ هو انشأكم من الأرض واستعمركم فيها ’’(هود : ألاية 61) ، وكيف يتجرأ الحاكم على الظلم وهو يتذكر قول الحق سبحانه وتعالى : ’’ ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل (النحل ، 90) ، وكيف يمارس التاجر الغش والأحتكار وهو يسمع قوله تعالى ’’ ياايها الذين آمنوا لاتأكلوا اموالكم بينكم بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراض منكم ’’(النساء ، 29) ، وكيف يقصرالأب في العناية باسرته وهو يتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم ’’ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ...’’[1]. وكيف يسيء الرجل لأهله وهو يتذكر قول نبيه صلى الله عليه وسلم : ’’ خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ’’ [2] ، وكيف ينتشر المداحين في امة قال رسولها : ’’ اذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ’’[3] . وكيف يتفشى الجهل في امة يخبرها قائدها وقدوتها بأن : ’’ طلب العلم فريضة على كل مسلم ’’ [4]. وكيف تقبل امة ان تطيع حاكما ظالما يأمرها بمعصية خالقها وهي تعلم أن رسولها علمها بأنه : ’’ لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق’’ [5]، وعلمها كذلك : ’’ انما الطاعة في المعروف’’ [6]. وكيف وكيف وكيف ..... ؟ اذن فالمسلم طبقا للرؤية التي لخصناها سابقا هو مخلوق من تراب وغاية وجوده عبادة الله في كل اعماله واقواله طبقا للمنهج الذي حدده له خالقه ، ومصيره بعد ذلك الى التراب ، ثم يبعث في يوم لاينفع فيه مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم ، ليحاسب على ما فعله في الحياة الدنيا ، وبعد ذلك يتقرر مصيره الأبدي سعادة أو شقاء .
ما هي ثمرة الرؤية الكونية الصحيحة ؟
اتضح لنا مما سبق أن الرؤية الكونية الصحيحة هي ركيزة اساسية في حياة الأنسان لأن أول ثمراتها أنها تجيب له عن تساؤلات هامة كاصل وجوده وغاية وجوده في هذا الكون ومصيره بعد الموت ، وهذا يجعل حياته ذات معنى فيرتقي الى مرتبة التكريم الذي خصه الله بها ، ويجعل حياته عبودية تامة لله وهذا النوع من العبودية هو النوع الوحيد من انواع العبودية الذي فيه عزة للأنسان وتكسيرا لكافة انواع القيود التي يكبل الأنسان نفسه بها من خوف على رزق او حياة او غيرها من الهموم . فعندما يقول الحق سبحانه وتعالى في محكم آياته ’’ وما خلقت الجن والأنس الا ليعبدون ’’(الذاريات : 56) ، فانه يؤكد لنا ان الأنسان مفطور على العبودية ، وبالتالي فاذا لم تكن عبوديته لله فانه ولاشك سيعبد شيئا آخر وهذا الشي سيكون انسان او مادة او حزب اوغيرها من المعبودات بالضبط كما حصل للحضارة الغربية مصداقا لقوله تعالى ’’ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة ’’(البينة : 4) ، اي عندما انبهروا بالعلم وجعلوه بديلا للأيمان ومعبودا من دون الله لأنهم اعتقدوا انه سيحقق لهم السعادة الأبدية ، ولكن ذلك لم يحصل ولن يحصل . ولايعني هذا ان الله يطلب منا تعطيل العقول وانما هو تأكيد لنا على ضرورة اعمال هذه العقول في ما تستطيع ان تدركه كتدبر نواميس الكون وقوانينه والأستفادة منها في عمارة الأرض وسعادة الأنسان ، اما الأمور المتعلقة بخلقنا وبعثنا وما شابهها فقد كفانا الله البحث عنها بتوضيحها في آيات سبق ذكرها . ومن ثمرات العبودية لله ان الحق سبحانه وتعالى وضع لنا خارطة للطريق الذي يربط بين ميلادنا ومماتنا وهذه الخارطة هي عبارة عن الأوامر والنواهي التي جاءت بها الرسل والتي تنسجم مع طبيعة الأنسان وتوجه طاقاته وغرائزة نحو عمارة الأرض وسعادة الأنسان وتجنبه الأفراط والتفريط الناتج عن اتباعه للهوى أولقلة معرفة أو لقصر نظر . وهذه الأوامر والنواهي منها ما هو ثابت كالأخلاق والعقائد التي لاتتغير بتغير الزمان وما كان الغرب ليحلل كثير من الأمور كالربا والخمور والقمار والزواج المثلي لو انه تقيد بثوابت المسيحية ولكنه اتبع الهوى فاضله عن السبيل ، وفيها ما هو متغير لمواكبة تطور الحياة وتراكم المعرفة الأنسانية وتنوع حاجات الأنسان ، وفيها ما هو مفصل وفيها ما هو مجمل ليجتهد الأنسان في التفاصيل ، وهي تتصف بالشمولية فهي تعرف العقيدة ومكارم الأخلاق ، وتعالج الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وارث ، وتغطي السياسية الشرعية التي تضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، وهي كذلك توضح العقوبات بانواعها ، وتنظم علاقات المسلمين مع غيرهم ، وهي تنظم المعاملات فتبين الحلال والحرام وهكذا دواليك . وتؤكد تجارب البشرية منذ بعث الله الرسل انه كلما انحرفت حضارة أو امة عن هذه الأوامر والنواهي أو ما سميناه بالرؤية الكونية الصحيحة ، كلما ادى ذلك الى شتى صور المعاناة وعدم الأستقرار مصداقا لقوله تعالى ’’ فمن اتبع هدايا فلا يضل ولايشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى ’’(طه : 123) . واللذة التي تؤدي الى السعادة ليست دائما هي التي تهواها النفس ويميل اليها القلب ، فكم من لذة تبعتها آلام واسالواعن ذلك من شرب الخمر او تعاطى المخدرات او زنى أو لعب القمار ليخبروكم عن مآلات هذه السلوكيات التي تبدا وكأنها متعة وتنتهي بصاحبها الى المهالك ، وبالتالي فالمصلحة هي ما جعلها الشرع مصلحة . وكما وان ليست كل متعة تميل اليها النفس هي منفعة حقيقية ، فليس كذلك كل الم أو مشقة يتعرض لهما الأنسان هما مفاسد ، فكم من دواء مر جلب لصاحبه الشفاء من ويلات مرض مزمن ، وكم من عقوبة ردعت جريمة كادت ان تودي بالمجتمع باكمله ، وهكذا فالمفسدة هي ما قال عنه الشرع أنه مفسدة . وبما ان غالبية الأعمال تجتمع فيها المفاسد والمصالح فان الحكم بالحلة والحرمة ينبي على الجزء الغالب ، فالخمر والميسر فيهما منافع مثل تشغيل الناس في الأنتاج والأرباح التي يحققها البائع ، ولكن الحق سبحانه وتعالى يخبرنا بان اثمهما أكبر من نفعهما ومن هنا يأتي التحريم لأن الشخص العاقل لايقبل على مشروع تفوق تكاليفه ارباحه . ومن ثمرات العبودية لله ان علماؤنا الأفاضل بعد ان تدبروا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، اخبرونا بأن كل سلوك يحفظ مقاصد الشريعة وهي : الدين والنفس والعقل والنسل والمال فيه مصلحة يجب السعي للأخذ بها ، وكل ما يخل بهذه الضروات ففيه مفسدة يجب تجنبها ، وهكذا نرى الأحكام الشرعية تدور حول هذه المقاصد وكيفية الحفاظ عليها، ومن هنا فان التنمية الفعلية بالنسبة لنا تقاس أولا واخيرا بمدى حفظها للمقاصد السابقة . فتاكيد العبودية والألوهية وفرض الصلاة وبقية الشعائر فيها حفظ للدين ، وتحريم قتل النفس الا بالحق فيه حفظا لمكانة النفس البشرية وتأمينا للأنسان من الخوف والأعتداء واطلاق لطاقاته ، ذلك لأن الخوف يقتل العطاء ، واعتبار العلم فريضة وتحريم كل مسكر او مخدر هو رعاية لعقل الأنسان الذي يتدبر به في هذا الكون ويكتشف نواميسه ، وتشريع الزواج وتحريم الزنا فيهما حفظ للنسل والأسرة وترابطها . وتحريم الربا وفرض الزكاة فيها حفظ للمال وتنمية له ، لأن الربا يؤدي الى نقصان بركة المال بسبب ما فيه من ظلم ، بينما الزكاة تنمي المال بما فيها من تطهير وتكافل اجتماعي . ومن ثمرات العبودية لله ان هذه الحياة ليست البداية والنهاية وانما هي ارض اختبار ومزرعة للآخرة التي فضلها الله على هذه الدنيا الزائلة بقوله ’’ بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وابقى ’’(الأعلى،16-19) ، ومرة أخرى وبمعايير الجدوى فان العاقل لن يفضل الدنيا على الآخرة التي تفوقها في الخيرية وفي الديمومة ، وبالتالي فان المؤمن يعيش حياته وهو يتطلع الى لقاء الله والفوز بجنته وهذا الشعوريدفعه دائما الى عمارة الأرض وتحقيق العدل والأستعداد للتضحية وغيرها من الفضائل التي تؤدي الى استقرار المجتمعات وازدهارها في آن واحد ، وبذلك يكسب الدارين .
تفاعل الرؤية الكونية والنفس البشرية
الرؤية الكونية السابقة هي التي تنعكس على النفس الأنسانية وترتقي بها ، وكلما تاصلت هذه الرؤية عند الفرد والجماعة كلما تحققت ثمارها الطيبة ، وكلما ضعفت هذه الرؤية بدات النفس ومعها المجتمع في الأنحدار . فلا يكاد يمر يوم إلا ونرى أو نسمع عن جريمة قتل أو سرقة أو ظلم أو حرب أو ضرب أو ما شابه ذلك من السلوكيات التي تتنافى مع سعادة الإنسان وأمنه واستقراره ومع نمو وازدهار المجتمع بأكمله ، بل وحتى مع استقرارالكون كله . وعلى الرغم من ذلك فان هذه الجرائم تتكرر وتتنوع وتتفاقم فما هو السبب يا ترى ؟ الإجابة تكمن في فهمنا للطبيعة البشرية والقوى المحركة لها وكيفية التعامل معها فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا تركيبتنا النفسية بقوله ’’ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها’’(الشمس: 7) ، أي أن النفس لديها الاستعداد للفجور ، اي ارتكاب كل المعاصي من ظلم حاكم عربي أو مسلم لشعبة وسرقة أمواله وقتله ، إلى تلاعب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بالمعلومات الاستخبارية لإعلان الحرب على العراق وتدميره ، إلى تزوير رئيس مؤسسة انرون المالية لحسابات الشركة ليسرق أموال المستثمرين ، إلى تسريب أحد منظمي أسواق المال معلومات إلى صديقته مارتا ستيورت المليونيره الأمريكية حتى تبيع أسهمها المتوقع انخافض أسعارها ، إلى أم امريكية تلقي بأطفالها الثلاثة في النهر ليموتوا غرقا ، الى كتائب القذافي التي تقصف الشعب الليبي بالطائرات ، الى بلطجية النظام المصري الذين كانوا يدهسون المتظاهرين بسياراتهم ، الى افراد الأمن السوري الذين حاصروا درعة وقتلوا مجاميع منهم مخلفين مقابر جماعية ورائهم ، الى آخر القائمة الطويلة من صور الفجور التي يشهدها عالم اليوم . وكما أن لدى هذه النفس الاستعداد للفجور فان لديها كذلك الاستعداد للتقوى أي القيام بالأعمال الفاضلة والراقية ، فالسلطان عبد الحميد رحمة الله عليه رفض أن يببع شبرا من أرض فلسطين على الرغم من كل إغراءات هرتزل واليهود وضغوط الدول الإستعمارية وذلك لأنها كما قال هي أرض المسلمين ، والشهيد الشيخ احمد ياسين، رحمه الله رحمة واسعة ، كان ضعيفا في جسده وفقيرا في امكانياته وقد لايكون زاده العلمي بغزر بعض علماء السلاطين في يومنا هذا ، إلا أنه لم يقبل أن يساوم على حقوق العرب والمسلمين في فلسطين وأعلن هو وإخوته في المقاومة الإسلامية الحرب على المحتل وضحوا بالغالي والرخيص حتى اغتالته قوات الغدر الإسرائلية بضربة من الجو وهو معوق على كرسيه وذاهبا لصلاة الفجر. وقبل ذلك نرى الخليفة عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، يمول جيشا كاملا لنشر الإسلام بينما تتقاعس اليوم حكومات عربية مداخيلها مئات المليارات من الدولارات عن مساعدة الشعب الفلسطيني المرابط بقيادة حماس بمليارين من الدولارات في الوقت الذي نرى فيه بعض اغنياء العرب يبذرون مئات الملايين في صالات القمار والإعلام الهابط والملاهي الليلية وحتى الفيضانات في الولايات المتحدة الأمريكية وكأن الولايات المتحدة اكثر حاجة من الشعب الفلسطيني أو غيره من الشعوب الإسلامية . فالنفس الفاجرة إذن هي النفس التي تصدر عنها الرذائل بينما النفس التقية هي التي تنبع منها الفضائل . وكما أن النفس التقية لها درجات فإن النفس الفاجرة لها درجات ودوام الحال من المحال . فالتقوى تزداد وتنقص بزيادة ونقصان قوة محركاتها وهذا يتلمسه الإنسان في تصنيفات النفس كما وردت في القرآن الكريم . فهناك النفس الأمارة بالسوء التي تنهك صاحبها بالمعاصي وتعمي بصره وبصيرته عن الخير والسعي له ولكن هذه النفس الأمارة بالسوء والراكدة كالطين الذي خلق منه الإنسان تهب فجأة إذا تحركت فيها النفخة الروحية الربانية ودفعتها إلى المعالي وحولتها من نفس أمارة بالسوء إلى نفس لوامة تنكر الرذيلة وتبتعد عنها وتتوق إلى الفضيلة وتقترب منها ومع زيادة جرعة النفخة الروحية وانتصارها على تثاقل القبضة الطينية ترنوا هذه النفس إلى درجة أعلى ألا وهي النفس المطمئنة فيحقق الله لهذه النفس وصاحبها حسن الخاتمة بقوله تعالى ’’ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ’’ (الفجر، 27 – 30) جنبنا الله وإياكم النفس الأمارة بالسوء وجعل نفوسنا نفوسا مطمئنة . واذا اتفقنا على أن صور الفجور التي ذكرنا بعضا منها تنفر منها النفس ولاتتناسب مع أمن المجتمع وتطوره وأن صور التقوى التي عرجنا على بعضها هي من السلوكيات التي تسكن بها النفس ويؤيدها العقل فإن الخطوة التالية في بناء المجتمع الذي لايشقى فيه الإنسان ، هي في تضييق دائرة الفجور ولاأقول إنهاءها لآن ذلك غير ممكن ، وتوسيع دائرة التقوى مصداقا لقوله تعالى ’’ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها’’ (الضحى، 9-10). إن هذه التقوى هي حارس داخلي يقوم بدور السائق الذي يوجه النفس البشرية وكلما كان هذا الحارس قويا وواعيا ومستعدا ، كلما استقامت النفس البشرية وارتقت في سلوكياتها في كل الأدوار التي يقوم بها الفرد سواء كان أبا أو أما او طالبا او قائدا أو رجل اعمال او أستاذا او شرطيا او اي دور آخر ، والاستقامة هنا تعني أن يقوم الفرد بهذه الأدوار بأعلى درجة من الكفاءة والأمانة مصداقا لقوله تعالى على لسان ابنة شعيب ’’ قالت إحداهما ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ’’ (القصص ، 26). وعلى الرغم من أن الحضارة العلمانية المعاصرة أوجدت رقابة خارجية على الإنسان مثل المؤسسات الرقابية والمحاسبية والقانونية إلا ان هذه الرقابة لايمكن ان تكون بديلا للرقابة الداخلية وانما مكملة لها . وهناك كثير من الشواهد على ان الأصل هي الرقابة الداخلية لأنها اكثر فعالية واكثر ديمومة ويمكننا توضيح ذلك بمثال صغير ولكنه معبر. فعندما يتشبع الأنسان بالرؤية الكونية الصحيحة أي بعقيدة نابعة من الخوف من الله ورجاء ثوابه في الدنيا والآخره وهو ذو مال فاننا نراه مثلا يبحث عن مستحقي الزكاة حتى يطهر أمواله ويزكي نفسه وينال رضى الله من غير أن يتابعه أحد لأن رؤيته الكونية الصحيحة اثمرت حارسا داخليا يأمره بتفيذ التزاماته التي تمليها عقيدته لأن حسابات الربح والخسارة لديه اشتملت على الدنيا والآخرة معا . في المقابل نرى في المجتمعات الغربية تأتي الحكومات بإجماع شعبي ولكن عندما تفرض هذه الحكومة أو تلك ضريبة فان كثيرا من أفراد المجتمع يبحث عن كل وسيلة ممكنه للتهرب من هذه الضريبة لذلك نرى أن كثيرا من الحكومات المعاصرة في الدول الصناعية والنامية تصرف مبالغا طائلة لملاحقة المتهربين من الضرائب. ولكن لماذا يحاول دافع الضريبة التهرب من دفع ضريبته بينما يدفع صاحب الزكاة زكاته من تلقاء نفسه ؟ والإجابه تتلخص في أن دافع الضريبة يخضع لرقابة القانون الخارجية وهي رقابة يمكن التهرب منها ولايمكن أن ترافق الفرد في كل لحظة في حياته وفي كل سلوكية ، كما وان هذا الفرد لايرجو ثوابا أو عقابا خارج دائرة الحياة الدنيا ، بينما دافع الزكاة تكونت لديه رقابة داخلية لاتفارقه مصداقا لقول رسولنا الكريم عندما سأله جبريل عليه السلام عن معنى الإحسان فكان رده ’’ أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ’’[7] ، وهذا الأخير يكبح كثيرا من رغباته في هذه الدنيا طمعا في نيل ما هو افضل اوتجنبا لعقوبة أشد في الآخرة ، وهو بتصرفه هذا ليس بساذجا كما يعتقد البعض وانما هو عقلاني من الدرجة الأولى لأنه يدرك ان الثواب والعقاب في الدنيا ينتهيان بمجرد موته وهو أمر قد يحصل في اية لحظه بينما ثواب أو عقاب الآخرى يتصف بالديمومة وهذا الذي يفسر سلوكه الرشيد في هذه الدنيا .
[1] متفق عليه .
[2] أخرجه الترمذي واسناده صحيح .
[3] أخرجه مسلم .
[4] رواه ابن ماجه عن أنس .
[5] رواه أحمد وأبو داود وسنده صحيح .
[6] أخرجه الشيخان .
[7] رواه مسلم .
*أخبار الخليج
أضيف بتاريخ : الثلاثاء 20 رجب 1432 هـ الموافق 21 يونيو 2011 م
قد يستغرب القاريء الكريم عنوان حديث هذا الشهر في الوقت الذي تسيل فيه دماء شباب الثورة في اكثر من قطر عربي وهم يتطلعون الى التخلص من أنظمتها المستبدة ، وفي الوقت الذي تتطلع فيه شعوب دول أخرى كالدول الخليجية الى حكوماتها لتبادر باصلاحات سياسية جذرية تجنبها المستقبل المجهول وتحميها من القلاقل وتمشي مع شعوبها في ركب النهضة التي بزغ فجرها على العرب منذ بداية هذه السنة ، ولكننا نؤكد لهؤلا القراء اننا لازلنا وسنظل نعيش احداث عالمنا العربي ولكن من زوايا مختلفة . فنحن امة لها رسالة ولا يمكن ان تعمينا الشجرة القريبة عن الغابة البعيدة ولايمكن أن نطالب بالتغيير من اجل التغيير وحده ، وانما نطالب بالتغيير من اجل توفير الظروف الملائمة التي تمكننا من تأدية رسالتنا التي كلفنا الله بها وجعل ثوابنا وعقابنا في الآخرة مرهون بتأديتها وهي رسالة تتمثل في قوله تعالى : ’’ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ’’ (سورة أل عمران : 110 ) ، وانزال هذه الآية على أرض الواقع يتطلب تعمير الأرض طبقا لأوامر الله ونواهيه مصداقا لقوله تعالى : ’’ هو انشاكم من الأرض واستعمركم فيها ’’ ( هود :61) ، نعم المطلوب منا عمارة الأرض ولكن هذه العمارة لاتتم في فراغ ولايمكن ان تترك للأهواء وحدها ، وانما تتجلى في سياق رؤية كونية كرمنا الله بها وأمرنا ان نعيشها كنموذج حي ومشاهد ، ومن ثم طلب منا تقديمها للعالم لتعيش البشرية في ظلال هذا الدين وتغمرها رحمة خالقها لأن الله سبحانه وتعالى خاطب سيد البشر بالقول : ’’ وما ارسلناك الا رحمة للعالمين ’’ (ألأنبياء : 107) . فالثورات التي تهب على عالمنا العربي منذ أشهر هي فجر جديد طلع على هذه الأمة ولكن ماذا عن ما بعد الثورات ؟ هل نحن بصدد تبني النموذج الغربي بحذافيره أم نأخذه بضوابط ؟ فاذا كنا سنأخذه بحذافيره فاي النماذج سنأخذ ؟ هل هو النموذج الأمريكي أم الأوروبي ؟ وهل تمعنا في هذه النماذج واقتنعنا بان هذا ما نريده بخيره وشره ؟ أم اننا نسعى الى ايجابيات هذا النموذج الغربي ، وهذا يتطلب منا ان نأخذه بضوابط ؟ فاذا كان هذا الخيار الأخير هو ما نصبوا اليه فما هي هذه الضوابط ؟ أم ان لدينا نموذج خاص بنا يمكن ان يستوعب ما لدى ألاخرين من ايجابيات من غير الذوبان في تلك النماذج ؟ وكيف يمكن ان نجنب الأجيال الشابة مأساة الأنتقال من عبودية أنظمة ألأستبداد الى عبودية الأهواء والشهوات ؟ هذه التساؤلات خطرت على بالي وانا اتأمل هذه الثورات مقارنا بين ما صدر من هذه الأنظمة الأستبدادية من قتل وتدمير واغتصاب وتشهير بشعوبها ، وبين الطموحات الجامحة والتضحيات الكبيرة لأبناء هذه الثورات نحو التحرر من هذه الأنظمة ، ولكن من غير وضوح رؤية حول ماهية النموذج الذي سيحل محل هذه النظم البائدة ، فعلى الرغم من أن المجتمع الديمقراطي المنشود قد يكون افضل بكثير من هذه الأنظمة ألأستبدادية على المدى القصير على الأقل ، الا انه قد لايكون الأفضل على المدى الطويل الا اذا كان مقدمة لبناء مجتمع يقوم على رؤية كونية صحيحة كما تؤكد المثالب الكبيرة التي تعيشها المجتمعات الغربية اليوم . فمظاهر العنف والتدمير والظلم والأستبداد والتفكك ألأسري والأدمان وألأزمات المالية والأنحرافات الجنسية بأشكالها والفساد المالي والأداري التي نشاهدها في عالم اليوم تكشف لنا عن حجم الأزمة العقائدية والأخلاقية التي تعيشها امتنا ويعيشها العالم بأكمله ، وهي في اعتقادي ثمرة خبيثة لخلل كبير في الرؤية الكونية لدى هذا ألأنسان . فكل مجتمع لديه رؤية كونية تقترب أو تبتعد من الرؤية الكونية الصحيحة التي رسمها خالق هذا الكون ، وهذه الفجوة بين رؤية المجتمع الكونية والرؤية الكونية الصحيحة هي التي تزيد أو تنقص من رقيه الحضاري ، فكلما تشوهت هذه الرؤية الكونية وكانت بعيدة عن الرؤية الصحيحة ، كلما كان لدى الأنسان الأستعداد الى الأنحدار في سلوكياته الى ما دون مستوى البهائم وأسوا مصداقا لقوله تعالى : ’’ ان هم الا كالأنعام بل هم اضل سبيلا ’’ (الفرقان :44) ، وكل ما كان همه متركزا على الدنيا وحدها وهذا النوع من البشر يجعل نفسه في خطر كبير نبهنا الخالق سبحانه وتعالى الى عاقبته الوخيمه بقوله : ’’ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف اليهم اعمالهم فيها وهم فيها لايبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة الا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون’’ (هود : 15-16) .
وهذا الأنحراف في السلوك ليس مرتبطا بحجم ما عند الأنسان من انجازات مادية ، اي ليس مرتبطا بدرجة تمدنه ، وانما هو مرتبط بدرجة تحضره ، والذي يعني في اعتقادنا درجة الصقل والتنقية التي احدثتها الرؤية الكونية على قلبه ليكون محركا قويا للفضائل لديه بدل الرذائل مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما روى الشيخان ’’ ...ألا وان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد الجسد الا وهي القلب ’’ . لذلك وانطلاقا مما نشاهده في عالمنا العربي هذه الأيام من تشوه في الرؤية الكونية نتجت عنه ممارسات لايقبلها عقل ولا خلق رأينا ان ان يكون حديثنا هذا الشهر حول هذا الموضوع وهدفنا هو توضيح معنى الرؤية الكونية الصحيحة ، وكيف تؤثر هذه الرؤية على قلب الأنسان ومن خلاله على قيامه بادواره المختلفة في المجتمع البشري بأكمله حتى يكون حقا خليفة لله في الأرض وبذلك نكون قد لفتنا انتباه أجيال اليوم المتطلعة الى مجتمع الحرية ، الى ان الحرية الحقيقية هي تلك الحرية التي تسترشد بالرؤية الكونية الصحيحة حتى تصبح هذه الأمة امة تعميرلا امة تدمير ، وأمة عدل لا أمة ظلم ، وامة تعاون لا امة تنافر ، وامة أخلاق لا امة انحراف ، وهكذا يصلح حال الأمة اليوم بما صلح به أولها كما اخبرنا قدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما مشى اجدادنا في مناكب هذه الأرض طبقا لرؤية خالق هذا الكون ، وهي رؤية تتسع للجميع حتى من يختلف معها ونحن نطرحها لأثراء الحوار بين الأجيال الصاعدة فاذا اصبنا في طرحها فهو توفيق من الله والا فهو القصور البشري الذي نسال الله ان يغفره لنا وهو على ذلك قديروحسبنا اننا اجتهدنا بتقديم جهد المقل .
ماهي رؤيتنا الكونية ؟
ان المسافر الذي يعرف وجهته والطريق المؤدية اليها تكون رحلته اقل كلفة من حيث المشقة التي يتعرض لها والموارد التي يستخدمها والوقت الذي يقضيه في هذه الرحلة والعكس هو صحيح بالنسبة للتائه الذي تكون له كل يوم قبلة ووجهة . وهذا ماحصل للمسلمين في فترات مختلفة من تاريخهم الذي استمر اكثر من 14 قرن من الزمان قبل ان تختلط عليهم التصورات وتتعدد وجهاتهم كما نشاهد اليوم . فعندما اسأل طلبتي في الجامعة أو شباب اليوم عن غاية وجودهم في هذا الكون لااسمع اجابة شافية وان كنت لااحملهم وحدهم مسؤولية هذا التيه لأنهم افرازلمجتمعات لم تعد لها غاية واضحة وانما هي كالأمعة تقلد الشرق تارة وتقلد الغرب تارة اخرى واذا عادت الى اسلامها صارت تختار جانب وتترك آخر اي انها ترقع وما ادراك ماهو حال امة ساد فيها الترقيع ؟ هذا التيه عاشته الحضارات الأخرى على مستوى الفكر والممارسة معا ولكن حتى لانتيه نحن في بحثنا عن الغاية نقول ان الغاية التي تحدثنا عنها في حالة المسافرهي ما نقصد به الرؤيه الكونية بالنسبة للأفراد والمجتمعات والحضارات ، وكل مجتمع له رؤية كونية تعتبر محركا لتقدمه وقد تتفاوت المجتمعات في رؤاها الكونية ولكن ليس هناك مجتمع الا وله هذه الرؤية . ولنكون اكثر دقة ونقول بان الرؤية الكونية المكتمله أو الصحيحة هي التي تقدم اجابة واضحة ومقنعة لثلاث تساؤلات رئيسية الا وهي : من أين جئنا نحن معشر المخلوقات ؟ وما هي غاية وجودنا في هذه المعمورة ؟ وماهو مصيرنا بعد الموت ؟ هذه التساؤلات تنوعت الأجابات عليها عبر التاريخ البشري بتنوع مصادر المعرفه . فالديانات السماوية لها اجابات متقاربة مع بعض الفوارق التفصيلية هنا وهناك ، اما المدارس العلمانية التي لاتعتبر الدين مرجعية فقد تنوعت اجاباتها على هذه التساؤلات لأنها اعتمدت على العقل وحده دون الشرع ، وقد دخلت في جدل حول هذه الأجابات لم ينتهي حتى يومنا هذا . وللأسف ادى تراجع الدين واهله عبر القرون الماضية الى سيادة هذه المدارس اللادينية ورؤاها الكونية في كثير من اقطار العالم ، وحتى الدول التي لم تتأصل فيها هذه النظريات اللادينية كالدول الأسلامية ادت هذه الرؤى الى تشويش وتشتيت الرؤى الأصلية لدى هذه المجتمعات ، وهذا ما قصدته عندما تحدثت عن طبيعة الأجابات التي سمعتها من طلبتي حول غايتهم في هذا الكون . هذا يعني ان فترة ما بعد ميادين التحرير في مصر وتونس وليبيا ومطالبات الأصلاح والتغيير في جزيرة العرب ، لابد أن تتبعها عملية تحديد بوصلة لهذه الأمة تكون واضحة الأتجاه والغاية ، والا فاننا سنظل ندورفي حلقة مفرغة من الفوضى والحروب وغياب الأمن والتنمية ، وهذه البوصلة أو الرؤية الكونية لابد ان تستمد من ثوابتنا الحضارية متمثلة في كتاب الله وسنة نبيه عليه افضل الصلاة والتسليم ، وتكون بمثابة المرجعية لكل ما نقوم به في مجتمعاتنا الأسلامية ، وفي حالة نجاحنا في ذلك قد نساهم مرة اخرى في تصحيح مسار البشرية جمعاء مرة اخرى ونحررها من التيه وحياة الضنك التي تعاني منهما اليوم . فما هي اذن هذه الرؤية الكونية التي ينبغي لكل مسلم الأرتكاز عليها في سلوكه في حياته اليومية ؟ ان الحق سبحانه وتعالى كفانا البحث العقيم في اصلنا ومصيرنا بعد الموت في قوله تعالى :
’’ ياايها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء الى اجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا اشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى ارذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتب من كل زوج بهيج . ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير . وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (الحج :5-7) .
هذه الآيات التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم قبل اكثر من الف واربعمائة عام قد حيرت علماء الأجنة المعاصرين الذين تساءل احدهم في احد الندوات العلمية عن ما اذا كانت لدى محمد في فترة نزول هذه الايات اجهزة علمية ساعدته على هذا التوصيف الدقيق لتكون الجنين في رحم أمه وهو توصيف ، كما قال العالم المذكور، لم نتوصل الى دقته نحن في القرن العشرين وبما لدينا من اجهزة متطوره . بل والأكثر من ذلك جاءت هذه النظريات العلمية لتؤكد ان الأنسان جاء من التراب والى التراب يعود ، وهوما تؤكده ألايات السابقة التي نزلت والعلم لايزال في بداياته . ومما يروى ان العالم المذكور سابقا قد قرران يستخدم هذه المصطلحات القرآنية الواردة في الآيات السابقة في توصيف تكون الجنين في احد كتب المقررات الدراسية التي يؤلفها ، وتبارك الله أحسن الخالقين .وقد أخبرني احد الخطباء في مسجد في الولايات المتحدة أن شخصا اسلم عندما قرأوا عليه الآيات السابقة وحدها . وهذا ليس مستغربا حيث ان المفكرالأسلامي محمد اسد صاحب كتاب ’’ الطريق الى مكة’’ يذكر، رحمة الله عليه ، في احد مقابلاته ان سورة ’’ التكاثر’’ كانت هي سببا لأعتناقة لدين الله الحنيف .
هذا عن الأصل والمصير ولكن ما بين الحياة والموت عمر يطول ويقصر، فمنا من يتوفى في يوم ولادته ومنا من يعمر الى أرذل العمر ، فما هي يا ترى الغاية من وجودنا في هذا الحياة طالت ام قصرت ؟ ان من اعجب ما يراه الأنسان اليوم ان هذه الأمة اصبحت كبقية الأمم تنتج لتستهلك وتستهلك لتنتج وكانها تعيش حياة الدواب والعياذ بالله ، في الوقت الذي يستفتح الفرد فينا صلاته صباح ..مساء قائلا ’’ قل ان ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك امرت وانا اول المسلمين ’’ (الأنعام : 162-163) ، فكم من ابناء هذه الأمة وبناتها يستحضرون معنى هذا الدعاء او البوصلة في بقية سعيهم في الحياة ؟ وهل ياترى لو اننا كنا نستحضر هذه الغاية من وجودنا في هذا الكون سنرى امة محمد صلى الله عليه وسلم تتاجر بالخمورالتي سماها الخالق بأم الخبائث ؟ وهل تقبل امة تشبعت بحب الله ورسوله ان تتهافت على الربا الذي فيه محاربة لله ورسوله ؟ وهل تفلح امة تحاصر شعبا مسلما كالشعب الفلسطيني في الوقت الذي يعلمها رسولها كما هو مروي في صحيح مسلم قائلا :’’ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ’’ ؟ وهل يزدهر اقتصاد امة تقامر وهي تعلم ان خالقها ينبهها الى ان القمار رجس من عمل الشيطان وأن ضره أكثر من نفعه ؟ وهل يتحقق في هذه الأمة عدلا اجتماعيا واكبر شريحة من اغنيائها لاتزكي اموالها ، وقد حارب خليفة رسولها ابوبكر، رضي الله عنه من رفض دفع فريضة الزكاة ؟ وهل تربي امة اجيالا طاهرة وعفيفية وهي تنفق المبالغ الطائلة على ترويج الفاحشة التي حرمها الخالق في اعلامها المسموع والمرئي والمكتوب ؟ وهل وهل وهل ، ان استشعار العبادة في كل حركة وخاطرة في حياتنا لابد وان تكون له ثمرة تحول الركود الذي تعاني منه الأمة اليوم الى حركة اعمار وعطاء على كل صعيد . ان التوجه بكل اعمالنا لخالقنا سبحانه وتعالى فيه تهذيب لغرائزنا ، وتصحيح لسلوكياتنا ، وضبط لأهوائنا ، وتطلعا الى السعادة في الدنيا والآخره . نعم ان الرؤية الكونية المستمدة من خالقنا هي اصلح لنفوسنا واقدر على تحريك طاقاتنا وتهذيب نزواتنا : ’’الا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير’’(الملك :14) . ذلك لأن هذه الرؤية الكونية تجمع بين المادة والروح ويمتد افقها من ضيق الدنيا الى سعة الآخرة مصداقا لقوله تعالى ’’ بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وابقى ’’(الأعلى ، 16 ). وبالتالي فان رغبة الأنسان في كسب الثواب الدائم في آخرته يجعله اكثر قدرة على منازعة اهوائه وضبطها وتوجيهها الى الخير في هذه الدنيا ، وبالتالي فان الرؤية الصحيحه المنسجمة مع فطرة الأنسان تكون ثمرتها سلوكيات ايجابة وسامية بعكس الرؤية الناقصة او الدنيوية فقط . فكيف يتقاعس المسلم عن العمل وهو يسمع قول الحق وهو يأمر بتعمير الأرض ’’ هو انشأكم من الأرض واستعمركم فيها ’’(هود : ألاية 61) ، وكيف يتجرأ الحاكم على الظلم وهو يتذكر قول الحق سبحانه وتعالى : ’’ ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل (النحل ، 90) ، وكيف يمارس التاجر الغش والأحتكار وهو يسمع قوله تعالى ’’ ياايها الذين آمنوا لاتأكلوا اموالكم بينكم بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراض منكم ’’(النساء ، 29) ، وكيف يقصرالأب في العناية باسرته وهو يتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم ’’ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ...’’[1]. وكيف يسيء الرجل لأهله وهو يتذكر قول نبيه صلى الله عليه وسلم : ’’ خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ’’ [2] ، وكيف ينتشر المداحين في امة قال رسولها : ’’ اذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ’’[3] . وكيف يتفشى الجهل في امة يخبرها قائدها وقدوتها بأن : ’’ طلب العلم فريضة على كل مسلم ’’ [4]. وكيف تقبل امة ان تطيع حاكما ظالما يأمرها بمعصية خالقها وهي تعلم أن رسولها علمها بأنه : ’’ لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق’’ [5]، وعلمها كذلك : ’’ انما الطاعة في المعروف’’ [6]. وكيف وكيف وكيف ..... ؟ اذن فالمسلم طبقا للرؤية التي لخصناها سابقا هو مخلوق من تراب وغاية وجوده عبادة الله في كل اعماله واقواله طبقا للمنهج الذي حدده له خالقه ، ومصيره بعد ذلك الى التراب ، ثم يبعث في يوم لاينفع فيه مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم ، ليحاسب على ما فعله في الحياة الدنيا ، وبعد ذلك يتقرر مصيره الأبدي سعادة أو شقاء .
ما هي ثمرة الرؤية الكونية الصحيحة ؟
اتضح لنا مما سبق أن الرؤية الكونية الصحيحة هي ركيزة اساسية في حياة الأنسان لأن أول ثمراتها أنها تجيب له عن تساؤلات هامة كاصل وجوده وغاية وجوده في هذا الكون ومصيره بعد الموت ، وهذا يجعل حياته ذات معنى فيرتقي الى مرتبة التكريم الذي خصه الله بها ، ويجعل حياته عبودية تامة لله وهذا النوع من العبودية هو النوع الوحيد من انواع العبودية الذي فيه عزة للأنسان وتكسيرا لكافة انواع القيود التي يكبل الأنسان نفسه بها من خوف على رزق او حياة او غيرها من الهموم . فعندما يقول الحق سبحانه وتعالى في محكم آياته ’’ وما خلقت الجن والأنس الا ليعبدون ’’(الذاريات : 56) ، فانه يؤكد لنا ان الأنسان مفطور على العبودية ، وبالتالي فاذا لم تكن عبوديته لله فانه ولاشك سيعبد شيئا آخر وهذا الشي سيكون انسان او مادة او حزب اوغيرها من المعبودات بالضبط كما حصل للحضارة الغربية مصداقا لقوله تعالى ’’ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة ’’(البينة : 4) ، اي عندما انبهروا بالعلم وجعلوه بديلا للأيمان ومعبودا من دون الله لأنهم اعتقدوا انه سيحقق لهم السعادة الأبدية ، ولكن ذلك لم يحصل ولن يحصل . ولايعني هذا ان الله يطلب منا تعطيل العقول وانما هو تأكيد لنا على ضرورة اعمال هذه العقول في ما تستطيع ان تدركه كتدبر نواميس الكون وقوانينه والأستفادة منها في عمارة الأرض وسعادة الأنسان ، اما الأمور المتعلقة بخلقنا وبعثنا وما شابهها فقد كفانا الله البحث عنها بتوضيحها في آيات سبق ذكرها . ومن ثمرات العبودية لله ان الحق سبحانه وتعالى وضع لنا خارطة للطريق الذي يربط بين ميلادنا ومماتنا وهذه الخارطة هي عبارة عن الأوامر والنواهي التي جاءت بها الرسل والتي تنسجم مع طبيعة الأنسان وتوجه طاقاته وغرائزة نحو عمارة الأرض وسعادة الأنسان وتجنبه الأفراط والتفريط الناتج عن اتباعه للهوى أولقلة معرفة أو لقصر نظر . وهذه الأوامر والنواهي منها ما هو ثابت كالأخلاق والعقائد التي لاتتغير بتغير الزمان وما كان الغرب ليحلل كثير من الأمور كالربا والخمور والقمار والزواج المثلي لو انه تقيد بثوابت المسيحية ولكنه اتبع الهوى فاضله عن السبيل ، وفيها ما هو متغير لمواكبة تطور الحياة وتراكم المعرفة الأنسانية وتنوع حاجات الأنسان ، وفيها ما هو مفصل وفيها ما هو مجمل ليجتهد الأنسان في التفاصيل ، وهي تتصف بالشمولية فهي تعرف العقيدة ومكارم الأخلاق ، وتعالج الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وارث ، وتغطي السياسية الشرعية التي تضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، وهي كذلك توضح العقوبات بانواعها ، وتنظم علاقات المسلمين مع غيرهم ، وهي تنظم المعاملات فتبين الحلال والحرام وهكذا دواليك . وتؤكد تجارب البشرية منذ بعث الله الرسل انه كلما انحرفت حضارة أو امة عن هذه الأوامر والنواهي أو ما سميناه بالرؤية الكونية الصحيحة ، كلما ادى ذلك الى شتى صور المعاناة وعدم الأستقرار مصداقا لقوله تعالى ’’ فمن اتبع هدايا فلا يضل ولايشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى ’’(طه : 123) . واللذة التي تؤدي الى السعادة ليست دائما هي التي تهواها النفس ويميل اليها القلب ، فكم من لذة تبعتها آلام واسالواعن ذلك من شرب الخمر او تعاطى المخدرات او زنى أو لعب القمار ليخبروكم عن مآلات هذه السلوكيات التي تبدا وكأنها متعة وتنتهي بصاحبها الى المهالك ، وبالتالي فالمصلحة هي ما جعلها الشرع مصلحة . وكما وان ليست كل متعة تميل اليها النفس هي منفعة حقيقية ، فليس كذلك كل الم أو مشقة يتعرض لهما الأنسان هما مفاسد ، فكم من دواء مر جلب لصاحبه الشفاء من ويلات مرض مزمن ، وكم من عقوبة ردعت جريمة كادت ان تودي بالمجتمع باكمله ، وهكذا فالمفسدة هي ما قال عنه الشرع أنه مفسدة . وبما ان غالبية الأعمال تجتمع فيها المفاسد والمصالح فان الحكم بالحلة والحرمة ينبي على الجزء الغالب ، فالخمر والميسر فيهما منافع مثل تشغيل الناس في الأنتاج والأرباح التي يحققها البائع ، ولكن الحق سبحانه وتعالى يخبرنا بان اثمهما أكبر من نفعهما ومن هنا يأتي التحريم لأن الشخص العاقل لايقبل على مشروع تفوق تكاليفه ارباحه . ومن ثمرات العبودية لله ان علماؤنا الأفاضل بعد ان تدبروا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، اخبرونا بأن كل سلوك يحفظ مقاصد الشريعة وهي : الدين والنفس والعقل والنسل والمال فيه مصلحة يجب السعي للأخذ بها ، وكل ما يخل بهذه الضروات ففيه مفسدة يجب تجنبها ، وهكذا نرى الأحكام الشرعية تدور حول هذه المقاصد وكيفية الحفاظ عليها، ومن هنا فان التنمية الفعلية بالنسبة لنا تقاس أولا واخيرا بمدى حفظها للمقاصد السابقة . فتاكيد العبودية والألوهية وفرض الصلاة وبقية الشعائر فيها حفظ للدين ، وتحريم قتل النفس الا بالحق فيه حفظا لمكانة النفس البشرية وتأمينا للأنسان من الخوف والأعتداء واطلاق لطاقاته ، ذلك لأن الخوف يقتل العطاء ، واعتبار العلم فريضة وتحريم كل مسكر او مخدر هو رعاية لعقل الأنسان الذي يتدبر به في هذا الكون ويكتشف نواميسه ، وتشريع الزواج وتحريم الزنا فيهما حفظ للنسل والأسرة وترابطها . وتحريم الربا وفرض الزكاة فيها حفظ للمال وتنمية له ، لأن الربا يؤدي الى نقصان بركة المال بسبب ما فيه من ظلم ، بينما الزكاة تنمي المال بما فيها من تطهير وتكافل اجتماعي . ومن ثمرات العبودية لله ان هذه الحياة ليست البداية والنهاية وانما هي ارض اختبار ومزرعة للآخرة التي فضلها الله على هذه الدنيا الزائلة بقوله ’’ بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وابقى ’’(الأعلى،16-19) ، ومرة أخرى وبمعايير الجدوى فان العاقل لن يفضل الدنيا على الآخرة التي تفوقها في الخيرية وفي الديمومة ، وبالتالي فان المؤمن يعيش حياته وهو يتطلع الى لقاء الله والفوز بجنته وهذا الشعوريدفعه دائما الى عمارة الأرض وتحقيق العدل والأستعداد للتضحية وغيرها من الفضائل التي تؤدي الى استقرار المجتمعات وازدهارها في آن واحد ، وبذلك يكسب الدارين .
تفاعل الرؤية الكونية والنفس البشرية
الرؤية الكونية السابقة هي التي تنعكس على النفس الأنسانية وترتقي بها ، وكلما تاصلت هذه الرؤية عند الفرد والجماعة كلما تحققت ثمارها الطيبة ، وكلما ضعفت هذه الرؤية بدات النفس ومعها المجتمع في الأنحدار . فلا يكاد يمر يوم إلا ونرى أو نسمع عن جريمة قتل أو سرقة أو ظلم أو حرب أو ضرب أو ما شابه ذلك من السلوكيات التي تتنافى مع سعادة الإنسان وأمنه واستقراره ومع نمو وازدهار المجتمع بأكمله ، بل وحتى مع استقرارالكون كله . وعلى الرغم من ذلك فان هذه الجرائم تتكرر وتتنوع وتتفاقم فما هو السبب يا ترى ؟ الإجابة تكمن في فهمنا للطبيعة البشرية والقوى المحركة لها وكيفية التعامل معها فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا تركيبتنا النفسية بقوله ’’ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها’’(الشمس: 7) ، أي أن النفس لديها الاستعداد للفجور ، اي ارتكاب كل المعاصي من ظلم حاكم عربي أو مسلم لشعبة وسرقة أمواله وقتله ، إلى تلاعب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بالمعلومات الاستخبارية لإعلان الحرب على العراق وتدميره ، إلى تزوير رئيس مؤسسة انرون المالية لحسابات الشركة ليسرق أموال المستثمرين ، إلى تسريب أحد منظمي أسواق المال معلومات إلى صديقته مارتا ستيورت المليونيره الأمريكية حتى تبيع أسهمها المتوقع انخافض أسعارها ، إلى أم امريكية تلقي بأطفالها الثلاثة في النهر ليموتوا غرقا ، الى كتائب القذافي التي تقصف الشعب الليبي بالطائرات ، الى بلطجية النظام المصري الذين كانوا يدهسون المتظاهرين بسياراتهم ، الى افراد الأمن السوري الذين حاصروا درعة وقتلوا مجاميع منهم مخلفين مقابر جماعية ورائهم ، الى آخر القائمة الطويلة من صور الفجور التي يشهدها عالم اليوم . وكما أن لدى هذه النفس الاستعداد للفجور فان لديها كذلك الاستعداد للتقوى أي القيام بالأعمال الفاضلة والراقية ، فالسلطان عبد الحميد رحمة الله عليه رفض أن يببع شبرا من أرض فلسطين على الرغم من كل إغراءات هرتزل واليهود وضغوط الدول الإستعمارية وذلك لأنها كما قال هي أرض المسلمين ، والشهيد الشيخ احمد ياسين، رحمه الله رحمة واسعة ، كان ضعيفا في جسده وفقيرا في امكانياته وقد لايكون زاده العلمي بغزر بعض علماء السلاطين في يومنا هذا ، إلا أنه لم يقبل أن يساوم على حقوق العرب والمسلمين في فلسطين وأعلن هو وإخوته في المقاومة الإسلامية الحرب على المحتل وضحوا بالغالي والرخيص حتى اغتالته قوات الغدر الإسرائلية بضربة من الجو وهو معوق على كرسيه وذاهبا لصلاة الفجر. وقبل ذلك نرى الخليفة عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، يمول جيشا كاملا لنشر الإسلام بينما تتقاعس اليوم حكومات عربية مداخيلها مئات المليارات من الدولارات عن مساعدة الشعب الفلسطيني المرابط بقيادة حماس بمليارين من الدولارات في الوقت الذي نرى فيه بعض اغنياء العرب يبذرون مئات الملايين في صالات القمار والإعلام الهابط والملاهي الليلية وحتى الفيضانات في الولايات المتحدة الأمريكية وكأن الولايات المتحدة اكثر حاجة من الشعب الفلسطيني أو غيره من الشعوب الإسلامية . فالنفس الفاجرة إذن هي النفس التي تصدر عنها الرذائل بينما النفس التقية هي التي تنبع منها الفضائل . وكما أن النفس التقية لها درجات فإن النفس الفاجرة لها درجات ودوام الحال من المحال . فالتقوى تزداد وتنقص بزيادة ونقصان قوة محركاتها وهذا يتلمسه الإنسان في تصنيفات النفس كما وردت في القرآن الكريم . فهناك النفس الأمارة بالسوء التي تنهك صاحبها بالمعاصي وتعمي بصره وبصيرته عن الخير والسعي له ولكن هذه النفس الأمارة بالسوء والراكدة كالطين الذي خلق منه الإنسان تهب فجأة إذا تحركت فيها النفخة الروحية الربانية ودفعتها إلى المعالي وحولتها من نفس أمارة بالسوء إلى نفس لوامة تنكر الرذيلة وتبتعد عنها وتتوق إلى الفضيلة وتقترب منها ومع زيادة جرعة النفخة الروحية وانتصارها على تثاقل القبضة الطينية ترنوا هذه النفس إلى درجة أعلى ألا وهي النفس المطمئنة فيحقق الله لهذه النفس وصاحبها حسن الخاتمة بقوله تعالى ’’ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ’’ (الفجر، 27 – 30) جنبنا الله وإياكم النفس الأمارة بالسوء وجعل نفوسنا نفوسا مطمئنة . واذا اتفقنا على أن صور الفجور التي ذكرنا بعضا منها تنفر منها النفس ولاتتناسب مع أمن المجتمع وتطوره وأن صور التقوى التي عرجنا على بعضها هي من السلوكيات التي تسكن بها النفس ويؤيدها العقل فإن الخطوة التالية في بناء المجتمع الذي لايشقى فيه الإنسان ، هي في تضييق دائرة الفجور ولاأقول إنهاءها لآن ذلك غير ممكن ، وتوسيع دائرة التقوى مصداقا لقوله تعالى ’’ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها’’ (الضحى، 9-10). إن هذه التقوى هي حارس داخلي يقوم بدور السائق الذي يوجه النفس البشرية وكلما كان هذا الحارس قويا وواعيا ومستعدا ، كلما استقامت النفس البشرية وارتقت في سلوكياتها في كل الأدوار التي يقوم بها الفرد سواء كان أبا أو أما او طالبا او قائدا أو رجل اعمال او أستاذا او شرطيا او اي دور آخر ، والاستقامة هنا تعني أن يقوم الفرد بهذه الأدوار بأعلى درجة من الكفاءة والأمانة مصداقا لقوله تعالى على لسان ابنة شعيب ’’ قالت إحداهما ياأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ’’ (القصص ، 26). وعلى الرغم من أن الحضارة العلمانية المعاصرة أوجدت رقابة خارجية على الإنسان مثل المؤسسات الرقابية والمحاسبية والقانونية إلا ان هذه الرقابة لايمكن ان تكون بديلا للرقابة الداخلية وانما مكملة لها . وهناك كثير من الشواهد على ان الأصل هي الرقابة الداخلية لأنها اكثر فعالية واكثر ديمومة ويمكننا توضيح ذلك بمثال صغير ولكنه معبر. فعندما يتشبع الأنسان بالرؤية الكونية الصحيحة أي بعقيدة نابعة من الخوف من الله ورجاء ثوابه في الدنيا والآخره وهو ذو مال فاننا نراه مثلا يبحث عن مستحقي الزكاة حتى يطهر أمواله ويزكي نفسه وينال رضى الله من غير أن يتابعه أحد لأن رؤيته الكونية الصحيحة اثمرت حارسا داخليا يأمره بتفيذ التزاماته التي تمليها عقيدته لأن حسابات الربح والخسارة لديه اشتملت على الدنيا والآخرة معا . في المقابل نرى في المجتمعات الغربية تأتي الحكومات بإجماع شعبي ولكن عندما تفرض هذه الحكومة أو تلك ضريبة فان كثيرا من أفراد المجتمع يبحث عن كل وسيلة ممكنه للتهرب من هذه الضريبة لذلك نرى أن كثيرا من الحكومات المعاصرة في الدول الصناعية والنامية تصرف مبالغا طائلة لملاحقة المتهربين من الضرائب. ولكن لماذا يحاول دافع الضريبة التهرب من دفع ضريبته بينما يدفع صاحب الزكاة زكاته من تلقاء نفسه ؟ والإجابه تتلخص في أن دافع الضريبة يخضع لرقابة القانون الخارجية وهي رقابة يمكن التهرب منها ولايمكن أن ترافق الفرد في كل لحظة في حياته وفي كل سلوكية ، كما وان هذا الفرد لايرجو ثوابا أو عقابا خارج دائرة الحياة الدنيا ، بينما دافع الزكاة تكونت لديه رقابة داخلية لاتفارقه مصداقا لقول رسولنا الكريم عندما سأله جبريل عليه السلام عن معنى الإحسان فكان رده ’’ أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ’’[7] ، وهذا الأخير يكبح كثيرا من رغباته في هذه الدنيا طمعا في نيل ما هو افضل اوتجنبا لعقوبة أشد في الآخرة ، وهو بتصرفه هذا ليس بساذجا كما يعتقد البعض وانما هو عقلاني من الدرجة الأولى لأنه يدرك ان الثواب والعقاب في الدنيا ينتهيان بمجرد موته وهو أمر قد يحصل في اية لحظه بينما ثواب أو عقاب الآخرى يتصف بالديمومة وهذا الذي يفسر سلوكه الرشيد في هذه الدنيا .
[1] متفق عليه .
[2] أخرجه الترمذي واسناده صحيح .
[3] أخرجه مسلم .
[4] رواه ابن ماجه عن أنس .
[5] رواه أحمد وأبو داود وسنده صحيح .
[6] أخرجه الشيخان .
[7] رواه مسلم .
*أخبار الخليج