محمد الحمداوي
إن الاتصال بين أصحاب التغيير التراكمي مع المقتنعين بالتغيير الراديكالي في بعض جوانب تشخيص الواقع، والأوضاع المتردية التي يعاني منها المجتمع، لا يمكن أن يحجب الانفصال فيما بينهم على مستوى المنهج، وعلى مستوى أسلوب التعاطي من أجل تجاوز هذه الأوضاع، بل إن الخيارين لا محالة سيفترقان في الطريق. ذلك أن الخيار الراديكالي الجذري الحدي والقطائعي يرى أنه لا أمل في إصلاح هذا الواقع، ويرفضه رفضا كاملاً، جملة وتفصيلاً، وبالتالي يرفض المشاركة أو المساهمة في إصلاحه، ويرى أن الحل يجب أن يكون جذرياً، والتغيير يجب أن يكون كاملاً وشاملاً. أما خيار التغيير التراكمي المتدرج والمتواصل فينطلق من الاعتراف بالواقع، والإقرار بما فيه من سلبيات وإيجابيات، ومن ثم يعمل على المساهمة والمشاركة في إصلاحه، ويرى أن الإصلاح يجب أن يكون عميقاً ونوعياً لكن تدريجياً وتراكمياً وعبر مراحل، بما يُمَكِّن من تجاوز السلبيات والعقبات دون التفريط في المكتسبات والإيجابيات، أو المغامرة بها. لكن يبقى النقاش دائماً في مد وجزر داخل صفوف كل واحد من هذين الخيارين، حول جدوى هذا الخيار أو ذاك، ومردودية هذه المقاربة أو تلك، في كل محطة من المحطات الكبرى، سواءً حين يكون خيار المشاركة في قلب الحدث، ويشكل محور الاهتمام من طرف المتتبعين والمهتمين بالشأن العام وبالشأن السياسي، أو حين يكون الخيار الثوري والتغيير الجذري في صلب ومركز الاهتمام والتتبع. ففي المحطات الانتخابية مثلاً، كلما عمَّ الانفتاح والانفراج السياسي، وعمََّ الاستقرار الاجتماعي، وكلما توجه النقاش العام والإعلام ببوصلته في اتجاه الاهتمام بالمشاركة السياسية والانتخابية، ومتابعة أطوارها ومجرياتها، وتغطية أحداثها وتطوراتها، وتسليط الضوء على الفاعلين فيها، إلا ويبدأ النقاش داخل صفوف المقاطعين حول جدوى المقاربة الثورية الجذرية، وبدأت المطالبة بضرورة القيام بالمراجعات اللازمة لهذا الخيار، وضرورة إيجاد صيغة معينة تسمح بقدر ما من المشاركة في الإصلاح بشكل تدريجي، بدل الاستمرار في العزلة. وفي المقابل كلما احتقن المناخ السياسي وتوترت الأجواء وتراجعت الحريات، ولاحت إمكانية حدوث الثورة، وكلما اتجه النقاش العام والإعلام نحو الاهتمام بالخيارات الثورية والفاعلين المحتملين في الثورة وما بعد الثورة، إلا وارتفعت أصوات من داخل الإصلاحيين تطالب بضرورة المراجعة في اتجاه الالتحاق بالمقاربة الثورية، والخيار الجذري، ولو من باب العمل على الترشيد والتوجيه والتأطير. والحقيقة أنه لو التحق أي خيار بالآخر لوجد نفسه وقد انخرط أو انجر للانخراط في المقاربة الأخرى، خاصة لو التحق أصحاب الخيار الإصلاحي بأصحاب الخيار الثوري فإنهم سيجدون أنفسهم في أي لحظة من اللحظات وقد انزلقوا للمقاربة الراديكالية الجذرية، ولفرضت عليهم هذه المقاربة بفعل تطورات الأحداث، بل ربما وجدوا أنفسهم مجرد وقود في مشروع ثوري راديكالي مغامر وغامض الأفق، قد يؤدي بالبلاد إلى المجهول، دون قدرة على التحكم في مسار الأحداث أو توجيهها. إن التحاق التيار الإصلاحي بالشارع بكل تأكيد سيزيد الحراك الشعبي زخماً وقوة وحماساً إضافياً، لكن ما إن تنطلق كرة الثلج وتبدأ في التدحرج، حتى يصبح أمر التحكم فيها، أو ترشيد مسارها، أو تحديد سقفها أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً، خاصة إذا وقع عنف أو قمع، أو مصادمات أو ردّات فعل أو أعمال شغب وبلطجة، وربما انفلاتاً أمنياً، فإن سقف المطالب سيبدأ في الارتفاع شيئاً فشيئاً تحت ضغط الاحتقان، حتى يصل إلى نقطة اللاعودة ويتجاوز كل الحدود. وكما أن الخيار الإصلاحي في المغرب يدرك بأن التحاقه بالخيار الراديكالي والجذري قد يبعده عن مقاربته الأصلية الإصلاحية، فإن الخيار الجذري بدوره يدرك بأن مجرد التقائه بالخيار الإصلاحي قد يبعده عن مقاربته الأصلية الراديكالية والثورية، ولذلك فإنه في الوقت الذي ثمنت فيه التيارات الإصلاحية خطاب التاسع من مارس وأعلنت انخراطها في ورش الإصلاح، وفي النقاش وتقديم المقترحات، فإن التيارات الراديكالية والجذرية كلها أعلنت مقاطعتها لهذا النقاش، وعبرت عن رفضها للجنة وللدستور حتى قبل أن يصدر، ورفضت حتى مجرد النقاش حول تفاصيله أو مضامينه، على اعتبار أنه دستور ممنوح، وأصرّت على أن يبقى الحراك دون سقف محدد، وهي في حقيقة الأمر تحافظ بذلك على انسجامها مع ذاتها ومع خطابها، إذ لو دخلت في مجرد النقاش لوجدت نفسها بطريقة أو بأخرى وقد قبلت أو انخرطت في المقاربة الإصلاحية. وهو نفس ما رأيناه في اليمن حينما بدأت أحزاب اللقاء المشترك في الحوار مع النظام، رفض الثوار أن يتفاوض أي أحد باسمهم حتى ولو كان ذلك من أجل رحيل الرئيس. وتبقى الحالة المصرية أكبر دليل على حالة المد والجزر هاته بين الخيارين، فما إن تمكنت الثورة من إسقاط رأس النظام، حتى بدأ مسار الافتراق بين جماعة الإخوان كتيار إصلاحي وبين أصحاب المقاربة الجذرية، حين رأى الجذريون ضرورة إعطاء الأولوية للمتابعة والمحاسبة والملاحقة، في حين رأت الجماعة أن الأولوية في هذه المرحلة هي لبناء النظام الجديد وتثبيت استقراره وتجنب كل أسباب التشويش، وتجلى الافتراق كذلك في الاستفتاء على الدستور، حيث دعت الجماعة إلى التصويت بنعم، في حين دعا «الجذريون» إلى التصويت بلا، وتجلت كذلك في دعوة تلك التيارات إلى استمرار المسيرات والاعتصامات في ميدان التحرير في حين قاطعتها جماعة الإخوان ورأت ضرورة إعطاء الفرصة للمشرفين على المرحلة الانتقالية لتثبيت الأوضاع والقيام بمتطلبات هذه المرحلة، وبناء الجسر للعبور إلى المرحلة العادية. لذلك فإن خيار التدرج في الإصلاح له منطقه وخطابه وأدواته التي تختلف عن منطق وخطاب وأدوات الخيار الراديكالي الجذري، وبالتالي فإنه حتى وإن حصل الالتقاء على مستوى تشخيص الواقع أو في بعض مراحل أو محطات التدافع، فإن الافتراق حاصل لا محالة سواءً على مستوى المقاربة والمنهج أو على مستوى المآلات.
إن الاتصال بين أصحاب التغيير التراكمي مع المقتنعين بالتغيير الراديكالي في بعض جوانب تشخيص الواقع، والأوضاع المتردية التي يعاني منها المجتمع، لا يمكن أن يحجب الانفصال فيما بينهم على مستوى المنهج، وعلى مستوى أسلوب التعاطي من أجل تجاوز هذه الأوضاع، بل إن الخيارين لا محالة سيفترقان في الطريق. ذلك أن الخيار الراديكالي الجذري الحدي والقطائعي يرى أنه لا أمل في إصلاح هذا الواقع، ويرفضه رفضا كاملاً، جملة وتفصيلاً، وبالتالي يرفض المشاركة أو المساهمة في إصلاحه، ويرى أن الحل يجب أن يكون جذرياً، والتغيير يجب أن يكون كاملاً وشاملاً. أما خيار التغيير التراكمي المتدرج والمتواصل فينطلق من الاعتراف بالواقع، والإقرار بما فيه من سلبيات وإيجابيات، ومن ثم يعمل على المساهمة والمشاركة في إصلاحه، ويرى أن الإصلاح يجب أن يكون عميقاً ونوعياً لكن تدريجياً وتراكمياً وعبر مراحل، بما يُمَكِّن من تجاوز السلبيات والعقبات دون التفريط في المكتسبات والإيجابيات، أو المغامرة بها. لكن يبقى النقاش دائماً في مد وجزر داخل صفوف كل واحد من هذين الخيارين، حول جدوى هذا الخيار أو ذاك، ومردودية هذه المقاربة أو تلك، في كل محطة من المحطات الكبرى، سواءً حين يكون خيار المشاركة في قلب الحدث، ويشكل محور الاهتمام من طرف المتتبعين والمهتمين بالشأن العام وبالشأن السياسي، أو حين يكون الخيار الثوري والتغيير الجذري في صلب ومركز الاهتمام والتتبع. ففي المحطات الانتخابية مثلاً، كلما عمَّ الانفتاح والانفراج السياسي، وعمََّ الاستقرار الاجتماعي، وكلما توجه النقاش العام والإعلام ببوصلته في اتجاه الاهتمام بالمشاركة السياسية والانتخابية، ومتابعة أطوارها ومجرياتها، وتغطية أحداثها وتطوراتها، وتسليط الضوء على الفاعلين فيها، إلا ويبدأ النقاش داخل صفوف المقاطعين حول جدوى المقاربة الثورية الجذرية، وبدأت المطالبة بضرورة القيام بالمراجعات اللازمة لهذا الخيار، وضرورة إيجاد صيغة معينة تسمح بقدر ما من المشاركة في الإصلاح بشكل تدريجي، بدل الاستمرار في العزلة. وفي المقابل كلما احتقن المناخ السياسي وتوترت الأجواء وتراجعت الحريات، ولاحت إمكانية حدوث الثورة، وكلما اتجه النقاش العام والإعلام نحو الاهتمام بالخيارات الثورية والفاعلين المحتملين في الثورة وما بعد الثورة، إلا وارتفعت أصوات من داخل الإصلاحيين تطالب بضرورة المراجعة في اتجاه الالتحاق بالمقاربة الثورية، والخيار الجذري، ولو من باب العمل على الترشيد والتوجيه والتأطير. والحقيقة أنه لو التحق أي خيار بالآخر لوجد نفسه وقد انخرط أو انجر للانخراط في المقاربة الأخرى، خاصة لو التحق أصحاب الخيار الإصلاحي بأصحاب الخيار الثوري فإنهم سيجدون أنفسهم في أي لحظة من اللحظات وقد انزلقوا للمقاربة الراديكالية الجذرية، ولفرضت عليهم هذه المقاربة بفعل تطورات الأحداث، بل ربما وجدوا أنفسهم مجرد وقود في مشروع ثوري راديكالي مغامر وغامض الأفق، قد يؤدي بالبلاد إلى المجهول، دون قدرة على التحكم في مسار الأحداث أو توجيهها. إن التحاق التيار الإصلاحي بالشارع بكل تأكيد سيزيد الحراك الشعبي زخماً وقوة وحماساً إضافياً، لكن ما إن تنطلق كرة الثلج وتبدأ في التدحرج، حتى يصبح أمر التحكم فيها، أو ترشيد مسارها، أو تحديد سقفها أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً، خاصة إذا وقع عنف أو قمع، أو مصادمات أو ردّات فعل أو أعمال شغب وبلطجة، وربما انفلاتاً أمنياً، فإن سقف المطالب سيبدأ في الارتفاع شيئاً فشيئاً تحت ضغط الاحتقان، حتى يصل إلى نقطة اللاعودة ويتجاوز كل الحدود. وكما أن الخيار الإصلاحي في المغرب يدرك بأن التحاقه بالخيار الراديكالي والجذري قد يبعده عن مقاربته الأصلية الإصلاحية، فإن الخيار الجذري بدوره يدرك بأن مجرد التقائه بالخيار الإصلاحي قد يبعده عن مقاربته الأصلية الراديكالية والثورية، ولذلك فإنه في الوقت الذي ثمنت فيه التيارات الإصلاحية خطاب التاسع من مارس وأعلنت انخراطها في ورش الإصلاح، وفي النقاش وتقديم المقترحات، فإن التيارات الراديكالية والجذرية كلها أعلنت مقاطعتها لهذا النقاش، وعبرت عن رفضها للجنة وللدستور حتى قبل أن يصدر، ورفضت حتى مجرد النقاش حول تفاصيله أو مضامينه، على اعتبار أنه دستور ممنوح، وأصرّت على أن يبقى الحراك دون سقف محدد، وهي في حقيقة الأمر تحافظ بذلك على انسجامها مع ذاتها ومع خطابها، إذ لو دخلت في مجرد النقاش لوجدت نفسها بطريقة أو بأخرى وقد قبلت أو انخرطت في المقاربة الإصلاحية. وهو نفس ما رأيناه في اليمن حينما بدأت أحزاب اللقاء المشترك في الحوار مع النظام، رفض الثوار أن يتفاوض أي أحد باسمهم حتى ولو كان ذلك من أجل رحيل الرئيس. وتبقى الحالة المصرية أكبر دليل على حالة المد والجزر هاته بين الخيارين، فما إن تمكنت الثورة من إسقاط رأس النظام، حتى بدأ مسار الافتراق بين جماعة الإخوان كتيار إصلاحي وبين أصحاب المقاربة الجذرية، حين رأى الجذريون ضرورة إعطاء الأولوية للمتابعة والمحاسبة والملاحقة، في حين رأت الجماعة أن الأولوية في هذه المرحلة هي لبناء النظام الجديد وتثبيت استقراره وتجنب كل أسباب التشويش، وتجلى الافتراق كذلك في الاستفتاء على الدستور، حيث دعت الجماعة إلى التصويت بنعم، في حين دعا «الجذريون» إلى التصويت بلا، وتجلت كذلك في دعوة تلك التيارات إلى استمرار المسيرات والاعتصامات في ميدان التحرير في حين قاطعتها جماعة الإخوان ورأت ضرورة إعطاء الفرصة للمشرفين على المرحلة الانتقالية لتثبيت الأوضاع والقيام بمتطلبات هذه المرحلة، وبناء الجسر للعبور إلى المرحلة العادية. لذلك فإن خيار التدرج في الإصلاح له منطقه وخطابه وأدواته التي تختلف عن منطق وخطاب وأدوات الخيار الراديكالي الجذري، وبالتالي فإنه حتى وإن حصل الالتقاء على مستوى تشخيص الواقع أو في بعض مراحل أو محطات التدافع، فإن الافتراق حاصل لا محالة سواءً على مستوى المقاربة والمنهج أو على مستوى المآلات.