د. بشير موسى نافع
13-5-2011
ما لا يجب أن يغيب، أن الرأي العام العربي ليس سعيداً كلية بالدور الغربي في ليبيا..هذا وقت للعودة إلى أولويات حركة الثورة العربية: مستقبل بلادنا هو شأننا، وشأننا وحدنا، ومصير سورية لابد أن يقرره الشعب السوري، والشعب السوري وحده، مهما بلغت التضحيات..
خلال أيام من اندلاع الثورة الشعبية الليبية في منتصف فبراير الماضي، كانت المظاهرات الجماهيرية الحاشدة تحرر أكثر من نصف البلاد من قوات النظام وأجهزته الأمنية.
في بنغازي، على وجه الخصوص، ثاني أكبر مدينة ليبية، حيث مقر كتيبة الفضيل، إحدى أهم مراكز التحكم والسيطرة الرئيسة للنظام، نجح الشعب الليبي في اقتحام مقر الكتيبة الهائل، وتحرير كافة المعتقلين من زنازينها، وطرد كافة الموالين للنظام إلى خارج المدينة.
ولم تقتصر الثورة الشعبية الليبية على مناطق الشرق والوسط، فخلال أيام قليلة من اندلاع الثورة في مدينة بنغازي، كان الليبيون ينتفضون من أجل حريتهم وكرامتهم في كافة أنحاء ليبيا الأخرى، في إجدابيا ومصراتة والزاوية والزنتان، بل وفي العاصمة طرابلس أيضاً.
ولكن العنف الذي استخدمه النظام في مواجهة شعبه كان بلا حساب؛ وما أن أدرك انهيار أجهزته الأمنية في أغلب المدن الثائرة، حتى أطلق العنان للقوات العسكرية الخاصة لقمع الثورة وإعادة بسط سيطرته على البلاد.
ولأن ليبيا بلد فسيح الأرجاء، بكثافة سكانية ليست كبيرة، ولأن الثورة الليبية، كما كل الثورات العربية الأخرى لم تطلقها قيادة واحدة أو حزب سياسي ما، لم يكن من السهل التحكم في رد الفعل الشعبي على سياسة القمع الدموية التي تبناها النظام.
وبذهاب القوى الليبية الشعبية إلى حمل السلاح، تحولت الثورة إلى مواجهة مسلحة مع النظام. وهنا، وفرت ليبيا فرصة غير متوقعة للتدخل الغربي في مجريات حركة الثورة العربية.
لا يجب أن تفهم حركة الثورة العربية من جهة شعاراتها الأبرز المتعلقة بالحريات وحكم القانون والتخلص من طبقات الحكم الفاسدة. الشبان التونسيون والمصريون الذين نجحوا في إطاحة أنظمتهم الحاكمة كانوا يدركون على وجه اليقين طبيعة هذه الأنظمة وارتباطاتها الخارجية. والخروج الشعبي الهائل والمهيب الذي وضع نهاية لحكمي بن علي ومبارك لم تحركه مطالب فئوية محدودة.
في قلب حركة الثورة العربية، وفي المخزون الجمعي لملايين العرب الذين خرجوا ويخرجون إلى شوارع مدنهم، ثمة رد تاريخي على إهانة المائة عام التي وجهت للعرب، وعلى السرقة الفادحة التي قامت بها نخب دولة ما بعد الاستعمار المباشر لوعود الاستقلال التي قاتل من أجلها الآباء والأجداد.
بكلمة أخرى، ما تحمله حركة الثورة العربية من أهداف لا يقتصر على إقامة دولة القانون، وحرية الأحزاب، ووضع نهاية لاحتكار السلطة والثروة؛ بل أيضاً إعادة تأسيس العلاقة مع القوى الغربية التي استباحت بلاد العرب وعبثت بمقدراتهم، بالاحتلال المباشر مرة وبصورة غير مباشرة مرة أخرى.
وكما كان حرص الجماهير العربية على أن لا تتحول الثورة إلى دمار أهوج للذات، فالواضح أنها لم تتبن موقفاً انفعالياً للعلاقة مع القوى الغربية.
لا يريد العرب قطيعة مع الغرب، وهم يدركون عمق وضرورة العلاقة مع الجار الغربي، ولكنهم يريدون لهذه العلاقة أن تؤسس على تقدير للخصوصيات والمصالح، على عدم التدخل في الشأن الداخلي واحترام خيارات الشعوب، وعلى أن يوضع حد للانحياز الغربي البشع للدولة العبرية.
ولأن هذا التوجه كان ولا يزال أحد المحددات الرئيسية لتوجهات الثورة العربية، فإن أحداً في تونس ومصر لم يكترث كثيراً للموقف الفرنسي أو الأمريكي من مطالب الثورتين. لم ترفع الثورتان التونسية والمصرية شعارات ما تتعلق بفرنسا وأمريكا، بالرغم من الوعي العميق بعلاقة نظامي الحكم السابقين في تونس ومصر بالقوى الغربية.
تحركت الجماهير العربية في البلدين انطلاقا من اعتقاد عميق بأن هذه ثورتها، ثورتها هي، وأنها وحدها من سيقرر مصير بلادها، بغض النظر عن سياسات القوى الغربية.
ولذا، فقد تعلق موقف واشنطن أو لندن أو باريس برؤية العواصم الغربية لمستقبل علاقتها بالشعوب وبالحكم الجديد الذي ستقيمه، وليس بمصير الثورة وحركة الشعب.
بيد أن ليبيا أصبحت استثناء، واستثناء كبير بلا شك. في مصر وتونس، كما نعلم، لم يكن الموقف الغربي من الثورة الشعبية إيجابياً في البداية. عرضت فرنسا ساركوزي إرسال الجندرمة لمساعدة بن علي على قمع الحركة الجماهيرية، وظلت وزيرة الخارجية الأمريكية أسابيع وهي تؤكد على استقرار النظام في مصر؛ بينما لم تنبس عاصمة أوروبية واحدة بكلمة واحدة تجاه الثورة المصرية حتى انقلب الموقف الأمريكي في صورة لم تعد تقبل التأويل.
ما حدث، بالطبع، أن القوى الغربية سرعان ما أدركت عمق تيار الثورة والتغيير في العالم العربي، وعملت على اتخاذ مواقف إيجابية من القوى الشعبية كلما استشعرت قدرتها على تحقيق أهدافها، على أن تنتظر لتعيد ترتيب أوراقها في مرحلة ما بعد التغيير الانتقالية. وقد كان الاستثناء الليبي مكلفاً بالتأكيد.
ففي ليبيا، أتيح للقوى الغربية أن تقول للشعوب العربية إنها لن تستطيع إنجاز هدف التخلص من نظام القمع والسيطرة من دون مساعدة غربية؛ بل أكثر من ذلك، أنها لا تستطيع حتى حماية نفسها من أدوات قمع النظام بدون التدخل الغربي.
في ليبيا، باختصار، أصبحت القوى الغربية، من حيث لم يرد الليبيون ولم يسعوا، طرفاً في حركة الثورة العربية، وعاملاً هاماً في تقرير مصير إحدى حلقاتها.
في اليمن، تقوم الدول الغربية، سيما الولايات المتحدة، من حيث جوهر السياسة، وليس بالضرورة شكلها، بدور أشبه بما يحدث في ليبيا.
أليس من المدهش، بعد ثلاثة شهور من الانتفاضة الشعبية العارمة في كافة أنحاء اليمن، أن مسؤولاً غربياً واحداً لم يقل بعد أن الوقت قد حان لذهاب علي عبد الله صالح، أو أن انتقالاً سلمياً منظماً للسلطة لابد أن يبدأ، كما قيل منذ الأسبوع الثاني للثورة المصرية؟
الاعتذار لواشنطن والعواصم الغربية الأخرى بأنها مدينة لعبد الله صالح لمساعدته الكبيرة في الحرب ضد الإرهاب، أو أنها تخشى سيطرة القوى الإسلامية المسلحة على اليمن بعد سقوطه، أو أنها تقدر وجود دعم شعبي معتبر لنظامه، هو محض هراء.
فالدول الغربية كانت مدينة لمبارك أكثر بكثير من عبد الله صالح، ولكنها عندما رأت أن من المصلحة الوقوف إلى جانب المطالب بذهابه لم تفكر كثيراً في أيادي الرئيس المصري السابق.
وتعي العواصم الغربية جميعها أن الشباب اليمني الذي أطلق الثورة ويقودها لا علاقة له بأية منظمات إرهابية، ناهيك عن تجمع الأحزاب اليمنية المعارضة؛ هذا إضافة إلى أن حركة الثورة العربية الشعبية أثبتت في صورة قاطعة أنها الطريق الوحيد لمحاصرة جماعات الإرهاب وتهميشها.
أما الدعم الشعبي لعبد الله صالح، إن سلمنا بوجود مثل هذا الدعم، فلا يمكن أن يقارن بحجم الحركة اليمنية الشعبية المطالبة بالتغيير ووضع نهاية لحكم الرئيس وأقربائه.
ما تعمل القوى الغربية على توكيده في اليمن أن تغييراً لن يتم من دون قرار منها، وأن الشعب اليمني، مهما بلغ اتساع حركته الجماهيرية، لن يستطيع إطاحة صالح بدون قرار وموقف غربيين، تماماً كما هو الحال في ليبيا.
ما شهدته تونس ومصر، تقول الرسالة الغربية للشعوب العربية، كان استثناء لا القاعدة، وليس ثمة ثورة شعبية يمكن أن تنجز هدفها من دون مساعدة غربية؛ لأن مصير هذه المنطقة من العالم يرتبط في النهاية بالدور الغربي فيها.
والمدهش، مرة أخرى، في الحالة اليمنية، أن الحل/ المخرج الذي صاغته دول مجلس التعاون الخليجي، التي لا يمكن القول بأنها على خصومة ما مع السياسة الغربية في المجال العربي، لم يجد دعماً ملموساً من واشنطن أو من أية عاصمة أطلسية أخرى، بالرغم من أن الحل الخليجي لم يستجب كلية لمطالب الثورة اليمنية الشعبية، وبني أصلاً على هدف الانتقال السلمي، السلس، والحذر للسلطة.
في النهاية، بالتأكيد، سيستطيع اليمنيون، إن حافظوا على تصميمهم ووحدتهم، واستمروا في إتباع نهج الثورة السلمية الشعبية، إحداث التغيير وتحقيق أهداف ثورتهم دون القرار الغربي، وربما بالرغم منه.
ولكن المسألة الأهم الآن هي سورية، حيث يواجه الشعب بقدر من العنف لا يقل، إن لم يزد، عن العنف الذي واجه به النظام الليبي حركة شعبه.
والواضح، بعد أكثر من شهرين على اندلاع الحركة الشعبية السورية، أن عاصمة غربية واحدة لم تقل بعد أن على النظام السوري أن يذهب.
وبينما تؤكد وزيرة الخارجية الأمريكية في حديث لها يوم 7 مايو أن نظام الأسد لا يمكن أن يقارن بنظام القذافي، وأن واشنطن لم تزل تثق بقدرة الرئيس بشار على الإصلاح، فإن تصريحات سابقة للرئيس أوباما أوحت بأن واشنطن يمكن أن تقايض الموقف من التغيير في سورية بموقف دمشق من العلاقة مع طهران وقوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية.
من جهة أخرى، سارعت واشنطن أولاً، ثم مجموع الدول الأوروبية، إلى فرض عقوبات ما على النظام السوري وقادته، ليس هناك من يرى، حتى في الإدارات الغربية نفسها، أنه من الممكن أن تترك أثراً على سياسة النظام السوري تجاه شعبه.
تبني النظام خيار القمع الشامل للشعب، وشعور السوريين المتزايد بأن هذه فرصتهم التاريخية لإقامة دولة العقل، ولاستعادة حريتهم وكرامتهم، يعني أن الحركة السورية قد تأخذ زمناً أطول بكثير مما أخذته الثورتان التونسية والمصرية، وما يمكن أن ينتهي إليه الأمر في اليمن؛ وأن الوضع السوري قد يصبح أكثر دموية من أية حالة عربية أخرى.
في المقابل، ثمة شكوى متزايدة في بعض أوساط المعارضة السورية في الخارج من غياب موقف غربي ملموس من الحدث السوري. الخطر، أن تتحول هذه الشكوى المشروعة، بتزايد حجم القمع واتساع سفك الدماء، إلى دعوة للتدخل الخارجي على النمط الليبي أو ما يشبهه.
ما لا يجب أن يغيب، أن الرأي العام العربي ليس سعيداً كلية بالدور الغربي في ليبيا؛ ولأن سورية هي سورية، فإن الأغلبية العربية، كما هي الأغلبية السورية بالتأكيد، لن تقبل بأي حال من الأحوال تدخلاً غربياً في سماء دمشق أو على أرضها.
هذا وقت للعودة إلى أولويات حركة الثورة العربية: مستقبل بلادنا هو شأننا، وشأننا وحدنا، ومصير سورية لابد أن يقرره الشعب السوري، والشعب السوري وحده، مهما بلغت التضحيات.
*العصر
13-5-2011
ما لا يجب أن يغيب، أن الرأي العام العربي ليس سعيداً كلية بالدور الغربي في ليبيا..هذا وقت للعودة إلى أولويات حركة الثورة العربية: مستقبل بلادنا هو شأننا، وشأننا وحدنا، ومصير سورية لابد أن يقرره الشعب السوري، والشعب السوري وحده، مهما بلغت التضحيات..
خلال أيام من اندلاع الثورة الشعبية الليبية في منتصف فبراير الماضي، كانت المظاهرات الجماهيرية الحاشدة تحرر أكثر من نصف البلاد من قوات النظام وأجهزته الأمنية.
في بنغازي، على وجه الخصوص، ثاني أكبر مدينة ليبية، حيث مقر كتيبة الفضيل، إحدى أهم مراكز التحكم والسيطرة الرئيسة للنظام، نجح الشعب الليبي في اقتحام مقر الكتيبة الهائل، وتحرير كافة المعتقلين من زنازينها، وطرد كافة الموالين للنظام إلى خارج المدينة.
ولم تقتصر الثورة الشعبية الليبية على مناطق الشرق والوسط، فخلال أيام قليلة من اندلاع الثورة في مدينة بنغازي، كان الليبيون ينتفضون من أجل حريتهم وكرامتهم في كافة أنحاء ليبيا الأخرى، في إجدابيا ومصراتة والزاوية والزنتان، بل وفي العاصمة طرابلس أيضاً.
ولكن العنف الذي استخدمه النظام في مواجهة شعبه كان بلا حساب؛ وما أن أدرك انهيار أجهزته الأمنية في أغلب المدن الثائرة، حتى أطلق العنان للقوات العسكرية الخاصة لقمع الثورة وإعادة بسط سيطرته على البلاد.
ولأن ليبيا بلد فسيح الأرجاء، بكثافة سكانية ليست كبيرة، ولأن الثورة الليبية، كما كل الثورات العربية الأخرى لم تطلقها قيادة واحدة أو حزب سياسي ما، لم يكن من السهل التحكم في رد الفعل الشعبي على سياسة القمع الدموية التي تبناها النظام.
وبذهاب القوى الليبية الشعبية إلى حمل السلاح، تحولت الثورة إلى مواجهة مسلحة مع النظام. وهنا، وفرت ليبيا فرصة غير متوقعة للتدخل الغربي في مجريات حركة الثورة العربية.
لا يجب أن تفهم حركة الثورة العربية من جهة شعاراتها الأبرز المتعلقة بالحريات وحكم القانون والتخلص من طبقات الحكم الفاسدة. الشبان التونسيون والمصريون الذين نجحوا في إطاحة أنظمتهم الحاكمة كانوا يدركون على وجه اليقين طبيعة هذه الأنظمة وارتباطاتها الخارجية. والخروج الشعبي الهائل والمهيب الذي وضع نهاية لحكمي بن علي ومبارك لم تحركه مطالب فئوية محدودة.
في قلب حركة الثورة العربية، وفي المخزون الجمعي لملايين العرب الذين خرجوا ويخرجون إلى شوارع مدنهم، ثمة رد تاريخي على إهانة المائة عام التي وجهت للعرب، وعلى السرقة الفادحة التي قامت بها نخب دولة ما بعد الاستعمار المباشر لوعود الاستقلال التي قاتل من أجلها الآباء والأجداد.
بكلمة أخرى، ما تحمله حركة الثورة العربية من أهداف لا يقتصر على إقامة دولة القانون، وحرية الأحزاب، ووضع نهاية لاحتكار السلطة والثروة؛ بل أيضاً إعادة تأسيس العلاقة مع القوى الغربية التي استباحت بلاد العرب وعبثت بمقدراتهم، بالاحتلال المباشر مرة وبصورة غير مباشرة مرة أخرى.
وكما كان حرص الجماهير العربية على أن لا تتحول الثورة إلى دمار أهوج للذات، فالواضح أنها لم تتبن موقفاً انفعالياً للعلاقة مع القوى الغربية.
لا يريد العرب قطيعة مع الغرب، وهم يدركون عمق وضرورة العلاقة مع الجار الغربي، ولكنهم يريدون لهذه العلاقة أن تؤسس على تقدير للخصوصيات والمصالح، على عدم التدخل في الشأن الداخلي واحترام خيارات الشعوب، وعلى أن يوضع حد للانحياز الغربي البشع للدولة العبرية.
ولأن هذا التوجه كان ولا يزال أحد المحددات الرئيسية لتوجهات الثورة العربية، فإن أحداً في تونس ومصر لم يكترث كثيراً للموقف الفرنسي أو الأمريكي من مطالب الثورتين. لم ترفع الثورتان التونسية والمصرية شعارات ما تتعلق بفرنسا وأمريكا، بالرغم من الوعي العميق بعلاقة نظامي الحكم السابقين في تونس ومصر بالقوى الغربية.
تحركت الجماهير العربية في البلدين انطلاقا من اعتقاد عميق بأن هذه ثورتها، ثورتها هي، وأنها وحدها من سيقرر مصير بلادها، بغض النظر عن سياسات القوى الغربية.
ولذا، فقد تعلق موقف واشنطن أو لندن أو باريس برؤية العواصم الغربية لمستقبل علاقتها بالشعوب وبالحكم الجديد الذي ستقيمه، وليس بمصير الثورة وحركة الشعب.
بيد أن ليبيا أصبحت استثناء، واستثناء كبير بلا شك. في مصر وتونس، كما نعلم، لم يكن الموقف الغربي من الثورة الشعبية إيجابياً في البداية. عرضت فرنسا ساركوزي إرسال الجندرمة لمساعدة بن علي على قمع الحركة الجماهيرية، وظلت وزيرة الخارجية الأمريكية أسابيع وهي تؤكد على استقرار النظام في مصر؛ بينما لم تنبس عاصمة أوروبية واحدة بكلمة واحدة تجاه الثورة المصرية حتى انقلب الموقف الأمريكي في صورة لم تعد تقبل التأويل.
ما حدث، بالطبع، أن القوى الغربية سرعان ما أدركت عمق تيار الثورة والتغيير في العالم العربي، وعملت على اتخاذ مواقف إيجابية من القوى الشعبية كلما استشعرت قدرتها على تحقيق أهدافها، على أن تنتظر لتعيد ترتيب أوراقها في مرحلة ما بعد التغيير الانتقالية. وقد كان الاستثناء الليبي مكلفاً بالتأكيد.
ففي ليبيا، أتيح للقوى الغربية أن تقول للشعوب العربية إنها لن تستطيع إنجاز هدف التخلص من نظام القمع والسيطرة من دون مساعدة غربية؛ بل أكثر من ذلك، أنها لا تستطيع حتى حماية نفسها من أدوات قمع النظام بدون التدخل الغربي.
في ليبيا، باختصار، أصبحت القوى الغربية، من حيث لم يرد الليبيون ولم يسعوا، طرفاً في حركة الثورة العربية، وعاملاً هاماً في تقرير مصير إحدى حلقاتها.
في اليمن، تقوم الدول الغربية، سيما الولايات المتحدة، من حيث جوهر السياسة، وليس بالضرورة شكلها، بدور أشبه بما يحدث في ليبيا.
أليس من المدهش، بعد ثلاثة شهور من الانتفاضة الشعبية العارمة في كافة أنحاء اليمن، أن مسؤولاً غربياً واحداً لم يقل بعد أن الوقت قد حان لذهاب علي عبد الله صالح، أو أن انتقالاً سلمياً منظماً للسلطة لابد أن يبدأ، كما قيل منذ الأسبوع الثاني للثورة المصرية؟
الاعتذار لواشنطن والعواصم الغربية الأخرى بأنها مدينة لعبد الله صالح لمساعدته الكبيرة في الحرب ضد الإرهاب، أو أنها تخشى سيطرة القوى الإسلامية المسلحة على اليمن بعد سقوطه، أو أنها تقدر وجود دعم شعبي معتبر لنظامه، هو محض هراء.
فالدول الغربية كانت مدينة لمبارك أكثر بكثير من عبد الله صالح، ولكنها عندما رأت أن من المصلحة الوقوف إلى جانب المطالب بذهابه لم تفكر كثيراً في أيادي الرئيس المصري السابق.
وتعي العواصم الغربية جميعها أن الشباب اليمني الذي أطلق الثورة ويقودها لا علاقة له بأية منظمات إرهابية، ناهيك عن تجمع الأحزاب اليمنية المعارضة؛ هذا إضافة إلى أن حركة الثورة العربية الشعبية أثبتت في صورة قاطعة أنها الطريق الوحيد لمحاصرة جماعات الإرهاب وتهميشها.
أما الدعم الشعبي لعبد الله صالح، إن سلمنا بوجود مثل هذا الدعم، فلا يمكن أن يقارن بحجم الحركة اليمنية الشعبية المطالبة بالتغيير ووضع نهاية لحكم الرئيس وأقربائه.
ما تعمل القوى الغربية على توكيده في اليمن أن تغييراً لن يتم من دون قرار منها، وأن الشعب اليمني، مهما بلغ اتساع حركته الجماهيرية، لن يستطيع إطاحة صالح بدون قرار وموقف غربيين، تماماً كما هو الحال في ليبيا.
ما شهدته تونس ومصر، تقول الرسالة الغربية للشعوب العربية، كان استثناء لا القاعدة، وليس ثمة ثورة شعبية يمكن أن تنجز هدفها من دون مساعدة غربية؛ لأن مصير هذه المنطقة من العالم يرتبط في النهاية بالدور الغربي فيها.
والمدهش، مرة أخرى، في الحالة اليمنية، أن الحل/ المخرج الذي صاغته دول مجلس التعاون الخليجي، التي لا يمكن القول بأنها على خصومة ما مع السياسة الغربية في المجال العربي، لم يجد دعماً ملموساً من واشنطن أو من أية عاصمة أطلسية أخرى، بالرغم من أن الحل الخليجي لم يستجب كلية لمطالب الثورة اليمنية الشعبية، وبني أصلاً على هدف الانتقال السلمي، السلس، والحذر للسلطة.
في النهاية، بالتأكيد، سيستطيع اليمنيون، إن حافظوا على تصميمهم ووحدتهم، واستمروا في إتباع نهج الثورة السلمية الشعبية، إحداث التغيير وتحقيق أهداف ثورتهم دون القرار الغربي، وربما بالرغم منه.
ولكن المسألة الأهم الآن هي سورية، حيث يواجه الشعب بقدر من العنف لا يقل، إن لم يزد، عن العنف الذي واجه به النظام الليبي حركة شعبه.
والواضح، بعد أكثر من شهرين على اندلاع الحركة الشعبية السورية، أن عاصمة غربية واحدة لم تقل بعد أن على النظام السوري أن يذهب.
وبينما تؤكد وزيرة الخارجية الأمريكية في حديث لها يوم 7 مايو أن نظام الأسد لا يمكن أن يقارن بنظام القذافي، وأن واشنطن لم تزل تثق بقدرة الرئيس بشار على الإصلاح، فإن تصريحات سابقة للرئيس أوباما أوحت بأن واشنطن يمكن أن تقايض الموقف من التغيير في سورية بموقف دمشق من العلاقة مع طهران وقوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية.
من جهة أخرى، سارعت واشنطن أولاً، ثم مجموع الدول الأوروبية، إلى فرض عقوبات ما على النظام السوري وقادته، ليس هناك من يرى، حتى في الإدارات الغربية نفسها، أنه من الممكن أن تترك أثراً على سياسة النظام السوري تجاه شعبه.
تبني النظام خيار القمع الشامل للشعب، وشعور السوريين المتزايد بأن هذه فرصتهم التاريخية لإقامة دولة العقل، ولاستعادة حريتهم وكرامتهم، يعني أن الحركة السورية قد تأخذ زمناً أطول بكثير مما أخذته الثورتان التونسية والمصرية، وما يمكن أن ينتهي إليه الأمر في اليمن؛ وأن الوضع السوري قد يصبح أكثر دموية من أية حالة عربية أخرى.
في المقابل، ثمة شكوى متزايدة في بعض أوساط المعارضة السورية في الخارج من غياب موقف غربي ملموس من الحدث السوري. الخطر، أن تتحول هذه الشكوى المشروعة، بتزايد حجم القمع واتساع سفك الدماء، إلى دعوة للتدخل الخارجي على النمط الليبي أو ما يشبهه.
ما لا يجب أن يغيب، أن الرأي العام العربي ليس سعيداً كلية بالدور الغربي في ليبيا؛ ولأن سورية هي سورية، فإن الأغلبية العربية، كما هي الأغلبية السورية بالتأكيد، لن تقبل بأي حال من الأحوال تدخلاً غربياً في سماء دمشق أو على أرضها.
هذا وقت للعودة إلى أولويات حركة الثورة العربية: مستقبل بلادنا هو شأننا، وشأننا وحدنا، ومصير سورية لابد أن يقرره الشعب السوري، والشعب السوري وحده، مهما بلغت التضحيات.
*العصر