بقلم د. بشير موسى نافع
28-4-2011
أحد أبرز مقولات النظام، والعديد من الناطقين الرسميين وغير الرسميين باسمه، أن سورية تتعرض لاختراق أمني إرهابي، عماده عصابات من المخربين مرة، ومجموعات من السلفيين مرة أخرى. أما المقولة الرئيسية الثانية، فتتمركز حول المستقبل المجهول الذي يمكن أن تدفع إليه سورية إن استمرت الحركة الشعبية. تقول المقولة الثالثة إن سورية تتعرض لمؤامرة خارجية، وان نجاح هذه المؤامرة سيحرف سورية عن مواقفها ودورها الكبير الذي تعهدته للدفاع عن القضايا العربية ومصالح العرب الكبرى..
إلى جانب القمع الدموي السافر للشعب، أطلق النظام الحاكم في دمشق حملة هائلة من الدعاية السوداء والشائعات، موجهة إلى الرأي العام السوري وإلى الرأي العام العربي على السواء.
تستهدف هذه الحملة تشويه الانتفاضة السورية من أجل الحرية والكرامة، وتستهدف توفير الذرائع للقمع واسع النطاق الذي تشنه أجهزة النظام الأمنية وشبه الأمنية، كما تستهدف إثارة المخاوف لدى العرب والسوريين حول ما يمكن أن تذهب إليه سورية من مستقبل.
أحد أبرز مقولات النظام، والعديد من الناطقين الرسميين وغير الرسميين باسمه، أن سورية تتعرض لاختراق أمني إرهابي، عماده عصابات من المخربين مرة، ومجموعات من السلفيين مرة أخرى.
أما المقولة الرئيسية الثانية، فتتمركز حول المستقبل المجهول الذي يمكن أن تدفع إليه سورية إن استمرت الحركة الشعبية.
وتقول المقولة الثالثة إن سورية تتعرض لمؤامرة خارجية، وان نجاح هذه المؤامرة سيحرف سورية عن مواقفها ودورها الكبير الذي تعهدته للدفاع عن القضايا العربية ومصالح العرب الكبرى.
المسألة التي يجب أن لا تغيب عن السوريين والعرب جميعاً أن هذه المقولات لا أساس لها ولا مسوغ، ليس فقط لأنها تفتقد المنطق الصلب، ولكن أيضاً لأن ليس هناك ثمة أدلة ملموسة على مصداقيتها.
كان من الواضح منذ اندلاع حركة التظاهرات السورية في 15 مارس أن النظام تأمل ملياً وضعه ووضع الدول العربية الأخرى التي شهدت ثورات شعبية، سيما مصر وتونس. وليس في هذا ما يدعو للدهشة، فمفاجأة الثورة العربية الشعبية قد مرت، والأنظمة العربية جميعها تقريباً تدرس وتخطط للتعامل مع رياح التغيير.
والواضح في سورية أن النظام قد تبنى سياسة من مقاربتين لاحتواء الحركة الشعبية: تتمحور الأولى حول اتخاذ خطوات إصلاحية محدودة وغير ذات فعالية، مثل إلغاء حالة الطوارئ، من دون المس بالمؤسسة البوليسية القمعية، وتقديم وعود إصلاح أخرى غامضة.
الهدف في الحالتين هو كسب الوقت وتشكيك ما أمكن من القطاعات الجماهيرية بجدوى التظاهر والمعارضة، واحتواء ردود الفعل الإقليمية والعالمية المحتملة، سيما في أوساط الحلفاء الرسميين، مثل تركيا، وغير الرسميين، مثل القوى العربية الإسلامية والقومية التي طالما وقفت إلى جانب سورية وساندتها.
وتتمحور المقاربة الثانية حول إجراءات قمع لا حدود لها، تطال كل مراكز المعارضة الشعبية ودوائرها، حتى إن تطور الأمر إلى انتشار كامل للجيش في أنحاء البلاد (خيار حماة، كما يوصف أحياناً). ولتسويغ إجراءات القمع، لجأ النظام، كما لجأ النظامان المصري واليمني وإن في نطاق أضيق وفي صورة ساذجة، إلى تسليح مجموعات أمنية (لا يستبعد أن تكون قطاعات منها من غير السوريين) للاعتداء على المتظاهرين ووحدات وعناصر الجيش على حد سواء.
الحرية غير المعهودة، في بلد مثل سورية، التي تتحرك فيها مجموعات المسلحين، وتجنبها كلية للمظاهرات المؤيدة للنظام، ووجودها في أغلب الأحيان قرب أو على سطح بنايات رسمية، تشير بوضوح إلى أن هذه المجموعات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام وأجهزته.
وربما يجدر التذكير بأن مظاهرات الجمعة 15 ابريل، التي سبقها توجيه من الرئيس الأسد بعدم استخدام القوة ضد المتظاهرين، لم تشهد حادثة قتل واحدة، لا للمتظاهرين ولا لقوات الجيش. عندما عقد الرئيس عزمه على تجنب استخدام القوة، ولو ليوم واحد، اختفت المجموعات المسلحة كلية.
سورية على حافة المجهول، تنذر المقولة الثانية، وهو ادعاء مثقل بالتهديد وإثارة الخوف والإنذار.
وسط الأنواء التي تحيط بالجوار العربي، تمتعت سورية خلال العقد الماضي بقدر ملموس من الاستقرار.
لم تتعرض سورية لغزو وانقسام طائفي كما تعرض العراق، ولا تتغير فيها الحكومات بين أسبوع وآخر كما تتغير في الأردن، ولا تعاني من الانقسام على الذات كما هو حال لبنان. فلماذا إذن تدفع سورية نحو المجهول؟ والمجهول في هذا الخطاب ليس مجهولاً تماماً؛ لأن سورية هي أيضاً، وكما كل الشرق العربي، بلد متعدد الطوائف والأعراق.
وما يستبطنه خطاب التهديد هذا أن استمرار الثورة الشعبية والسعي إلى تغيير النظام السياسي لن يصل إلى هدفه، بل سيؤدي إلى انقسام طائفي في البلاد، وقد ينتهي إلى انشطار سورية إلى قطع متصارعة.
الحقيقة بالطبع أن سورية تمتعت بالفعل باستقرار نسبي خلال العقد أو العقدين الماضيين، ولكن هذا الاستقرار لم يتأت من قبول السوريين بنظام القمع والاستبداد واطمئنانهم إلى هيمنة الأجهزة الأمنية على شؤون بلادهم ودولتهم.
كما الشعوب العربية الأخرى، يتمتع السوريون بقدر كبير من الصبر، صبر الشعوب ذات الجذور الضاربة في التاريخ؛ وقد وجدوا بلادهم تخوض معركة تلو الأخرى من أجل توكيد دورها وموقعها في المشرق العربي. ولم يتخلف السوريون يوماً عن تأييد سياسات دولتهم في الدفاع عن حقوق سورية ومصالحها، وعن الحقوق العربية، حتى عندما لم تكن حدود المعارك واضحة تماماً.
بيد أن السوريين، كما غيرهم من العرب أيضاً، كانوا يستشعرون وطأة أجهزة النظام القمعية وأدوات تحكمه واستبداده، كانوا يعرفون مهازل مؤسسات الدولة القضائية، ويرون انتشار الفساد وسيطرته المتزايدة على مقدرات البلاد.
وباندلاع الثورة العربية في تونس ومصر، لم يكن هناك من شك في أن سورية تسير على ذات الطريق، ليس فقط لأن الأوضاع السياسية الاقتصادية في سورية لا تختلف في تدهورها عن تونس ومصر، إن لم تزد، بل لأن السوريين أيضاً ليسوا أقل من غيرهم من الشعوب العربية، وهم من حمل مسؤوليات المجال العربي ووقف حارساً للهوية العربية طوال قرن من الزمان.
الثورة الشعبية السورية لا تدفع سورية، بل تدفع الطبقة الحاكمة إلى حافة المجهول، الطبقة التي عملت طويلاً من أجل تأبيد الاستبداد السياسي، والتي عملت طويلاً من أجل إهدار كرامة السوريين على يد حثالات الأجهزة الأمنية، والتي عملت طويلاً من أجل إحكام قبضتها على مقدرات سورية الاقتصادية والمالية.
انتصار الثورة في تونس ومصر لم يدفع البلدين العربيين إلى أية مجهول يذكر، بل أعاد للتونسيين والمصريين كرامتهم وحريتهم وحقهم في تقرير مستقبلهم. إن كان هناك ثمة من أعباء سيولدها التغيير السياسي في البلاد العربية، فليس هناك من شعب عربي يرفض تحملها، طالما أن قرار بلاده أصبح بيده.
أما القول بأن تغيير النظام السياسي في سورية يحمل معه تخلي سورية عن سياستها القومية وعن دورها وموقعها، بما في ذلك دعم المقاومة العربية الإسلامية في لبنان وفلسطين، فهو ادعاء يكذبه تاريخ سورية وميراثها منذ لحظة ولادتها كدولة حديثة، ضمن حدودها الحالية، في مطلع القرن العشرين.
فحتى وهي تخضع للانتداب الفرنسي، استضافت سورية نهاية الثلاثينات، ووفرت الدعم والحماية، لقيادة الثورة الفلسطينية الكبرى. ومن سورية خرجت أفواج المتطوعين العرب، الواحد تلو الآخر للدفاع عن فلسطين.
وما كادت سورية تحقق استقلالها، حتى تحولت إلى مقر رئيسي لتدريب وتجهيز المتطوعين العرب للقتال في فلسطين في 1948، إضافة إلى مشاركة الجيش السوري، حديث النشأة، في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى. وقد أصبحت سورية بعد ذلك، شريكاً في كل الحروب العربية الإسرائيلية، والبلد العربي الذي شهد تبلور حركة التحرر الوطني الفلسطيني في كل أطوارها.
في سورية ولدت الفكرة العربية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين؛ وكانت سورية هي التي سعت إلى الوحدة مع مصر وهي التي تنازل رئيسها عن موقعه لتسهيل مشروع الوحدة؛ وسورية هي التي خرجت عن بكرة أبيها لتستقبل عبد الناصر، المصري، رئيساً لدولة الوحدة، وهي الدولة العربية الوحيدة التي فتحت أبوابها منذ تأسيسها لكل العرب، دون متطلبات وإجراءات.
التزام سورية العربي القومي ليس مرتبطاً بنظام حكم أو بحقبة ما؛ فهذا التزام تاريخي، بات جزءاً من قدر سورية الحديثة والموقع الذي تحتله في المشرق العربي. بدون هذا الالتزام لا تكون سورية هي نفسها، ولا يكون السوريون هم أنفسهم.
بيد أن هذا كله لا يعني أن عربياً يسعده أن تكون الثورة الشعبية، ومواجهة النظام الدموية لهذه الثورة، الطريق الوحيد المتاح لإصلاح الشأن السوري. الخروج إلى الشوارع لمواجهة الموت على أيدي أجهزة نظام الحكم وأدواته من القتلة ليست هواية للشعب، أيا كان.
ومنذ اندلاع حركة الثورة العربية في مطلع هذا العام، كان أمام الحكم السوري أكثر من فرصة للمبادرة وإطلاق حركة إصلاح شاملة تليق بسورية وتليق بالدور الذي تعهدته خلال زهاء القرن من تاريخها الحديث. ولكن أنظمة الاستبداد كما يبدو غير قادرة على، ولا مؤهلة لإصلاح نفسها، مهما بدا أمامها من فرص متاحة.
الآن، تبدو سورية وكأنها مضت في طريق الثورة والتغيير بلا رجعة، وقد استشعر الشعب السوري أهمية هذا المنعطف في تاريخه، وأن النكوص اليوم قد ينتهي إلى مزيد من الاستبداد وإهدار الكرامة والخوف، وربما إلى تضحيات أكبر بكثير مما تتطلبه معركة الحرية واسترداد الكرامة.
وعلى العرب أن يثقوا في هذا الشعب الباسل، عليهم الثقة في أن السوريين لن يسمحوا بتدخل أجنبي في بلادهم، لن يسمحوا بوقوع انقسام إثني أو طائفي، ولن يسمحوا بتخلي بلادهم يوماً عن مسؤولياتها.
ما ينبغي على العرب اليوم، هو أن يقفوا إلى جانب الشعب الذي طالما وقف إلى جانب قضاياهم وحماها بكل إمكانياته.
العصر
28-4-2011
أحد أبرز مقولات النظام، والعديد من الناطقين الرسميين وغير الرسميين باسمه، أن سورية تتعرض لاختراق أمني إرهابي، عماده عصابات من المخربين مرة، ومجموعات من السلفيين مرة أخرى. أما المقولة الرئيسية الثانية، فتتمركز حول المستقبل المجهول الذي يمكن أن تدفع إليه سورية إن استمرت الحركة الشعبية. تقول المقولة الثالثة إن سورية تتعرض لمؤامرة خارجية، وان نجاح هذه المؤامرة سيحرف سورية عن مواقفها ودورها الكبير الذي تعهدته للدفاع عن القضايا العربية ومصالح العرب الكبرى..
إلى جانب القمع الدموي السافر للشعب، أطلق النظام الحاكم في دمشق حملة هائلة من الدعاية السوداء والشائعات، موجهة إلى الرأي العام السوري وإلى الرأي العام العربي على السواء.
تستهدف هذه الحملة تشويه الانتفاضة السورية من أجل الحرية والكرامة، وتستهدف توفير الذرائع للقمع واسع النطاق الذي تشنه أجهزة النظام الأمنية وشبه الأمنية، كما تستهدف إثارة المخاوف لدى العرب والسوريين حول ما يمكن أن تذهب إليه سورية من مستقبل.
أحد أبرز مقولات النظام، والعديد من الناطقين الرسميين وغير الرسميين باسمه، أن سورية تتعرض لاختراق أمني إرهابي، عماده عصابات من المخربين مرة، ومجموعات من السلفيين مرة أخرى.
أما المقولة الرئيسية الثانية، فتتمركز حول المستقبل المجهول الذي يمكن أن تدفع إليه سورية إن استمرت الحركة الشعبية.
وتقول المقولة الثالثة إن سورية تتعرض لمؤامرة خارجية، وان نجاح هذه المؤامرة سيحرف سورية عن مواقفها ودورها الكبير الذي تعهدته للدفاع عن القضايا العربية ومصالح العرب الكبرى.
المسألة التي يجب أن لا تغيب عن السوريين والعرب جميعاً أن هذه المقولات لا أساس لها ولا مسوغ، ليس فقط لأنها تفتقد المنطق الصلب، ولكن أيضاً لأن ليس هناك ثمة أدلة ملموسة على مصداقيتها.
كان من الواضح منذ اندلاع حركة التظاهرات السورية في 15 مارس أن النظام تأمل ملياً وضعه ووضع الدول العربية الأخرى التي شهدت ثورات شعبية، سيما مصر وتونس. وليس في هذا ما يدعو للدهشة، فمفاجأة الثورة العربية الشعبية قد مرت، والأنظمة العربية جميعها تقريباً تدرس وتخطط للتعامل مع رياح التغيير.
والواضح في سورية أن النظام قد تبنى سياسة من مقاربتين لاحتواء الحركة الشعبية: تتمحور الأولى حول اتخاذ خطوات إصلاحية محدودة وغير ذات فعالية، مثل إلغاء حالة الطوارئ، من دون المس بالمؤسسة البوليسية القمعية، وتقديم وعود إصلاح أخرى غامضة.
الهدف في الحالتين هو كسب الوقت وتشكيك ما أمكن من القطاعات الجماهيرية بجدوى التظاهر والمعارضة، واحتواء ردود الفعل الإقليمية والعالمية المحتملة، سيما في أوساط الحلفاء الرسميين، مثل تركيا، وغير الرسميين، مثل القوى العربية الإسلامية والقومية التي طالما وقفت إلى جانب سورية وساندتها.
وتتمحور المقاربة الثانية حول إجراءات قمع لا حدود لها، تطال كل مراكز المعارضة الشعبية ودوائرها، حتى إن تطور الأمر إلى انتشار كامل للجيش في أنحاء البلاد (خيار حماة، كما يوصف أحياناً). ولتسويغ إجراءات القمع، لجأ النظام، كما لجأ النظامان المصري واليمني وإن في نطاق أضيق وفي صورة ساذجة، إلى تسليح مجموعات أمنية (لا يستبعد أن تكون قطاعات منها من غير السوريين) للاعتداء على المتظاهرين ووحدات وعناصر الجيش على حد سواء.
الحرية غير المعهودة، في بلد مثل سورية، التي تتحرك فيها مجموعات المسلحين، وتجنبها كلية للمظاهرات المؤيدة للنظام، ووجودها في أغلب الأحيان قرب أو على سطح بنايات رسمية، تشير بوضوح إلى أن هذه المجموعات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام وأجهزته.
وربما يجدر التذكير بأن مظاهرات الجمعة 15 ابريل، التي سبقها توجيه من الرئيس الأسد بعدم استخدام القوة ضد المتظاهرين، لم تشهد حادثة قتل واحدة، لا للمتظاهرين ولا لقوات الجيش. عندما عقد الرئيس عزمه على تجنب استخدام القوة، ولو ليوم واحد، اختفت المجموعات المسلحة كلية.
سورية على حافة المجهول، تنذر المقولة الثانية، وهو ادعاء مثقل بالتهديد وإثارة الخوف والإنذار.
وسط الأنواء التي تحيط بالجوار العربي، تمتعت سورية خلال العقد الماضي بقدر ملموس من الاستقرار.
لم تتعرض سورية لغزو وانقسام طائفي كما تعرض العراق، ولا تتغير فيها الحكومات بين أسبوع وآخر كما تتغير في الأردن، ولا تعاني من الانقسام على الذات كما هو حال لبنان. فلماذا إذن تدفع سورية نحو المجهول؟ والمجهول في هذا الخطاب ليس مجهولاً تماماً؛ لأن سورية هي أيضاً، وكما كل الشرق العربي، بلد متعدد الطوائف والأعراق.
وما يستبطنه خطاب التهديد هذا أن استمرار الثورة الشعبية والسعي إلى تغيير النظام السياسي لن يصل إلى هدفه، بل سيؤدي إلى انقسام طائفي في البلاد، وقد ينتهي إلى انشطار سورية إلى قطع متصارعة.
الحقيقة بالطبع أن سورية تمتعت بالفعل باستقرار نسبي خلال العقد أو العقدين الماضيين، ولكن هذا الاستقرار لم يتأت من قبول السوريين بنظام القمع والاستبداد واطمئنانهم إلى هيمنة الأجهزة الأمنية على شؤون بلادهم ودولتهم.
كما الشعوب العربية الأخرى، يتمتع السوريون بقدر كبير من الصبر، صبر الشعوب ذات الجذور الضاربة في التاريخ؛ وقد وجدوا بلادهم تخوض معركة تلو الأخرى من أجل توكيد دورها وموقعها في المشرق العربي. ولم يتخلف السوريون يوماً عن تأييد سياسات دولتهم في الدفاع عن حقوق سورية ومصالحها، وعن الحقوق العربية، حتى عندما لم تكن حدود المعارك واضحة تماماً.
بيد أن السوريين، كما غيرهم من العرب أيضاً، كانوا يستشعرون وطأة أجهزة النظام القمعية وأدوات تحكمه واستبداده، كانوا يعرفون مهازل مؤسسات الدولة القضائية، ويرون انتشار الفساد وسيطرته المتزايدة على مقدرات البلاد.
وباندلاع الثورة العربية في تونس ومصر، لم يكن هناك من شك في أن سورية تسير على ذات الطريق، ليس فقط لأن الأوضاع السياسية الاقتصادية في سورية لا تختلف في تدهورها عن تونس ومصر، إن لم تزد، بل لأن السوريين أيضاً ليسوا أقل من غيرهم من الشعوب العربية، وهم من حمل مسؤوليات المجال العربي ووقف حارساً للهوية العربية طوال قرن من الزمان.
الثورة الشعبية السورية لا تدفع سورية، بل تدفع الطبقة الحاكمة إلى حافة المجهول، الطبقة التي عملت طويلاً من أجل تأبيد الاستبداد السياسي، والتي عملت طويلاً من أجل إهدار كرامة السوريين على يد حثالات الأجهزة الأمنية، والتي عملت طويلاً من أجل إحكام قبضتها على مقدرات سورية الاقتصادية والمالية.
انتصار الثورة في تونس ومصر لم يدفع البلدين العربيين إلى أية مجهول يذكر، بل أعاد للتونسيين والمصريين كرامتهم وحريتهم وحقهم في تقرير مستقبلهم. إن كان هناك ثمة من أعباء سيولدها التغيير السياسي في البلاد العربية، فليس هناك من شعب عربي يرفض تحملها، طالما أن قرار بلاده أصبح بيده.
أما القول بأن تغيير النظام السياسي في سورية يحمل معه تخلي سورية عن سياستها القومية وعن دورها وموقعها، بما في ذلك دعم المقاومة العربية الإسلامية في لبنان وفلسطين، فهو ادعاء يكذبه تاريخ سورية وميراثها منذ لحظة ولادتها كدولة حديثة، ضمن حدودها الحالية، في مطلع القرن العشرين.
فحتى وهي تخضع للانتداب الفرنسي، استضافت سورية نهاية الثلاثينات، ووفرت الدعم والحماية، لقيادة الثورة الفلسطينية الكبرى. ومن سورية خرجت أفواج المتطوعين العرب، الواحد تلو الآخر للدفاع عن فلسطين.
وما كادت سورية تحقق استقلالها، حتى تحولت إلى مقر رئيسي لتدريب وتجهيز المتطوعين العرب للقتال في فلسطين في 1948، إضافة إلى مشاركة الجيش السوري، حديث النشأة، في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى. وقد أصبحت سورية بعد ذلك، شريكاً في كل الحروب العربية الإسرائيلية، والبلد العربي الذي شهد تبلور حركة التحرر الوطني الفلسطيني في كل أطوارها.
في سورية ولدت الفكرة العربية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين؛ وكانت سورية هي التي سعت إلى الوحدة مع مصر وهي التي تنازل رئيسها عن موقعه لتسهيل مشروع الوحدة؛ وسورية هي التي خرجت عن بكرة أبيها لتستقبل عبد الناصر، المصري، رئيساً لدولة الوحدة، وهي الدولة العربية الوحيدة التي فتحت أبوابها منذ تأسيسها لكل العرب، دون متطلبات وإجراءات.
التزام سورية العربي القومي ليس مرتبطاً بنظام حكم أو بحقبة ما؛ فهذا التزام تاريخي، بات جزءاً من قدر سورية الحديثة والموقع الذي تحتله في المشرق العربي. بدون هذا الالتزام لا تكون سورية هي نفسها، ولا يكون السوريون هم أنفسهم.
بيد أن هذا كله لا يعني أن عربياً يسعده أن تكون الثورة الشعبية، ومواجهة النظام الدموية لهذه الثورة، الطريق الوحيد المتاح لإصلاح الشأن السوري. الخروج إلى الشوارع لمواجهة الموت على أيدي أجهزة نظام الحكم وأدواته من القتلة ليست هواية للشعب، أيا كان.
ومنذ اندلاع حركة الثورة العربية في مطلع هذا العام، كان أمام الحكم السوري أكثر من فرصة للمبادرة وإطلاق حركة إصلاح شاملة تليق بسورية وتليق بالدور الذي تعهدته خلال زهاء القرن من تاريخها الحديث. ولكن أنظمة الاستبداد كما يبدو غير قادرة على، ولا مؤهلة لإصلاح نفسها، مهما بدا أمامها من فرص متاحة.
الآن، تبدو سورية وكأنها مضت في طريق الثورة والتغيير بلا رجعة، وقد استشعر الشعب السوري أهمية هذا المنعطف في تاريخه، وأن النكوص اليوم قد ينتهي إلى مزيد من الاستبداد وإهدار الكرامة والخوف، وربما إلى تضحيات أكبر بكثير مما تتطلبه معركة الحرية واسترداد الكرامة.
وعلى العرب أن يثقوا في هذا الشعب الباسل، عليهم الثقة في أن السوريين لن يسمحوا بتدخل أجنبي في بلادهم، لن يسمحوا بوقوع انقسام إثني أو طائفي، ولن يسمحوا بتخلي بلادهم يوماً عن مسؤولياتها.
ما ينبغي على العرب اليوم، هو أن يقفوا إلى جانب الشعب الذي طالما وقف إلى جانب قضاياهم وحماها بكل إمكانياته.
العصر