د. بشير موسى نافع
ما يجب أن يكون واضحاً أن المجال العربي يعيش نقلة تاريخية، وليس مجرد انتفاضات محلية هنا وهناك لتحقيق مطالب خاصة للتونسيين وللمصريين والسوريين والليبيين واليمنيين. تأخر انتصار إرادة الشعوب في هذا الإقليم أو ذاك، لن يوقف تيار التغيير والإصلاح الجارف. المسألة الهامة في هذا المشهد العربي أن على الشعوب تجنب العنف ورفع السلاح مهما بلغ عنف أنظمة الحكم من دموية،
بعد الانتصار المدوي للثورة العربية الشعبية في تونس ومصر، أخذ مسار الثورة العربية التحررية في مواجهة عقبات متزايدة.
في ليبيا واليمن وسورية، شهدت الأسابيع الماضية تصاعداً كبيراً للعنف الذي توظفه أنظمة الحكم لقمع حركة الجماهير ومحاصرة تطلعاتها. الأنظمة العربية التي فوجئت بالحراك الشعبي العربي واسع النطاق في يناير وفبراير، تبدو الآن كأنها التقطت أنفاسها وبدأت تعيد ترتيب أوراقها.
ليس ثمة مؤشر على أن هذه الأنظمة تعمل بجدية كافية ومصداقية للاستجابة لرغبات الشعوب العربية؛ ما تحاوله هذه الأنظمة في الحقيقة هو اللجوء إلى أساليب أمنية وتآمرية جديدة لتسويغ الاستخدام واسع النطاق للعنف، والارتكاز إلى منظومة من العلاقات الخارجية، الدولية والإقليمية، لمحاصرة ردود الفعل العالمية على المجازر التي ترتكبها آلات القمع الرسمية في صفوف الشعوب.
مثل هذا التطور في مسار الثورة العربية سيؤخر انتصارها في هذا القطر أو ذاك، ولكنه لن يؤدي إلى تعطيل مسارها التاريخي.
عندما انطلقت الثورة الشعبية الليبية من مدينة بنغازي في 15 فبراير الماضي (التي استعارت ذكرى 17 فبراير 2006)، لم يكن لدى الجماهير التي تحركت على خطى الأشقاء في تونس ومصر أية توجهات عنف مسلح.
ولم يعكس اتساع نطاق حركة التظاهرات الشعبية في إجدابيا والبيضاء ومصراتة وطرابلس والزنتان والزاوية أية توجهات نحو التسلح. كما أشقاؤهم في تونس ومصر، اعتقد الليبيون أن الحركة السلمية ستوصلهم في النهاية إلى أهدافهم.
وحتى الأيام الدموية الأربعة التي شهدت حصار الشعب لمقر كتيبة الفضيل الأمنية بمدينة بنغازي، إلى أن نجح الأهالي في تحرير مدينتهم من آلة النظام القمعية الهائلة، لم يصاحبها نزوع شعبي إلى التسلح. ولكن نظام الحكم، الذي رأى نذر الخطر الداهم في ثورتي تونس ومصر، كان يحشد قواه ويخطط للمواجهة.
سعى نظام العقيد في الأيام الأولى من الانتفاضة الشعبية الليبية لإقناع العالم بأنه يواجه إسلاميين جهاديين وخلايا القاعدة وليس الشعب الليبي. وظناً بأن ادعاءاته قد نجحت في إثارة مخاوف شركائه الأوروبيين، لم يحاول حتى اللجوء إلى الوسائل المعتادة في قمع المتظاهرين، بل أمر وأبناؤه كتائب النظام الأمنية باستخدام كافة الأسلحة لإخماد الثورة الشعبية.
خلال أسابيع قليلة، وبعد أن قرر الليبيون أن ثورتهم لا يمكن أن تنتهي سوى بإطاحة نظام الحكم وأدواته، وأنهم أمام خيار الفناء أو الدفاع عن أنفسهم، اضطروا إلى حمل السلاح لمواجهة قوات النظام، واكتسبت الثورة الليبية طابع الثورة المسلحة.
في اليمن، بدأ النظام من منتصف فبراير بمواجهة المتظاهرين الشبان بقوة السلاح؛ ولكنه سرعان ما تراجع عن العنف الشامل بعد أن أدرك اتساع نطاق الحركة الشعبية وانضمام أغلب قبائل اليمن لحركة الشباب ومطالبها.
وربما ظن النظام أن الحركة يمكن احتواؤها بعدد من الوعود والتنازلات، وإطلاق جولة جديدة من الحوار مع الأحزاب السياسية اليمنية المعارضة، التي فوجئت هي الأخرى بحركة الشباب واستمرارها.
ولكن مطالب الثورة اليمنية لم تكن أقل رسوخا عن مطالب مثيلاتها في تونس ومصر؛ وسرعان ما اتضح أن مناورات النظام السياسية واعتذاراته المتكررة وغير الصادقة تماماً لن تجد نفعاً؛ ولجأ النظام بالتالي إلى تطوير أسلوب ’بلطجية’ النظام المصري، الذين أطلقوا لقمع شبان ميدان التحرير يوم الأربعاء 2 فبراير.
ما قام به النظام اليمني هذه المرة كان إطلاق عصابات أمنية مسلحة، تأتمر بأمر رجالات الرئيس، لإحداث مجزرة مكشوفة في صفوف الشبان اليمنيين في صنعاء وتعز، ظاناً ربما أن بالإمكان دفع الشبان المعتصمين في ميادين المدن اليمنية إلى امتشاق السلاح وتوفير المبرر لإشعال حرب مسلحة ضد الشعب وثورته. لم يقع اليمنيون في فخ النظام؛ ولكن ليس ثمة من مؤشر على أن الحكم اليمني قد توقف عن استخدام العنف.
ولم يكن المشهد السوري أكثر اختلافاً بكثير، وإن كان نهج نظام الحكم أكثر تعقيداً. انطلقت الانتفاضة الشعبية السورية بمظاهرة سوق الحريقة في 15 مارس، التي لم تستمر سوى دقائق معدودة قبل أن تحاصرها قوات الأمن وتنجح في تفريقها واعتقال عدد من منظميها.
خلال الأيام القليلة التالية، كانت الانتفاضة الصغيرة في الحي الدمشقي القديم تتطور إلى حركة شعبية واسعة، تطال أغلب المدن السورية، من حلب وحمص إلى درعا، ومن ريف دمشق إلى القامشلي ودير الزور. وإن كان الشعب بانتظار الشرارة، فقد كان النظام قد وضع خطته لمواجهة الحراك الشعبي.
لن يشهد العالم ’بلطجية’ النظام يهاجمون المتظاهرين في المدن السورية، ولن يلجأ النظام إلى الابتكار اليمني البسيط الذي لم يقنع أحداً عندما ادعى ناطقو عبد الله صالح أن قتلة الشعب لم يكونوا سوى القاطنين في جوار ميدان التغيير.
النظام السوري أكثر حنكة؛ فقد نشر الآلاف من المسلحين من أعوان النظام في أنحاء المدن السورية، وبدأ هؤلاء إطلاق النار على المتظاهرين وقوات الأمن في الآن نفسه، بهدف إظهار الانتفاضة الشعبية السورية وكأنها حركة فوضى مسلحة، وأن قتلة الشعب ليسوا سوى عصابات إرهابية نجحت في اختراق المدن السورية، بات من الضروري استخدام أقصى درجات العنف لمواجهتها وحماية الأمن السوري.
ولكن أحداً من ناطقي النظام لم يقل للسوريين والرأي العام العالمي كيف نجحت العصابات المسلحة في الانتشار في المدن السورية، من الشمال إلى الجنوب، بدون أن تستطيع أجهزة الأمن المتعددة محاصرتها والقبض على عناصرها، وكيف نجح التلفاز السوري في تصوير مجموعات الإرهابيين هذه ولم ينجح رجال الأمن في الوصول إليها، ولماذا لا تقوم هذه العصابات بإطلاق النار على المظاهرات المؤيدة للنظام كما تفعل في إيقاع عشرات القتلى في صفوف المتظاهرين من أجل الحرية وضد الاستبداد.
وليس العنف الأمني المسلح هو الوسيلة الوحيدة التي تسلح بها النظام العربي في مواجهة الموجة الثانية للثورة العربية.
يرتكز النظام الليبي، بالرغم من التحرك الدولي لحماية الشعب من عنف النظام، إلى سلسلة من العلاقات الخارجية، العربية وغير العربية، التي يمكن أن تمد له يد العون أو تفتح له نافذة ما للخروج من الأزمة المستحكمة التي يواجهها.
ثمة دعم جزائري، مثلاً، وموقف تركي مرتبك بين المصالح الاقتصادية في ليبيا العقيد والالتزام الإسلامي الأخلاقي تجاه الشعب الليبي، وسياسة روسية مركبة من تأييد الإرادة الدولية والرغبة في توريط الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية في رمال الصحراء الليبية المتحركة، وعدد من الدول الإفريقية التي تدين للنظام الليبي بالكثير من الدعم المالي والسياسي الذي قدم لها في العقدين الماضيين.
ويستند النظام اليمني في مقاومته للثورة الشعبية ورفضه الانصياع لمطالب الشعب في التنحي إلى مخاوف غربية واسعة، وعربية محدودة، من نشاطات مجموعات القاعدة وما بدا في السنوات القليلة الماضية من نفوذ إيراني متزايد في أوساط المسلحين الحوثيين.
طوال السنوات القليلة الماضية، فتح النظام أبواب بلاده للنشاطات الأمريكية الاستخباراتية والعسكرية، وصنع انطباعاً ما بأنه الوحيد القادر على منع توسع النفوذ الإيراني في جنوب الجزيرة العربية.
واليوم، تستشعر الولايات المتحدة وأغلب دول مجلس التعاون الخليجي أن إطاحة نظام عبد الله صالح قد يودي باليمن إلى منحدر من الفوضى والفراغ الأمني ـ السياسي، ما قد يجعل من اليمن مقراً مستعصياً للقاعدة ومجالاً جديداً للنفوذ الإيراني.
هذه المخاوف أصبحت مصدر الطاقة الوحيد المتبقي لنظام لا تكاد توجد مدينة في شماله أو جنوبه إلا وخرجت مطالبة بخروجه، وهي وحدها التي تطيل من أمد ثورة لا يمكن الشك في نتائجها.
وليس ثمة شك في أن وضع النظام السوري وعلاقاته الخارجية أكثر تعقيداً. وقف هذا النظام في وجه الضغوط الغربية طوال سنوات، ولم يتردد في اختيار جانب معسكر المقاومة للانتشار الأمريكي في المشرق العربي - الإسلامي والعدوان الإسرائيلي.
وقد اكتسب النظام السوري موقعاً مميزاً وخاصاً في الخارطة السياسية العربية. ولكن النظام السوري لا يقل استبداداً وتحكماً وفساداً عن بقية الأنظمة العربية، سواء تلك التي أطاحت بها الشعوب أو التي تواجه ثورات شعبية.
ولكن الواضح أنه لا تكاد توجد دولة عربية أو إقليمية واحدة ترغب في رؤية سقوطه وانهياره، لا مصر أو السعودية، ولا الولايات المتحدة أو تركيا، ولا إيران أو الدولة العبرية. البعض تربطه بدمشق الأسد علاقات تحالف إستراتيجية عميقة، والبعض يعتقد أن من الأفضل تشجيعه على الإصلاح، بدلاً من إدخال سورية إلى أتون عنف لا يعرف مداه، والبعض يرى أن التعامل مع هذا النظام أقل خطراً من مواجهة المجهول المحتمل.
في ليبيا، اضطر قطاع من المجتمع الدولي التدخل العسكري المتردد لتوفير حماية محدودة لبعض الليبيين في بعض المدن، بدون أن يساعد الثوار فعلاً على حسم الموقف عسكرياً. وفي الآن نفسه، يتجاهل العالم إلى حد كبير ما يجري في اليمن وسورية.
التباس الموقف العالمي من الثورة الليبية، وتجاهل الوضعين السوري واليمني، من ناحية، ومظاهر العنف التي اصطنعتها أنظمة الحكم، من ناحية أخرى، تؤخر انتصار إرادة الشعوب.
ما يجب أن يكون واضحاً أن المجال العربي يعيش نقلة تاريخية، وليس مجرد انتفاضات محلية هنا وهناك لتحقيق مطالب خاصة للتونسيين وللمصريين والسوريين والليبيين واليمنيين.
تأخر انتصار إرادة الشعوب في هذا الإقليم أو ذاك، لن يوقف تيار التغيير والإصلاح الجارف.
المسألة الهامة في هذا المشهد العربي أن على الشعوب تجنب العنف ورفع السلاح مهما بلغ عنف أنظمة الحكم من دموية، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وأن تدرك أن إرادتها فقط، وليس قوى الخارج، هي من يصنع التغيير.
*العصر
ما يجب أن يكون واضحاً أن المجال العربي يعيش نقلة تاريخية، وليس مجرد انتفاضات محلية هنا وهناك لتحقيق مطالب خاصة للتونسيين وللمصريين والسوريين والليبيين واليمنيين. تأخر انتصار إرادة الشعوب في هذا الإقليم أو ذاك، لن يوقف تيار التغيير والإصلاح الجارف. المسألة الهامة في هذا المشهد العربي أن على الشعوب تجنب العنف ورفع السلاح مهما بلغ عنف أنظمة الحكم من دموية،
بعد الانتصار المدوي للثورة العربية الشعبية في تونس ومصر، أخذ مسار الثورة العربية التحررية في مواجهة عقبات متزايدة.
في ليبيا واليمن وسورية، شهدت الأسابيع الماضية تصاعداً كبيراً للعنف الذي توظفه أنظمة الحكم لقمع حركة الجماهير ومحاصرة تطلعاتها. الأنظمة العربية التي فوجئت بالحراك الشعبي العربي واسع النطاق في يناير وفبراير، تبدو الآن كأنها التقطت أنفاسها وبدأت تعيد ترتيب أوراقها.
ليس ثمة مؤشر على أن هذه الأنظمة تعمل بجدية كافية ومصداقية للاستجابة لرغبات الشعوب العربية؛ ما تحاوله هذه الأنظمة في الحقيقة هو اللجوء إلى أساليب أمنية وتآمرية جديدة لتسويغ الاستخدام واسع النطاق للعنف، والارتكاز إلى منظومة من العلاقات الخارجية، الدولية والإقليمية، لمحاصرة ردود الفعل العالمية على المجازر التي ترتكبها آلات القمع الرسمية في صفوف الشعوب.
مثل هذا التطور في مسار الثورة العربية سيؤخر انتصارها في هذا القطر أو ذاك، ولكنه لن يؤدي إلى تعطيل مسارها التاريخي.
عندما انطلقت الثورة الشعبية الليبية من مدينة بنغازي في 15 فبراير الماضي (التي استعارت ذكرى 17 فبراير 2006)، لم يكن لدى الجماهير التي تحركت على خطى الأشقاء في تونس ومصر أية توجهات عنف مسلح.
ولم يعكس اتساع نطاق حركة التظاهرات الشعبية في إجدابيا والبيضاء ومصراتة وطرابلس والزنتان والزاوية أية توجهات نحو التسلح. كما أشقاؤهم في تونس ومصر، اعتقد الليبيون أن الحركة السلمية ستوصلهم في النهاية إلى أهدافهم.
وحتى الأيام الدموية الأربعة التي شهدت حصار الشعب لمقر كتيبة الفضيل الأمنية بمدينة بنغازي، إلى أن نجح الأهالي في تحرير مدينتهم من آلة النظام القمعية الهائلة، لم يصاحبها نزوع شعبي إلى التسلح. ولكن نظام الحكم، الذي رأى نذر الخطر الداهم في ثورتي تونس ومصر، كان يحشد قواه ويخطط للمواجهة.
سعى نظام العقيد في الأيام الأولى من الانتفاضة الشعبية الليبية لإقناع العالم بأنه يواجه إسلاميين جهاديين وخلايا القاعدة وليس الشعب الليبي. وظناً بأن ادعاءاته قد نجحت في إثارة مخاوف شركائه الأوروبيين، لم يحاول حتى اللجوء إلى الوسائل المعتادة في قمع المتظاهرين، بل أمر وأبناؤه كتائب النظام الأمنية باستخدام كافة الأسلحة لإخماد الثورة الشعبية.
خلال أسابيع قليلة، وبعد أن قرر الليبيون أن ثورتهم لا يمكن أن تنتهي سوى بإطاحة نظام الحكم وأدواته، وأنهم أمام خيار الفناء أو الدفاع عن أنفسهم، اضطروا إلى حمل السلاح لمواجهة قوات النظام، واكتسبت الثورة الليبية طابع الثورة المسلحة.
في اليمن، بدأ النظام من منتصف فبراير بمواجهة المتظاهرين الشبان بقوة السلاح؛ ولكنه سرعان ما تراجع عن العنف الشامل بعد أن أدرك اتساع نطاق الحركة الشعبية وانضمام أغلب قبائل اليمن لحركة الشباب ومطالبها.
وربما ظن النظام أن الحركة يمكن احتواؤها بعدد من الوعود والتنازلات، وإطلاق جولة جديدة من الحوار مع الأحزاب السياسية اليمنية المعارضة، التي فوجئت هي الأخرى بحركة الشباب واستمرارها.
ولكن مطالب الثورة اليمنية لم تكن أقل رسوخا عن مطالب مثيلاتها في تونس ومصر؛ وسرعان ما اتضح أن مناورات النظام السياسية واعتذاراته المتكررة وغير الصادقة تماماً لن تجد نفعاً؛ ولجأ النظام بالتالي إلى تطوير أسلوب ’بلطجية’ النظام المصري، الذين أطلقوا لقمع شبان ميدان التحرير يوم الأربعاء 2 فبراير.
ما قام به النظام اليمني هذه المرة كان إطلاق عصابات أمنية مسلحة، تأتمر بأمر رجالات الرئيس، لإحداث مجزرة مكشوفة في صفوف الشبان اليمنيين في صنعاء وتعز، ظاناً ربما أن بالإمكان دفع الشبان المعتصمين في ميادين المدن اليمنية إلى امتشاق السلاح وتوفير المبرر لإشعال حرب مسلحة ضد الشعب وثورته. لم يقع اليمنيون في فخ النظام؛ ولكن ليس ثمة من مؤشر على أن الحكم اليمني قد توقف عن استخدام العنف.
ولم يكن المشهد السوري أكثر اختلافاً بكثير، وإن كان نهج نظام الحكم أكثر تعقيداً. انطلقت الانتفاضة الشعبية السورية بمظاهرة سوق الحريقة في 15 مارس، التي لم تستمر سوى دقائق معدودة قبل أن تحاصرها قوات الأمن وتنجح في تفريقها واعتقال عدد من منظميها.
خلال الأيام القليلة التالية، كانت الانتفاضة الصغيرة في الحي الدمشقي القديم تتطور إلى حركة شعبية واسعة، تطال أغلب المدن السورية، من حلب وحمص إلى درعا، ومن ريف دمشق إلى القامشلي ودير الزور. وإن كان الشعب بانتظار الشرارة، فقد كان النظام قد وضع خطته لمواجهة الحراك الشعبي.
لن يشهد العالم ’بلطجية’ النظام يهاجمون المتظاهرين في المدن السورية، ولن يلجأ النظام إلى الابتكار اليمني البسيط الذي لم يقنع أحداً عندما ادعى ناطقو عبد الله صالح أن قتلة الشعب لم يكونوا سوى القاطنين في جوار ميدان التغيير.
النظام السوري أكثر حنكة؛ فقد نشر الآلاف من المسلحين من أعوان النظام في أنحاء المدن السورية، وبدأ هؤلاء إطلاق النار على المتظاهرين وقوات الأمن في الآن نفسه، بهدف إظهار الانتفاضة الشعبية السورية وكأنها حركة فوضى مسلحة، وأن قتلة الشعب ليسوا سوى عصابات إرهابية نجحت في اختراق المدن السورية، بات من الضروري استخدام أقصى درجات العنف لمواجهتها وحماية الأمن السوري.
ولكن أحداً من ناطقي النظام لم يقل للسوريين والرأي العام العالمي كيف نجحت العصابات المسلحة في الانتشار في المدن السورية، من الشمال إلى الجنوب، بدون أن تستطيع أجهزة الأمن المتعددة محاصرتها والقبض على عناصرها، وكيف نجح التلفاز السوري في تصوير مجموعات الإرهابيين هذه ولم ينجح رجال الأمن في الوصول إليها، ولماذا لا تقوم هذه العصابات بإطلاق النار على المظاهرات المؤيدة للنظام كما تفعل في إيقاع عشرات القتلى في صفوف المتظاهرين من أجل الحرية وضد الاستبداد.
وليس العنف الأمني المسلح هو الوسيلة الوحيدة التي تسلح بها النظام العربي في مواجهة الموجة الثانية للثورة العربية.
يرتكز النظام الليبي، بالرغم من التحرك الدولي لحماية الشعب من عنف النظام، إلى سلسلة من العلاقات الخارجية، العربية وغير العربية، التي يمكن أن تمد له يد العون أو تفتح له نافذة ما للخروج من الأزمة المستحكمة التي يواجهها.
ثمة دعم جزائري، مثلاً، وموقف تركي مرتبك بين المصالح الاقتصادية في ليبيا العقيد والالتزام الإسلامي الأخلاقي تجاه الشعب الليبي، وسياسة روسية مركبة من تأييد الإرادة الدولية والرغبة في توريط الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية في رمال الصحراء الليبية المتحركة، وعدد من الدول الإفريقية التي تدين للنظام الليبي بالكثير من الدعم المالي والسياسي الذي قدم لها في العقدين الماضيين.
ويستند النظام اليمني في مقاومته للثورة الشعبية ورفضه الانصياع لمطالب الشعب في التنحي إلى مخاوف غربية واسعة، وعربية محدودة، من نشاطات مجموعات القاعدة وما بدا في السنوات القليلة الماضية من نفوذ إيراني متزايد في أوساط المسلحين الحوثيين.
طوال السنوات القليلة الماضية، فتح النظام أبواب بلاده للنشاطات الأمريكية الاستخباراتية والعسكرية، وصنع انطباعاً ما بأنه الوحيد القادر على منع توسع النفوذ الإيراني في جنوب الجزيرة العربية.
واليوم، تستشعر الولايات المتحدة وأغلب دول مجلس التعاون الخليجي أن إطاحة نظام عبد الله صالح قد يودي باليمن إلى منحدر من الفوضى والفراغ الأمني ـ السياسي، ما قد يجعل من اليمن مقراً مستعصياً للقاعدة ومجالاً جديداً للنفوذ الإيراني.
هذه المخاوف أصبحت مصدر الطاقة الوحيد المتبقي لنظام لا تكاد توجد مدينة في شماله أو جنوبه إلا وخرجت مطالبة بخروجه، وهي وحدها التي تطيل من أمد ثورة لا يمكن الشك في نتائجها.
وليس ثمة شك في أن وضع النظام السوري وعلاقاته الخارجية أكثر تعقيداً. وقف هذا النظام في وجه الضغوط الغربية طوال سنوات، ولم يتردد في اختيار جانب معسكر المقاومة للانتشار الأمريكي في المشرق العربي - الإسلامي والعدوان الإسرائيلي.
وقد اكتسب النظام السوري موقعاً مميزاً وخاصاً في الخارطة السياسية العربية. ولكن النظام السوري لا يقل استبداداً وتحكماً وفساداً عن بقية الأنظمة العربية، سواء تلك التي أطاحت بها الشعوب أو التي تواجه ثورات شعبية.
ولكن الواضح أنه لا تكاد توجد دولة عربية أو إقليمية واحدة ترغب في رؤية سقوطه وانهياره، لا مصر أو السعودية، ولا الولايات المتحدة أو تركيا، ولا إيران أو الدولة العبرية. البعض تربطه بدمشق الأسد علاقات تحالف إستراتيجية عميقة، والبعض يعتقد أن من الأفضل تشجيعه على الإصلاح، بدلاً من إدخال سورية إلى أتون عنف لا يعرف مداه، والبعض يرى أن التعامل مع هذا النظام أقل خطراً من مواجهة المجهول المحتمل.
في ليبيا، اضطر قطاع من المجتمع الدولي التدخل العسكري المتردد لتوفير حماية محدودة لبعض الليبيين في بعض المدن، بدون أن يساعد الثوار فعلاً على حسم الموقف عسكرياً. وفي الآن نفسه، يتجاهل العالم إلى حد كبير ما يجري في اليمن وسورية.
التباس الموقف العالمي من الثورة الليبية، وتجاهل الوضعين السوري واليمني، من ناحية، ومظاهر العنف التي اصطنعتها أنظمة الحكم، من ناحية أخرى، تؤخر انتصار إرادة الشعوب.
ما يجب أن يكون واضحاً أن المجال العربي يعيش نقلة تاريخية، وليس مجرد انتفاضات محلية هنا وهناك لتحقيق مطالب خاصة للتونسيين وللمصريين والسوريين والليبيين واليمنيين.
تأخر انتصار إرادة الشعوب في هذا الإقليم أو ذاك، لن يوقف تيار التغيير والإصلاح الجارف.
المسألة الهامة في هذا المشهد العربي أن على الشعوب تجنب العنف ورفع السلاح مهما بلغ عنف أنظمة الحكم من دموية، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وأن تدرك أن إرادتها فقط، وليس قوى الخارج، هي من يصنع التغيير.
*العصر