د . سلمان بن فهد العودة
يُؤْثَر عن الشيخ محمد عبده، أنه بلغ من كرهه للسياسة، بعدما سُجن بتهمة الصِّلة بالثورة العرابية عام 1882م أن قال: «أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال ببالي من السياسة، ومن كل أرض تُذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلّم أو يتعلّم أو يُجَنّ أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس». لم يعد ملائماً أن نلعن السياسة، فهي جزء من الحياة، واتّصالها بالغدر والنهب والخداع والقتل هو نتاج انفصالها عن القيم العليا: العدل والحرية والكرامة، وغياب المؤسسات التي تمثّل الرقابة الحقيقية، وتعبّر عن ضمائر الشعوب الحية. والسياسة في العالم الغربي، وإن مارست الاستعمار في الماضي، وألواناً من التدخّل المصلحي في الحاضر، واتّسمت بنوع من النفاق في استخدام حقوق الإنسان كوسيلة ضغط، والكيل بمكيالين في العديد من المواقف.. إلا أنها فيما يخصّ شعوبها تتسم بقدر من المسؤولية والمصداقية، وقد يسقط رئيس حكومة أو رئيس دولة بسبب «فضيحة»، لا تعدو أن تكون اتصالاً هاتفياً لتسريع معاملة صديق أو صديقة، بإجراءات نظامية، أو إثراء غير مشروع، قد يكون امتلاك قلم حصل عليه كهدية، أو تهرّباً من ضريبة، أو امتلاك شقة متواضعة في البلد! وقديماً وصف عمرو بن العاص الروم بأنهم: «أمنع الناس من ظلم الملوك» كما في صحيح مسلم. دعنا من هذا، فحديثي هنا ليس عن السّاسة والسياسة.. هو حديث عن نفسي. لقد أوحى إليّ الحراك الشعبي الشبابي العربي بأفكار جديدة، وصنع لديّ مزاجاً غير عادي.. صراحةً لقد أنكرت نفسي! الفجوة، بل الهوّة السّحيقة التي تفصل جيلاً من الشباب، يشكّل 70% من الشعوب، ويتراوح ما بين 17 - 23 عاماً، وبين الآباء والقادة الإداريين الذين يتجاوزون ضعف هذا السن بمرتين أو ثلاث.. وما ينتج عن ذلك من انقطاع الاتصال بينهم كلياً، وصعوبة فهم بعضهم بعضاً، وكأنّ الشاب يبثّ على موجة لا يلتقطها أولئك الآباء! وحديث الآباء والأمهات الذي يعجز عن تفهيم الشباب الرسالة التي يريدون إيصالها. ساءلت نفسي، وقد تجاوزت الخمسين: هل أنا متأكد من شعور أبنائي وبناتي تجاهي؟ هل هم راضون عن أدائي؟ ما حقيقة مشاعرهم نحوي كأب؟.. أهي المجاملة والصمت وكظم الغيظ، أم التعذير لي بأني ابن مرحلة غير التي يعيشون؟ أم هي خليط من الرضا والعذر والعتب..! وإن كانت الثالثة، فهي عندي أفضل الخيارات، لأنني على يقين أن ثَمّ ما يستحق العتب في طبيعة علاقتي معهم. وساءلت نفسي عن العاملين معي.. بعدما رأيت تهاوي حكام كانوا يظنون أن شعوبهم تحبهم وتفديهم بالنفس والنفيس إذا لزم الأمر، لأن هؤلاء الحكام يحبون أنفسهم ويظنون الناس مثلهم.. ما مدى رضا العاملين عني، عن علاقتي بهم، وأخلاقي معهم، وتقديري لأشخاصهم، وحفظي لمقاماتهم؟.. دعك من الجانب المادي. الإنسان ليس جسداً فحسب، وقد ينظر أحياناً إلى ما تعطيه على أنه «رشوة» لتسكين غضبه وانفعاله، وقد تعطيه العطاء بمنٍّ أو أذى، فلا يقع موقعه من نفسه، وكما قال ربنا سبحانه: {قٍوًلِ مَّعًرٍوفِ $ّمّغًفٌرّةِ خّيًرِ مٌَن صّدّقّةُ يّتًبّعٍهّا أّذْى}(البقرة:263)، وكما قال ابن عباس: كلام حسن لأخيك في المغيب بالدعاء والثناء وتجاوز عن مظلمة، خَيْر لك وله من صدقة تمنّ بها عليه وتؤذيه. وساءلت نفسي: ما مدى قربي وفهمي لشباب وطني، وشباب العرب والمسلمين، الذين أتّصلُ بهم عبر الشبكات الاجتماعية، وفي «الفيسبوك» و«تويتر»، وعبر «الإيميل» والمواقع والمنتديات والجوّال وعبر المسجد والمنزل والشارع..؟ إِنّ الشَّبابَ حُجَّةُ التَّصَابِي رَوَائِحُ الجنَّة فِي الشَّبَابِ هل يكفي أن تكون الرسالة صادرة مني إليهم، دون أن أسمع رجع الصدى! لقد هزّتني رسالة بعث بها إليّ أحد مستمعيَّ من الشباب المحبين يقول: كتلميذ في مدرسة «الحياة كلمة» أسأل لا للسؤال فقط: هل من حقّ كلّ تلميذ أن يشارك في تقرير مصير مدرسته، أم عليه أن يجلس في كرسيّه كعربي ما قبل ثورة تونس، يتلقى ويسمع، ويُملَى عليه ما تريده إدارة ما، وتقول في الأخير: نحن صوت الجمهور وإرادة الشعب! ونرحب بأيّ رأي ونسعد به، فما نحن إلا مساحة له؟! هل نستطيع أن نقرأ من الصوت المنفرد الشجاع أنه امتداد لصوت أمّة ما في أمّة ما؟! أم علينا أن نخرج إلى ميدان ما، في ساعة ما، نرفع شعاراً ما: «التلاميذ يريدون تغيير الأداة»؟! شيخي، أضحت الكلمة نبضاً للقلب في موعدها، لا أفارقها ولا تفارقني في كل حال، شباب ما بعد ثورة تونس ليس شباب ما قبلها! إن حركة التغيير تدفع الكون إلى التغيير، فهل تؤمن بها أم ستجهضها؟ ألم تحن ساعة الصفر للتغيير؟! وبدوري أسأل: ألم تحن ساعة الإصغاء للشباب، والاستماع الجاد لبوحهم؟ أم ترانا نريد أن نسفّه أحلامهم، ونفاخر بتجاربنا في الحياة حتى نصحو على واقع صنعه الجيل الذي ظننا أنه مثلنا مُكبّل بالمرارة؟ يا شبابي الواعد المتطلع في «الفيسبوك» وأدوات الوصل الأخرى.. ويا فتياتي.. دعونا نزيح الحواجز بيننا، ونتصارح ونبوح، ويحترم أحدنا حق الآخر في الاختلاف، ولو كان المختلف معنا أكبر منا، فما كل كبير فاقد للبوصلة ولا عاجز عن التحديث، وآمل ألا تجدونا أيها الشباب يوماً وقد تحالفنا معشر الكهول وتجمعنا، لنسمعكم بالقسر صوتنا الذي ظننا أنه ضاع في الزحام!
*المجتمع
يُؤْثَر عن الشيخ محمد عبده، أنه بلغ من كرهه للسياسة، بعدما سُجن بتهمة الصِّلة بالثورة العرابية عام 1882م أن قال: «أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال ببالي من السياسة، ومن كل أرض تُذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلّم أو يتعلّم أو يُجَنّ أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس». لم يعد ملائماً أن نلعن السياسة، فهي جزء من الحياة، واتّصالها بالغدر والنهب والخداع والقتل هو نتاج انفصالها عن القيم العليا: العدل والحرية والكرامة، وغياب المؤسسات التي تمثّل الرقابة الحقيقية، وتعبّر عن ضمائر الشعوب الحية. والسياسة في العالم الغربي، وإن مارست الاستعمار في الماضي، وألواناً من التدخّل المصلحي في الحاضر، واتّسمت بنوع من النفاق في استخدام حقوق الإنسان كوسيلة ضغط، والكيل بمكيالين في العديد من المواقف.. إلا أنها فيما يخصّ شعوبها تتسم بقدر من المسؤولية والمصداقية، وقد يسقط رئيس حكومة أو رئيس دولة بسبب «فضيحة»، لا تعدو أن تكون اتصالاً هاتفياً لتسريع معاملة صديق أو صديقة، بإجراءات نظامية، أو إثراء غير مشروع، قد يكون امتلاك قلم حصل عليه كهدية، أو تهرّباً من ضريبة، أو امتلاك شقة متواضعة في البلد! وقديماً وصف عمرو بن العاص الروم بأنهم: «أمنع الناس من ظلم الملوك» كما في صحيح مسلم. دعنا من هذا، فحديثي هنا ليس عن السّاسة والسياسة.. هو حديث عن نفسي. لقد أوحى إليّ الحراك الشعبي الشبابي العربي بأفكار جديدة، وصنع لديّ مزاجاً غير عادي.. صراحةً لقد أنكرت نفسي! الفجوة، بل الهوّة السّحيقة التي تفصل جيلاً من الشباب، يشكّل 70% من الشعوب، ويتراوح ما بين 17 - 23 عاماً، وبين الآباء والقادة الإداريين الذين يتجاوزون ضعف هذا السن بمرتين أو ثلاث.. وما ينتج عن ذلك من انقطاع الاتصال بينهم كلياً، وصعوبة فهم بعضهم بعضاً، وكأنّ الشاب يبثّ على موجة لا يلتقطها أولئك الآباء! وحديث الآباء والأمهات الذي يعجز عن تفهيم الشباب الرسالة التي يريدون إيصالها. ساءلت نفسي، وقد تجاوزت الخمسين: هل أنا متأكد من شعور أبنائي وبناتي تجاهي؟ هل هم راضون عن أدائي؟ ما حقيقة مشاعرهم نحوي كأب؟.. أهي المجاملة والصمت وكظم الغيظ، أم التعذير لي بأني ابن مرحلة غير التي يعيشون؟ أم هي خليط من الرضا والعذر والعتب..! وإن كانت الثالثة، فهي عندي أفضل الخيارات، لأنني على يقين أن ثَمّ ما يستحق العتب في طبيعة علاقتي معهم. وساءلت نفسي عن العاملين معي.. بعدما رأيت تهاوي حكام كانوا يظنون أن شعوبهم تحبهم وتفديهم بالنفس والنفيس إذا لزم الأمر، لأن هؤلاء الحكام يحبون أنفسهم ويظنون الناس مثلهم.. ما مدى رضا العاملين عني، عن علاقتي بهم، وأخلاقي معهم، وتقديري لأشخاصهم، وحفظي لمقاماتهم؟.. دعك من الجانب المادي. الإنسان ليس جسداً فحسب، وقد ينظر أحياناً إلى ما تعطيه على أنه «رشوة» لتسكين غضبه وانفعاله، وقد تعطيه العطاء بمنٍّ أو أذى، فلا يقع موقعه من نفسه، وكما قال ربنا سبحانه: {قٍوًلِ مَّعًرٍوفِ $ّمّغًفٌرّةِ خّيًرِ مٌَن صّدّقّةُ يّتًبّعٍهّا أّذْى}(البقرة:263)، وكما قال ابن عباس: كلام حسن لأخيك في المغيب بالدعاء والثناء وتجاوز عن مظلمة، خَيْر لك وله من صدقة تمنّ بها عليه وتؤذيه. وساءلت نفسي: ما مدى قربي وفهمي لشباب وطني، وشباب العرب والمسلمين، الذين أتّصلُ بهم عبر الشبكات الاجتماعية، وفي «الفيسبوك» و«تويتر»، وعبر «الإيميل» والمواقع والمنتديات والجوّال وعبر المسجد والمنزل والشارع..؟ إِنّ الشَّبابَ حُجَّةُ التَّصَابِي رَوَائِحُ الجنَّة فِي الشَّبَابِ هل يكفي أن تكون الرسالة صادرة مني إليهم، دون أن أسمع رجع الصدى! لقد هزّتني رسالة بعث بها إليّ أحد مستمعيَّ من الشباب المحبين يقول: كتلميذ في مدرسة «الحياة كلمة» أسأل لا للسؤال فقط: هل من حقّ كلّ تلميذ أن يشارك في تقرير مصير مدرسته، أم عليه أن يجلس في كرسيّه كعربي ما قبل ثورة تونس، يتلقى ويسمع، ويُملَى عليه ما تريده إدارة ما، وتقول في الأخير: نحن صوت الجمهور وإرادة الشعب! ونرحب بأيّ رأي ونسعد به، فما نحن إلا مساحة له؟! هل نستطيع أن نقرأ من الصوت المنفرد الشجاع أنه امتداد لصوت أمّة ما في أمّة ما؟! أم علينا أن نخرج إلى ميدان ما، في ساعة ما، نرفع شعاراً ما: «التلاميذ يريدون تغيير الأداة»؟! شيخي، أضحت الكلمة نبضاً للقلب في موعدها، لا أفارقها ولا تفارقني في كل حال، شباب ما بعد ثورة تونس ليس شباب ما قبلها! إن حركة التغيير تدفع الكون إلى التغيير، فهل تؤمن بها أم ستجهضها؟ ألم تحن ساعة الصفر للتغيير؟! وبدوري أسأل: ألم تحن ساعة الإصغاء للشباب، والاستماع الجاد لبوحهم؟ أم ترانا نريد أن نسفّه أحلامهم، ونفاخر بتجاربنا في الحياة حتى نصحو على واقع صنعه الجيل الذي ظننا أنه مثلنا مُكبّل بالمرارة؟ يا شبابي الواعد المتطلع في «الفيسبوك» وأدوات الوصل الأخرى.. ويا فتياتي.. دعونا نزيح الحواجز بيننا، ونتصارح ونبوح، ويحترم أحدنا حق الآخر في الاختلاف، ولو كان المختلف معنا أكبر منا، فما كل كبير فاقد للبوصلة ولا عاجز عن التحديث، وآمل ألا تجدونا أيها الشباب يوماً وقد تحالفنا معشر الكهول وتجمعنا، لنسمعكم بالقسر صوتنا الذي ظننا أنه ضاع في الزحام!
*المجتمع