د. حاكم المطيري
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للخلق أجمعين ليردهم إلى الفطرة والدين القويم وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ..
فقد شرفت بدعوة كريمة من المجلس الأعلى للدعوة التابع لوزارة الإرشاد والأوقاف في السودان لحضور مؤتمر (الآفاق المستقبلية للدعوة الإسلامية) بتاريخ 13 – 15 /10/ 2010م وقد قدم للمؤتمر نحو خمس وعشرين ورقة في قضايا الدعوة الإسلامية، وقد جاءت ورقتي (الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر وإشكالاته) في الجلسة الأولى، وهي في الأصل مقالتي (العقيدة السياسية ضرورتها وخطورتها وفقد الحركة الإسلامية لها)، وحين جاء دوري فاجأ عريف الندوة الحضور بقوله (والآن مع ورقة الدكتور حاكم المطيري وانتبهوا لكل كلمة فيها فهي خطيرة ..)!
وقد افتتحت الكلمة بتنبيهات بين يدي الموضوع وهي :
أولا : أن موضوع الورقة هو في إشكاليات الخطاب السياسي المعاصر، وليس في باقي المجالات التي نجحت الدعوة الإسلامية المعاصرة فيها كالمجال الدعوي والعلمي والتربوي والخيري والإغاثي والجهادي، حيث أن الحركات الإسلامية السياسية جاءت لهدف سياسي وهو استعادة الخلافة واستئناف الحياة الإسلامية من جديد، ومن هنا فالورقة تدرس أسباب إخفاق الحركة السياسية في تحقيق هذا الهدف أو المقاربة إليه.
ثانيا : أن الورقة تقتصر على الحركات الإسلامية السياسية ولا تتعرض للجماعات الدعوية والعلمية والخيرية ..الخ.
ثالثا : كما إن الورقة تنظر للحركة السياسية الإسلامية على اختلاف ألوان طيفها نظرة واحدة، إذ الأمة واحدة، والهدف واحد وهو استعادة الخلافة من جديد، وهذه الحركات تمثل تيارا سياسيا واحدا، وإن اختلفت مدارسه واجتهاداته.
رابعا : إن الورقة جاءت لتثير أسئلة واستشكالات أكثر من تقديم حلول وإجابات، فمن أراد معرفة الحلول في نظر الكاتب فبإمكانه الرجوع إلى كتابي (الحرية أو الطوفان) و(تحرير الإنسان) و(الفرقان) و(أهل السنة والجماعة الإشكالية العقائدية والأزمة السياسية).
ثم طرحت أسئلة حول أزمة الحركة الإسلامية السياسية المعاصرة؟ ولماذا تراجع خطابها السياسي حتى صارت تعترف بالقطرية والوطنية والأنظمة الحاكمة على اختلاف مستويات هذا الاعتراف بعد أن كانت تطمح لاستعادة الخلافة الواحدة والأمة الواحدة؟
وكيف وصل الحال بها أن تورط بعضها وتحالف مع الاحتلال الأجنبي كما في العراق وأفغانستان حتى شاركت في حكومات الاحتلال التي تحاصر جيوشه المدن المقاومة، ليدكها على رؤوس أهلها، دون أن يخرجها مثل هذا التحالف من دائرة الحركة الإسلامية ودون أن يصطدم بأصل من أصول عقيدتها؟
وكيف صارت الحكومات العربية التي يوظفها العدو المحتل في مشروعه الاستعماري حكومات شرعية أو لها ولاية شرعية مع أن أصول الخطاب العقائدي وكذا الحكم الفرعي الفقهي يقرر بأن مثل هذا الفعل ردة وكفر!
ثم شرعت في اختصار الورقة بحسب الوقت المتاح، وبصراحة الأعرابي التي فطرت عليها، فأنا بطبعي لا أحب المجاملة على حساب الحق، ولا المداهنة على حساب الدين،
فنحن إنما حضرنا لنصدق قومنا القول، ونخلصهم النصح، ونمحض لهم الرأي، وهذه حقيقة الدين كما في الصحيح (الدين النصيحة .. لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم)!
وهذا كله في حدود الأدب والخلق الكريم كما قال الأول :
وإني على ما كان من عنجهية..... ولوثة أعرابيتي لأديب!
وإنما يحملنا على هذا الأمر العظيم - الذي فرق بيننا وبين قومنا في الرأي، إذ لم يترك الحق لنا صديقا - الحب لله ولرسوله ولدينه وللأمة التي تواجه ما توجهه من تحديات غير مسبوقة، والحب للحركة الإسلامية التي أضاعت طريقها بعد أن قدمت خلال قرن من الزمن آلاف الشهداء والأبطال فإذا النتيجة هذا الواقع المعاصر للحركة الإسلامية حيث المراجعات تلو المراجعات حتى لم يبق من أهدافها إلا أن تعيش!
وإلا هذا التحالف مع الاحتلال أو مع حلفاء الاحتلال في كل قطر، ليرضى عنها الطاغوت وما هو عنها براض!
وقد تحدثت عن أزمة الحركة الإسلامية السياسية وأنها تتمثل في :
1- غياب أو ضبابية (العقيدة السياسية) التي هي أساس أي مشروع سياسي أو نظام حكم سياسي.
2- عدم وضوح (المشروع السياسي) الذي يفترض أن يقوم على الكتاب والسنة حيث صار ما يقدمه الإسلاميون لا يختلف عما يدعو إليه الإصلاحيون السياسيون الوطنيون والليبراليون اللهم إلا بشعارات (الإسلام هو الحل)!
3- عدم تطوير آلية العمل التنظيمي السياسي حيث ما زالت الحركة الإسلامية تتنازع في مشروعية تأسيس الأحزاب السياسية فضلا عن تطويرها لتواكب تطور العصر ووسائله التي باتت فيه الأحزاب السياسية أهم أدوات التغيير السياسي في الدول المعاصرة!
ثم لما فرغت من الورقة جاء دور الأستاذ المعقب على الورقة والذي لم يقرأ الورقة إلا في تلك اللحظة كما يبدو، حيث استخف بها بتعالم فج وزعم بأن الورقة لم تعرّف العقيدة السياسية! مع أن الورقة عرّفت العقيدة السياسية مرتين!
كما زعم بأن (العقيدة السياسية) مصطلح مخترع!
مع أنه لا مشاحة في الاصطلاح إذ (النظام السياسي الإسلامي) و(الاقتصاد الإسلامي) و(الإعلام الإسلامي)..الخ كلها مصطلحات مخترعة عصرية إلا إن مضمونها ومعناها صحيح، وكذلك (العقيدة السياسية) هي من أصول الإيمان وأصول الدين إلا أننا استخدمنا هذا المصطلح لتقريب المعنى إلى الأذهان للتفريق بين الأصول العقائدية التي لها حكم وارتباط بالواقع السياسي كاعتقاد وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة، والأصول الإيمانية التي لا ارتباط لها بالواقع السياسي كالإيمان باليوم الآخر.
ثم أخذت المعقب حمية الجاهلية واختزل القضية كلها في الدفاع عن (الأخوان المسلمون)، واتهمني بأنني أقصدهم بهذه الورقة!
مع أن الورقة بدأت بنقد أداء الحركة السلفية والصوفية السياسي في مصر، قبل نقد الحركة السياسية الإسلامية!
ثم أخذ الأستاذ المعقب يتحدث عن مآثر (الأخوان المسلمون) وتاريخ نضالهم، بدلا من مناقشة الورقة وما جاء فيها!
ثم بعد انتهاء الجلسة جاء إلي كثير من أهل العلم والفضل من كل ألوان الطيف الدعوي السلفي والصوفي والحركي يؤكدون موافقتهم على ما جاء في الورقة، وأنها كشفت أزمة الحركة السياسية الإسلامية، وشخصت عللها، واعتذر لي كثير من (الأخوان المسلمون) عما بدر من الأستاذ المعقب وأنهم لا يقرونه على تصرفه الذي تجاوز حدود الأدب في المحاورة والمناقشة!
وقد قمت بعد المؤتمر بزيارة الشيخ العلامة الحبر يوسف مراقب الأخوان في السودان وتجاذبنا أطراف الحديث حول الورقة وما دار حولها من جدل فضحك وقال (ألا تعلم يا دكتور حاكم بأن مصطلح (الحركة الإسلامية) إذا أطلق لا يفهم منه إلا (الأخوان المسلمون) خاصة في السودان)؟!
وقد تجادل الناس في الورقة في جنبات المؤتمر ووصلني من أخبارها ما وصلني مما كشف لي عن وجه آخر للأزمة فلم يكن الخلل فقط في (العقيدة السياسية) بل تجاوزها إلى (الفطرة السياسية)!
وقد دار جدل بين المعقب على الورقة والشيخ الفاضل محمد الحبر:
قال الشيخ محمد للمعقب : ما هو موقف الحركة الإسلامية في العراق؟
فقال المعقب : انقسمت إلى ثلاثة أقسام قسم تعامل مع الاحتلال وقسم قاومه وقسم اعتزل ولكل اجتهاده!
فقال الشيخ محمد : بالله عليك حركة واحدة تنقسم إلى ثلاثة طوائف في قضية خطيرة مثل هذه القضية الواضحة الجلية ألا يدل ذلك على أزمة لدى الحركة الإسلامية السياسية كما جاء في ورقة الدكتور حاكم؟!
كما دار جدل بين قاض عادل وعالم فاضل في شأن الورقة وهذا فحوى ما دار بينهما بحسب ما بلغني بالمعنى لا بالنص:
فقال القاضي : ما رأيك فيما يدعو إليه الدكتور حاكم في كتبه؟
فقال العالم : لقد بالغ الدكتور حاكم في موضوع سنن الخلفاء الراشدين مع أنها لا تعدو أن تكون اجتهادات لهم قد تناسب عصرهم ولا تناسب عصرنا ولم يقل أحد بحجيتها!
فقال القاضي : يبدو أنك لم تقرأ كتب الدكتور؟
فقال العالم : قرأت شيئا منها !
فقال القاضي : المقصود بالسنن كما أفهم وكما في حديث(عليكم بسنتي وسنن الخلفاء الراشدين) هي الأصول التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي والتي أجمع عليها الخلفاء وقامت عليها الأدلة من الكتاب والسنة كالخلافة ووحدة الأمة وحق الأمة في اختيار السلطة بالرضا والشورى ..الخ
وليس المقصود اجتهاداتهم الفرعية! ثم ما هو الأصل عندك الذي يمكن أن نقول بأنه الأساس للنظام السياسي الإسلامي الذي إذا فقد زال عن النظام وصف كونه نظاما إسلاميا؟!
فقال العالم : بأن الإسلام جاء بمبادئ عامة وترك الباب مفتوحا لكل زمان ومكان ولا يوجد نظام محدد!
فقال القاضي : إذن ما ذكره الدكتور حاكم صحيح في أنه لا يوجد لدينا عقيدة سياسية محددة ولهذا صرنا نعترف بالأنظمة الحاكمة على اختلاف صورها؟
فقال العالم : لا توجد حركة إسلامية في العالم كله تعترف بالأنظمة الحاكمة الموجودة كما يزعم الدكتور !!
فقال القاضي : وما تسمي دخولها في هذه الحكومات واعترافها بشرعيتها ووصم كل من خرج عليها بأنه خارجي أليس في ذلك اعتراف لها بقدر من المشروعية؟
ثم ألا ترى بأن الدخول في تحالف مع حكومة احتلال والقتال معها ضد الأمة التي تجاهد هذا الاحتلال ردة وكفر؟!
فقال العالم : لا ليس هذا الفعل في حد ذاته كفرا وردة!
فقال القاضي : ومتى تكون مظاهرة الكافر المحتل والقتال معه في نظرك كفرا وردة؟
فقال العالم : إذا قصد المسلم بقتاله معهم ظهور دينهم على دين المسلمين!
فقال القاضي : وهل يتصور أن يقصد مسلم بقتاله معهم ظهور دينهم على دين المسلمين؟ فهذا القصد وحده يخرجه عن دائرة الإسلام حتى لو لم يقاتل معهم فبقيت مظاهرته لهم وقتاله معهم دون حكم!
قال العالم : المظاهرة لهم مظهر للكفر لا كفر بحد ذاته فلا بد من معرفة القصد!
فقال القاضي : دع عنا الحكم الشرعي أليس العقول تقضي بأن من يقف مع العدو في اعتدائه على أمة من الأمم يكون في نظر تلك الأمة عدوا مثله وله الحكم نفسه؟!
أليس من يقف من أفراد تلك الأمة مع العدو المحتل خائنا يستحق القتل لخيانته في نظر كل شعوب الأرض؟
فقال العالم : لا دخل للعقول في هذا الحكم بل الحكم للشرع!
فقال القاضي : ألا ترى بأننا قد وصلنا إلى الحال التي ذكرها الدكتور في ورقته حيث لم يعد هناك لدى الحركة الإسلامية السياسية أية قضية تستحق التضحية ولا الجهاد في سبيلها؟!
فقال العالم : التضحية من أجل الدين لا تقتضي القتال!
فقال القاضي : اذكر لي قضية واحدة إذن تستحق في نظرك القتال في سبيلها؟
فانقطع العالم الفاضل عن الحديث ولم تنقطع القضية بعد بل تجلت أزمة كبرى تعيشها الحركة الإسلامية المعاصرة بدعاتها وعلمائها ومفكريها وسياسييها إلا من رحم الله منهم!
لقد كشفت هذه المحاورة بين القاضي العادل والعالم الفاضل أزمة الأمة في عقلها قبل دينها وكما في الحديث (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)!
كما كشفت عن خطورة التصورات الدينية حين انحرافها على (الفطرة الإنسانية)!
لقد قرر المتكلمون والأصوليون من الأشاعرة بأنه لا حسن ولا قبح إلا ما حسنه الشرع أو قبحه وأنه لا حكم للعقل! وكان ذلك ردا على المعتزلة الذين قالوا بأن العقل يدرك الحسن والقبح ولهذا لا عذر لمن كفر بالله إذ توحيد الله واجب عقلا!
وقد رد على الطائفتين شيخ الإسلام ابن تيمية بأن هذا القول لا يعرف عن سلف الأمة بل هو قول محدث فالعقل هو مناط التكليف ولولا إدراك العقول حسن ما جاء به الشرع لما آمنت به فإذا قيل بأن العقول لا تدرك إلا ما حسنه الشرع لزم الدور وهو مستحيل عقلا!
كما قرر شيخ الإسلام بأن الصواب الذي دل عليه الكتاب هو أن العقول تدرك الحسن والقبح بما فطرها الله عليه ولهذا نعى القرآن على المشركين تعطيلهم لعقولهم{أفلا تعقلون} إلا أنه لا ثواب ولا عقاب إلا بعد ورود الشرع {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
ومن هنا ندرك خطورة الخطأ في الفتوى والخطأ في الحكم الشرعي عند من يقررون قاعدة الأشعرية إذ يصبح الحسن قبيحا والقبيح حسنا بدعوى أن هذا هو حكم الشرع فتنتكس الفطرة الإنسانية ويرتكس العقل في وهدة غيبته وانطماس نوره باسم الدين!
فإذا كان الإنسان مدنيا واجتماعيا بطبعه يحب من الناس حوله أن يأتوه بمثل الذي يأتيهم منه كما في الحديث النبوي - وهذا معيار موضوعي - وكما في الحديث الآخر حين جاء رجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا فقال (أترضاه لبنتك؟ قال لا ! قال أترضاه لأمك؟ قال لا! قال : كذلك الناس لا يرضونه لبناتهم ولا لأمهاتهم)!
وكما أن الإنسان مدني واجتماعي بطبعه وفطرته فهو سياسي أيضا بطبعه وفطرته فهو يحب العدل ويستحسنه ويبغض الظلم ويستقبحه وكذلك يستحسن الحرية ويستقبح العبودية ..الخ.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح (خير أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشر أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)!
فهذا دليل واضح على أن العقل الجمعي والحس الجماعي يتوافق في أحكامه السياسية تجاه السلطة وله معيار موضوعي يزن به ممارسات السلطة لكون الإنسان سياسيا بطبعه وفطرته فهو يدرك عدل السلطة وجورها وإحسانها وإساءتها ولهذا جاء المدح والذم للأمراء لا للناس إذ أحكام عامة الناس صحيحة فمن أحبوه ودعوا له من أمرائهم فهو من الأخيار ومن أبغضوه ولعنوه فهو من الأشرار ولا يلحق الأمة من تبعات ذلك شيء إذ هي الحكم والرقيب على الأمراء وليس العكس!
وهذا ما يؤكده الحديث الآخر (الإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس) إذ فيه دليل على أن للناس معيارا يميزون ويفرقون به بين البر والإثم والخير والشر!
فإذا كان الأمر كذلك وهو أن الإنسان يدرك الخير والشر والحسن والقبح بفطرته وطبيعته فإنه لا يخرج عن ذلك الطبع الغريزي والفطرة الطبيعية إلا إذا طرأ عليه تصور ديني ممسوخ أو تحلل خلقي ينحرف بالإنسان عن طبيعته كما في الحديث الصحيح (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) سواء شياطين الجن أو شياطين الإنس وطواغيتهم كما قال تعالى {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}!
فإذا كان الإنسان الطبيعي يرفض بغريزته وفطرته الإنسانية عدوان أحد على نفسه أو ماله أو عرضه أو أرضه ووطنه ويجد دافعا يدفعه للقتال والدفاع عن حقوقه وكذا يجد دافعا طبيعيا لرفض ظلم السلطة وعدوانها فإنه إذا طرأ عليه اعتقاد ديني يحسن له الرضوخ للظلم والعدوان ويستقبح الدفع عن الأرض والعرض فإنه يرتكس وينتكس ويصبح القبيح عنده حسنا كأن يعتقد بأن الله قضى وقدر ذلك عليه وليس له أن يرفض قضاء الله وقدره!
أو يعتقد بأن هذه عقوبة من الله بسبب ظلمه وظلم قومه ويجب الرضا بتطهير الله لهم!
أو يعتقد بأن الله لم يخلقهم كي يموتوا من أجل الأرض والحدود أو الموت من أجل الدنيا وزخرفها بل خلقهم لعبادته وتوحيده!
أو يعتقد بأنه يحرم عليه القتال إذ قد يقع فتنة ويموت أبرياء بسبب المقاومة ومن ثم يجب الكف عن القتال!
أو يعتقد بأنه يحرم القتال والمقاومة إلا بوجود خليفة شرعي للأمة أو بخروج المهدي المنتظر..الخ
أو يعتقد بأن العدو المحتل دخل بشبهة عقد وإذن من الحكومات فتصبح لوجوده حرمة تمنع من مقاومته!
أو يعتقد بأن الحكومات التي تقع تحت نفوذ العدو وسيطرته لها ولاية شرعية فلا يحل مقاومته إلا بإذنها!
فكل هذه العقائد وغيرها تفضي بمن يعتقدها إلى القابلية للرضوخ للاحتلال الأجنبي والطغيان والاستبداد الداخلي بل والرضا والتعايش مع هذا الواقع الذي لا تتقبله الفطر السليمة والعقول الصحيحة حتى وإن كان أهلها وثنيين!
ومثل ذلك إذا وقع عليه ظلم وطغيان من السلطة الجائرة فإنه قد يستحسن ترك المقاومة لها تدينا وتقربا إلى الله كأن يعتقد بأن رفضه للجور يخرجه من دائرة المؤمنين أو من دائرة الدين أو من دائرة الفرقة الناجية!
وقد يتصور بأنه يحرم عليه حتى بغض الجائر فيستحسن حبه والثناء عليه والدعاء له فيخرج بذلك عن الفطرة الإنسانية السوية التي تبغض بالفطرة من ظلمها أو اعتدى عليها!
وقد يبلغ به الحال أن يبغض كل من أبغض الجائر بل ويحرض على قتل وقتال من يبغض الجائر!
وكل هذا الانحراف عن الفطرة الطبيعية بسبب الانحراف في فهم الدين!
ولهذا صارت الأمم على اختلاف أديانها تدفع بالفطرة الطبيعية وترفض بالغريزة الإنسانية ما يسوغه المسلمون اليوم باسم الدين!
وصارت كل جريمة أخلاقية عند الأمم الوثنية واللادينية أمرا مباحا عند المسلمين! كالخيانة والتحالف مع العدو المحتل أو أكل أموال الشعوب بدعوى أنها هدايا الأمراء جاءت (من غير استشراف ولا سؤال) أو سجن عشرات الآلاف بلا تهمة ولا جريرة..الخ
فكل هذه صارت أمورا سائغة باسم الدين عند كثير من المسلمين بينما هي جرائم أخلاقية باسم العقل والفطرة عند الكافرين!
فصار ما تنبذه الأمم من سيء الأخلاق بفطرتها وعقولها قد يستسيغه كثير من المسلمين بدعوى أن ذلك ما يأمر به الدين!
ولهذا أخبرت الأحاديث النبوية بأنه سيأتي زمان يكون المعروف منكرا والمنكر معروفا!
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يدركون بالفطرة السليمة والعقول الصحيحة ما لا يدركه المتأخرون الممسوخون باسم الدين والسنة كما في الحديث الصحيح عن الروم والصفات الحسنة فيهم وقول عمرو بن العاص عنهم (وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك)!
وكذا إذا طرأ على الإنسان تصورات وأوهام عقلية ممسوخة فإنها قد تخرجه عن الفطرة السياسية والاجتماعية الطبيعية كأن يتصور بأن الاستسلام للعدو المحتل والتعاون معه مما تقتضيه السياسة وتسوغه الحكمة!
أو يعتقد بأن من يقاومونه يفسدون أكثر مما يصلحون!
أو يتصور أن الحكمة تقتضي الاستفادة من الاحتلال حتى تقوى الأمة وتنهض!
لتصبح الخيانة للأوطان عند كل شعوب الأرض سياسة عند المسلمين وحركاتهم الإسلامية ودعاتهم وعلمائهم إلا من عصم الله منهم لا لشيء إلا لشيوع مثل هذا الهوس والجنون السياسي الذي يمارسونه منذ مئة عام بدعوى ضعف الأمة وعجزها عن مواجهة عدوها مع أن دولهم حازت على القنبلة النووية كما في الباكستان وأصبحت تصنع الأسلحة المتطورة كما في إيران وتركيا وصارت أكثر أمم الأرض مالا وثراء بالنفط والغاز كما في دول الجزيرة العربية وليبيا والعراق والجزائر وبلغ تعدادهم مليار ونصف ومع هذا كله ما زال هؤلاء المهزومون نفسيا الموسوسون عقليا يتصورون أن الأمة لا تستطيع هزيمة العدو الاستعماري الغربي وهم يرون كيف استطاع أضعف شعب إسلامي في أفغانستان وحده هزيمة حلف النيتو بكل قواته وجيوشه ومن وراءه فكيف لو تداعت الأمة معه ودعمت جهاده المشروع بكل الشرائع السماوية والمواثيق الدولية!
بل لقد استطاعة المقاومة في العراق أن تهزم وحدها جيوش الاحتلال حتى صرح العدو عن هزيمته سنة 2007 لولا خيانة العرب والعجم للمقاومة ومحاصرتهم لها وصدور فتاوى المفتين المفتونين الدينية وصدور تخرصات المهووسين السياسية التي فعلت بالمقاومة أشد مما فعلته جيوش الاحتلال!
فلم تؤت الأمة من قلة عدد وعتاد وإنما أوتيت من فساد حكوماتها وخيانة علمائها وسياسييها كما في الحديث (تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها قالوا أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال لا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن حب الحياة وكراهية الموت)!
لقد فسدت (الفطرة السياسية) عند كثير من المسلمين - لا أقصد العامة الذين أكثرهم أصح عقولا وأزكى نفوسا بل الخاصة الذين رتعوا مع حكوماتهم بأموال الأمة وثرواتها وباعوها للعدو بأبخس ثمن وأخسه - قبل أن تفسد (العقيدة السياسية) فصارت كثير من الحركات الإسلامية السياسية نفسها كما هو حال كثير من علماء الأمة ودعاتها عبئا ثقيلا وشرا وبيلا على الأمة ودينها وعلى حريتها واستقلالها بعد أن صار استرضاء الغرب الاستعماري غاية تحاول الحركة تحقيقها والله يقول{ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} بينما يتحدث المهووسون والموسوسون عن ضرورة تبرئة الإسلام من تهمة الإرهاب وضرورة التواصل الحضاري ومد الجسور مع الغرب الاستعماري قبل أن تخرج جيوشه التي تدك قرى أفغانستان على رؤوس النساء والأطفال وقبل الخروج من العراق الذي ذهب بسبب عدوان الجيوش الصليبية عليه خمس سكانه بين قتيل وجريح ومهجر وقبل أن تتحرر فلسطين التي يسوم العدو شعبها سوء العذاب بدعم أمريكي أوربي منذ ستين سنة!
لقد وصل الحال من شؤم كثير من الحركات السياسية الإسلامية على الأمة ما عبر عنه الشيخ الفاضل محمد قطب حين سأل أحد قادة الحركة الإسلامية بعد اجتماع لهم :هل ناقشتم أوضاع الأمة؟
فقال القيادي الإسلامي : لا !
فقال الشيخ محمد قطب : إذن الأمة بخير!
*مجلة الأمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للخلق أجمعين ليردهم إلى الفطرة والدين القويم وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ..
فقد شرفت بدعوة كريمة من المجلس الأعلى للدعوة التابع لوزارة الإرشاد والأوقاف في السودان لحضور مؤتمر (الآفاق المستقبلية للدعوة الإسلامية) بتاريخ 13 – 15 /10/ 2010م وقد قدم للمؤتمر نحو خمس وعشرين ورقة في قضايا الدعوة الإسلامية، وقد جاءت ورقتي (الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر وإشكالاته) في الجلسة الأولى، وهي في الأصل مقالتي (العقيدة السياسية ضرورتها وخطورتها وفقد الحركة الإسلامية لها)، وحين جاء دوري فاجأ عريف الندوة الحضور بقوله (والآن مع ورقة الدكتور حاكم المطيري وانتبهوا لكل كلمة فيها فهي خطيرة ..)!
وقد افتتحت الكلمة بتنبيهات بين يدي الموضوع وهي :
أولا : أن موضوع الورقة هو في إشكاليات الخطاب السياسي المعاصر، وليس في باقي المجالات التي نجحت الدعوة الإسلامية المعاصرة فيها كالمجال الدعوي والعلمي والتربوي والخيري والإغاثي والجهادي، حيث أن الحركات الإسلامية السياسية جاءت لهدف سياسي وهو استعادة الخلافة واستئناف الحياة الإسلامية من جديد، ومن هنا فالورقة تدرس أسباب إخفاق الحركة السياسية في تحقيق هذا الهدف أو المقاربة إليه.
ثانيا : أن الورقة تقتصر على الحركات الإسلامية السياسية ولا تتعرض للجماعات الدعوية والعلمية والخيرية ..الخ.
ثالثا : كما إن الورقة تنظر للحركة السياسية الإسلامية على اختلاف ألوان طيفها نظرة واحدة، إذ الأمة واحدة، والهدف واحد وهو استعادة الخلافة من جديد، وهذه الحركات تمثل تيارا سياسيا واحدا، وإن اختلفت مدارسه واجتهاداته.
رابعا : إن الورقة جاءت لتثير أسئلة واستشكالات أكثر من تقديم حلول وإجابات، فمن أراد معرفة الحلول في نظر الكاتب فبإمكانه الرجوع إلى كتابي (الحرية أو الطوفان) و(تحرير الإنسان) و(الفرقان) و(أهل السنة والجماعة الإشكالية العقائدية والأزمة السياسية).
ثم طرحت أسئلة حول أزمة الحركة الإسلامية السياسية المعاصرة؟ ولماذا تراجع خطابها السياسي حتى صارت تعترف بالقطرية والوطنية والأنظمة الحاكمة على اختلاف مستويات هذا الاعتراف بعد أن كانت تطمح لاستعادة الخلافة الواحدة والأمة الواحدة؟
وكيف وصل الحال بها أن تورط بعضها وتحالف مع الاحتلال الأجنبي كما في العراق وأفغانستان حتى شاركت في حكومات الاحتلال التي تحاصر جيوشه المدن المقاومة، ليدكها على رؤوس أهلها، دون أن يخرجها مثل هذا التحالف من دائرة الحركة الإسلامية ودون أن يصطدم بأصل من أصول عقيدتها؟
وكيف صارت الحكومات العربية التي يوظفها العدو المحتل في مشروعه الاستعماري حكومات شرعية أو لها ولاية شرعية مع أن أصول الخطاب العقائدي وكذا الحكم الفرعي الفقهي يقرر بأن مثل هذا الفعل ردة وكفر!
ثم شرعت في اختصار الورقة بحسب الوقت المتاح، وبصراحة الأعرابي التي فطرت عليها، فأنا بطبعي لا أحب المجاملة على حساب الحق، ولا المداهنة على حساب الدين،
فنحن إنما حضرنا لنصدق قومنا القول، ونخلصهم النصح، ونمحض لهم الرأي، وهذه حقيقة الدين كما في الصحيح (الدين النصيحة .. لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم)!
وهذا كله في حدود الأدب والخلق الكريم كما قال الأول :
وإني على ما كان من عنجهية..... ولوثة أعرابيتي لأديب!
وإنما يحملنا على هذا الأمر العظيم - الذي فرق بيننا وبين قومنا في الرأي، إذ لم يترك الحق لنا صديقا - الحب لله ولرسوله ولدينه وللأمة التي تواجه ما توجهه من تحديات غير مسبوقة، والحب للحركة الإسلامية التي أضاعت طريقها بعد أن قدمت خلال قرن من الزمن آلاف الشهداء والأبطال فإذا النتيجة هذا الواقع المعاصر للحركة الإسلامية حيث المراجعات تلو المراجعات حتى لم يبق من أهدافها إلا أن تعيش!
وإلا هذا التحالف مع الاحتلال أو مع حلفاء الاحتلال في كل قطر، ليرضى عنها الطاغوت وما هو عنها براض!
وقد تحدثت عن أزمة الحركة الإسلامية السياسية وأنها تتمثل في :
1- غياب أو ضبابية (العقيدة السياسية) التي هي أساس أي مشروع سياسي أو نظام حكم سياسي.
2- عدم وضوح (المشروع السياسي) الذي يفترض أن يقوم على الكتاب والسنة حيث صار ما يقدمه الإسلاميون لا يختلف عما يدعو إليه الإصلاحيون السياسيون الوطنيون والليبراليون اللهم إلا بشعارات (الإسلام هو الحل)!
3- عدم تطوير آلية العمل التنظيمي السياسي حيث ما زالت الحركة الإسلامية تتنازع في مشروعية تأسيس الأحزاب السياسية فضلا عن تطويرها لتواكب تطور العصر ووسائله التي باتت فيه الأحزاب السياسية أهم أدوات التغيير السياسي في الدول المعاصرة!
ثم لما فرغت من الورقة جاء دور الأستاذ المعقب على الورقة والذي لم يقرأ الورقة إلا في تلك اللحظة كما يبدو، حيث استخف بها بتعالم فج وزعم بأن الورقة لم تعرّف العقيدة السياسية! مع أن الورقة عرّفت العقيدة السياسية مرتين!
كما زعم بأن (العقيدة السياسية) مصطلح مخترع!
مع أنه لا مشاحة في الاصطلاح إذ (النظام السياسي الإسلامي) و(الاقتصاد الإسلامي) و(الإعلام الإسلامي)..الخ كلها مصطلحات مخترعة عصرية إلا إن مضمونها ومعناها صحيح، وكذلك (العقيدة السياسية) هي من أصول الإيمان وأصول الدين إلا أننا استخدمنا هذا المصطلح لتقريب المعنى إلى الأذهان للتفريق بين الأصول العقائدية التي لها حكم وارتباط بالواقع السياسي كاعتقاد وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة، والأصول الإيمانية التي لا ارتباط لها بالواقع السياسي كالإيمان باليوم الآخر.
ثم أخذت المعقب حمية الجاهلية واختزل القضية كلها في الدفاع عن (الأخوان المسلمون)، واتهمني بأنني أقصدهم بهذه الورقة!
مع أن الورقة بدأت بنقد أداء الحركة السلفية والصوفية السياسي في مصر، قبل نقد الحركة السياسية الإسلامية!
ثم أخذ الأستاذ المعقب يتحدث عن مآثر (الأخوان المسلمون) وتاريخ نضالهم، بدلا من مناقشة الورقة وما جاء فيها!
ثم بعد انتهاء الجلسة جاء إلي كثير من أهل العلم والفضل من كل ألوان الطيف الدعوي السلفي والصوفي والحركي يؤكدون موافقتهم على ما جاء في الورقة، وأنها كشفت أزمة الحركة السياسية الإسلامية، وشخصت عللها، واعتذر لي كثير من (الأخوان المسلمون) عما بدر من الأستاذ المعقب وأنهم لا يقرونه على تصرفه الذي تجاوز حدود الأدب في المحاورة والمناقشة!
وقد قمت بعد المؤتمر بزيارة الشيخ العلامة الحبر يوسف مراقب الأخوان في السودان وتجاذبنا أطراف الحديث حول الورقة وما دار حولها من جدل فضحك وقال (ألا تعلم يا دكتور حاكم بأن مصطلح (الحركة الإسلامية) إذا أطلق لا يفهم منه إلا (الأخوان المسلمون) خاصة في السودان)؟!
وقد تجادل الناس في الورقة في جنبات المؤتمر ووصلني من أخبارها ما وصلني مما كشف لي عن وجه آخر للأزمة فلم يكن الخلل فقط في (العقيدة السياسية) بل تجاوزها إلى (الفطرة السياسية)!
وقد دار جدل بين المعقب على الورقة والشيخ الفاضل محمد الحبر:
قال الشيخ محمد للمعقب : ما هو موقف الحركة الإسلامية في العراق؟
فقال المعقب : انقسمت إلى ثلاثة أقسام قسم تعامل مع الاحتلال وقسم قاومه وقسم اعتزل ولكل اجتهاده!
فقال الشيخ محمد : بالله عليك حركة واحدة تنقسم إلى ثلاثة طوائف في قضية خطيرة مثل هذه القضية الواضحة الجلية ألا يدل ذلك على أزمة لدى الحركة الإسلامية السياسية كما جاء في ورقة الدكتور حاكم؟!
كما دار جدل بين قاض عادل وعالم فاضل في شأن الورقة وهذا فحوى ما دار بينهما بحسب ما بلغني بالمعنى لا بالنص:
فقال القاضي : ما رأيك فيما يدعو إليه الدكتور حاكم في كتبه؟
فقال العالم : لقد بالغ الدكتور حاكم في موضوع سنن الخلفاء الراشدين مع أنها لا تعدو أن تكون اجتهادات لهم قد تناسب عصرهم ولا تناسب عصرنا ولم يقل أحد بحجيتها!
فقال القاضي : يبدو أنك لم تقرأ كتب الدكتور؟
فقال العالم : قرأت شيئا منها !
فقال القاضي : المقصود بالسنن كما أفهم وكما في حديث(عليكم بسنتي وسنن الخلفاء الراشدين) هي الأصول التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي والتي أجمع عليها الخلفاء وقامت عليها الأدلة من الكتاب والسنة كالخلافة ووحدة الأمة وحق الأمة في اختيار السلطة بالرضا والشورى ..الخ
وليس المقصود اجتهاداتهم الفرعية! ثم ما هو الأصل عندك الذي يمكن أن نقول بأنه الأساس للنظام السياسي الإسلامي الذي إذا فقد زال عن النظام وصف كونه نظاما إسلاميا؟!
فقال العالم : بأن الإسلام جاء بمبادئ عامة وترك الباب مفتوحا لكل زمان ومكان ولا يوجد نظام محدد!
فقال القاضي : إذن ما ذكره الدكتور حاكم صحيح في أنه لا يوجد لدينا عقيدة سياسية محددة ولهذا صرنا نعترف بالأنظمة الحاكمة على اختلاف صورها؟
فقال العالم : لا توجد حركة إسلامية في العالم كله تعترف بالأنظمة الحاكمة الموجودة كما يزعم الدكتور !!
فقال القاضي : وما تسمي دخولها في هذه الحكومات واعترافها بشرعيتها ووصم كل من خرج عليها بأنه خارجي أليس في ذلك اعتراف لها بقدر من المشروعية؟
ثم ألا ترى بأن الدخول في تحالف مع حكومة احتلال والقتال معها ضد الأمة التي تجاهد هذا الاحتلال ردة وكفر؟!
فقال العالم : لا ليس هذا الفعل في حد ذاته كفرا وردة!
فقال القاضي : ومتى تكون مظاهرة الكافر المحتل والقتال معه في نظرك كفرا وردة؟
فقال العالم : إذا قصد المسلم بقتاله معهم ظهور دينهم على دين المسلمين!
فقال القاضي : وهل يتصور أن يقصد مسلم بقتاله معهم ظهور دينهم على دين المسلمين؟ فهذا القصد وحده يخرجه عن دائرة الإسلام حتى لو لم يقاتل معهم فبقيت مظاهرته لهم وقتاله معهم دون حكم!
قال العالم : المظاهرة لهم مظهر للكفر لا كفر بحد ذاته فلا بد من معرفة القصد!
فقال القاضي : دع عنا الحكم الشرعي أليس العقول تقضي بأن من يقف مع العدو في اعتدائه على أمة من الأمم يكون في نظر تلك الأمة عدوا مثله وله الحكم نفسه؟!
أليس من يقف من أفراد تلك الأمة مع العدو المحتل خائنا يستحق القتل لخيانته في نظر كل شعوب الأرض؟
فقال العالم : لا دخل للعقول في هذا الحكم بل الحكم للشرع!
فقال القاضي : ألا ترى بأننا قد وصلنا إلى الحال التي ذكرها الدكتور في ورقته حيث لم يعد هناك لدى الحركة الإسلامية السياسية أية قضية تستحق التضحية ولا الجهاد في سبيلها؟!
فقال العالم : التضحية من أجل الدين لا تقتضي القتال!
فقال القاضي : اذكر لي قضية واحدة إذن تستحق في نظرك القتال في سبيلها؟
فانقطع العالم الفاضل عن الحديث ولم تنقطع القضية بعد بل تجلت أزمة كبرى تعيشها الحركة الإسلامية المعاصرة بدعاتها وعلمائها ومفكريها وسياسييها إلا من رحم الله منهم!
لقد كشفت هذه المحاورة بين القاضي العادل والعالم الفاضل أزمة الأمة في عقلها قبل دينها وكما في الحديث (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)!
كما كشفت عن خطورة التصورات الدينية حين انحرافها على (الفطرة الإنسانية)!
لقد قرر المتكلمون والأصوليون من الأشاعرة بأنه لا حسن ولا قبح إلا ما حسنه الشرع أو قبحه وأنه لا حكم للعقل! وكان ذلك ردا على المعتزلة الذين قالوا بأن العقل يدرك الحسن والقبح ولهذا لا عذر لمن كفر بالله إذ توحيد الله واجب عقلا!
وقد رد على الطائفتين شيخ الإسلام ابن تيمية بأن هذا القول لا يعرف عن سلف الأمة بل هو قول محدث فالعقل هو مناط التكليف ولولا إدراك العقول حسن ما جاء به الشرع لما آمنت به فإذا قيل بأن العقول لا تدرك إلا ما حسنه الشرع لزم الدور وهو مستحيل عقلا!
كما قرر شيخ الإسلام بأن الصواب الذي دل عليه الكتاب هو أن العقول تدرك الحسن والقبح بما فطرها الله عليه ولهذا نعى القرآن على المشركين تعطيلهم لعقولهم{أفلا تعقلون} إلا أنه لا ثواب ولا عقاب إلا بعد ورود الشرع {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
ومن هنا ندرك خطورة الخطأ في الفتوى والخطأ في الحكم الشرعي عند من يقررون قاعدة الأشعرية إذ يصبح الحسن قبيحا والقبيح حسنا بدعوى أن هذا هو حكم الشرع فتنتكس الفطرة الإنسانية ويرتكس العقل في وهدة غيبته وانطماس نوره باسم الدين!
فإذا كان الإنسان مدنيا واجتماعيا بطبعه يحب من الناس حوله أن يأتوه بمثل الذي يأتيهم منه كما في الحديث النبوي - وهذا معيار موضوعي - وكما في الحديث الآخر حين جاء رجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا فقال (أترضاه لبنتك؟ قال لا ! قال أترضاه لأمك؟ قال لا! قال : كذلك الناس لا يرضونه لبناتهم ولا لأمهاتهم)!
وكما أن الإنسان مدني واجتماعي بطبعه وفطرته فهو سياسي أيضا بطبعه وفطرته فهو يحب العدل ويستحسنه ويبغض الظلم ويستقبحه وكذلك يستحسن الحرية ويستقبح العبودية ..الخ.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح (خير أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشر أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)!
فهذا دليل واضح على أن العقل الجمعي والحس الجماعي يتوافق في أحكامه السياسية تجاه السلطة وله معيار موضوعي يزن به ممارسات السلطة لكون الإنسان سياسيا بطبعه وفطرته فهو يدرك عدل السلطة وجورها وإحسانها وإساءتها ولهذا جاء المدح والذم للأمراء لا للناس إذ أحكام عامة الناس صحيحة فمن أحبوه ودعوا له من أمرائهم فهو من الأخيار ومن أبغضوه ولعنوه فهو من الأشرار ولا يلحق الأمة من تبعات ذلك شيء إذ هي الحكم والرقيب على الأمراء وليس العكس!
وهذا ما يؤكده الحديث الآخر (الإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس) إذ فيه دليل على أن للناس معيارا يميزون ويفرقون به بين البر والإثم والخير والشر!
فإذا كان الأمر كذلك وهو أن الإنسان يدرك الخير والشر والحسن والقبح بفطرته وطبيعته فإنه لا يخرج عن ذلك الطبع الغريزي والفطرة الطبيعية إلا إذا طرأ عليه تصور ديني ممسوخ أو تحلل خلقي ينحرف بالإنسان عن طبيعته كما في الحديث الصحيح (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) سواء شياطين الجن أو شياطين الإنس وطواغيتهم كما قال تعالى {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}!
فإذا كان الإنسان الطبيعي يرفض بغريزته وفطرته الإنسانية عدوان أحد على نفسه أو ماله أو عرضه أو أرضه ووطنه ويجد دافعا يدفعه للقتال والدفاع عن حقوقه وكذا يجد دافعا طبيعيا لرفض ظلم السلطة وعدوانها فإنه إذا طرأ عليه اعتقاد ديني يحسن له الرضوخ للظلم والعدوان ويستقبح الدفع عن الأرض والعرض فإنه يرتكس وينتكس ويصبح القبيح عنده حسنا كأن يعتقد بأن الله قضى وقدر ذلك عليه وليس له أن يرفض قضاء الله وقدره!
أو يعتقد بأن هذه عقوبة من الله بسبب ظلمه وظلم قومه ويجب الرضا بتطهير الله لهم!
أو يعتقد بأن الله لم يخلقهم كي يموتوا من أجل الأرض والحدود أو الموت من أجل الدنيا وزخرفها بل خلقهم لعبادته وتوحيده!
أو يعتقد بأنه يحرم عليه القتال إذ قد يقع فتنة ويموت أبرياء بسبب المقاومة ومن ثم يجب الكف عن القتال!
أو يعتقد بأنه يحرم القتال والمقاومة إلا بوجود خليفة شرعي للأمة أو بخروج المهدي المنتظر..الخ
أو يعتقد بأن العدو المحتل دخل بشبهة عقد وإذن من الحكومات فتصبح لوجوده حرمة تمنع من مقاومته!
أو يعتقد بأن الحكومات التي تقع تحت نفوذ العدو وسيطرته لها ولاية شرعية فلا يحل مقاومته إلا بإذنها!
فكل هذه العقائد وغيرها تفضي بمن يعتقدها إلى القابلية للرضوخ للاحتلال الأجنبي والطغيان والاستبداد الداخلي بل والرضا والتعايش مع هذا الواقع الذي لا تتقبله الفطر السليمة والعقول الصحيحة حتى وإن كان أهلها وثنيين!
ومثل ذلك إذا وقع عليه ظلم وطغيان من السلطة الجائرة فإنه قد يستحسن ترك المقاومة لها تدينا وتقربا إلى الله كأن يعتقد بأن رفضه للجور يخرجه من دائرة المؤمنين أو من دائرة الدين أو من دائرة الفرقة الناجية!
وقد يتصور بأنه يحرم عليه حتى بغض الجائر فيستحسن حبه والثناء عليه والدعاء له فيخرج بذلك عن الفطرة الإنسانية السوية التي تبغض بالفطرة من ظلمها أو اعتدى عليها!
وقد يبلغ به الحال أن يبغض كل من أبغض الجائر بل ويحرض على قتل وقتال من يبغض الجائر!
وكل هذا الانحراف عن الفطرة الطبيعية بسبب الانحراف في فهم الدين!
ولهذا صارت الأمم على اختلاف أديانها تدفع بالفطرة الطبيعية وترفض بالغريزة الإنسانية ما يسوغه المسلمون اليوم باسم الدين!
وصارت كل جريمة أخلاقية عند الأمم الوثنية واللادينية أمرا مباحا عند المسلمين! كالخيانة والتحالف مع العدو المحتل أو أكل أموال الشعوب بدعوى أنها هدايا الأمراء جاءت (من غير استشراف ولا سؤال) أو سجن عشرات الآلاف بلا تهمة ولا جريرة..الخ
فكل هذه صارت أمورا سائغة باسم الدين عند كثير من المسلمين بينما هي جرائم أخلاقية باسم العقل والفطرة عند الكافرين!
فصار ما تنبذه الأمم من سيء الأخلاق بفطرتها وعقولها قد يستسيغه كثير من المسلمين بدعوى أن ذلك ما يأمر به الدين!
ولهذا أخبرت الأحاديث النبوية بأنه سيأتي زمان يكون المعروف منكرا والمنكر معروفا!
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يدركون بالفطرة السليمة والعقول الصحيحة ما لا يدركه المتأخرون الممسوخون باسم الدين والسنة كما في الحديث الصحيح عن الروم والصفات الحسنة فيهم وقول عمرو بن العاص عنهم (وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك)!
وكذا إذا طرأ على الإنسان تصورات وأوهام عقلية ممسوخة فإنها قد تخرجه عن الفطرة السياسية والاجتماعية الطبيعية كأن يتصور بأن الاستسلام للعدو المحتل والتعاون معه مما تقتضيه السياسة وتسوغه الحكمة!
أو يعتقد بأن من يقاومونه يفسدون أكثر مما يصلحون!
أو يتصور أن الحكمة تقتضي الاستفادة من الاحتلال حتى تقوى الأمة وتنهض!
لتصبح الخيانة للأوطان عند كل شعوب الأرض سياسة عند المسلمين وحركاتهم الإسلامية ودعاتهم وعلمائهم إلا من عصم الله منهم لا لشيء إلا لشيوع مثل هذا الهوس والجنون السياسي الذي يمارسونه منذ مئة عام بدعوى ضعف الأمة وعجزها عن مواجهة عدوها مع أن دولهم حازت على القنبلة النووية كما في الباكستان وأصبحت تصنع الأسلحة المتطورة كما في إيران وتركيا وصارت أكثر أمم الأرض مالا وثراء بالنفط والغاز كما في دول الجزيرة العربية وليبيا والعراق والجزائر وبلغ تعدادهم مليار ونصف ومع هذا كله ما زال هؤلاء المهزومون نفسيا الموسوسون عقليا يتصورون أن الأمة لا تستطيع هزيمة العدو الاستعماري الغربي وهم يرون كيف استطاع أضعف شعب إسلامي في أفغانستان وحده هزيمة حلف النيتو بكل قواته وجيوشه ومن وراءه فكيف لو تداعت الأمة معه ودعمت جهاده المشروع بكل الشرائع السماوية والمواثيق الدولية!
بل لقد استطاعة المقاومة في العراق أن تهزم وحدها جيوش الاحتلال حتى صرح العدو عن هزيمته سنة 2007 لولا خيانة العرب والعجم للمقاومة ومحاصرتهم لها وصدور فتاوى المفتين المفتونين الدينية وصدور تخرصات المهووسين السياسية التي فعلت بالمقاومة أشد مما فعلته جيوش الاحتلال!
فلم تؤت الأمة من قلة عدد وعتاد وإنما أوتيت من فساد حكوماتها وخيانة علمائها وسياسييها كما في الحديث (تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها قالوا أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال لا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن حب الحياة وكراهية الموت)!
لقد فسدت (الفطرة السياسية) عند كثير من المسلمين - لا أقصد العامة الذين أكثرهم أصح عقولا وأزكى نفوسا بل الخاصة الذين رتعوا مع حكوماتهم بأموال الأمة وثرواتها وباعوها للعدو بأبخس ثمن وأخسه - قبل أن تفسد (العقيدة السياسية) فصارت كثير من الحركات الإسلامية السياسية نفسها كما هو حال كثير من علماء الأمة ودعاتها عبئا ثقيلا وشرا وبيلا على الأمة ودينها وعلى حريتها واستقلالها بعد أن صار استرضاء الغرب الاستعماري غاية تحاول الحركة تحقيقها والله يقول{ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} بينما يتحدث المهووسون والموسوسون عن ضرورة تبرئة الإسلام من تهمة الإرهاب وضرورة التواصل الحضاري ومد الجسور مع الغرب الاستعماري قبل أن تخرج جيوشه التي تدك قرى أفغانستان على رؤوس النساء والأطفال وقبل الخروج من العراق الذي ذهب بسبب عدوان الجيوش الصليبية عليه خمس سكانه بين قتيل وجريح ومهجر وقبل أن تتحرر فلسطين التي يسوم العدو شعبها سوء العذاب بدعم أمريكي أوربي منذ ستين سنة!
لقد وصل الحال من شؤم كثير من الحركات السياسية الإسلامية على الأمة ما عبر عنه الشيخ الفاضل محمد قطب حين سأل أحد قادة الحركة الإسلامية بعد اجتماع لهم :هل ناقشتم أوضاع الأمة؟
فقال القيادي الإسلامي : لا !
فقال الشيخ محمد قطب : إذن الأمة بخير!
*مجلة الأمة