محمد مصطفى المقرئ
الإسلام الحاضر الغائب في المشهد الثوري
وقامت الثورات الحقيقية (تونس ـ مصر ـ ليبيا ـ اليمن.. والحبل على الجرار)، ولم يغب الإسلام عن المشهد في بعده الانتمائي والأخلاقي والعاطفي، ظهر ذلك من خلال الهتافات وإقامة الصلوات والسلوك العام لدى الثائرين.. ولكنه ـ من أسف ـ كان غائباً في بعده العقائدي كشريعة حاكمة واجب تطبيقها، ووقفت مطالب الثوار عند سقف (تغيير ـ حرية ـ عدالة اجتماعية).. ولا ينبغي أن نستغرق في الابتهاج والفرح بنجاح الثورة إلى حد أن نذهل عن أننا كأمة مسلمة لم نستعد بعد دورنا الريادي ولا استرجعنا للشريعة مكانتها اللائقة..
(1)
لم يزل الإسلام ـ منذ بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم ـ حاضراً فاعلاً لم يغب عن واقع هذه الأمة، حتى في مراحل التراجع والانكماش، وإن نسبياً.
ورغم ما طرأ على واقعه السياسي من محدثات، إلا أن الخط العام بقي على استقامته ممثلاُ في أمرين: مرجعية الإسلام في الحكم والتشريع. والتزام الأمة المتمثل في اعتقادها وإيمانها، وفي تحليها بأخلاقها المعبر عن تمسكها بقيمها.
غير أنه منذ سقوط الخلافة العثمانية ومع مرحلة الاستعمار والتقسيم وبداية حقبة العالمانية.. تم استبعاد الشريعة الإسلامية كمرجعية للحكم والتشريع.
(2) لقد كتب تاريخ الأمة بمنهجية خاطئة، ذلك أنه جعل سيرة الممالك والملوك هو صلب تاريخ الإسلام، بينما لم يلق الضوء على سيرة الأمة وسلوكها إلا كمشاهد خلفية أو ملحقات ثانوية تابعة !!
ولو أنه أعيدت كتابة التاريخ وأعطيت الأمة حقها المكافئ لدورها وحضورها وفعلها فيه لتأكد لنا أن الأمة هي الصانعة لأحداثه بالأساس والمشيدة لأمجاده بشكل رئيس، لا الممالك ولا الملوك.
(3) وقد ترافق مع المسيرة الإيمانية والأخلاقية المشرفة للأمة عبر تاريخها وعي يقظ بفرضية الشريعة كمرجعية للحكم والتشريع، غير أن هذا الوعي أخذ في التآكل ـ وإن ببطء ـ بسبب دخول تصورات وأفكار غريبة استقيت من ثقافات اليونان وموروثات الإغريق كالأرسطية وغيرها، وبسبب ما روجت له الفرق المبتدعة من أصولها الضالة، كأصل المرجئة ـ مثلاً ـ في إخراج العمل من مسمى الإيمان.
ثم جاءت حقبة العالمانية لتفرض ـ بواقع الأمر ـ وبمفاهيمها في الفصل بين الدين والدنيا تصوراً جديداً تبدلت به ثقافة المجتمع، ومن ثم تضاعف معدل تآكل الوعي العام للأمة بوجوب التزام الإسلام كمرجعية في الحكم والتشريع.
(4) وفي ظلال الحقبة العالمانية التي جاءتنا تبشر بالمجتمع المدني والدولة الحديثة المتحضرة .. حكمتنا أنظمة استبدادية جاءتنا متلفعة بثورات مفتعلة، وخدعتنا بدعاوى استقلال تبين لنا من بعدُ خواؤها، وأنه لم يكن إلا مجرد استقلال في الملامح والأسماء والأصول الجنسية، لا في السلوك والطبائع والتصورات ولا في المعتقدات والمناهج والثقافات.
وفي ظلال الحقبة العالمانية ضاعت فلسطين التي ظلت صامدة في وجه المؤامرات اليهودية والغربية حتى آخر أيام الخلافة العثمانية.
وفي ظلال الحقبة العالمانية، تراجعت أمتنا علمياً وحضارياً واقتصادياً، نعم كان هذا التراجع قد بدأ منذ بدء ضعف الدولة الإسلامية في أواخر عهود الخلافة، ولكنه ترسخ وتعمق في فترة العالمانية التي كانت وعدتنا بعصر النور والتقدم والرفاهية.
(5) لقد انخدعت شعوبنا بالانقلابات التي سميت ثورات، وأمَّل الناس فيها خيراً، وقد غرهم منها ما تصنعته من وطنية، أسهم في هذا الخداع تزامن رحيل المستعمر وانعتاق البلاد من شره مع مجيء الحكام الجدد، وإعلان الاستقلال الذي لم يكن سوى حكم استعماري بالوكالة، يحمل نفس ’’الأيدلوجيات’’ وينفذ أجندة عهد بها إليه من قبل المستعمر الراحل.
كانت المجالس العسكرية الحاكمة والأسر المالكة المنصَّبة عنوة تحمِل نفس الثقافة الوافدة، وسُلمت مؤسسات الحكم ومراكز التأثير لتلاميذ كرومر ووكيله أحمد لطفي السيد، وتلاميذ البعثات العائدة من بريطانيا وفرنسا وأمريكا وغيرها.
وما إن استتبت الأمور لهذه الأنظمة وتمكنت من بسط نفوذها وهيمنتها على البلاد ؛ حتى راحت تعيث في الأرض فساداً وتذيق الشعوب من الاضطهاد والظلم والإذلال أبشع ما لم تذقه على يد المستعمر نفسه رغم شناعة ما كان يرتكبه.
(6) وتعاظم حجم الكبت الذي عانته شعوبنا مع الازدياد المطرد لبشاعة المستبدين.. حتى كانت لحظة الانفجار...
وقامت الثورات الحقيقية (تونس ـ مصر ـ ليبيا ـ اليمن.. والحبل على الجرار)، ولم يغب الإسلام عن المشهد في بعده الانتمائي والأخلاقي والعاطفي، ظهر ذلك من خلال الهتافات وإقامة الصلوات والسلوك العام لدى الثائرين.. ولكنه ـ من أسف ـ كان غائباً في بعده العقائدي كشريعة حاكمة واجب تطبيقها، ووقفت مطالب الثوار عند سقف (تغيير ـ حرية ـ عدالة اجتماعية) .
لقد انحصر الوعي بهذه القضية في بعض التيارات الإسلامية لم يتخطاها إلى عموم الأمة، أعني الوعي المدرك للمسؤولية الإيمانية تجاه وجوب تطبيق الشريعة، وإلا فإن الوعي العلمي المجرد أوسع من هذه الدائرة، ولكن لم يكن للإسلاميين حيلة كي يرفعوا سقف المطالب ليرتقي إلى المناداة بتطبيق الشريعة وهم يدركون محدودية الوعي بها على النحو الذي ذكرت.
(7) إن انحسار وعي الأمة بقضية الحاكمية إلى حد أن ينحصر في قطاع من نخبتها الإسلامية، إهمال توعوي جسيم يتحمل مسؤوليته المجتمع بأسره، ولكن ثمة أسباب مباشرة ورئيسة أحصيها فيما يلي:
الأول: الموقف الممالئ للأنظمة من قبل المؤسسة الدينية الرسمية، إذ اتبعت سياسة الإغفال المتعمد لقضية الحاكمية، على مستوى المناهج الدراسية والخطط الدعوية المعتمدة لديها. وعلى التوازي من هذا اعتمدوا منهجية التلبيس في الردود الرسمية على الأطروحات العلمية والدعوية المتبنية لقضية الحاكمية.
فعلى سبيل المثال : ترويجهم أن الشريعة الإسلامية مطبقة، وكانت طريقتهم في إثبات هذه الدعوى إحصاء القوانين التجارية والمدنية وغيرها من المواد القانونية المتناثرة في بعض التشريعات والتي لا تعارض الشريعة، ثم حساب تلك القوانين بطريقة النسبة والتناسب، ليخرجوا لنا المحصلة النهائية والتي أوصلوها إلى ما يربو على ستين في المائة، ليعتبروا أن هذه النسبة ـ وقد جاوزت 5% ـ تقضي بأن الشريعة مطبقة!!
هكذا .. وكأنهم يحسبون درجة نجاح تعدت النهاية الصغرى، متغافلين عن أن ترك حكم واحد فعل محظور شرعاً، فكيف إن تجاوز إقصاء الشريعة مجرد الترك إلى التبديل، أي بإلغاء حكم الله وإحلال قانون بشري محله أو بالعدول عن العقوبة المقررة شرعاً إلى عقوبة أخرى، وهذا التبديل ـ لا ريب ـ يقتضي جعل الحلال حراماً أو الحرام حلالاً، فإن اعتبار فعل محرم شرعا عملاً غير مؤاخذ عليه قانوناً هو إذن فيه، أي إباحة له، والمباح صنو الحلال، كما الشأن في قوانين تجريم الزنا وشرب الخمر والاتجار بها وتقنين استيرادها، وقوانين تنظيم أعمال البنوك عبر العمليات الربوية، هذا بالنسبة للتبديل، أما التعديل؛ فكما في عقوبة القتل العمد وعقوبة السرقة من قانون الجنايات.
الثاني: التأويلات التعسفية لبعض منتسبي التيار الإسلامي، والتي طالما كانت تشوش على قضية الحاكمية بالحديث عن طاعة ولي الأمر ولزوم مقتضى البيعة (ولست أدري أي بيعة يعنون إن كان الحاكم جاء على غير مشورة أهل الحل والعقد، وبتجاوز شرط رضا الأمة).
الثالث: إيثار تيارات إسلامية للسلامة والدعة، إذ كانوا يتجنبون تناول قضية الحاكمية تفادياً لمؤاخذة السلطات الحاكمة، بل وصل الأمر ببعضهم إلى إظهار المخالفة للجماعات المتبنية لقضية الحاكمية دعوة وتعليماً وسعياً لجعلها قيد التطبيق.
(8) والذي يجب على الكافة استدراكه في المرحلة المقبلة هو الاعتناء الجاد بتنمية الوعي العام لدى الأمة بقضية الحاكمية.
إن هذا القدر المتحقق والمأمول من الحريات لا ريب يمثل شوطاً مهماً يقرب الأوضاع العامة من مرحلة موائمة، مرحلة تكون فيها الجاهزية الاجتماعية قادرة وعازمة على تحمل مسؤوليتها الدينية تجاه بتطبيق الشريعة.
لقد أسهم الإسلاميون في هذه الثورات بقسط كبير لأنها جاءت معبرة عن تطلعات الأمة في حياة كريمة تلفها أجواء الحرية والعدل، والحرية والعدل مقصدان رئيسان من مقاصد الإسلام المقررة المقطوع بمشروعيتها، ولا ريب أن أجواء الحرية سوف تمنح الناس فسحة في إقامة شعائرهم دون تضييق، وسوف توفر للدعوة والدعاة متنفساً سهلاً بعد ممارسات الخنق والتكميم والقمع والتأميم التي عانينا منها ستين عاماً أو يزيد.
ولا ينبغي أن نستغرق في الابتهاج والفرح بنجاح الثورة إلى حد أن نذهل عن أننا كأمة مسلمة لم نستعد بعد دورنا الريادي ولا استرجعنا للشريعة مكانتها اللائقة.
محمد مصطفى المقرئ / الأمين العام السابق للرابطة الإسلامية للعاملين بالكتاب والسنة
الإسلام الحاضر الغائب في المشهد الثوري
وقامت الثورات الحقيقية (تونس ـ مصر ـ ليبيا ـ اليمن.. والحبل على الجرار)، ولم يغب الإسلام عن المشهد في بعده الانتمائي والأخلاقي والعاطفي، ظهر ذلك من خلال الهتافات وإقامة الصلوات والسلوك العام لدى الثائرين.. ولكنه ـ من أسف ـ كان غائباً في بعده العقائدي كشريعة حاكمة واجب تطبيقها، ووقفت مطالب الثوار عند سقف (تغيير ـ حرية ـ عدالة اجتماعية).. ولا ينبغي أن نستغرق في الابتهاج والفرح بنجاح الثورة إلى حد أن نذهل عن أننا كأمة مسلمة لم نستعد بعد دورنا الريادي ولا استرجعنا للشريعة مكانتها اللائقة..
(1)
لم يزل الإسلام ـ منذ بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم ـ حاضراً فاعلاً لم يغب عن واقع هذه الأمة، حتى في مراحل التراجع والانكماش، وإن نسبياً.
ورغم ما طرأ على واقعه السياسي من محدثات، إلا أن الخط العام بقي على استقامته ممثلاُ في أمرين: مرجعية الإسلام في الحكم والتشريع. والتزام الأمة المتمثل في اعتقادها وإيمانها، وفي تحليها بأخلاقها المعبر عن تمسكها بقيمها.
غير أنه منذ سقوط الخلافة العثمانية ومع مرحلة الاستعمار والتقسيم وبداية حقبة العالمانية.. تم استبعاد الشريعة الإسلامية كمرجعية للحكم والتشريع.
(2) لقد كتب تاريخ الأمة بمنهجية خاطئة، ذلك أنه جعل سيرة الممالك والملوك هو صلب تاريخ الإسلام، بينما لم يلق الضوء على سيرة الأمة وسلوكها إلا كمشاهد خلفية أو ملحقات ثانوية تابعة !!
ولو أنه أعيدت كتابة التاريخ وأعطيت الأمة حقها المكافئ لدورها وحضورها وفعلها فيه لتأكد لنا أن الأمة هي الصانعة لأحداثه بالأساس والمشيدة لأمجاده بشكل رئيس، لا الممالك ولا الملوك.
(3) وقد ترافق مع المسيرة الإيمانية والأخلاقية المشرفة للأمة عبر تاريخها وعي يقظ بفرضية الشريعة كمرجعية للحكم والتشريع، غير أن هذا الوعي أخذ في التآكل ـ وإن ببطء ـ بسبب دخول تصورات وأفكار غريبة استقيت من ثقافات اليونان وموروثات الإغريق كالأرسطية وغيرها، وبسبب ما روجت له الفرق المبتدعة من أصولها الضالة، كأصل المرجئة ـ مثلاً ـ في إخراج العمل من مسمى الإيمان.
ثم جاءت حقبة العالمانية لتفرض ـ بواقع الأمر ـ وبمفاهيمها في الفصل بين الدين والدنيا تصوراً جديداً تبدلت به ثقافة المجتمع، ومن ثم تضاعف معدل تآكل الوعي العام للأمة بوجوب التزام الإسلام كمرجعية في الحكم والتشريع.
(4) وفي ظلال الحقبة العالمانية التي جاءتنا تبشر بالمجتمع المدني والدولة الحديثة المتحضرة .. حكمتنا أنظمة استبدادية جاءتنا متلفعة بثورات مفتعلة، وخدعتنا بدعاوى استقلال تبين لنا من بعدُ خواؤها، وأنه لم يكن إلا مجرد استقلال في الملامح والأسماء والأصول الجنسية، لا في السلوك والطبائع والتصورات ولا في المعتقدات والمناهج والثقافات.
وفي ظلال الحقبة العالمانية ضاعت فلسطين التي ظلت صامدة في وجه المؤامرات اليهودية والغربية حتى آخر أيام الخلافة العثمانية.
وفي ظلال الحقبة العالمانية، تراجعت أمتنا علمياً وحضارياً واقتصادياً، نعم كان هذا التراجع قد بدأ منذ بدء ضعف الدولة الإسلامية في أواخر عهود الخلافة، ولكنه ترسخ وتعمق في فترة العالمانية التي كانت وعدتنا بعصر النور والتقدم والرفاهية.
(5) لقد انخدعت شعوبنا بالانقلابات التي سميت ثورات، وأمَّل الناس فيها خيراً، وقد غرهم منها ما تصنعته من وطنية، أسهم في هذا الخداع تزامن رحيل المستعمر وانعتاق البلاد من شره مع مجيء الحكام الجدد، وإعلان الاستقلال الذي لم يكن سوى حكم استعماري بالوكالة، يحمل نفس ’’الأيدلوجيات’’ وينفذ أجندة عهد بها إليه من قبل المستعمر الراحل.
كانت المجالس العسكرية الحاكمة والأسر المالكة المنصَّبة عنوة تحمِل نفس الثقافة الوافدة، وسُلمت مؤسسات الحكم ومراكز التأثير لتلاميذ كرومر ووكيله أحمد لطفي السيد، وتلاميذ البعثات العائدة من بريطانيا وفرنسا وأمريكا وغيرها.
وما إن استتبت الأمور لهذه الأنظمة وتمكنت من بسط نفوذها وهيمنتها على البلاد ؛ حتى راحت تعيث في الأرض فساداً وتذيق الشعوب من الاضطهاد والظلم والإذلال أبشع ما لم تذقه على يد المستعمر نفسه رغم شناعة ما كان يرتكبه.
(6) وتعاظم حجم الكبت الذي عانته شعوبنا مع الازدياد المطرد لبشاعة المستبدين.. حتى كانت لحظة الانفجار...
وقامت الثورات الحقيقية (تونس ـ مصر ـ ليبيا ـ اليمن.. والحبل على الجرار)، ولم يغب الإسلام عن المشهد في بعده الانتمائي والأخلاقي والعاطفي، ظهر ذلك من خلال الهتافات وإقامة الصلوات والسلوك العام لدى الثائرين.. ولكنه ـ من أسف ـ كان غائباً في بعده العقائدي كشريعة حاكمة واجب تطبيقها، ووقفت مطالب الثوار عند سقف (تغيير ـ حرية ـ عدالة اجتماعية) .
لقد انحصر الوعي بهذه القضية في بعض التيارات الإسلامية لم يتخطاها إلى عموم الأمة، أعني الوعي المدرك للمسؤولية الإيمانية تجاه وجوب تطبيق الشريعة، وإلا فإن الوعي العلمي المجرد أوسع من هذه الدائرة، ولكن لم يكن للإسلاميين حيلة كي يرفعوا سقف المطالب ليرتقي إلى المناداة بتطبيق الشريعة وهم يدركون محدودية الوعي بها على النحو الذي ذكرت.
(7) إن انحسار وعي الأمة بقضية الحاكمية إلى حد أن ينحصر في قطاع من نخبتها الإسلامية، إهمال توعوي جسيم يتحمل مسؤوليته المجتمع بأسره، ولكن ثمة أسباب مباشرة ورئيسة أحصيها فيما يلي:
الأول: الموقف الممالئ للأنظمة من قبل المؤسسة الدينية الرسمية، إذ اتبعت سياسة الإغفال المتعمد لقضية الحاكمية، على مستوى المناهج الدراسية والخطط الدعوية المعتمدة لديها. وعلى التوازي من هذا اعتمدوا منهجية التلبيس في الردود الرسمية على الأطروحات العلمية والدعوية المتبنية لقضية الحاكمية.
فعلى سبيل المثال : ترويجهم أن الشريعة الإسلامية مطبقة، وكانت طريقتهم في إثبات هذه الدعوى إحصاء القوانين التجارية والمدنية وغيرها من المواد القانونية المتناثرة في بعض التشريعات والتي لا تعارض الشريعة، ثم حساب تلك القوانين بطريقة النسبة والتناسب، ليخرجوا لنا المحصلة النهائية والتي أوصلوها إلى ما يربو على ستين في المائة، ليعتبروا أن هذه النسبة ـ وقد جاوزت 5% ـ تقضي بأن الشريعة مطبقة!!
هكذا .. وكأنهم يحسبون درجة نجاح تعدت النهاية الصغرى، متغافلين عن أن ترك حكم واحد فعل محظور شرعاً، فكيف إن تجاوز إقصاء الشريعة مجرد الترك إلى التبديل، أي بإلغاء حكم الله وإحلال قانون بشري محله أو بالعدول عن العقوبة المقررة شرعاً إلى عقوبة أخرى، وهذا التبديل ـ لا ريب ـ يقتضي جعل الحلال حراماً أو الحرام حلالاً، فإن اعتبار فعل محرم شرعا عملاً غير مؤاخذ عليه قانوناً هو إذن فيه، أي إباحة له، والمباح صنو الحلال، كما الشأن في قوانين تجريم الزنا وشرب الخمر والاتجار بها وتقنين استيرادها، وقوانين تنظيم أعمال البنوك عبر العمليات الربوية، هذا بالنسبة للتبديل، أما التعديل؛ فكما في عقوبة القتل العمد وعقوبة السرقة من قانون الجنايات.
الثاني: التأويلات التعسفية لبعض منتسبي التيار الإسلامي، والتي طالما كانت تشوش على قضية الحاكمية بالحديث عن طاعة ولي الأمر ولزوم مقتضى البيعة (ولست أدري أي بيعة يعنون إن كان الحاكم جاء على غير مشورة أهل الحل والعقد، وبتجاوز شرط رضا الأمة).
الثالث: إيثار تيارات إسلامية للسلامة والدعة، إذ كانوا يتجنبون تناول قضية الحاكمية تفادياً لمؤاخذة السلطات الحاكمة، بل وصل الأمر ببعضهم إلى إظهار المخالفة للجماعات المتبنية لقضية الحاكمية دعوة وتعليماً وسعياً لجعلها قيد التطبيق.
(8) والذي يجب على الكافة استدراكه في المرحلة المقبلة هو الاعتناء الجاد بتنمية الوعي العام لدى الأمة بقضية الحاكمية.
إن هذا القدر المتحقق والمأمول من الحريات لا ريب يمثل شوطاً مهماً يقرب الأوضاع العامة من مرحلة موائمة، مرحلة تكون فيها الجاهزية الاجتماعية قادرة وعازمة على تحمل مسؤوليتها الدينية تجاه بتطبيق الشريعة.
لقد أسهم الإسلاميون في هذه الثورات بقسط كبير لأنها جاءت معبرة عن تطلعات الأمة في حياة كريمة تلفها أجواء الحرية والعدل، والحرية والعدل مقصدان رئيسان من مقاصد الإسلام المقررة المقطوع بمشروعيتها، ولا ريب أن أجواء الحرية سوف تمنح الناس فسحة في إقامة شعائرهم دون تضييق، وسوف توفر للدعوة والدعاة متنفساً سهلاً بعد ممارسات الخنق والتكميم والقمع والتأميم التي عانينا منها ستين عاماً أو يزيد.
ولا ينبغي أن نستغرق في الابتهاج والفرح بنجاح الثورة إلى حد أن نذهل عن أننا كأمة مسلمة لم نستعد بعد دورنا الريادي ولا استرجعنا للشريعة مكانتها اللائقة.
محمد مصطفى المقرئ / الأمين العام السابق للرابطة الإسلامية للعاملين بالكتاب والسنة