مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
عِــلْمٌ نبيـــل.. ولــــكــــن!
بقلم: د . سلمان بن فهد العودة
يقول رسول الله [ فيما رواه البخاري: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً»، وفي رواية: «عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ». كلّما قرأت هذا الحديث النبوي عن الطب تداعى إلى ذهني سؤال: ماذا كان وقع هذا الحديث على المسلمين عبر العصور السالفة؟! إن هذا تصريح نبوي محكم بأن كل مشكلة لها حل أنزله الله، وبإمكان الناس أن يتعرّفوا عليه ليستخدموه ويطوّروه.. أيُّ تحفيزٍ أعظم من هذا لإنسان تعتريه الآفات والأمراض في نفسه وفي ولده الغالي وزوجه الحبيب وصديقه الأثير ووالده العزيز أن يعلم أن فيما حوله وسيلة لرفع المعاناة وكشف الضر بإذن الله، خالق الداء والدواء؟! إنها دعوة للبحث والتنقيب والاكتشاف والانفتاح على خبرات الآخرين من الشرق والغرب، والإضافة إليها والتعاطي معها بإيجابية باعتبارها تراثاً إنسانياً مشتركاً يسهم في نهاية المطاف في حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وفي صحيح مسلم؛ من حديث جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الْأَسَدِيَّةِ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ [ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ، فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ، فَلا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئاً»، والغيلة، هي أن يأتي الرجل امرأته المرضعة.. والنبي [ هنا يقول: «فَنَظَرْتُ»!! إن التجارب الأممية البشرية النافعة معنى مشترك يستفيد منه الناس، كما أن الاستفادة من الأخطاء والسلبيات إنما تكون باجتنابها لا باقتفاء أثرها.. وخليق بأمة عندها مثل هذا الحديث النوراني الذي يدلها على المفتاح ويطلب منها الاجتهاد أن تكون أرقى الأمم. إن كليات الطب في عالمنا الإسلامي تدرس الطب باللغة الإنجليزية، وأفضلها حالاً وأجودها مستوى وأقلها عدداً هي التي تستطيع أن تواكب مستجدات النظريات الطبية والعلمية، وما أصعب ذلك بالقياس إلى جامعات عريقة ومستشفيات ضخمة في العالم، تُجري دراسات هائلة، وتبذل مئات الملايين من الدولارات في سبيل الوصول إلى المعلومات، وما الحديث عن زراعة ما يسمى بالخلايا الجذعية والعصبية إلا شيء مذهل يدير الرؤوس؛ من هذه العلوم التي يُفترض أن يكون المسلمون أولى بها؛ لأن قرآنهم أول ما نزل تكلم عنها في الآيات الخمس الأولى التي نزلت بغار حراء اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ 3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ 4 عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ 5 (العلق). لماذا غفلت حضارتنا الإسلامية عن هذا حتى قال الشافعي - يرحمه الله - عن الطب: «لا أعلم عِلْماً بعد الحلال والحرام أنبلَ من الطِّبِّ، إلّا أنّ أهل ا لكتاب قد غلبونا عَلَيْهِ». وقال حَرْمَلَة: «كَانَ الشّافعيّ يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطِّبِّ، ويقول: ضيعوا ثُلُث العِلْم، ووكّلوه إلى اليهود والنّصارى!». فلماذا أصبح المسلمون في عصرنا بهذا القدر من البعد عن قضايا الطب والتقنية والعلم؟ ولماذا لم يلتقطوا هذا الخيط الباعث على الإبداع والعمل الحضاري في كتاب ربهم وسنة نبيهم [، مع قراءتهم للقرآن والحديث في كل المجالات العلمية والعملية من زراعة، وصناعة، وطب وعلوم الإنسان، وعلوم الحياة وغيرها؟ لن نعجز عن قراءة ما سطره الكاتب البرازيلي «جيلبيرتو فريري» في كتابه «عالم جديد في الأوساط الاستوائية»، وهو يقول: إن «هذا الكتاب سيقيم الدليل على أهمية إسهام العرب في تكوين الإنسان البرازيلي»، وسنجد في تاريخنا أطباء مهرة، ومؤلفين حذاقاً اعتمدت عليهم أوروبا في علمها ردحاً من الزمن. لكن سيكون مؤكداً أن حجمهم لا يُقاس بحجم المؤرخين أو الشعراء أو الباحثين أو الفقهاء.. أو حتى الأطباء الشعبيين الذين لا يفرق بعضهم بين شكوى وأخرى، في عصر تحاول فيه تقنية «النانو» أن تصمِّم لكل مريض دواء شخصياً يراعي ظروفه الذاتية ومدى وجود السكر أو الكولسترول أو الضغط أو أي معاناة أخرى لديه. لا شك في أن ثمة خللاً كبيراً وشرخاً واسعاً في الابتعاد عن الهدي الرباني والعلم الإسلامي.. وقد خلق الله الإنسان وجعل له كل ما في الأرض ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)(البقرة:29)، واستعمره فيها، ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (هود:61)، وجعل هذا الإنسان بعقله وعلمه مسلطاً على شأن الأرض بصناعتها وزراعتها ورعايتها وبعثها، وحثِّ الإنسان على النظر إلى ملكوت الله وإلى أرضه ليكتشف فيها القوانين الإلهية في قيام الحضارات وانهيارها كأسباب رقيها وتمدنها، وجعل ذلك كله باعثاً له للعمل على سقي الحياة وبعثها ورعايتها بالروح والقوة والمادة. فالعلم الذي يقرِّب إلى الله هو كل علم صالح نافع يقوم على عمارة الدنيا وسياستها وإقامة الدين بها، أو كما يقول الإمام الماوردي: «ما أدى الفرض، وعمر الأرض».. ولنا أن نقول: إن الوصول بالحضارة الإسلامية إلى قمتها لا يلزم أن يتم خلال حقبة زمنية، وكم ترك الأول للآخر؟ والعلم ليس له جنسية ولا لون ولا مذهب، بل هو معنى إنساني تراكمي تتوارثه الأمم وتتناقله الأجيال، فيا ليتنا نقدر على مواكبة كشوف العلم المذهلة أو الاقتباس منها.
*المجتمع
أضافة تعليق