د. بشير موسى نافع
16-12-2010
المدهش في هذه السيرة للدولة الحديثة، أنها لا تستدعي كثيراً من الجدل في الدوائر السياسية ودوائر الرأي العام، حيث لم تزل هذه الدولة وموقعها في الاجتماع السياسي والنظام الدولي فرضية أقرب إلى المسلمات العقدية. معظم الجدل حول الدولة لم يزل محصوراً في الدوائر الأكاديمية الضيقة، بينما تمس إشكالات هذه الدولة حياة مئات الملايين من البشر يومياً، بما في ذلك أغلب العرب والمسلمين..
يس ثمة من تعريف قاطع للدولة التي تحكمنا اليوم وتعتبر حجر زاوية النظام الدولي، أو الوحدة الأساسية للعلاقات بين الأمم وبنية المنظمات الدولية. تتباين تعريفات الدولة بتباين المعاجم اللغوية والموسوعات أو معاجم التخصصات المختلفة للعلوم الإنسانية والاجتماعية.
التعريف الأشهر للدولة، الذي يعود إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، والذي يصف الدولة بأنها المؤسسة الاجتماعية التي تحتكر العنف، يفهم عادة بمعنى شرعية احتكار العنف، ويستبطن معاني السيطرة والهيمنة. ولكن المشكلة أن الدولة، كما كل المفاهيم ذات الامتداد التاريخي، لا يمكن تعريفها في صورة جامعة وقاطعة، كما أشار نيتشه.
ليست الدولة معطى ناجزاً، وهي مفهوم ومؤسسة ذات صيرورة، تأخذ صوراً وتكتسب سمات وتستبطن معاني، تختلف باختلاف الحقبة التاريخية واختلاف الموقع والسياق. وبالرغم من ذلك، فثمة تسميات أكثر شيوعاً للدولة من غيرها، مثل الدولة القومية (أو الدولة - الأمة، إن أردنا الترجمة الحرفية للأصل الأوروبي)، والدولة الحديثة.
والواضح أن مصطلح الدولة الحديثة أكثر شمولاً، ويفترض عادة أنه يضم الدول التي تؤكد سمتها القومية والأخرى التي تحاول أن تتجنب التوكيد على البعد القومي، بدون أن تغفله كلية.
وتتعلق الأسباب خلف التوتر، أو التباين الخفي بين المصطلحين، بالجذور التاريخية لمؤسسة الدولة، وبتجلياتها المتعددة. ما لا يختلف عليه دارسو الدولة الحديثة أن بداياتها تعود إلى صلح وستفاليا في منتصف القرن السابع عشر، الذي وضع نهاية لحروب الثلاثين عاماً، عندما كانت أوروبا تعيش ذيول عصر النهضة وولادة الطبقات الوسطى، ولم تزل فريسة للصراعات الدينية الناجمة عن الانشقاق البروتستانتي، وصراعات الأمراء والملوك فيما بينهم حول نطاقات السيطرة والشرعية، وبين أغلبهم والمؤسسة الإمبراطورية، التي ورثت الإمبراطورية الرومانية المقدسة وإطارها الأوروبي الجمعي، حول السيادة. في وستفاليا، وضعت أسس فكرة الاستقلال السياسي، والتطابق بين حكم معين وحدود الكيان الذي يخضع لسيطرته.
وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، شهدت أوروبا ثورتين كبريين، الثورة الإنكليزية والثورة الفرنسية. دفعت الأولى باتجاه فكرة الاجتماع السياسي التسامحي، وحققت قفزة ملموسة باتجاه انتقال الدولة إلى مؤسسة تعبر عن إرادة الأمة، لا تجلياً لحق الملك الإلهي - السلالي. أما الثورة الفرنسية، التي كانت لها أصداء كبيرة وواسعة النطاق، فقد أعلت من شأن فكرة المواطنة والمساواة أمام القانون كما لم يحدث من قبل في التاريخ الأوروبي، وأكدت الطابع القومي للدولة، باعتبارها تجلياً للتماهي بين مؤسسة الحكم والتنظيم الاجتماعي والأمة.
نجحت بروسيا في النصف الأول من القرن الثامن عشر في تحقيق إنجازات نوعية على مستوى تنظيم وإدارة مؤسسة الجيش الحديث. وربما يعتبر الإنجاز البروسي نتاج سلسلة الحروب الداخلية المتواصلة التي عاشتها أوروبا، والحروب بين القوى الأوروبية والجيوش العثمانية، حيث برزت قيمة المدفعية الحديثة، وأهمية إدارة مجموعات عسكرية كبيرة في ساحة المعركة، تعد بعشرات الآلاف.
في بروسيا ولدت أفكار ارتكاز الجيش إلى قوة نيران متفوقة، إلى سرعة الحركة وكفاءة الاتصال، ومركزية القيادة، واتسعت بالتالي الهوة بين أداة العنف التي تمتلكها الدولة وتلك التي يمكن أن تحوزها الجماعات المتمردة أو الخارجة على سلطة الدولة، إقطاعية كانت أو حضرية. وسرعان ما استلهم الأنموذج العسكري البروسي، في فرنسا نابليون أولاً ثم في دول أوروبية وغير أوروبية أخرى، مثل الدولة العثمانية، ليسهم في تعزيز سلطة الدولة على أرضها وشعبها.
ولأن جرثومة الهوية القومية سرعان ما انتشرت داخل أوروبا وخارجها، بقوة المدرسة والجامعة الحديثتين والتسارع الكبير في أدوات الاتصال والطباعة، فسرعان ما جعل التزاوج بين الحركة القومية والتقدم العسكري من الحرب جحيماً واسع النطاق من الدمار والخراب والإبادة.
وأصبحت الحروب بدورها رحماً ضرورياً لولادة الدول، القومية - الحديثة، وتكاثرها. أخذت الأنظمة الإمبراطورية في الانحسار أو الانهيار، وفي انحسارها أو انهيارها، تركت خلفها كيانات سياسية جديدة، أو أفسحت المجال لتوسع إمبراطوريات منافسة.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة الحديثة في صورتيها الأكثر والأقل قومية، قد أصبحت الوحدة السياسية الأكثر انتشاراً في العالم؛ وهو التطور الذي وجد انعكاساً له في عصبة الأمم. ولكن استثناءات هامة وجدت أيضاً، مثل الاتحاد السوفييتي، وريث الإمبراطورية الروسية، والإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية.
ولكن، وبالرغم من تباين الفكرة السياسية التي استندت إليها كل من هذه الكيانات الإمبراطورية، ودرجة اعتناقها لقيم المواطنة والمساواة واستبطان العلاقة، حقيقة أو شكلاً، بين مؤسسة الحكم والأمة، إلا أنها جميعاً تبنت السمات الأساسية التي ميزت بنية الدولة الحديثة.
بخلاف الدولة التقليدية، تمارس الدولة الحديثة حكماً مركزياً، يقوم على الأصل الأكبر: أن الدولة مصدر الشرعية ومنها تصدر القوانين؛ وتؤسس عملية التقنين لسيطرة الدولة الشاملة على التعليم، الاقتصاد والتجارة والنقد، الاتصال، الإسكان، أنماط السلوك، العقاب، الملكية، الأمن، والأرض والحدود. تفترض الدولة، باعتبارها تجلي الأمة، الولاء الكامل، الذي يؤسس في المقابل لفكرة أن قرارات الدولة وسياساتها تعبيراً عن إرادة الأمة، ويؤسس كذلك لمبدأ الخيانة بكافة مستوياتها ودرجاتها.
ولأن الدولة الحديثة نشأت في حقبة الصعود القومي، الذي كان المسوغ الأبرز لوجود العدد الأكبر من الكيانات السياسية الحديثة، تلعب الفكرة القومية دوراً بارزاً في بنية الدولة وتوجهاتها وطبيعة قراراتها. ولكن الدول تختلف في علاقتها بالفكرة القومية.
بريطانيا، مثلاً، التي هي نتاج المملكة المتحدة من عدد من الكتل الإثنية، تتجنب عادة التركيز على الهوية القومية، وقد طورت بدلاً منها هوية بريطانية جامعة وأوسع نطاقاً من الهويات الإثنية. وفي المجال العربي ـ الإسلامي، كانت الهوية الجامعة، القومية فوق القوميات، هي التي أسست لإيران الحديثة منذ عصر رضا شاه.
في حالات، مثل فرنسا والجمهورية التركية، افترضت الدولة وجود هوية قومية محددة، وتعهدت فرض هذه الهوية وتنميتها وحراستها.
وفي حالات أخرى، مثل ألمانيا، وجدت الهوية القومية قبل ولادة الدولة الموحدة. ولكن هويات قومية أخرى، مثل الهوية العربية، لم تستطع بناء دولتها الموحدة، بالرغم من وجود كيانات متعددة تنتمي إلى الهوية القومية.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وانطلاق حركة التحرر من الاستعمار، أصبحت الدولة القومية ـ الحديثة النموذج الشرعي للدولة في العالم؛ وأسست الأمم المتحدة باعتبارها الإطار المرجعي لوجود الدولة وشرعيتها.
وقد تعززت هيمنة الدولة القومية ـ الحديثة على الساحة العالمية السياسية بانهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات، وتحرر الكيانات السياسية القومية التي ضمها الإطار السوفييتي، وانقسام الكيانات فوق القومية القلقة التي احتمت بمظلة الكتلة الشرقية، مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا.
وبسيطرة أنموذج الدولة القومية ـ الحديثة باعتبارها وحدة النظام الدولي وأساس العلاقات بين الشعوب، ولد مفهوم الدولة الفاشلة.
وبالرغم من صعوبة تعريف الدولة الفاشلة، الصعوبة التي تستتبع التباينات الواسعة في تعريف الدولة أصلاً، فالمفترض أن كل دولة تعجز عن امتلاك السمات الأساسية للدولة القومية ـ الحديثة هي بالنتيجة دولة فاشلة.
عندما تجبر الدولة على التخلي عن سمتها الأصلية باعتبارها مصدر الشرعية والقانون؛ عندما تفقد الدولة قدرتها على ادعاء التماهي مع شعبها، أو تفقد سيطرتها على أرضها وحدودها بدرجة بارزة؛ عندما تعجز الدولة عن فرض الأمن والنظام وتضيق بالتالي الهوة الفاصلة بين أدوات العنف الخاصة بها وتلك التي استطاعت قوى ومجموعات خارجة عن إرادة الدولة تملكها؛ وعندما تخفق الدولة كلية في إدارة الشأن المالي والاقتصادي؛ تعتبر الدولة فاشلة، تفقد عضويتها في الأمم المتحدة، وتمتنع الدول الأخرى عن عقد معاهدات واتفاقيات معها، ولا تجد هذه الدول مبرراً لاحترام سيادتها.
باعتبار التاريخ الإنساني الطويل وتاريخ الاجتماع السياسي، تعتبر الدولة القومية ـ الحديثة ذات عمر قصير بالفعل، بحيث يصعب فهم سيطرتها القاطعة على تصور المجتمع الإنساني للدولة وفهم احتكارها القطعي للنظام الدولي. ولكن ثمة ما هو أكثر مدعاة للتساؤل؛ فعدد الدول القومية ــ الحديثة التي فشلت بالفعل خلال الحقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو تلك التي تعاني صعوبات هيكلية ملموسة، هو عدد كبير بالتأكيد.
ثمة دول شهدت موجات متكررة من الحروب الأهلية، على خلفيات عرقية - إثنية أو دينية أو سياسية، مثل لبنان وباكستان الكبرى (الشرقية والغربية معاً) وسريلانكا، ويوغسلافيا وجورجيا، ومثل نيجيريا والكونغو ودول البحيرات العظمى وليبيريا وأثيوبيا، ومثل الصومال، التي تعتبر الآن الشاهد الأبرز على فشل الدولة وانفراط عقدها.
وهناك دول عانت أو تعاني من فترات متفاوتة من العنف الداخلي، مثل العراق والجزائر وافغانستان والسودان وباكستان الحالية واليمن. إضافة إلى دول تمر الآن بقدر من القلق، مثل بلجيكا وحتى بريطانيا.
ويمكن القول إن التطور الحثيث للسوق الأوروبية المشتركة إلى اتحاد أوروبي ينم عن قلق عميق لدى الدول الأوروبية، التي تعتبر أكثر الدول الحديثة استقراراً، سواء لاعتبارات تاريخية أو أمنية أو للتعددية الإثنية التي تتمتع بقوة دفع قومية متفاوتة.
المدهش في هذه السيرة للدولة الحديثة، أنها لا تستدعي كثيراً من الجدل في الدوائر السياسية ودوائر الرأي العام، حيث لم تزل هذه الدولة وموقعها في الاجتماع السياسي والنظام الدولي فرضية أقرب إلى المسلمات العقدية. معظم الجدل حول الدولة لم يزل محصوراً في الدوائر الأكاديمية الضيقة، بينما تمس إشكالات هذه الدولة حياة مئات الملايين من البشر يومياً، بما في ذلك أغلب العرب والمسلمين.
*العصر
16-12-2010
المدهش في هذه السيرة للدولة الحديثة، أنها لا تستدعي كثيراً من الجدل في الدوائر السياسية ودوائر الرأي العام، حيث لم تزل هذه الدولة وموقعها في الاجتماع السياسي والنظام الدولي فرضية أقرب إلى المسلمات العقدية. معظم الجدل حول الدولة لم يزل محصوراً في الدوائر الأكاديمية الضيقة، بينما تمس إشكالات هذه الدولة حياة مئات الملايين من البشر يومياً، بما في ذلك أغلب العرب والمسلمين..
يس ثمة من تعريف قاطع للدولة التي تحكمنا اليوم وتعتبر حجر زاوية النظام الدولي، أو الوحدة الأساسية للعلاقات بين الأمم وبنية المنظمات الدولية. تتباين تعريفات الدولة بتباين المعاجم اللغوية والموسوعات أو معاجم التخصصات المختلفة للعلوم الإنسانية والاجتماعية.
التعريف الأشهر للدولة، الذي يعود إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، والذي يصف الدولة بأنها المؤسسة الاجتماعية التي تحتكر العنف، يفهم عادة بمعنى شرعية احتكار العنف، ويستبطن معاني السيطرة والهيمنة. ولكن المشكلة أن الدولة، كما كل المفاهيم ذات الامتداد التاريخي، لا يمكن تعريفها في صورة جامعة وقاطعة، كما أشار نيتشه.
ليست الدولة معطى ناجزاً، وهي مفهوم ومؤسسة ذات صيرورة، تأخذ صوراً وتكتسب سمات وتستبطن معاني، تختلف باختلاف الحقبة التاريخية واختلاف الموقع والسياق. وبالرغم من ذلك، فثمة تسميات أكثر شيوعاً للدولة من غيرها، مثل الدولة القومية (أو الدولة - الأمة، إن أردنا الترجمة الحرفية للأصل الأوروبي)، والدولة الحديثة.
والواضح أن مصطلح الدولة الحديثة أكثر شمولاً، ويفترض عادة أنه يضم الدول التي تؤكد سمتها القومية والأخرى التي تحاول أن تتجنب التوكيد على البعد القومي، بدون أن تغفله كلية.
وتتعلق الأسباب خلف التوتر، أو التباين الخفي بين المصطلحين، بالجذور التاريخية لمؤسسة الدولة، وبتجلياتها المتعددة. ما لا يختلف عليه دارسو الدولة الحديثة أن بداياتها تعود إلى صلح وستفاليا في منتصف القرن السابع عشر، الذي وضع نهاية لحروب الثلاثين عاماً، عندما كانت أوروبا تعيش ذيول عصر النهضة وولادة الطبقات الوسطى، ولم تزل فريسة للصراعات الدينية الناجمة عن الانشقاق البروتستانتي، وصراعات الأمراء والملوك فيما بينهم حول نطاقات السيطرة والشرعية، وبين أغلبهم والمؤسسة الإمبراطورية، التي ورثت الإمبراطورية الرومانية المقدسة وإطارها الأوروبي الجمعي، حول السيادة. في وستفاليا، وضعت أسس فكرة الاستقلال السياسي، والتطابق بين حكم معين وحدود الكيان الذي يخضع لسيطرته.
وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، شهدت أوروبا ثورتين كبريين، الثورة الإنكليزية والثورة الفرنسية. دفعت الأولى باتجاه فكرة الاجتماع السياسي التسامحي، وحققت قفزة ملموسة باتجاه انتقال الدولة إلى مؤسسة تعبر عن إرادة الأمة، لا تجلياً لحق الملك الإلهي - السلالي. أما الثورة الفرنسية، التي كانت لها أصداء كبيرة وواسعة النطاق، فقد أعلت من شأن فكرة المواطنة والمساواة أمام القانون كما لم يحدث من قبل في التاريخ الأوروبي، وأكدت الطابع القومي للدولة، باعتبارها تجلياً للتماهي بين مؤسسة الحكم والتنظيم الاجتماعي والأمة.
نجحت بروسيا في النصف الأول من القرن الثامن عشر في تحقيق إنجازات نوعية على مستوى تنظيم وإدارة مؤسسة الجيش الحديث. وربما يعتبر الإنجاز البروسي نتاج سلسلة الحروب الداخلية المتواصلة التي عاشتها أوروبا، والحروب بين القوى الأوروبية والجيوش العثمانية، حيث برزت قيمة المدفعية الحديثة، وأهمية إدارة مجموعات عسكرية كبيرة في ساحة المعركة، تعد بعشرات الآلاف.
في بروسيا ولدت أفكار ارتكاز الجيش إلى قوة نيران متفوقة، إلى سرعة الحركة وكفاءة الاتصال، ومركزية القيادة، واتسعت بالتالي الهوة بين أداة العنف التي تمتلكها الدولة وتلك التي يمكن أن تحوزها الجماعات المتمردة أو الخارجة على سلطة الدولة، إقطاعية كانت أو حضرية. وسرعان ما استلهم الأنموذج العسكري البروسي، في فرنسا نابليون أولاً ثم في دول أوروبية وغير أوروبية أخرى، مثل الدولة العثمانية، ليسهم في تعزيز سلطة الدولة على أرضها وشعبها.
ولأن جرثومة الهوية القومية سرعان ما انتشرت داخل أوروبا وخارجها، بقوة المدرسة والجامعة الحديثتين والتسارع الكبير في أدوات الاتصال والطباعة، فسرعان ما جعل التزاوج بين الحركة القومية والتقدم العسكري من الحرب جحيماً واسع النطاق من الدمار والخراب والإبادة.
وأصبحت الحروب بدورها رحماً ضرورياً لولادة الدول، القومية - الحديثة، وتكاثرها. أخذت الأنظمة الإمبراطورية في الانحسار أو الانهيار، وفي انحسارها أو انهيارها، تركت خلفها كيانات سياسية جديدة، أو أفسحت المجال لتوسع إمبراطوريات منافسة.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة الحديثة في صورتيها الأكثر والأقل قومية، قد أصبحت الوحدة السياسية الأكثر انتشاراً في العالم؛ وهو التطور الذي وجد انعكاساً له في عصبة الأمم. ولكن استثناءات هامة وجدت أيضاً، مثل الاتحاد السوفييتي، وريث الإمبراطورية الروسية، والإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية.
ولكن، وبالرغم من تباين الفكرة السياسية التي استندت إليها كل من هذه الكيانات الإمبراطورية، ودرجة اعتناقها لقيم المواطنة والمساواة واستبطان العلاقة، حقيقة أو شكلاً، بين مؤسسة الحكم والأمة، إلا أنها جميعاً تبنت السمات الأساسية التي ميزت بنية الدولة الحديثة.
بخلاف الدولة التقليدية، تمارس الدولة الحديثة حكماً مركزياً، يقوم على الأصل الأكبر: أن الدولة مصدر الشرعية ومنها تصدر القوانين؛ وتؤسس عملية التقنين لسيطرة الدولة الشاملة على التعليم، الاقتصاد والتجارة والنقد، الاتصال، الإسكان، أنماط السلوك، العقاب، الملكية، الأمن، والأرض والحدود. تفترض الدولة، باعتبارها تجلي الأمة، الولاء الكامل، الذي يؤسس في المقابل لفكرة أن قرارات الدولة وسياساتها تعبيراً عن إرادة الأمة، ويؤسس كذلك لمبدأ الخيانة بكافة مستوياتها ودرجاتها.
ولأن الدولة الحديثة نشأت في حقبة الصعود القومي، الذي كان المسوغ الأبرز لوجود العدد الأكبر من الكيانات السياسية الحديثة، تلعب الفكرة القومية دوراً بارزاً في بنية الدولة وتوجهاتها وطبيعة قراراتها. ولكن الدول تختلف في علاقتها بالفكرة القومية.
بريطانيا، مثلاً، التي هي نتاج المملكة المتحدة من عدد من الكتل الإثنية، تتجنب عادة التركيز على الهوية القومية، وقد طورت بدلاً منها هوية بريطانية جامعة وأوسع نطاقاً من الهويات الإثنية. وفي المجال العربي ـ الإسلامي، كانت الهوية الجامعة، القومية فوق القوميات، هي التي أسست لإيران الحديثة منذ عصر رضا شاه.
في حالات، مثل فرنسا والجمهورية التركية، افترضت الدولة وجود هوية قومية محددة، وتعهدت فرض هذه الهوية وتنميتها وحراستها.
وفي حالات أخرى، مثل ألمانيا، وجدت الهوية القومية قبل ولادة الدولة الموحدة. ولكن هويات قومية أخرى، مثل الهوية العربية، لم تستطع بناء دولتها الموحدة، بالرغم من وجود كيانات متعددة تنتمي إلى الهوية القومية.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وانطلاق حركة التحرر من الاستعمار، أصبحت الدولة القومية ـ الحديثة النموذج الشرعي للدولة في العالم؛ وأسست الأمم المتحدة باعتبارها الإطار المرجعي لوجود الدولة وشرعيتها.
وقد تعززت هيمنة الدولة القومية ـ الحديثة على الساحة العالمية السياسية بانهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات، وتحرر الكيانات السياسية القومية التي ضمها الإطار السوفييتي، وانقسام الكيانات فوق القومية القلقة التي احتمت بمظلة الكتلة الشرقية، مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا.
وبسيطرة أنموذج الدولة القومية ـ الحديثة باعتبارها وحدة النظام الدولي وأساس العلاقات بين الشعوب، ولد مفهوم الدولة الفاشلة.
وبالرغم من صعوبة تعريف الدولة الفاشلة، الصعوبة التي تستتبع التباينات الواسعة في تعريف الدولة أصلاً، فالمفترض أن كل دولة تعجز عن امتلاك السمات الأساسية للدولة القومية ـ الحديثة هي بالنتيجة دولة فاشلة.
عندما تجبر الدولة على التخلي عن سمتها الأصلية باعتبارها مصدر الشرعية والقانون؛ عندما تفقد الدولة قدرتها على ادعاء التماهي مع شعبها، أو تفقد سيطرتها على أرضها وحدودها بدرجة بارزة؛ عندما تعجز الدولة عن فرض الأمن والنظام وتضيق بالتالي الهوة الفاصلة بين أدوات العنف الخاصة بها وتلك التي استطاعت قوى ومجموعات خارجة عن إرادة الدولة تملكها؛ وعندما تخفق الدولة كلية في إدارة الشأن المالي والاقتصادي؛ تعتبر الدولة فاشلة، تفقد عضويتها في الأمم المتحدة، وتمتنع الدول الأخرى عن عقد معاهدات واتفاقيات معها، ولا تجد هذه الدول مبرراً لاحترام سيادتها.
باعتبار التاريخ الإنساني الطويل وتاريخ الاجتماع السياسي، تعتبر الدولة القومية ـ الحديثة ذات عمر قصير بالفعل، بحيث يصعب فهم سيطرتها القاطعة على تصور المجتمع الإنساني للدولة وفهم احتكارها القطعي للنظام الدولي. ولكن ثمة ما هو أكثر مدعاة للتساؤل؛ فعدد الدول القومية ــ الحديثة التي فشلت بالفعل خلال الحقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو تلك التي تعاني صعوبات هيكلية ملموسة، هو عدد كبير بالتأكيد.
ثمة دول شهدت موجات متكررة من الحروب الأهلية، على خلفيات عرقية - إثنية أو دينية أو سياسية، مثل لبنان وباكستان الكبرى (الشرقية والغربية معاً) وسريلانكا، ويوغسلافيا وجورجيا، ومثل نيجيريا والكونغو ودول البحيرات العظمى وليبيريا وأثيوبيا، ومثل الصومال، التي تعتبر الآن الشاهد الأبرز على فشل الدولة وانفراط عقدها.
وهناك دول عانت أو تعاني من فترات متفاوتة من العنف الداخلي، مثل العراق والجزائر وافغانستان والسودان وباكستان الحالية واليمن. إضافة إلى دول تمر الآن بقدر من القلق، مثل بلجيكا وحتى بريطانيا.
ويمكن القول إن التطور الحثيث للسوق الأوروبية المشتركة إلى اتحاد أوروبي ينم عن قلق عميق لدى الدول الأوروبية، التي تعتبر أكثر الدول الحديثة استقراراً، سواء لاعتبارات تاريخية أو أمنية أو للتعددية الإثنية التي تتمتع بقوة دفع قومية متفاوتة.
المدهش في هذه السيرة للدولة الحديثة، أنها لا تستدعي كثيراً من الجدل في الدوائر السياسية ودوائر الرأي العام، حيث لم تزل هذه الدولة وموقعها في الاجتماع السياسي والنظام الدولي فرضية أقرب إلى المسلمات العقدية. معظم الجدل حول الدولة لم يزل محصوراً في الدوائر الأكاديمية الضيقة، بينما تمس إشكالات هذه الدولة حياة مئات الملايين من البشر يومياً، بما في ذلك أغلب العرب والمسلمين.
*العصر