مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
ديمقراطيات صورية، انتخابات مزيفة، واستبداد متجدد
د. بشير موسى نافع
02-12-2010
المستبدون ليسوا أقل ذكاء وحنكة من دعاة الحرية، سيما عندما يتعلق الأمر بمصير آليات السيطرة والسلطات والامتيازات التي ورثوها من المستبدين قبلهم.

بالنظر إلى التنوع الكبير في المجتمع المصري، بين مسلمين وأقباط وسكان مدن هائلة، تكاد تكون خالية من العصبيات التقليدية، ومجتمعات ريفية وصحراوية تستند إلى الأسر الكبيرة والقبائل، فإن الانتخابات المصرية سارت على ما يرام.

بعض العنف في دوائر الصعيد، واشتباكات هنا أو هناك في دائرة أو اثنتين في شبه جزيرة سيناء، ومقتل واحد أو اثنين وجرح بضعة عشرات، وتعليق الانتخابات في عدد قليل من الدوائر، لم يكن أمراً مستغرباً.

معظم حوادث العنف، على أية حال، تعود إلى التنافس الحاد بين مرشحي الحزب الوطني، ولا علاقة خاصة لها بالتدافع السياسي في البلاد. في صورة عامة، جرت الانتخابات كما كان يجب أن تجري: سيطرة ساحقة لمرشحي الحزب الوطني، الذي أكد من جديد على أن مصر تعيش تطوراً بالغ الخطورة في تاريخها السياسي، بعد أن اكتمل التماهي المطلق بين مؤسسة الدولة والحزب الوطني، الحزب الذي يحكم مصر بصورة أو بأخرى، وباسم أو آخر منذ ولادة الجمهورية.

هذه في الحقيقة ليست انتخابات، ولا ديمقراطية، ومن العبث أن يعيش البعض آملاً في إصلاح الأمور من دورة انتخابية إلى التي تليها. هذا نظام استبدادي مستحكم، وعلى المصريين التعايش معه بإخراج مسألة الحكم نهائياً من التدافع الاجتماعي السياسي، أو اجتثاثه من جذوره.

بالنظر إلى حجم الإجراءات الوقائية التي اتخذها النظام قبل فترة كافية من الانتخابات، وإلى أن النظام حقق نصراً كبيراً عندما أعلن كل من حزب الوفد والتجمع والإخوان المسلمين المشاركة في العملية الانتخابية بالرغم من الدعوات الواسعة للمقاطعة في أوساط المعارضة، فقد تصرفت أجهزة الدولة، المكرسة لتحقيق فوز الحزب الوطني القاطع، وكأن الحزب يواجه معركة حياة أو موت.

رفضت الدولة أصلاً الرقابة الأجنبية على الانتخابات، بما في ذلك مراقبة المؤسسات المدنية غير المرتبطة بأنظمة حكم معينة؛ وألغت كلية الإشراف القضائي، بالرغم من أن الأغلبية العظمى من القضاة الذين أشرفوا على الدورة الانتخابية السابقة كانوا من موظفي أجهزة ومؤسسات الدولة، ولم تحاول إلا قلة ضئيلة منهم تحمل مسؤولياتها كما ينبغي.

ولأن المفترض أن لا يكون هناك من مبرر للاعتراض على الرقابة التي تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني المصرية، طالما أن الرقابة الأجنبية تمس بسيادة البلاد، فقد شكلت الدولة لجنة عليا للإشراف على الانتخابات، لتقوم هذه بوضع شروط تعجيزية أمام المراقبين المصريين، بدلاً من أن تحاول وضع حد لسيطرة أجهزة الأمن التقليدية على العملية الانتخابية.

في المقابل، لم يتقدم أي من الأحزاب المشاركة في الانتخابات للمنافسة على عدد كبير من مقاعد مجلس الشعب، رغبة من هذه الأحزاب بعدم استفزاز الحزب الحاكم. وحرص الإخوان، على وجه الخصوص، بالابتعاد ما أمكن عن المنافسة على مقاعد القاهرة الكبرى، التي يعتبرها النظام والحزب الحاكم ساحة المعركة الانتخابية الأساسية.

في إطارها العام، وفي تفاصيلها، اعتبرت انتخابات 2010 البرلمانية مواتية كلياً للحزب الحاكم، حتى إن الحزب قام وللمرة الأولى بالسماح بالتنافس على عدد ملموس من المقاعد بين أكثر من مرشح للحزب، منعاً للإحراج المعتاد في التفضيل بين أسر الأعيان ومراكز النفوذ، ولأن أحداً في البلاد، داخل صفوف الحزب الوطني أو خارجه، لم يكن لديه أدنى شك في أن الحزب سيفوز بالأغلبية العظمى من مقاعد مجلس الشعب المقبل.

وربما للاهتمام الإعلامي العربي، الذي لا يعرف مبرره على أية حال، فقد اعتقد البعض أن الانتخابات ستجرى بقدر معقول من الشفافية، طالما أن النتيجة النهائية ليست محل شك أو اعتراض. ولكن ذلك كله لم يمنع تحول العملية الانتخابية إلى مجزرة سياسية بكل معنى الكلمة، أطيح فيها بمرشحي الأحزاب موضع القلق، وسمح فقط للمرشحين ’المعارضين’ محل الثقة؛ كما أطيح بالمرشحين المستقلين غير الموالين، الواحد منهم تلو الآخر. المواطن المصري العادي كان وحده من أدرك حقيقة ما سيجري، فاتخذ قراراً شبه إجماعي بالمقاطعة، لتتجنب أغلبية الناخبين العظمى مراكز الاقتراع تجنبها الوباء المعدي.

أحد المبررات الوجيهة التي وضعها الإخوان المسلمون والمعارضون الآخرون لمشاركتهم في انتخابات معروفة النتائج مسبقاً أن الحملة الانتخابية هي الوسيلة الوحيدة للاحتكاك بالشعب والتعرف على هموم الناس ومشاركتهم آمالهم وقضاياهم، وأن العملية الانتخابية فرصة هامة لكشف سياسات التزوير والخداع، وتزييف إرادة الناخبين، التي يقوم بها الحزب الحاكم.

ولكن الواقع أن النظام لا يكترث بأوضاع القوى السياسية ومواقعها الشعبية، أو أنه لا يكترث كثيراً، ولا تقلقه وقائع ما يكشف أو لا يكشف. تماماً كما أن مصر تعيش قدراً ملموساً من حرية الصحافة، ترتكز إلى معادلة حرية الآخرين في أن يقولوا ما يريدون، وحرية النظام أن يفعل ما يريد.

هذا أنموذج جديد لعلاقات الاستبداد، أو مرحلة متطورة في تاريخه، استبداد مضى بعيداً عن استبداد عهد التنوير والآباء المستبدين العادلين، استبداد ما بعد الحداثة، حيث لم يعد للرأي العام، موالياً كان أو معارضاً، من أهمية خاصة في عملية الحكم ومقدراته. لا الرأي العام المصري يوضع في الحساب، ولا الرأي العام غير المصري، وحتى الضغوط الأمريكية، التي يقال دائماً إنها تلعب دوراً هاماً في التطور الديمقراطي، لم يعد لها من وجود ولا اعتبار.

ثمة تصور ساد في العديد من بلدان العالم الثالث، مثل المكسيك وماليزيا وباكستان ومصر وإيران، بأن هناك دائماً إمكانية للإصلاح الديمقراطي التدريجي. وفي مصر خصوصاً، تلعب انتخابات 2005 دوراً رئيساً في صناعة الوهم المؤسس لإمكانية الإصلاح التدريجي.

فقد استطاع الإخوان المسلمون، القوة السياسية المعارضة الرئيسة في البلاد، وبالرغم من التدخل الحكومي السافر في المرحلتين الثانية والثالثة من الانتخابات، الحصول على 87 مقعداً من مقاعد مجلس الشعب، للمرة الأولى في تاريخهم السياسي على الإطلاق. ولكن الحقيقة أن انتخابات 2005 جرت في ظل ظروف خاصة، وربما استثنائية.

فعلى خلفية من القلق والارتباك الذي أحاط بمسألة خلافة الرئيس، والمناخ العالمي الذي ولدته أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحربين في العراق وأفغانستان، وتبني إدارة بوش الابن لمقولة الارتباط بين غياب الديمقراطية وتصاعد اتجاهات العنف، ثم حركة التظاهر واسعة النطاق التي قادها الإخوان المسلمون في ربيع العام نفسه، تساهلت أوساط النظام في المرحلة الأولى من الانتخابات، التي نظمت في ثلاث مراحل، وهي المرحلة التي حصل فيها المرشحون الإخوان على العدد الأكبر من المقاعد التي احتلوها في المجلس السابق. في المرحلتين الثانية والثالثة، وضعت الإجراءات الكافية لمنع الإخوان والمعارضين المستقلين من الفوز بأي من المقاعد الهامة.

اليوم، انقشع مناخ الحرب على الإرهاب، وانحازت واشنطن للتحليل القائل بخطر التيارات الإسلامية السياسية، حتى الديمقراطية منها، ويترسخ الآن يقين واضح حول مستقبل الحكم ومقعد الرئاسة، يتطلب في حد ذاته وجود مجلس شعب آمن في موالاته وقدرته على التشريع. تجنب الإخوان العودة إلى حركة الاحتجاج، بدعوى أنهم دائماً من يدفع الثمن؛ وعقد النظام صفقة ما مع القيادة الجديدة لحزب الوفد.

وقد أصبحت نتائج انتخابات 2005 في حد ذاتها، التي أدت إلى أن يقود الإخوان المعارضة في المجلس، مبرراً لأن تجرى انتخابات 2010 في صورة مختلفة كلياً، أو في الصورة المعتادة للانتخابات المصرية منذ أكثر من نصف قرن.

ولدت الدولة المصرية الحديثة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، وتبلورت منذ ولادتها باعتبارها أداة السلطة الحاكمة التي قادها محمد علي. في المرحلة بعد الحرب الأولى، عندما أصبحت مصر دولة دستورية ملكية، وتبنت بعضاً من سمات الحكم الليبرالي، ظلت الدولة أداة للسلطة الحاكمة، التي ستمثلها نخبة طبقية ومؤسسة ملكية.

بين فترة وأخرى، أجريت بالفعل انتخابات حرة وشفافة، ولكن لأن السلطة الحاكمة، بممثليها الكبار، أرادوا ذلك، لهذا السبب أو ذاك، أو للحفاظ على بعض من السمات الليبرالية للنظام. خلال أغلب حقبة النظام الملكي، حكمت مصر بما عرف بأحزاب الأقلية، أي تلك التي لا تمثل القطاع الأوسع من الناخبين.

عندما وقعت ثورة يوليو 1952، التي أدت بعد عامين إلى ولادة النظام الجمهوري، ورثت الجمهورية الدولة المصرية كما هي، بنية وقيماً وأنظمة ومؤسسات، بدون أن تحدث انقلاباً جوهرياً فيها. ما قامت به الجمهورية كان وضع حد للتعددية الحزبية، وتسيير البلاد بنظام الحزب الواحد، وهو الأمر الذي يكاد يكون إعادة إنتاج صريحة لسلطة الطبقة الحاكمة على النظام الملكي.

عندما بدأت تجربة التعددية الحزبية في العهد الجمهوري الثاني، لم يكن السادات يسعى إلى إقامة نظام ديمقراطي بالمعنى الليبرالي، بل كان يحاول أن يضفي شيئاً من الشرعية الغربية الحديثة على نظام حكم الحزب الواحد.
رأى السادات موقعه، وموقع مصر، في صف المعسكر الغربي، وربما اعتقد أن شيئاً من الانفتاح السياسي بات ضرورياً لتسويغ خيارات السياسة الخارجية وسياسات الاقتصاد والاجتماع التي تبناها. ولكن في جوهره، ظل نظام السادات نظام حكم الحزب الواحد، ولم يكن غريباً بالتالي أن الحزب الوطني الذي أسسه السادات ورث مراكز وممتلكات الاتحاد الاشتراكي، حزب النظام الحاكم في عهد ما قبل التعددية السياسية. ما شهدته مصر في المرحلة التالية كان استمراراً وفياً لفترة حكم السادات، مع انفراجات قليلة ومتباعدة، فرضتها الظروف أو متطلبات طارئة.

ليس ثمة طريقة لوضع نهاية للاستبداد سوى تقويض القواعد الاجتماعية الاقتصادية التي يرتكز إليها. انتظار الإصلاح التدريجي، كما فعل الأتراك عندما ظنوا في 1950 أن حكم الشعب الجمهوري قد انتهى وأفسح مجاله لنظام تعددي ديمقراطي، يعني عقوداً طويلة من الاستبداد المقنع، واستمرار هيمنة النخبة الحاكمة، بصيغ وأسماء أخرى.
المستبدون ليسوا أقل ذكاء وحنكة من دعاة الحرية، سيما عندما يتعلق الأمر بمصير آليات السيطرة والسلطات والامتيازات التي ورثوها من المستبدين قبلهم.
*العصر
أضافة تعليق