أحمد الغرباني
في المقال السابق حول كيفية إشباع الفراغ العاطفي لدى الفتيات وصلتني رسائل عدة منهم من أمتدح ذلك ومنهم من عارض إما لقوله بأن الفتاه ليست الكائن الهش التي لن تعيش إلا بالعاطفة وإنها قادرة على تحمل مسؤولياتها ومقاومة الظروف المحيطة ومنهم من قال بأنها ليست بحاجة للعاطفة بل تحتاج للتدين ولالتزام ومنهم من قال متسائلا هل المرأة هي من تحتاج العاطفة والرجل لا يحتاجها ؟.
وهنا أشكر الجميع لتفاعلهم مع هذا الموضوع الحساس والذي دفعني لأكتب وأجيب عن بعض التساؤلات من خلال ما قرأته في كتاب ’’افتح قلبك’’ لعبد الوهاب مطاوع الذي أورد أمثلة عن حاجة الرجل للعاطفة.
نعم كلنا نحتاج إلى عطف الآخرين وإشفاقهم وإلى ربتة الحنان منهم على أكتافنا ... ولمسة التأييد على أيدينا خصوصا في حالات الضعف التي لا تخلو منها الحياة لكل البشر جميعا فالرجال يحتاجونها حتى الأنبياء منهم يحتاجون عليهم السلام إليها.
تأمل مثلا حاجة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى من يهدئ روعه حين نزل عليه الوحي لأول مرة فعاد إلى بيته مضطربا يقول ’’زملوني زملوني’’ فلازمته السيدة خديجة رضي الله عنها بكل عطف الزوجة المحبة حتى هدأ روعه فحدثها بما رأى وأفضى إليها بمخاوفه حين رأى الملك الكريم الذي نزل إليه في الغار ، فإذا بالسيدة الكريمة والزوجة العطوف رضي الله عنها لا تظهر له خوفا ولا ريبة وإنما ترنو إليه بإكبار وتقول له أبشر فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ، والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدُق الحديث وتحمل الكلَّ ، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق .
فيطمئن روع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ... انظروا إلى قلب هذه السيدة العظيمة هذه الزوجة المحبة العطوف التي أحسنت عشرة زوجها الكريم فكانت مثل ذلك وأكثر، ولا عجب أن عام وفاتها كان يسمى بعام الحزن ، ومما جعل الحبيب يبر أقاربها وصاحباتها بعد وفاتها صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها.
إن هذه القصة تدلل لنا كم نحن في حاجة للعطف والحنان والمواساة .
لن أتوقف عند هذه القصة لأبين أن الرجال محتاجون للعاطفة مثل النساء لكي يهدؤوا وينتجوا ويبدعوا.
هناك حكاية جميلة عن العالم الفيزيائي الشهير أينشتاين .. إذ يروي الحكاية الفنان شارلي شابلن في مذكراته أنه دعا العبقري أينشتاين مع زوجته إلى العشاء في بيته ، وكان أينشتاين من هواة العزف على الكمان ، فدعا شابلن أربعة من العازفين المحترفين ليعزفوا الموسيقى لضيوفه بعد العشاء ، وأحضر أينشتاين معه الكمان ليشاركهم العزف ، وعزف معهم بالفعل ، لكن العازفين لم يتحمسوا لاشتراكه معهم بسبب سوء عزفه ، وبعد عدة مقطوعات استأذنوه في أن يعزفوا وحدهم لبعض الوقت لأنه يفسد عليهم الإيقاع فجلس إلى جوار زوجته وكانت سيدة بدينة عطوفاً تعامله كابنها ولا تخفي فخرها بأنها قرينته وهو يتململ كالطفل ويسأل بصوت خافت متى يتاح له العزف مرة أخرى ، فتربت زوجته على يده بحنان وتشجيع وتقول بصوت مسموع : ولا يهمك لقد عزفت أفضل منهم جميعاً ،وشابلن وضيوفه يراقبون المشهد ويعجبون لحاجة هذا العبقري إلى لمسة تشجيع من زوجته تقنعه بأنه يجيد العزف وبأنها فخورة به .
وقصة أخرى يروونها نقاد الفن من أن الفنان بيكاسو كان في سنواته الأخيرة ينهض من نومه كل يوم ويشرب القهوة مع زوجته الأخيرة ثم ينفجر بالبكاء وهو يقول لها إنه يحس بأنه قد انتهى كفنان وأنه لا يستطيع أن يرسم خطاً واحداً في لوحة جديدة .. فتأخذ رأسه على صدرها وتغمره بقبلات وتهدهده كالطفل وتأكد له بعطف الأمهات أنه سوف يرسم أبدع مما رسم طوال حياته .. وإنها واثقة من ذلك لأنه فنان عظيم ولأنها تحبه ولأنه لا يمكن أن يخيب ظنها فيهدأ قليلاً ثم تسحبه برفق من يده لتجلسه أمام اللوحة وتضع الفرشاة أمامه وهي تشجعه بنظراتها التي تفيض حباً وحناناً على أن يبدأ متردداً .. وهي تحثه وتربت على رأسه وظهره بيدها .. فلا تمضي دقائق حتى تنطلق الريشة في يده وترسم أجمل لوحاته وأكثرها قيمة فنية ويتكرر نفس المشهد بنفس تفاصيله بعد كل يومين أو ثلاثة أيام على الأكثر ويستمر حتى اليوم الأخير في حياته .
فهل كان بيكاسو هذا الرسام المشهور في حاجة لشهادة زوجته بأنه من كبار الفنانين لكي يعود للرسم ؟ لا بالطبع وإنما كان في حاجة إلى هذا ليستشعر العطف والحنان من شريك حياته ليتخلص من قلق الفنان وهواجسه ومخاوفه كإنسان ليواصل إبداعه . إن كل إنسان ضعيف وصغير أمام نفسه مهما علا شأنه .
يقول الشاعر الألماني جوتة ’’قلب الإنسان كبير جدا لا يملأه شيء .. وهش جداً يكسره أخف شيء’’
ويقول الدكتور آرثر جيتنس أستاذ علم النفس التربوي أن الجنس البشري كله يتلهف إلى العطف! وأنه لهذا السبب يسارع الطفل بإظهار ما لحق به من أذى بل إنه قد يؤذي نفسه أحياناً لكي ينال عطف أمه وعطف الآخرين .. والكبار يفعلون شيء مشابه لذلك حين يتحدثون عن وحدتهم أو متاعبهم وآلمهم النفسية والبدنية وعن أمراضهم وافتقادهم للتقدير وغير ذلك ليجدوا من مستمعهم كلمة تصبرهم ، كلمة حنان وعطف .
المرجع _ كتاب افتح قلبك ، عبد الوهاب مطاوع ، دار الشروق ، القاهرة
*تربيتنا
في المقال السابق حول كيفية إشباع الفراغ العاطفي لدى الفتيات وصلتني رسائل عدة منهم من أمتدح ذلك ومنهم من عارض إما لقوله بأن الفتاه ليست الكائن الهش التي لن تعيش إلا بالعاطفة وإنها قادرة على تحمل مسؤولياتها ومقاومة الظروف المحيطة ومنهم من قال بأنها ليست بحاجة للعاطفة بل تحتاج للتدين ولالتزام ومنهم من قال متسائلا هل المرأة هي من تحتاج العاطفة والرجل لا يحتاجها ؟.
وهنا أشكر الجميع لتفاعلهم مع هذا الموضوع الحساس والذي دفعني لأكتب وأجيب عن بعض التساؤلات من خلال ما قرأته في كتاب ’’افتح قلبك’’ لعبد الوهاب مطاوع الذي أورد أمثلة عن حاجة الرجل للعاطفة.
نعم كلنا نحتاج إلى عطف الآخرين وإشفاقهم وإلى ربتة الحنان منهم على أكتافنا ... ولمسة التأييد على أيدينا خصوصا في حالات الضعف التي لا تخلو منها الحياة لكل البشر جميعا فالرجال يحتاجونها حتى الأنبياء منهم يحتاجون عليهم السلام إليها.
تأمل مثلا حاجة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى من يهدئ روعه حين نزل عليه الوحي لأول مرة فعاد إلى بيته مضطربا يقول ’’زملوني زملوني’’ فلازمته السيدة خديجة رضي الله عنها بكل عطف الزوجة المحبة حتى هدأ روعه فحدثها بما رأى وأفضى إليها بمخاوفه حين رأى الملك الكريم الذي نزل إليه في الغار ، فإذا بالسيدة الكريمة والزوجة العطوف رضي الله عنها لا تظهر له خوفا ولا ريبة وإنما ترنو إليه بإكبار وتقول له أبشر فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ، والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدُق الحديث وتحمل الكلَّ ، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق .
فيطمئن روع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ... انظروا إلى قلب هذه السيدة العظيمة هذه الزوجة المحبة العطوف التي أحسنت عشرة زوجها الكريم فكانت مثل ذلك وأكثر، ولا عجب أن عام وفاتها كان يسمى بعام الحزن ، ومما جعل الحبيب يبر أقاربها وصاحباتها بعد وفاتها صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها.
إن هذه القصة تدلل لنا كم نحن في حاجة للعطف والحنان والمواساة .
لن أتوقف عند هذه القصة لأبين أن الرجال محتاجون للعاطفة مثل النساء لكي يهدؤوا وينتجوا ويبدعوا.
هناك حكاية جميلة عن العالم الفيزيائي الشهير أينشتاين .. إذ يروي الحكاية الفنان شارلي شابلن في مذكراته أنه دعا العبقري أينشتاين مع زوجته إلى العشاء في بيته ، وكان أينشتاين من هواة العزف على الكمان ، فدعا شابلن أربعة من العازفين المحترفين ليعزفوا الموسيقى لضيوفه بعد العشاء ، وأحضر أينشتاين معه الكمان ليشاركهم العزف ، وعزف معهم بالفعل ، لكن العازفين لم يتحمسوا لاشتراكه معهم بسبب سوء عزفه ، وبعد عدة مقطوعات استأذنوه في أن يعزفوا وحدهم لبعض الوقت لأنه يفسد عليهم الإيقاع فجلس إلى جوار زوجته وكانت سيدة بدينة عطوفاً تعامله كابنها ولا تخفي فخرها بأنها قرينته وهو يتململ كالطفل ويسأل بصوت خافت متى يتاح له العزف مرة أخرى ، فتربت زوجته على يده بحنان وتشجيع وتقول بصوت مسموع : ولا يهمك لقد عزفت أفضل منهم جميعاً ،وشابلن وضيوفه يراقبون المشهد ويعجبون لحاجة هذا العبقري إلى لمسة تشجيع من زوجته تقنعه بأنه يجيد العزف وبأنها فخورة به .
وقصة أخرى يروونها نقاد الفن من أن الفنان بيكاسو كان في سنواته الأخيرة ينهض من نومه كل يوم ويشرب القهوة مع زوجته الأخيرة ثم ينفجر بالبكاء وهو يقول لها إنه يحس بأنه قد انتهى كفنان وأنه لا يستطيع أن يرسم خطاً واحداً في لوحة جديدة .. فتأخذ رأسه على صدرها وتغمره بقبلات وتهدهده كالطفل وتأكد له بعطف الأمهات أنه سوف يرسم أبدع مما رسم طوال حياته .. وإنها واثقة من ذلك لأنه فنان عظيم ولأنها تحبه ولأنه لا يمكن أن يخيب ظنها فيهدأ قليلاً ثم تسحبه برفق من يده لتجلسه أمام اللوحة وتضع الفرشاة أمامه وهي تشجعه بنظراتها التي تفيض حباً وحناناً على أن يبدأ متردداً .. وهي تحثه وتربت على رأسه وظهره بيدها .. فلا تمضي دقائق حتى تنطلق الريشة في يده وترسم أجمل لوحاته وأكثرها قيمة فنية ويتكرر نفس المشهد بنفس تفاصيله بعد كل يومين أو ثلاثة أيام على الأكثر ويستمر حتى اليوم الأخير في حياته .
فهل كان بيكاسو هذا الرسام المشهور في حاجة لشهادة زوجته بأنه من كبار الفنانين لكي يعود للرسم ؟ لا بالطبع وإنما كان في حاجة إلى هذا ليستشعر العطف والحنان من شريك حياته ليتخلص من قلق الفنان وهواجسه ومخاوفه كإنسان ليواصل إبداعه . إن كل إنسان ضعيف وصغير أمام نفسه مهما علا شأنه .
يقول الشاعر الألماني جوتة ’’قلب الإنسان كبير جدا لا يملأه شيء .. وهش جداً يكسره أخف شيء’’
ويقول الدكتور آرثر جيتنس أستاذ علم النفس التربوي أن الجنس البشري كله يتلهف إلى العطف! وأنه لهذا السبب يسارع الطفل بإظهار ما لحق به من أذى بل إنه قد يؤذي نفسه أحياناً لكي ينال عطف أمه وعطف الآخرين .. والكبار يفعلون شيء مشابه لذلك حين يتحدثون عن وحدتهم أو متاعبهم وآلمهم النفسية والبدنية وعن أمراضهم وافتقادهم للتقدير وغير ذلك ليجدوا من مستمعهم كلمة تصبرهم ، كلمة حنان وعطف .
المرجع _ كتاب افتح قلبك ، عبد الوهاب مطاوع ، دار الشروق ، القاهرة
*تربيتنا