مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الخصمين اللدودين
الأستاذ :محمد عبدالله اليدومي
إن وساوس وخواطر الشيطان التي يلقيها في نفوس الناس كثيرة في عددها وفي أساليبها ، وتعتبر وسوسته لخراب النوايا من أشدها ضراوة ، ومن أمكرها وسيلة وأسلوباً. ولا غرابة في ذلك ، فالمعركة بين الإنسان والشيطان معركة أبدية ودائمة بدوام بقاء الإنسان والشيطان على وجه هذه الأرض ، ويشتد أوار هذه المعركة بين الطرفين كلما اتجه الإنسان نحو خالقه ، راضياً به رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد- صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.

إن الصراع الذي يخوضه الإنسان ضد الشيطان ومكائده صراع أزلي لن ينتهي إلا بزوال السموات والأرض ، وهو يمثل إحدى السنن التي شاءت إرادة الله ومشيئته أن تجعلها أداة يتميز بها أصحاب الحق عن أصحاب الباطل ، وأهل الخير عن أهل الشر..!

وحتى تتضح الصورة لطبيعية هذا الصراع ، فلا بد من العودة إلى الوراء أزماناً عديدة ، وبالتحديد إلى الزمن الذي فيه شاءت إرادة الله – سبحانه وتعالى – أن تسمى كل من اهتدى من الإنس أو الجن مسلماً. وكل من ضل منهما عن سبيل الله كافراً وشيطاناً رجيماً.. قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس و الجن يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون}1.

فصفة الشيطان طغت على كل من انحرف من الجن عن منهج الله ودينه الحق مثلما طغت صفة الكافر على كل من انحرف من الإنس عن منهج الله ودينه الحق في كل زمان ومكان ..

يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم موضحاً هذه الحقيقة التي لا يجوز أن تغيب عن بال أحدنا ، ما دام له نفس في هذه الحياة:{وإذ قلنا للملكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.وقلنا يادم اسكن أنت وزجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فأزلهما الشيطن عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌ ولكم في الأرض مستقرٌ ومتع إلى حين.فتلقى ءادم من ربه كلمت فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم.قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.والذين كفروا وكذبوا بايتنا أولك أصحب النار هم فيها خالدون}1.

’’صدر الامر إلى الخصمين اللدودين أن يهبطا إلى أرض المعركة الطويلة بعد الجولة الأولى .. وبذلك أعلنت الخصومة في الثقلين . فلم يعد هناك عذر لآدم وبنيه من بعده أن يقول أحد منهم إنما أخذت على غرة ومن حيث لا أدري . فقد درى وعلم ، وأعلن هذا الأمر العلوي في الوجود كله ( بعضكم لبعضٍ عدوٌ)ومع هذا الإعلان الذي دوت به السماوات والأرضون ، وشهده الملائكة أجمعون شاءت رحمة الله بعباده أن يرسل اليهم رسله بالهدى . قبل أن يأخذهم بما كسبت أيديهم . فأعلن لهم يوم أعلن الخصومة الكبرى بين آدم وإبليس ، إنه آتيهم بهدى منه ، فمجازٍ كلاً منهم بعد ذلك حسبما ضل أو اهتدى ’’ . إن أبرز ايحاءات قصة آدم - كما وردت في هذا الموضع - هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض ، ولمكانه في نظام الوجود ، وللقيم التي يوزن بها. ثم لحقيقة ارتباطه بعهد الله ، وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه ..

وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم ، أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض ، كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له . وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى ، وفي رعاية الله له أولاً وأخيراً ..

ومن هذه النظرة للأنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصور وفي عالم الواقع على السواء . وأول اعتبار من هذه الاعتبارات : هو أن الإنسان سيد هذه الأرض ، ومن أجله خلق كل شيء فيها – كما تقدم ذلك نصاً- فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي ، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعاً . ولا يجوز اذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو أي شيء مادي .. لا يجوز أن يعتدى على أي مقوم من مقومات انسانيته الكريمة ، ولا أن تهدر أي قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي ، أو إنتاج أي شيء مادي ، أو تكثير أي عنصر مادي .. فهذه الماديات كلها مخلوقة – أو مصنوعة – من أجله . من أجل تحقيق انسانيته . من أجل تقرير وجوده الإنساني . فلا يجوز اذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية ، أو نقص مقوم من مقومات كرامته .

والإعتبار الثاني : هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول . فهو الذي يغيّر ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها ، وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها ، وليست وسائل الانتاج ولا توزيع الانتاج ، هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلاً سلبياً كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر ، بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر.!

إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض ، عاملاً مهماً في نظام الكون ، ملحوظاً في هذا النظام . فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السموات ومع الرياح ومع الأمطار ، ومع الشموس والكواكب ..وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض ، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية ، ولا تسمح له أن يتعداه ؟!

وما من شك أن كلاً من نظرة الإسلام هذه والنظرة المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان ، وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو اهدارها ، وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره.

وليس ما نراه في العالم المادي وتكثيره ، إلا أثر من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان ، وحقيقة دوره في هذه الأرض.!

كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره ، وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية ، وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته . فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد

استخلافه: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ). .. وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية . هذا مع أن مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية ، ولكن بحيث لا تصبح هي الأصل ولا تطغى على تلك القيم العليا، ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية ، وإهدار لكل القيم الأدبية ، في سبيل الأهتمام المجرد بالإنتاج والسلع ومطالب البطون كالحيوان.!

وفي التصور الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة في الإنسان ، فهي مناط العهد مع الله ، وهي مناط التكليف والجزاء.. إنه يملك الإرتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم ’’ دينه في إرادته ’’ وعدم الخضوع لشهواته ، والإستعلاء على الغواية التي توجه إليه . بينما يملك أن يشقى نفسه ويهبط من عليائه ، بتغليب الشهوة على الإرادة ، والغواية على الهداية ، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه .وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه ، يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى.

كما أن فيه تذكيراً دائماً بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة ، والرفعة والهبوط ، ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق !.

وفي أحداث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان والشيطان مذكرٌ دائم بطبيعة المعركة . إنها بين عهد الله وغواية الشيطان . بين الإيمان والكفر .بين الحق والباطل . بين الهدى والضلال..

والإنسان هو نفسه ميدان المعركة . وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها . وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة ، وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان ، وأنه صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان.!

وأخيراً تجئ فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة .. إن الخطيئة فردية والتوبة فردية ، في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض..ليست هناك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده - كما تقول نظرية الكنيسة - وليس هنالك تكفير لاهوتي كالذي تقول الكنيسة أن عيسى ، عليه السلام ،( ابن الله بزعمهم ) قام بصلبه ،تخليصاً لبني آدم من خطيئة آدم !..كلا !. خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية ، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة . وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية ، والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة .. تصور مريح صريح . يحمل كل إنسان وزره ، ويوحى إلى كل انسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط ’’ . وهكذا نجد أن النية .. أن الإرادة .. هي إحدى ميادين الصراع التي يخوضها الإنسان ضد الشيطان ووساوسه وإغراءاته ! إن النية - والقرار الذي اتخذ من خلالها- مرهونة بإرادة الإنسان المسلم – ذكراً كان أو أنثى- الذي أعطى حق الإختيار بين نية صالحة أو نية فاسدة . بين إرادة تلتزم الحق وتسطع به ، أو إرادة تتحلل من كل القيم وتغرق في بحور الشهوات.!
* رئيس الهيئة العليا للإصلاح
*الإصلاح نت
أضافة تعليق